٥

لم ينَم سراج، بل استراح فقط، وعندما دخل رفيق الغرفةَ، فتح عينَيه وبُوغت برؤية أخيه مستيقظًا في مثل هذه اللحظات المقدسة من القيلولة.

– لماذا أنت مستيقظ؟ هل أصابك جنون؟

ردَّ رفيق: لستُ مجنونًا، ربما أكثر من هذا، يبدو أنك لم تنتبه لهذا، فبينما أنت نائم، كنتَ الوحيد المنشغل بالمأساة التي تهدِّدنا.

– عن أيِّ مأساة تتكلم؟

– يبدو أنك لم تفهم بعدُ، فعلًا فأنت لا تفكر سوى في التصعُلك في الشوارع طالما أنَّ زواج أبيك يجب أن يجعلك تفكر، إنها كارثة تعمُّ علينا جميعًا يا أخي سراج، سكينتنا مهدَّدة ألا تفهم ذلك؟

– هل تؤمن فعلًا بهذا الزواج؟

– بالتأكيد، وسوف ينفِّذه أبوك، وليس هذا سوى تغابٍ علينا؛ فمنذ وقتٍ طويل وهو لا يتغابى على أحدٍ، لقد جاءته هذه الفكرة بغتةً، وأنا واثق أنَّه تعمَّدها.

جلس على طرَف السرير، ووضع ساقَيه أسفله، وغطَّى وجهه بيدَيه، كانت النافذة مفتوحةَ المصراعين، فأغرق ضوءُ النهار الغرفة؛ ولأن رفيق يكره هذا الضوءَ البارد الذي يُغلِّفه مثلَ الكفن، فقد قال: كيف يمكنك أن تنام في هذا الضوء؟

قال سراج: أنا لا أنام، أحاول أن أعتادَ على ضوء النهار، لا أودُّ أن أعيش في الظلام.

أطلق رفيق تنهيدةً دون أن يردَّ، وضعَ وجهه بين يديه، وكأنه يفكِّر، فهو لم يزَل يتذكَّر محاولته مع هدى، تملَّكَته رغبةٌ ثائرة، نظر إليه سراج بتعاطفٍ ملحوظ وأحسَّ أنه يناضل ضد النوم وأنه جادٌّ في معرفة ردود فِعله، هل سيحاول ثانية؟ لم يسبق له أن رأى أخاه يبذل مجهودًا مثل هذا كي يهرب من سطوة النوم المسمومة الأشبه بمعجزة، معجزة رجل معلَّق فوق هاوية ومثبَّت في الجو برغبته الوحيدة.

– ماذا ستفعل؟

كشف رفيق وجهه، وأغلق عينيه، وقال بلهجة ساخرة: إذا استيقظتُ في هذه الساعة، يا عزيزي سراج، فليس عن رغبة مني، صدِّقني، فأنا لديَّ خطة مفادها ألَّا أترك الحاجَّة زهرة تدخل المنزل، وهكذا لن يتمكن أبوك من الزواج أبدًا. الأمر بالغُ السهولة، ومثلما تراني، سأنتظر الحاجَّة زهرة كي أطردها إلى الخارج.

– إذن ستقضي وقتك في انتظارها.

– أجل، سأنتظرها لأطول وقت ممكن.

– لكن هذا يمكن أن يستمر شهورًا.

– حسنًا، سأنتظرها شهورًا أو ربما سنينًا لو استوجب الأمر.

قال سراج: أنت بطل، لا أعتقد أنك قادرٌ على مثل هذه التضحية.

قال رفيق: هذه التضحية سوف تنقذ حياتنا، أنت لا تتخيَّل الأمر، وجود امرأة بيننا، فخلال بضعة أيام سنتحوَّل إلى عبيد.

وسكتا، لم يتوقَّف سراج عن التفكير في سلوكِ أخيه، وأنَّ رفيق ترك نوم القيلولة بسبب قصة هذا الزواج، وكأنه شيء أخرق، شيء ما يجب أن يدفعه ثمنًا لهذه القسوة المتناهية ربما للكراهية التي يكنُّها لأبيه، قال: وأنت أيضًا، كنت ستأتي بامرأة ذات يوم إلى المنزل، هل نسيت؟

لقد أخبرت أباك عن حكايتك مع إمتثال.

قفز رفيق، بدا كأنه يَخرُج شيئًا فشيئًا من خموله، واستدار نحو سراج رمقَه بنظرة فسيحة، وقال: ليس صحيحًا، لم أكن أودُّها، أنت لا تعرف كلَّ الاحترام الذي أكنُّه له، أنا معجب بأسلوب الحياة الذي يعيشه ويحوطنا به، إنه لم يودَّ قط أن يدخل في عمل، ولم يحاول أن يُنمِّيَ ثروته، وخاصة أنه يحتقر الآخرين دائمًا، كلُّ أفراد أسرتنا أمامه أقربُ إلى الخَدَم طالما أنه أكثرهم ثراءً، ونحن مدانون لهذا القلق وهذا الفراغ العجيب، الآن يريد أن يطلب كل شيء، ولن أسمح له بهذا.

قال سراج: أنا لا أرى أن هذا الزواج سيقلب حياتنا.

– كيف لا تفهم؟ هذه المرأة يمكن أن تهدمه، امرأةٌ هذا يعني فساتين، ومجوهرات، وماذا أيضًا؟ إنها يمكن ذات يوم أن تعتقد أن الشياطين يركبونها وتريد أن تُقيم لهم مزارًا، ولك أن ترانا نيامًا وسط كل هذه الرقصات الهيستيرية.

راح سراج يضحك، فقد جعلت فكرة رفيق وجهَه يحمر، كأنها نكتة بديعة، قال رفيق في جمودٍ: لا تضحك، فالأمر جاد، فأبوك يمكنه أن يضع آخرَ مليم في هذه المغامرة، وسنكون مضطرين للعمل.

قال سراج: حسنًا؟ أنا لا أطلب أفضل من هذا.

– يا غبي، سوف تندم على هذا الكلام.

– أؤكد لك يا رفيق أنني أريد أن أعمل.

– تريد أن تعمل، أتساءل كيف انتابتك هذه الفكرة، على كل حال أنت أكيد لستَ من العائلة.

قال سراج في يأسٍ: أريد أن أعمل، وأترك هذا المنزل.

– بشرفي، أنت جاحد، لو لم تكن أخي لتركتك تجرِّب هذا الجنون لكنني أُشفق عليك. على فكرة، ماذا حدث لمصنعك؟

ردَّ سراج: المصنع دائمًا على نفس الحال، لقد رأيته هذا الصباح مجددًا ويبدو أنَّ أحدًا لا يريد أن ينهيَه.

قال رفيق: إذن أنهِه أنت … إنه حالة استثنائية، ممَّ تشكو؟

– أنت تسخر مني يا ملعون؟

– اسمع يا سراج، أنا لا أسخر منك، أحاول فقط أن أُبعدك عن طريق الشر، صدِّقني، العمل ليس أمرًا هامًّا بالنسبة لك ولا لنا.

قال سراج: ربما، ولكنني لا أستطيع الاستمرارَ في العيش هكذا.

– أنت شاب، وأنا أُشفق عليك، أنت لا تعرف ماذا يعني مصنع؟

– وأنت، هل تعرف؟

قال رفيق: نعم عندما كنت أدرس كي أُصبح مهندسًا، جعلونا نزور المصنع، إنها مبانٍ ضخمة غير صحية وكئيبة، وقد قضيت فيها أكثرَ اللحظات رعبًا في حياتي، رأيت رجالًا يعملون في هذه المصانع، إنهم ليسوا بشرًا، فهم يحملون البؤس المرسوم على وجوههم، وإذا كنتُ قد تركتُ دراستي فلأنني لم أكن مستعدًّا أن أكون رئيسًا لهذه الجموع المليئة بالمعاناة.

ارتعد سراج لهذا الابتهال المرير وأغلق عينَيه، ورأى حُلمه الرومانسي في العمل ينهار، وغاص في متاهةٍ من الألم لا يقدِر عليها، وهكذا فإنَّ العمل ليس سوى لعنة، ومعاناة، سكت سراج، قد أحس أنه فريسةٌ لقلق صارم.

ساد صمتٌ لبعض الوقت، ثم سمِعَا حركة خفيفة، قفز رفيق بعيدًا عن السرير، وفتح الباب وألقى نظرة على الممر، وهو يقول: لا، لا يوجد أحد.

سأل سراج: هل تعتقد أنها الحاجَّة زهرة؟

– أجل، أعتقد أنها هي، لا يهم، يجب أن أتحرك وإلا نِمْت، يا للبؤس، لا أستطيع أن أعتمد على أحد منكم؛ فأخوك جلال ينام قريرَ العين وهو لم ينتبه بعدُ إلى الكارثة التي تُهدده، ولكن عمَّا قريب لن يستطيع النوم.

قال سراج: ماذا ستفعل لتمنعه من النوم، لا شيء يمكن أن يوقظ جلال ولا أعتقد أنه يفكِّر في هذه الحكاية، بل عليه أن ينساها.

قال رفيق: لن ينساها طويلًا؛ فقد اكتفيت برؤيته يستريح في هدوء، بينما أنا أموت من السُّهاد، عليه أن يساعدني.

– يا الله، لم أرَ جلال يغادر سريره كي يقاوم قدوم الحاجَّة زهرة، أنت مجنون لأنك تفكر فيه.

– صدِّقني، سأصل إلى حدِّ أن أُطلق الرصاص على سريره، فهو لم يحسَّ بعدُ بهذا الزواج المأسوي، وعندما سيعرفه لن ينام أبدًا.

راح رفيق يمشي في الغرفة، ومن وقتٍ لآخر، يتوقَّف أمام النافذة، كانت حجرة سراج تقع في الجانب الخلفي للمنزل، وتُطِل على أرضٍ خراب، تنمو فيها شجيرات هزيلة تختلط بكل أنواع النفايات.

وسط الأرض كانت هناك نخيلة، جافة، وبلا ثمار، وعلى جذعها يأتي الناس لقضاء حاجاتهم، وفي تلك اللحظة، قرفص طفل، ورفع جلبابه حتى أجزائه الحساسة، وراح يتصرَّف بشكل كئيب، وعلى مسافةٍ أبعدَ قليلًا، شاهد الخط المتعرِّج للبيوت التي تتجاوز الحقول، بدا رفيق سعيدًا؛ فقد نبَّه سراج لتوِّه من أوهامه، وأراد أن يحذِّره بشكل محدَّد من العمل، إنها خدمةٌ جليلة يؤديها له، استدار وقال بفظاظة واضحة: هل تعرف يا عزيزي سراج، أنَّ هناك الكثير من البلاد يستيقظ فيها الناس في الرابعة صباحًا كي يذهبوا إلى المناجم!

قال سراج: المناجم! غريبة، هل تريد إخافتي؟

بدا مرتبكًا، انتهى هذا المفهوم المثير للعمل الذي جعله رفيق يذوقه نقطةً نقطة، مثل السُّم، بأن بدا له حقيقة، أراد أن يتعلم منه المزيد ولكن رفيق سكت، واستعاد سيرَه عبر الغرفة: أخبرني، يا أخي رفيق، أنه ليس صحيحًا ما قلته لي لتوِّك؟

– ماذا؟

– إنه في بعض البلاد يستيقظ الناس في الرابعة صباحًا ليذهبوا للعمل في المناجم.

قال رفيق: هذا صحيح، هنا ليس لدينا مناجم، ولكن هذا سيحدُث، سوف يتم اكتشافها، سيكتشفون أيَّ شيء لكي يعمل الناس ويكدُّوا.

– ولكن أليس من الممكن أن يعملوا في أي مكان آخر؟

– مَن قال لك هذا؟

– لا أحد، ولكني أعرفك أفضل من الناس، أقول لك إنهم لن يتأخروا طويلًا في إفساد هذا الوادي الخصيب، ويحولوه إلى جحيم، هذا هو ما يسمونه تقدُّمًا، ألم تسمع هذه الكلمة؟ حسنًا، عندما يحدِّثك رجل عن التقدُّم فاعرف أنه يود استغلالك، على كلٍّ، بالنسبة لما نحن فيه، فإنَّ أمنًا رائعًا يمتدُّ حولك، وأنت تريد الخروج منه، أنت مجنون، أنت لا تعرف ماذا ينتظرك.

توقَّف رفيق من جديد أمام النافذة، ولم يقُل شيئًا، نظر إلى النخلة الذابلة التي توازن بلحها بشكل يُثير الملل، لقد رحل الطفل، وحلَّ محلَّه رجلٌ طاعن في السن، يلفُّ شريطًا على رأسه، بدا كأنه يقف وسيظل يقف للأبد، وقد ثبَّت عينَيه في الأفق، بشكل يائس، وراح يدقِّق في الكيان الآدمي الجالس القرفصاء، وقد بدا سعيدًا في غائطه، استدار رفيق، واقترب من السرير: أخبِرْني، لقد سألتك أثناء الغداء عن بعض الأخبار التي تجلبها من الخارج، في الحقيقة أريد أن أعرف ظروفَ الطقس، هل الجو شديد البرودة؟ أم هل هناك الكثير من الغبار؟

– لماذا كل هذه الأسئلة؟

قال رفيق: يجب أن أخرج … لكني لم أقرِّر بعدُ، ليس هذا سوى فكرة.

نظر سراج إلى أخيه بكل دهشة: هل ستخرج يا رفيق؟

‏– نعم، سأخرج، لكن صدِّقني، ليس للبحث عن عمل. والآن، نَم جيدًا، وسوف أحاول أن أُبعد الشرَّ عنَّا.

خرج من الغرفة، واستدار في صالة الطعام، وقد انشغل بنفس الفكرة، أن يمنع الحاجَّة زهرة من رؤية أبيه، تمدَّد على الأريكة وانتظر، ولم يَدُم انتظاره طويلًا؛ فقد كبس عليه النوم وتكوَّم كأنه رُكام مكدَّس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤