٦

منذ أن علِم من رفيق أنه في بعض البلاد يستيقظ الناس في الرابعة صباحًا كي يذهبوا للعمل في المناجم، وسراج يحاول أن يفعل شيئًا، اكتشف في الدولاب منبِّهًا لم يَعُد أحدٌ يستعمله فأصلحه بنيةِ استخدامه، ولأنه ينام وحدَه في غرفته، فيمكنه أن يستخدم هذه الآلة على طريقته، في أول يوم، أثار جرس المنبِّه ضجيجًا ساد المنزل بأكمله، فسراج لم يعتَد قط على مثل هذا القطع العنيف للنوم، فترك المنبه يدقُّ بلا توقُّف.

تصوَّر أنه في كابوس، في هذا اليوم أحسَّ بأنَّ لديه حيويةً مدهشة، ولكن بعد بضع لحظات، لم يعرف ماذا يفعل، فنام مرةً أخرى، وعاد في اليوم التالي، وفي الأيام التالية راح يلفُّ المنبِّه بفوطة ليخنق ضجيج الجرس، ولكن هذه المحاولات ظلَّت دومًا غير مثمرة مثل المرة الأولى، هل كان رفيق يكذب عمدًا لإخافته، تنتاب سراج الآن شكوكٌ حول إمكانية الاستيقاظ صباحًا، هذا أمرٌ لا يمكن أن يتحمله سوى الرجال الأصحاء ذهنيًّا الذين يعملون في المناجم في مثل هذه الساعة المنحوسة قبل الفجر، ماذا يضطره أن يمتهن هذه المهنة المجنونة؟ لقد درس رفيق في مدرسة الهندسة، وكان عليه بلا شك أن يعرفها، ولكن معه لا يمكن أبدًا معرفةُ متى يسخر ومتى يقول الحقيقة، وعبْر هذه السخرية، يمكن التعرُّف على عالم معتوه يتبعه الناس، عالم يتكاثر فيه القتلة الدمويُّون.

وكي يشغل نفسَه، حاول سراج أن يجد حلًّا في محل أبو زيد، فهذا يجعل الوقت يمرُّ ولديه الإحساس أنه لن يبقى خاملًا للأبد، لقد راودَته أفكارٌ عديدة، ولكنه رماها كلها جانبًا، وجدها مألوفة، أو شديدة السهولة، أراد أن يجد شيئًا فريدًا في نوعه، يُثير دهشةَ أبو زيد، وأن يبيِّن له في نفس الوقت، أنه عضو في أسرةٍ بالغة الذكاء، والجاذبية، ولكن هذا لم يحدث بعدُ، وسراج ليس على عجلة من أمره، فهو يفكِّر ببطء، وتأنٍّ، وهو واثق أنه سيتوصل إلى فكرة براقة.

ومنذ آخر مرة ذهب فيها إلى المصنع الذي تحت التأسيس لم يخرج سراج من المنزل، فيلزمه أن يشحذ همَّته، قبل أن يغامر في هجمة جديدة إلى الخارج، الآن، يحس أنه متآلف، وأنه في أحسن حال بعد أيام عديدة من النوم.

انتابَته الرغبة أن يذهب ليُلقيَ نظرةً على المصنع، بالتأكيد هو لا ينتظر كثيرًا أن يراه قد انتهى، ولكن هذا بالنسبة له نوعٌ من السلوى ليزورَ تلك الناحية التي عليه أن يعمل فيها، فقد أحسَّ فيها براحةٍ وبحيوية تسمحان له باستكمال الجو الأسري.

تمدَّد فوق سريره، راح ينظر من النافذة، وفيما وراءها كانت السماء زرقاء، بلا أيِّ أثر للسُّحُب، حيث تلمع الشمس بكل لهيبها، إنه يومٌ ربيعي، ربيع تشعُّ منه حرارة مميتة، وكم يحس سراج بالمتعة حين يفكِّر في نزهةٍ طويلة إلى المصنع، فكَّر في الطفل صاحب النبلة، وهو يتساءل هل يراه، انتابَته رغبة مجنونة أن يقابله؛ فالطفل قد يكون مفيدًا له، فلن يغفر لنفسه أن يتركه يرحل دون أن يسأله عن بعض التفاصيل حول سُبُل حياته في الصعلكة؛ فسراج يعتبره رحَّالة متميزًا. كان متعطِّشًا لسماعه يتحدَّث عن تَجواله الكثير في جميع أنحاء المدينة. بأي حماس يصطاد العصافير؛ فسراج لم يجد قط في أي شخص مثلَ هذه المشاعر المتدفِّقة، وكأن الطفل يمثِّل عالمًا له ثقلُه، فهو يدافع عن نفسه بكل وعي، وعليه أن يرى الكثير من الأشياء وأن يقترب من أشخاصٍ عديدين، وعد سراج نفسَه، إذا قابله مرة ثانية أن يسأله عن رأيه في إمكانية حدود الغضب والاحتدام، وستكون مهاراته في الإجابة بمثابة إنقاذ حقيقي بالنسبة له.

وبكل كسل، قام من السرير، وتوجَّه نحو الدولاب، فتحَه وارتدى صدرية صوفية حمراء، وحذاءه الكاوتشوك، ثم أخذ يرتدي ملابسه.

– هل ستخرج؟

انفتح الباب، استدار سراج، ورأى هدى، وقد بدا عليها الضيق، أغلقت الفتاة الباب بهدوء، ودخلت الغرفةَ على أطراف قدمَيها وكرَّرت لاهثة: هل ستخرج؟

قال سراج: نعم سأخرج.

قالت هدى: انتظرني، سأرتِّب الأطباق، وسنخرج معًا.

قال سراج: مستحيل؛ فورائي أمورٌ عاجلة، ولا أستطيع انتظارك. قالت هدى: ليس صحيحًا، الحقيقة أنك لا تودُّ الخروج معي، أنت لا تحبني.

تكلَّمت بصوتٍ طفولي مليء بنبرات ساذجة، أثَّرت في سراج بعمق، هذا الحب الذي تشهده عليه هو عائق لمشاريعه في الهروب نحو حياة حقيقية، أراد أن يتركها تنتظر بهذا الوجه الطفولي العاشق العنيد، إنه ضعيف يريد النوم من جديد، فهو لا يستطيع أن يتحمَّل رؤيتها تعاني، قال بكلِّ ما به من رقَّة: لا طبعًا، أنا أحبك، وأنت تعرفين، فقط ليس لديَّ وقت، يجب أن أخرج حالًا.

بدَت حزينةً مقطبة الوجه، لم تُصدِّقه، تعرف أنه ليس وراءه أيُّ أمر عاجل، وأن رغبته في التصعلك تدفعه للخروج، قالت: من الأفضل أن تنام.

– لقد نمتُ بما فيه الكفاية، يجب أن أخرج، ألَا تفهمين؟

– ماذا ستفعل بالخارج؟ أخاف عليك لو خرجت.

– لستِ سوى فتاة صغيرة، لماذا تخافين؟ كل الناس يظلون نيامًا في منازلهم، أنت لا تعرفين شيئًا عن الحياة.

قالت: لكنك لست كالآخرين … أخاف عليك.

– أنت غبية … ماذا يمكن أن يحدث؟ هل تعرفين يا هدى أن هناك بلادًا يستيقظ فيها الناس في الرابعة صباحًا ليذهبوا للعمل في المناجم؟

– هذا أيضًا من اختراعك؟

– لا، لقد أخبرني رفيق.

قالت هدى: ليس ذلك صحيحًا، إنه بالتأكيد يكذب عليك.

قال سراج: هل تعتقدين ذلك؟ على كلٍّ، فالأمر بالغ الصعوبة، لقد حاولت ولم أستطِع.

– هل حاولتَ أن تستيقظ في الرابعة صباحًا؟ لماذا؟ لا توجد مناجم هنا؟

– أكَّد لي رفيق أنه ستكون هنا قريبًا، يجب أن أخرج.

قالت هدى: اسكت، أنت تخيفني، ألَا تريد أن تنتظرني؟

إنها تُحِس بشيء يربطها به، هي الفتاة الصغيرة، نوع من الحب الخاطئ المثير للمتاعب.

لقد قبلَت منه كلَّ شيء، وهي تتكبَّد من أجله الإهانات والشتائم، فهي تعرف أنه يريد مغادرةَ المنزل، تساءلت كيف تمنعه، سوف تطير من الفرحة لو صَحِبها معه.

اقتربت منه، والتصقَت به وضمَّته بين ذراعَيها، إنه طويل، يدفعها أن ترفع رأسها كي تنظر إليه، بدَت كأنها تتوسَّل برقة، بينما ارتسمت على سراج ابتسامة، قالت: داعِبني.

– ليس لديَّ وقت، وكما قلتُ لكِ يجب أن أخرج، ولا أريد أن أُتعب نفسي؛ فطريقي طويل.

وضمَّته بقوة إليها وهي تتوسَّل إليه: داعِبني.

وضع سراج ذراعَيه حول رقبتها وبدأ في تقبيل فمِها، أحس بها ترتجف، وفهِم أنه لن يتخلص منها إلا ببضع مداعبات، أحسَّ بلذةِ عِناقها وذهب ليجلس على السرير، فلحِقت به هدى، واحتكَّت به بحركات مثيرة، لمعت عيناها بمكر، انقلبت على ظهرها، وانتظرت ممتثلة، واقترب منها مهتاجًا، ابتسمت ملءَ شدقَيها، وهي تخفض أهدابها، وتقلَّص وجهها من الانتظار، ومرَّت لحظةٌ طويلة ظلَّت خلالها غيرَ قادرة على الحركة. رفع سراج فستانها، وكشف عن ساقيها السمراوين الرقيقتين، نظرت هدى إلى سراج، أحسَّت به يرتعد في أعماقه كطائر جريح، مرَّر سراج يدَه الرقيقة فوق ساقيها، حتى وصل إلى نقطةٍ حسَّاسة من جسدها فتراجع، أطلقت تنهيدةً خفيفة، تعلَّقت به بكل قوَّتها، أجبرته أن ينام إلى جوارها.

أمسك طرَف قدميها الذي تدفَّق عبَر فستانها، فتركته يفعل، بدت سعيدة متخابثة، استندَ رأس سراج على صدرها، أحسَّت به كأنه يكاد أن ينام، قالت: هل تعرف أنَّ جلال وعدني أن يعطيني خمسةَ قروش إذا كشفت له عن صدري؟

ارتدَّ سراج نحو الخلف، نظر إليها ببلهٍ، وقال: وعدَكِ بخمسة قروش! إنه يسخر منك، فهو لا يملك نقودًا.

قالت هدى: إذا كان معه، هل تصدِّق أنني سأفعل؟

قال سراج: لا أعرف، ربما يرغمك أن تفعلي.

قالت: إذا أجبرني، فلن يكون نفس الشيء، ثم إنه لن يحدث.

– لماذا؟ إنه لن يداعبَك رغمًا عنك.

قالت هدى: لا، لقد حاول، ولكنه شديدُ الكسل، إنَّه يحبُّ النومَ أكثر.

– لذلك أنا لا أفهم. لماذا يريد رؤيةَ ثدييك؟

قالت هدى: لا شكَّ أنَّ هذا يمنعه، يريد التسليةَ بين وقتٍ وآخر دون تعب، ألستَ غيورًا؟

ابتسم سراج، وهو ينظر إلى هدى: لستُ غيورًا.

سكتت هدى، وبدَت متعثِّرة، فهي تحب أن تراه غيورًا. قالت: الذي يجبرني دائمًا هو رفيق، لا أعرف ماذا أفعل كي أهربَ منه.

قال سراج: ألا تُحبِّين رفيق؟ إنه شاب رائع، هل تعرفين أنه يقضي وقتَه في السهر في صالة الطعام، كي يمنعَ الحاجَّة زهرة من رؤية أبي؟ فهو يطاردها منذ أيام، وسوف يخرُّ مريضًا بالتأكيد.

قالت هدى: أعرف، إنه لا يطارد الحاجَّة زهرة، بل يقضي أغلب وقته في مطاردتي أنا أيضًا.

قال سراج: هذا يعجبك، إنه رفيق، لماذا لا تحبينه؟

قالت هدى: أنا لا أحب سواك، وأنت شرير معي.

قال سراج: لست شريرًا، فقط أفكِّر في شيء آخر.

قالت هدى: فيمَ تفكر؟ يا الله! أنت أكثرُ جنونًا من الآخرين، أنا شديدة البؤس.

قال سراج: الآن، اذهبي، يجب أن أخرج، فقد تأخرت.

قالت هدى: لا تذهب بعيدًا.

وقامت من فوق السرير، ورتَّبت ملابسها، وخرجت من الغرفة على أطراف قدمَيها.

أغلق سراج سورَ الحديقة وسار في اتجاه الطريق معتلَّ المزاج، وأحسَّ بالمهانة، وراح يلعن نفسَه لامتثاله نزوة هدى، فهو ليست لديه الآن القوة اللازمة للذهاب إلى المصنع، يجب أن يؤجل هذه الزيارة إلى مرةً أخرى، وضع في حسابه كم أنَّ هذه الفتاة تُثقل عليه أكثرَ من النوم، فتعلُّقها به سوف يفسد محاولته من أجل حياةٍ عملية وحرة، إنها عقبةٌ أكثر من حُلم لن يتولَّد سوى في الهروب يومًا من منزل الأسرة، كيف يمكنه أن يتخلَّص منها؟ رغم أنه لا يزال طفلًا؛ فسراج يحسُّ نحوها بشفقة، إنها بائسة، وهو يعرف ذلك، وستكون أشدَّ بؤسًا عندما يرحل.

ابتعد سراج عن الطريق الرئيسي، وقرَّر أن يذهب لرؤية أبو زيد في حانوته، أراد أن يقدِّم لبائع الحرنكش بعضَ الأفكار القيمة التي يمكن أن تُعطيَه انطلاقةً حقيقية في تجارته التافهة وهكذا، فإنَّ بعد ظهيرته لن تكون فاشلة تمامًا، فالجو حارٌّ، وشبه خانق، راح سراج يتنفَّس بصعوبة، وأحسَّ أنه يكاد يفقد البصرَ من انعكاس الشمس التي تتفجر في كل مكان، وتبدو المنازل على جانبَي الطريق كأنها مدهونة بدهان يلمع في الضوء، مشى سراج بخُطًى مترنِّحة ولديه نيةُ المغامرة في منطقةٍ تغمرها أضواء البرق، مليئة بالعوائق الغير متوقَّعة، أحس بيده رطبة في أعماق جيوبه، فأخرجها ودلَّكها ببنطاله، ثم تابع طريقه، الذراعان متأرجحتان، والمخ خاوٍ والعينان تُحملقان في الأرض، والمارَّة نادرون في الشارع، فهذه ليست ساعة النزهة، وهو لا يريد أن يتكلم، ثم إنَّ الناس اعتادت النظر إليه بطريقة غريبة، إنهم يعرفون أسرته، ويبتسمون ببلاهة عند اقترابه، وفي كل مرة يحسُّ سراج بأنه يموت، فجأة رأى ميمي ينطلق من حارة، ويسرع نحوه، وعلى شفتيه ابتسامة بينما هو يُمسك كلبه سمسم، ذلك الحيوان المسكين، البليد والقذر، والذي لا يتركه أبدًا، قال ميمي: سلام عليكم، لم أرَكَ منذ زمن، هل أنت على ما يرام؟

ردَّ سراج: أنا لا أخرج كثيرًا، هل تتنزه؟ وكيف حال كلبك؟

قال ميمي: إنه حيوان قذر، إنه مصاب باللامبالاة، اسمع، أنا أودُّ أن أراك.

هتف سراج: ياه! فيمَ يتعلَّق الأمر؟

قال ميمي: أريد أن أكلمك، لقد حُمْت طيلةَ الأيام الأخيرة حول منزلك آملًا رؤيتك، لكنني لم أجد فرصة.

قال سراج: هل الأمر خطير؟

سكت ميمي، ثم نظر إلى سراج من طرفِ عينه، التي تشع برغبة مزعجة، وقال: آه، لا شيء بعينه، فقط كنت أريد رؤيتك.

قال سراج: أنا سعيد بلقائك.

سأل ميمي: حقًّا؟

ردَّ سراج: طبعًا، أحب كلبك كثيرًا.

قال ميمي: هل تسمح لي أن أصحبَك لحظة؟

ردَّ سراج: بكل سرور.

وراحا يمشيان في الظل، أحنَى ميمي رأسَه نحو كتفه، وابتسم في متعة، لم يكفَّ عن التحديق في سراج بطرَف عينه، إنه شابٌّ مراهق غريب يرتدي ملابسه على أحدثِ طراز، وبشكلٍ مريب، تبدو أهدابه الساحرة منتوفةً وعيناه سوَّدهما الكحل مما يعطي لنظراته إصرارًا غامضًا، سار بطريقةٍ غريبة، وهو يهز فخذيه بكل خفة، ومن وقتٍ لآخر، يُخرج من جيب سترته حَفنةً من لبِّ البطيخ المستوي، ويروح يقزقزها في اشتهاء شديد. سأل سراج: هل تريد لبًّا؟

قال سراج: شكرًا، أنا لا أحبه.

– أنت مخطئ، فهو لذيذ، للأسف، من الصعب أن نقزقز اللبَّ عندما لا نعرف كيف نتعامل معه.

قال سراج: لم أتمكن من فعل ذلك قط، في منزلنا، لا نأكله أبدًا.

قال ميمي: أجل فهو عملٌ صعب عليكم، وأنتم لا تجرءون بالمخاطرة فيه، فأنتم تحبون كلَّ ما يؤكل بسهولة، ولا تميلون إلى التعب.

قال سراج: لا، ببساطة لأنَّ أحدًا لا يُحبه.

قال ميمي: فهمت، لستُ في حاجة أن تشرح لي، لا تغضب لأنني قلت ذلك.

قال سراج: لست غاضبًا.

قال ميمي: خسارة، أنا ممتنٌّ لمقابلتك.

ورمش بأهدابه وابتسم، له شفتان جميلتان وحمراوان، وممتلئتان قليلًا، أما سراج فقد انزعج كثيرًا، لم يشرح له ميمي حتى الآن لماذا أراد أن يراه، إنه يعرفه جيدًا ويخمِّن السبب.

أحس بالسعادة وهو يقطع الصمت: هل ما زلتَ ترسم؟

قال ميمي: نعم، أعتقد أنني رسمت بعض اللوحات الغريبة، أتريد أن تشتريَها؟ فأنا لم أَبِعْها بعدُ.

كان ميمي تلميذًا في مدرسة الفنون الجميلة، يدرس الرسمَ ويتصرف كفنان كبير، ولم يرَ أحدٌ لوحاته قط، ولكنه يزعم أنها أعمال عبقرية، وأسرته تُصدق كلامه، أما بالنسبة لأصدقائه العديدين فإنهم يغتابونه، بكل وضوح، فقد نال شهرة في الحي بغرابة أطواره ولعاداته الغريبة، سأل سراج: هل عُرضت عليك أموال كثيرة؟

قال ميمي: بالتأكيد، لكنني لا أهتم بالنقود، أنا أرسم فقط من أجل الفن.

قال سراج: جميل، لعلك سعيد.

قال ميمي: الفن يهمني؛ لذا أهتم كثيرًا بأسرتك، فأنت أيضًا في تكوينك فنان.

قال سراج: لا أفهم، لسنا فنانين، أنت مخطئ، فنحن لم نفعل شيئًا.

قال ميمي: هذا هو الأمر، هذا الفراغ، في رأيي، فنٌّ راقٍ وجذاب.

قال سراج: أنت رقيق للغاية، وأؤكد أنك مخطئ، لسنا فنانين.

سكت ميمي؛ فهو سعيد لأنه عبَّر عن نفسه بهذه المشاعر، وحسب قراءاته الغريبة، فإنه يحمل مفهومًا ضبابيًّا حول علم الجمال المعاصر؛ فسلوكه الغريب له أيضًا نفس الجذور ويؤمن تمامًا أنَّ الفنان الحقيقي يجب أن يكون شاذًّا بطبيعته، إزاء صديق يسأله إذا كان يؤمن بفلسفة كاتب معاصر حديث.

أجاب ميمي: لماذا تريد أن أفكِّر فيه، إنه رجلٌ متزوج؟

أسعدَته هذه الإجابة بشدة، فهو يجب أن يتقرب لسراج، لكن سراج لم يسأله شيئًا.

لا يهم، سيكون هذا في مرة أخرى، لَعِق شفتَيه بلسانه وابتسم، يبدو عليه أنه يهب نفسَه لمؤامرات دنيئة.

فجأة حدث شيءٌ ما؛ فقد راح سمسم يتشمم كلبةً دلفت من أحدِ الأبواب، سحبه ميمي بغتةً من سلسلته، وأعاد إليه سمسم المسكين الذي نبح بصوتٍ مخنوق: تعالَ هنا، أيها الحيوان القذر، ألستَ خجولًا، إنها أنثى.

ربَّتَ سمسم تحت ساقَي ميمي وقد بدا عليه الارتباك والحياء، أما الكلبة الساحرة فقد ظلَّت في نفس المكان، نظرت إلى المنظر بدهشة بادية، انحنى ميمي، وأمسك زلطة وألقاها ناحيتها، فقفزت الكلبة وهربت دون أن تسأل عن السبب، نظر إليها سمسم وهي ترحِّب وقد أصابه الندم، وعانى من موقفه غير المنطقي، إنه كلب نحيف أحمر الشعر وعينان محوطتان بالفسوق، لا يتعمَّد أن يكون شاذًّا، ويخشى أن يغضب سيده، يشده ميمي بقسوة في كل مرة يحاول أن يتقرب فيها من الأنثى، بينما استسلم سمسم إلى الكلبة، ومال إلى مسايرة غريزته التي بدت له بمثابة خطايا مأسوية، فراح ميمي يوجِّه له الضربات والشتائم.

صرخ ميمي، وهو ينهَى كلبه بوقاحةٍ بادية: يا ابن العاهرة، سوف أقتلك.

قال سراج: ما يُدهشني، هو الطريقة التي تعاملت بها لتوِّك مع أنثى.

قال ميمي: أنا أعرفهن، تلك الحيوانات القذرة، إنها قذرة ويملؤها القمل.

قال سراج: هذا أمرٌ مدهش، وليس لديَّ شيء أُخمِّنه.

سارَا لحظة، دون أن يتكلَّما، كانَا تقريبًا وحدَهما على الطريق، ومن وقتٍ لآخر يستدير ميمي، ويُلقي خلفه نظرةً خلسةً، بدا كأنه ينتظر قدومَ أحد، دسَّ يدَه في جيبه، ثم سحب حَفنة أخرى من لب البطيخ، وراح يقزقزها، واحدةً إثر واحدة، فصدر عنه صوتٌ جافٌّ أغضب سراج ومنعه من النُّعاس، هزَّ رأسه، ونظر أمامه، فجأةً ظهرت عربة حنطور على الطريق، اقتربت ببطء كأنه في حُلم، يقودها حوذيٌّ يبدو عليه الغضب، ضرب الجواد بحركةٍ جنونية، وفي داخل العربة الحنطور جلست امرأة متكئة على فخذَيها، امرأة ذات أهمية كبرى، كأنها كتلة من اللحم المعبَّق بالدهن، رفعت الريحُ تنورتَها فكشفت عن جسدها البدين بطريقةٍ شديدة الابتذال، فأطلق الشابَّان الصفيرَ المتقطع. قال ميمي: يا لَه من أمرٍ مرعب! هل رأيت؟

لم يردَّ سراج، فعليه أن يُسرع إلى محل أبو زيد، فلا شكَّ أنَّ وجود ميمي يُشتِّت فكره، خاصةً أنه لا يستطيع أن يتحمَّل صوتَ ميمي الناعم الرخو، يتصرَّف كأنه سُكَّر مذاب، أحسَّ سراج بأنه واقع في شَرَك، انتابَته أحاسيسُ غريبة في جسده، وأراد أن يسترخيَ على الطريق وينام.

لم ينتبه ميمي إليه؛ فقد تملَّكه إحساسٌ ضخم بالعظمة، وأصابه القلق، فهو يلتفت حوله في كل لحظة، يبدو أنه ينتظر شيئًا ما، فجأةً بدا كأنه تخفَّف عندما رأى رجلًا يتوقَّف عند حانوت الدخاخني، إنه رجل في الأربعينيات، مبروم الشارب، ويضع خواتمَ ضخمةً في أصابعه، وقد مال طربوشه المنتصِب على أُذُنه اليمنى، يُمسك في يده عصًا، ألقى ميمي نظرةً مستترة، ثم أشعل سيجارة ونفث الدخان بكل براءة، ابتسم ميمي، واستدار نحو سراج، ومرَّر ذراعه تحت صدره، وقال: تبدو مشغولًا، هل أنت عاشق؟

قال سراج: لستُ عاشقًا.

ابتسم ميمي وقال وقد بدَت عليه النشوة: آه من الحب، لا أستطيع أن أعيش بدون حب.

سكت سراج، وأكمل ميمي بعد قليل: أخبرني كيف حال أخيك رفيق؟

ردَّ سراج: على ما يرام.

كان ميمي زميل دراسة لرفيق، وهو يكنُّ له دائمًا إعجابًا، ويحب أساليبه الجافة، وبحة صوته، وهذا الشحوب لرجلٍ حسي يُثير خياله، وللأسف، فإنَّ رفيق يردُّ دائمًا على صديقه ببرود جاف وازدراء، ويشعر ميمي في كل مرة بأنه مجروح، ولا يميل أن تتطوَّر علاقتهما.

ورغم كل شيء فهو يبدو سعيدًا عندما يراه، ويأتلف بحضوره، ولكن منذ قرَّر رفيق أن يحبس نفسَه في المنزل، أصابت ميمي خيبةُ الحبيب المهجور، في الحقيقة، فإنَّ كل هذا الحديث مع سراج لم يكن له أيُّ هدف سوى أن يعرف أخبار أخيه.

قال ميمي: لماذا لا يخرج دائمًا؟

قال سراج: إنه لا يحب الناس، يفضِّل البقاءَ في المنزل.

قال ميمي: إنه يكرهني؛ ففي كل مرة يراني، وهذا نادرٌ الآن، فإنه يتجنَّبني، ماذا فعلت له كي يكرهني؟ هل تريد يا عزيزي سراج أن تُسديَ لي خدمة؟

قال سراج: بكل سرور، ما هي؟

– حسنًا أريدك أن تسأل رفيق لماذا لا يحبني، فهذا أمرٌ هام بالنسبة لي، فأنا متمسك دومًا بصداقته، هل ستُبلغه بهذا؟

قال سراج: لن أنسى ذلك.

استدار ميمي، وألقى نظرةً خلفه، نحو الرجل ذي الشارب، والخواتم الضخمة الذي كان يتبعهما من بعيد، وهو يداعبه، اقترب ميمي من سراج وهمس في أُذُنه: أعتذر كثيرًا، ولكني مضطرٌّ أن أتركك، فلديَّ موعد.

بدا وهو يقول هذه الكلمات كأنه يبوح لسراج بسرٍّ دفين عن ظروفه، ثم قال قبل أن يبتعد: كم أنا سعيد أن أراك، السلام عليكم.

وأمام حانوت أبو زيد، توقَّفت مجموعةٌ من الأطفال، إنهم من مدارس قريبة، صبيان وبنات، يحملون كتب المدرسة بين أذرعهم ويختارون من الحلوى وهم يمرحون، راح أبو زيد يقدِّم لهم خدماته بكل اللامبالاة، بدا أقلَّ فزعًا بهؤلاء الزبائن المزعجين، انتظر سراج حتى انفضُّوا جميعًا، ثم تقدَّم نحو أبو زيد، وقال: السلام عليك، أيها التاجر الماهر.

– آه، هانت يا بني، يا الله، وفِّر سخريتك.

مال سراج نحو أبو زيد تاركًا النوم يسيطر عليه، ونظر إليه أبو زيد وهو ينام وأغلق له عينَيه، وخلفهما، كان الباعة الجائلون الماكرون، يتملَّكهم الجنون من الحانوت الخاوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤