٧

استيقظ العجوز حافظ منزعجًا، تهزُّه الرَّعشة ويُغرق جسدَه عَرقٌ بارد؛ فقد حلَم لتوِّه حُلمًا سيئًا، حُلمًا وعْرًا لا ينتهي، وبحركة محمومة رفع المنديل الذي يَعصِب عينَيه مرتعدًا تحت الغطاء وقد انتابه الخوف، حاول أن يتذكَّر صُوَر حُلمه، ولكن كل شيء تداخل في ذاكرته، فهو لم يحتفظ في داخله سوى بذكرى مزعجة، داعب شعوره بالشيخوخة وما لبِث أن هدأ، وراح ينظر حوله.

فالغرفة غارقة في ظلام دامس ينِمُّ عن زمن غير حقيقي، جاهد العجوز حافظ أن يتعرَّف على الوقت وأن يحدِّد شيئًا ما، جالَت نظراتُه في الغرفة، وتوقَّفَت فوق طبقٍ موضوعٍ على المائدة، وتذكَّر أنه تناول غداءه، إنه الآن بعد الظهيرة، وتجاوز القيلولة، رمى بمنديله الذي كان يلتفُّ تمامًا حول رأسه، والذي عليه أن يحميَه من ضوء النهار كي يستطيعَ أن ينام مرةً أخرى.

جلس فوق سريره، وراح يفكر، كالعادة فإنَّ أفكاره تبدو خاليةً من كل المشاعر، فمنذ بعض الوقت، تنتابه أفكارٌ غاضبة، ويمتلكه قلقٌ شديد، هذا الزواج الذي قرَّره، عند أفول حياته، يشغله بكل الموازين، إنها رغبةٌ في شباب جديد، وفي نفس الوقت نوعٌ من السُّلطة. الاجتياح الأخير على رغبته الخابية، فروحه غير الاجتماعية قد امتلأت بكافة أنواع النزوات؛ لذا فهدفه الأساسي أن يعارض مَن يحوطونه، فمنذ سنواتٍ لم يقدِّم برهانًا حقيقيًّا عن قسوته السيئة، وبدأت أسرته تنساه؛ ولذا فهو يرغب قبل أن يموت أن يترك بقوة طغيانه أثرًا لا يُمحَى.

ظلَّ العجوز حافظ ينتظر منذ أيام، وبصبر نافذ، حضورَ الحاجَّة زهرة، لقد وعدَته أن تهتمَّ به، إنها خاطبةٌ مشهورة تجعلها مكاسبها الكبيرة شديدةَ المثابرة، ومن هذه الناحية، فالأمر لا يهم العجوز حافظ، ولكنه يهتم بشيء آخر، توقَّف فكره، أعار أُذُنه إلى صمت المنزل، لم يسمع أيَّ صوت قادم من الدور الأرضي، فالصمت يلفُّ كلَّ مكان ولا يتغيَّر، خمَّن أنهم نيامٌ جميعًا، فكَّر حافظ في أبنائه بمرارة؛ فهو لم يرَهم منذ فترة طويلة ويحدُث أحيانًا أن يظلَّ شهورًا دون أن يراهم، لكنه يعرف من العم مصطفى كلَّ ما يُحاك ضده، فهذا الزواج لا يعجبهم ويعرف أنَّ رفيق قرَّر قيادةَ التمرُّد، وأنه أقسم أن يقتل الحاجَّة زهرة، لقد منحه الكثير من الحرية، إنهم يتصورون الآن أنَّ كل شيء مباح، لكنه سوف يحطِّمهم، وسيبيِّن لهم أنه سيد المنزل.

للأسف، فهذه المعارضة التي يواجهها من أطفاله لا تمثِّل بالنسبة له أيَّ أهمية، لكن العاهة الثقيلة التي يعاني منها تشغَله كثيرًا، هذه العاهة يعتبرها العجوز حافظ العقبةَ الوحيدة أمام زواجه، وهو لا يستطيع أن يفكِّر فيه دون أن يرى حُلمه في الزواج المتأخر ينهار فجأة، أبعد الغطاء، ورفع قميص نومه وفحص أسفل بطنه بعين قلقة «أليطة» كبيرة تبرز مثل تلٍّ صغير بين ساقَيه الضامرتين، إنه شيء حقيقي مرعب، في كل مرة ينظر العجوز حافظ إلى هذه «الأليطة»، يندهش من منظرها، ومع كل يوم جديد فإنها تأخذ شكلًا مغايرًا، ويحزن العجوز حافظ من هذا الاكتشاف، ويتساءل بقلقٍ كيف يمكنه أن يقدِّم نفسه إلى عروسه الشابة بمثل هذه الكارثة.

مدَّ يدَه المرتبكة ولمس بكل حذرٍ الكتلةَ المتورمة الجامدة، ثم بدأ في جمْعها على الطرَف ببطء متعمَّد، نظر العجوز إلى هذا الكيان الضخم بين ساقَيه آملًا أن يراه مندملًا، ولكنه على العكس يبدو وكأن حجمه قد كبُر بين يدَيه، إنه شيء مثير للضحك والسخرية، وطوال دقائق راح ينادي هدى، لم يردَّ عليه أحد، أمسك علبةَ السجائر الموضوعة تحت الوسادة، فسحب واحدةً وأشعلها، ثم نادى من جديد، هذه المرة سمِع خطوات هدى وهي تصعد السُّلم جارية.

– ألَا تسمعين عندما أناديك؟

راحَت هدى تلهث قليلًا، فهي دائمًا ما يُصيبها خوفٌ عندما تدخل غرفة العجوز، تحسُّ بنوع من القلق الطبيعي ورغبة في التقيُّؤ، قالت: لقد صعدتُ لتوِّي.

أخفضَت رأسها في حياء، فقد تناثر شَعرها تحت منديل قِرمزي مطرَّز بأصداف كبيرة بيضاء، نظرت إلى العجوز من أسفل أهدابها، وانتظرت أوامره، فهو يطلب أحيانًا أشياءَ مرعبة، وهي تخاف أن يكشف لها عن «الأليطة»، ودائمًا ما يكشف لها العجوز حافظ عن عاهته ببساطةٍ كي يحكمَ على تطوُّر الأمور، شجَّعه الصمت الذي ألكم هدى، لكنه هذه المرة لم يفعل شيئًا، تحرَّك في سريره وزمجر: افتحي النافذة.

توجَّهت هدى إلى النافذة وفتحَتها، فانسال بعد الظهيرة إلى الغرفة، وجعل مظهرَ الأشياء كأنها ميتة، إنها غرفةٌ واسعة مليئة بأثاثٍ ثقيل، باهت ومليء بالغبار، أحس العجوز بأنه يغرق في دائرةٍ مسرفة من الضوء، رمش بعينَيه واستدار نحو الحائط: أخبريني يا فتاة، ألم تأتِ الحاجَّة زهرة؟

قالت هدى: لا، ليس بعدُ.

– هل أنتِ متأكِّدة حيالَ ذلك؟

قالت: لا، أنا متأكدة أنني لم أرَها.

استدار ونظر إليها عبْر أهدابه: أنتِ تكذبين، يا بنت الكلبة، أعرف أن الأولاد يمنعونك أن تجعليها تصعد.

قالت هدى: ليس صحيحًا، لم يَقُل لي أحد، سوف أجعلها تصعد بمجرد وصولها.

– اسمعي يا ناكرة الجميل، لا تنسَي أنني ربُّ هذا البيت، ولن تتلقَّي أوامرَ من أحد عَداي.

قالت هدى: نعم يا سيدي، سأفعل ما تريد.

– وإلا طردتُكِ من هنا، فأنا أُشفق عليك فقط من أجل أمِّك فلا تحاولي خيانتي، أما بالنسبة للأولاد فسوف أتكفَّل بتعليمهم كيف يتصرفون، سوف أُريهم.

ومرَّر يدَه على ذقنه، وتحسَّس شَعر لحيته الخشن.

– الآن … جهِّزيني كي أحلق ذقني.

اختفت هدى وعادت بإناء مليء بالماء ووضعَته على المائدة. غادر العجوز سريرَه، وترجَّل مرتجفًا نحو المقعد الكبير، القريب من النافذة، إنه نحيف بشكلٍ ملحوظ، ولذا راح قميص نومه يتطاير حوله، تقدَّم وهو يلتوي بساقَيه المقوَّستَين وهو يحمل «الأليطة» الثقيلة.

انغرس في المقعد، وألقى رأسه للخلف … وانتظر … بدأت هدى في دهن وجهه بالصابون بينما أغلق العجوز حافظ عينَيه راضيًا، وهو يشعر بلذةٍ حسية بهذا الإنعاش على وجهه، ذلك الوجهِ ذي التجاعيد الحادة الذي يقطعه شاربٌ أصفر الأطراف من أثرِ دخان السجائر، تجنَّبت هدى أن تمسَّ وجه العجوز، وكأنه كعكة هشة، بينما ارتفعت أنفاسه، جاهدَت هدى، وهي تخشى أن يُغمى عليها، ألا تقترب منه، سألها: ماذا يفعل الأولاد؟

قالت هدى: لا يفعلون شيئًا، إنهم نيام.

قال العجوز حافظ: هذا هو كل ما يعرفون فِعله، يا الله، إنهم يخيِّبون أملي، هل يخرج سراج كثيرًا؟

قالت هدى: لقد خرج مرةً أو اثنتين.

– هذا الولد مجنون، عمَّ يبحث في الخارج؟

يُكنُّ العجوز حافظ لأصغر أبنائه مشاعرَ خاصة، فهذا الصبي يشبهه في أنه مجنون بشيطان المغامرة، وهو لا يعرف ماذا يفعل ليُحيدَه عن طريق الخطر الذي يتوه فيه، أحسَّ العجوز حافظ بأنه مسئول عن المرارة التي يفتقدها كي يضربه لو أصرَّ على المشي قُدُمًا في هذا الطريق.

لقد وفَّر له كلَّ سبل الراحة، وها هو يهرب من المنزل وقد انتابَته فكرةٌ شيطانية بأن يبحث عن عمل، بالتأكيد، هذا الجيل غيرُ واعٍ وعابث، فكَّر أنه يجب أن يُدير معه حوارًا جادًّا، وأن يكشف له أنَّ هذه الجرأة ليست سوى لعبة خرقاء عميقة، فالعجوز حافظ لا يريد لأحد أبنائه أن يُشرَّد في الشوارع، فيرمي بذلك شرفَ العائلة في الوحل، وقال: أخبري سراج أنني لا أريده أن يخرج، سوف يقتل هذا الطفل نفسه يومًا.

انتهت هدى من حلاقة ذقن العجوز حافظ عندما امتثل العم مصطفى أمام أخيه، فهو يقيم في الغرفة المجاورة، قال بابتسامةٍ باهتة: جئتُ أطلب سيجارة.

قال العجوز حافظ مزمجرًا: لقد أخذتَ كلَّ سجائري أنت والأطفال، إنها على السرير، فخُذ منها.

اقترب العم مصطفى من السرير، وأمسك سيجارة وأشعلها، إنها سيجارةٌ عادية أخذ العم مصطفى يدخِّنها بكل أنَفٍ وفتور، تنهَّد وهو يتذكَّر السجائر الفخمة التي كان يدخنها في زمن ثرائه، قال العجوز حافظ: أرجوك، كفَّ عن التنهُّد، ماذا أصابك لكل هذا البؤس؟ أليس لديك كلُّ ما تتمنَّاه؟ كان العجوز حافظ لا يُكن لأخيه مصطفى سوى الاحتقار بعد أن بدَّد نصيبه من الميراث مع النساء في الزمن الرديء، وبعد الكارثة، وافق أن يسكن عنده، كنوع من العاطفة الأخوية، وهو يشعر بدنو أجله؛ لأن العم مصطفى، منذ فترة وجيزة يبدو دائمًا صلفًا معه، إنه الشخص الوحيد الذي يحترمه، وهو لا يُخفي أبدًا أمامه أنه يعتبره برجوازيًّا ورعًا، بخيلًا، وحقيرًا، ولم يغفر له العجوز حافظ هذا الموقف الجارح، وهو الآن ينتقم منه، قال العجوز: أريد أن أتكلَّم معك.

جلس العم مصطفى عند طرف السرير، وراح يدخِّن سيجارته، وقد بدا بائسًا لدرجةٍ مخيفة، قال: أسمعك.

أكمل العجوز: حسنًا، أنت تعرف قراري بالزواج.

قال العم مصطفى: إنه قرار سعيد، من الأفضل أن تهتمَّ بك امرأة. اسمح لي أن أُهنِّئك.

– سوف تُهنِّئني فيما بعد، الآن، سأُبلغك بكلِّ ما قلته للأولاد، فلا تتدخَّل في هذا الأمر، أعتقد أنك لست موافقًا، هذا جحودٌ أسود.

قال العم مصطفى: أنا، على العكس، سأدافع عنك، ولكن مع رفيقٍ لا أستطيع شيئًا، فهو يريد أن يقتلني.

– هذا شيء سخيف، هل ستترك نفسك فريسةً لطفل؟ رفيق ولدٌ سيِّئ، وسوف أربِّيه.

– أنت على حق.

– أنا دائمًا على حق، على كل حال، هذا الزواج سيتم رغمًا عن الجميع، لقد كلَّفت الحاجَّة زهرة أن تبحث لي عن شابة من عائلة محترمة، تسكن في مكان قريب، أريد أن أتزوجَ في أقرب وقت ممكن.

وسكتَ العم مصطفى، إنه يعرف عنادَ أخيه، وخاصة حكايةَ الماعز، إنها حكاية معروفة في كل الأسرة، وأيضًا من المعارف البعيدين، إنها حكاية ساخرة تكشف سوءَ النية، وتناقُض العجوز حافظ؛ فقد كان يتنزَّه يومًا في أرضه، يصحبه ابنُ عمٍّ له، وكان العجوز حافظ آنذاك في الخمسين من عمره، توقَّف وسط الحقل، ورأى شيئًا أسودَ في قمَّة أرضه، كان الشيء بعيدًا جدًّا، ولم يستطِع أحدهما أن يحدِّد بالضبط ماذا يكون، قال العجوز فجأةً: «إنها ماعز.» ردَّ ابن العم: «إنها حِدَأة»، واعتبره العجوز أعمى وأصرَّ على رأيه. وبعد لحظة وبينما هو يتكلم طار الشيء في الهواء واختفى في الأفق، صاح ابن العم منتصرًا: هل رأيت؟ لقد كانت حِدَأة. ردَّ العجوز حافظ يكشف قلقَه: «لقد كانت ماعزًا، حتى لو طارت.» وأمام هذا الضياع، ابتعد ابن العم ساخطًا، وظل غاضبًا منه لمدة طويلة.

أكمل العجوز حافظ: وأنت، ما رأيك في هذا الزواج؟

قال العم مصطفى: إنها فكرة ممتازة، بشرفي، أنا أحسدك.

وانتابه إحساسٌ بالخزي المثير للإشفاق، هو نفسه لم يَسْلم من هذا التحوُّل، فهو لم يعِش في هذا المنزل، إنه يعاني من جاذبية هذا البيت؛ فهو لم يفكر قط أنَّ نقوده يمكنها أن تتبدَّد، وأن يُصبح مفلسًا تمامًا، لقد عاش طويلًا بعد إفلاسه في انتظار معجزة، ولم يصدِّق أنه لم يَعُد يملك أيَّ نقود.

الآن، لا يزال ينتظر المعجزة، طالما أنه يمكن للمعجزة أن تحدث، في هذه الغرفة القذرة مع هذا العجوز العاجز الجالس فوق مقعده، المتأرجح، الذي يريد أن يتزوج من جديد، نظر العمُّ مصطفى إلى أخيه، واعتقد للحظة أنه يحلُم، وأنَّ كل هذا الجو الفاسد ليس سوى فخٍّ مدبَّر له كي ينام، فجأةً أحسَّ بأصابعه تشتعل؛ فقد احترقت السيجارة تمامًا، أطفأها في المنضدة الموضوعة على المائدة، وتنهَّد لاهثًا، وكأنه يؤكِّد لنفسه حقيقةَ إفلاسه.

تململ العجوز حافظ في مقعده، وبرم شاربه وهو يتأمل: لم تُخبرني أنَّ الأطفال يتآمرون من جديد.

– إنهم لا يتآمرون، كلُّ ما هناك أنَّ رفيق يقيم في صالة الطعام، يتمدَّد على الأريكة، ينتظر قدومَ الحاجَّة زهرة، أعتقد أنه لن يلتزم طويلًا بهذا النظام.

– يا للصبي الملعون، وجلًا، ماذا تفعل؟

– لم يفعل شيئًا، إنه ينام دومًا، لقد كلَّف رفيق بالمهمة كلها، واستراح منها، إنه صبي مدهش.

– لماذا تقول هذا؟

– لا لشيء، فقط أرى أنه من الغريب أن ينام هكذا طيلة وقته.

– لا شيء غريب، صدِّقني، ماذا تريده أن يفعل؟ على الأقل أنه هادئ، ولا يُزعج أحدًا.

دعَكَ العجوز أهدابه؛ فأولاده يُولونَه أهميةً وهو لا يعرف كيف يُعيدهم إلى رشدهم دون أن يسبِّبوا له إزعاجًا، أكمل: يجب أن تُكلِّم جلال، إنه الكبير، وإخوته سيسمعون كلامه.

قال العمُّ مصطفى مندهشًا: أكلِّم جلال! ألَا تعرف ماذا قلت؟ إنه لا يقوم من سريره إلا ليأكل، وهو لا يفعل ذلك كثيرًا، هل تعرف ماذا جرؤ أن يطلب مني ذات مرة؟ إنه عارٌ حقيقي، لقد طلب مني أن أُحضر له «القصرية» في غرفته، لأنه يريد أن يتبول دون أن تكون له الرغبة في أن يُزعج نفسَه، إنها أساليب همجية، وأنا لا أحب هذا، كلِّمه بنفسك.

– إنه أحمق، أخبرْه أن يصعد ليراني، أتساءل عن فائدتك، فأنت لا يمكنك أن تُسديَ لي أي خدمة عندما أكون في حاجة إلى مساعدة.

– أعتقد أنك لست معتادًا على الاختلاط، هؤلاء الأولاد لديهم روح جهنمية وسيصيبونني بالجنون.

– ولا يهمك؛ فرجل مثلك يجب أن يستخدم كلَّ ما لديه من سلطة.

أحسَّ العمُّ مصطفى في هذا التلميح بروح السخرية منه، رأى نفسَه محبوسًا في دائرة من الدناءات، وهذه البهجة المقنعة البائسة، وهذا الأثاث القديم، كلُّ هذه الرفاهية الحقيرة والقذرة ترفع من معنوياته، وهذا النوم الخطِر الذي يسيطر على الجميع يبدو كأنه نهرٌ عريض، نظر إلى أخيه، هذا العجوز الذي يحلُم بالزواج رغم الأليطة الكبيرة التي تبرُز عبْر قميص النوم، بين ساقَيه المنفرجتَين، إنه مندهش من هذه الأليطة، تُذكِّره بصورة قديمة، تحمل نفس الصفات، الساحرة والمهيبة.

إنها صورة يعود تاريخها إلى سنواتٍ عديدة، صورة ضائعة في ثنايا ذاكرته، حدث هذا في شقة العزوبية التي كان يسكنها في المدينة؛ فالمرأة التي كانت تأتي كلَّ أسبوع لتغسل له، كانت تقوم بالغسيل في الحمَّام، العمُّ مصطفى لا يذكر ملامحها، لم يكن وجهها معبِّرًا، إنه نوع من الوجوه الممسوحة دائمًا في ذاكرة البشر، كانت صامتةً دائمًا وتقضي حاجتها بشكلٍ ملول وفي امتثال، استغرق العمُّ مصطفى وقتًا طويلًا إلى أن تنبَّه إلى حقيقة وجودها، وكأن المرأة كانت تتحرك في وجودٍ عارض، عند حدود الحُلم. وذات يوم تولَّد فيه شيء مخيف، ونام معها، حدَث هذا مرةً واحدة فقط، ولم يفكر العمُّ مصطفى إلا بعد عدة أشهر، حيث لاحظ أن بطن المرأة قد انتفخَ، فأصابه القلق وتساءل إذا كان هو المسئول، وفي كل زيارة للمرأة، كان البطن يكبُر بشكلٍ واضح، مما يُثير القلق، واحتفظت المرأة دائمًا بسلوكها كحيوان لا ينفعل، ولم تنطِق بكلمة واحدة، مما أصاب العمَّ مصطفى بحالة هذيان ومرض، وفي كل أسبوع كان يرصد هذا البطن الفاجر، الذي يبدو وكأنه يحتقره في انتفاخه، وانتابه الجنون حين اختفَت المرأة يومًا ولم تَعُد ثانية.

خرج من هذه الحالة المحمومة من خموله، وسأل أخاه: كيف حال الأليطة؟

ردَّ العجوز حافظ: أحمد الله، إنها تتحسَّن.

قال العمُ مصطفى: يجب أن تعتنيَ بنفسك، فهذا يمكن أن يُضايقَك كثيرًا.

ووضع العجوز يدَه بين ساقَيه وداعب الورم الظاهر كأنه يداعب طفلًا: ألا تجد أن حجمها يقلُّ؟

قال العمُّ مصطفى: إنها لا تكاد تُرى بالعين.

أراد أن يُسعد أخاه؛ فموقفه كمتطفل تطلَّب منه أن يكون مجاملًا. والعجوز يعرف أنه يكذب، ولكن هذا الكذب يبدو رائعًا، سأل: حقًّا؟

– بشرفي، أنا لا أسخر منك؟ منذ بضعة أيام كانت مخيفة، أما الآن فتكاد لا تراها.

– يسمع منك ربنا، أريد أن ينتهيَ هذا تمامًا هل تعتقد أنها ستكون عقبة أمام زواجي؟

– يا لَه من غباء، ستكون امرأتك سعيدة أن تعتنيَ بها، بل ستكون فخورة بهذه الأليطة.

وابتسم العجوز حافظ مغتبطًا؛ ففصاحة هذه الدعابة تبدو كأنها غير ملموسة، أشعل سيجارة، وقدَّم واحدةً أخرى لأخيه، وراحَا يُدخِّنان في صمت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤