٨

لم تتعجَّل هدى العودةَ إلى أمِّها، هذا المساء، فقد انتابَتها الرغبة لزيارة إمتثال؛ فمنذ أن أرسلها رفيق إلى منزلها أقامت هدى علاقاتٍ حميمة مع العاهرة، وهي تحب أن تلعب مع ابن إمتثال، وتضعه على ركبتها عندما يكون نائمًا؛ فقد كان الطفل جميلًا، أحسَّت هدى نحوه بعاطفة أمومة، وتبدو العاهرة دائمًا حبوبة، وهي تستقبل هدى وتقدِّم لها كلَّ مرة العصائرَ ومختلف أنواع الحلوى.

ولأن إمتثال عاهرة، فإنَّ هدى لم تفهم قط ماذا يعني هذا؟ حيث إنَّ لديها فكرةً مشوشة، ولكن هذه الفكرة لم تُفسد علاقتها بها؛ فبالنسبة لها، يمكنها أن تكلمها عن سراج؛ لأن العاهرة تسمعها برقةٍ بالغة، يسود الآن فيما بينهما نوعٌ من الاستلطاف، وليس هناك شخص آخر كي تحكيَ له هدى مأساتها حول المؤامرة الأخيرة للعجوز حافظ، وعن حاشيته المزعجة ومفاجأتها، إنه عبء بالغ الثِّقل عليها، تريد أن تعلم إمتثال هذه الأحداث الحسية، فهذا يخفِّف مما في قلبها.

تأخَّر الليل في الهبوط، وفي اكفهرار الغروب تُومض المرايا العاكسة بضَعف، كأنها نجوم خابية، وعلى الطريق راح بعضُ العابرين يجرِّبون تكاسلهم قبل الذهاب للنوم، وبدَت البيوت بشكلها الكثيف الداكن، وعلى بعض الأركان هناك فتحاتٌ واسعة تُطل على الحقول، ويُشاهد الريف النائم في قفصه، والحزن يخيم للأبد في الأفق، سارت هدى بخُطًى واثقة.

كآنسة جادة لا تخلو من جاذبية، وقد لفَّت شعرها بوشاحٍ أزرق، وحملت حقيبةً كبيرة بين يدَيها، راحَت تضرب على فخذها، هذه الحقيبة البالغة الأناقة، إنها هديةٌ من إمتثال، وكم تشعر هدى بالفخر وهي تحملها، فهي، في أعماقها، تمثِّل جانبًا من بنات جنسها؛ ولذا فهي تتصرَّف بطريقةٍ مسلية وساذجة.

يقع منزل إمتثال على طرفِ تلة، وبعده ليس هناك سوى فيلاتٍ تتناثر على طول الطريق وتخشى هدى أن تعبر الأمتار الأخيرة التي تفصلها، فهي تُصاب بخوف طبيعي، جرَت ثم توقَّفَت لاهثة أمام المنزل، ورفعت رأسها، كانت نافذة إمتثال مضاءة، دفعَت هدى بابَ المنزل، وصعِدَت السُّلم المظلم ذا الدرجات المتهالكة، اهتزَّ الدرابزين، ورأت مناظرَ قبيحةً على الجدران، توقَّفت هدى عند الطابق الثاني، كان باب إمتثال على اليمين، عدَّلت من غطاء رأسها، وهندمت فستانها وعضَّت شفتَيها الناريتَين، ثم طرقت الباب.

ما لبِث أن فُتح الباب، وظهرَت إمتثال، منطلقةَ الشعر، وبدا جسدها الممشوق الذي يزيِّن الليل.

– أهوَ أنتِ؟ ادخلي يا عزيزتي.

– جئتُ لزيارتك، هل يُزعجكَ هذا؟

– على العكس، يسعدني أن أراكِ، ادخلي واجلسي.

ودخلت هدى الغرفة، ظلَّت واقفة وسألت: هل الطفل نائم؟

– نعم، إنه نائم، لكن يمكنكِ أن تضعيه على ركبتَيك.

توجَّهت هدى نحو ركن الغرفة حيث يوجد المهد، كان الطفل نائمًا، رفعَته برقةٍ بين ذراعَيها، ثم انحنت ووضعَت الطفلَ على ركبتَيها وهي تُحسُّ بسعادة بالغة.

جلست إمتثال، صديقة الطلبة، فوق طرف السرير على سجيَّتها ترتدي منامةً صفراء مطرَّزة بزهور كبيرة متباعدة، تكتسي ملامحُها بحسٍّ دافئ، وتحت ضوء مصباح الغاز، بدا وجهها شاحبًا وكأنها تضع قناعًا، فهي ذات جمالٍ أخَّاذ، ومأسوي، قالت: أخبريني، هل أرسلك رفيق؟

قالت هدى: لا والله، لقد جئتُ من تلقاء نفسي، أحبُّ رؤياكِ وأن ألعب مع الصغير.

– وأنا أيضًا، يُسعدني أن أراكِ.

– أنتِ لطيفة معي.

– والآخرون، أليسوا لطفاءَ معكِ؟

– ليسوا أشرارًا، ألطفهم سراج.

قالت إمتثال: لأنك تحبِّينه.

قالت هدى: أعتقد هذا.

– وهو … هل يحبُّك؟

– لا أكاد أعرف شيئًا عنه.

قالت إمتثال: ولن يعرف أحدٌ شيئًا عنهم.

كان صوتها مبحوحًا، ذا نبراتٍ بطيئة، يعكس الألم والبهجة معًا.

أطلقت تنهيدةً وسكتَت؛ فمنذ مغامرتها مع رفيق، تولَّد لديها حقدٌ دفين ضد أسرة الشاب، وهي لن تغفر أنهم حطَّموا حبَّها وحُلمها في حياة كريمة، اعتقدت إمتثال أنَّ العجوز حافظ قد أبعد ابنه عنها لأنها عاهرة، ولم تعرف الأسبابَ الحقيقية لدوافع رفضه، وظلَّت تلعنه حتى الجيل العاشر، سألتها: هل ينامون دائمًا؟

قالت هدى: إنهم ينامون، ولكنهم أصبحوا الآن مجانين.

– لماذا؟ ماذا حدث؟

– إنها مأساة حقيقية تُهدِّدهم.

– مأساة، ما هي يا عزيزتي؟

قالت هدى: سيدي يريد أن يتزوج.

وانفجرت إمتثال ضاحكةً، ضحكًا هستيريًّا هزَّها بعنف، قالت: إنه شيء غريب، العجوز حافظ يريد أن يتزوج، وما رأي رفيق؟

– إنه هناك يتصدَّى له بصفة خاصة، ليس أمامه سوى السهر طيلة النهار، ولم يَعُد ينام، ينتظر.

– ماذا ينتظر؟

ينتظر مجيء الحاجَّة زهرة، الخاطبة، يريد أن يمنعها من رؤية سيدي، فهي التي تتولَّى شئون هذا الزواج.

بدَت إمتثال كأنَّ فرحًا مجنونًا استبدَّ بها، رمشَت بعينها، وضربَت بيدَيها وتقلَّبت على السرير، وقالت: رائع، إذن فهم متيقظون، وينتظرون، ألا تعرفين إلى أيِّ حدٍّ يُسعدني هذا؟ أريد أن أراهم هكذا.

قالت هدى: هذا ليس مسلِّيًا بالنسبة لي؛ فكلُّ هذه المصيبة تقع على ظهري.

قالت إمتثال: أرثي لحالكِ يا عزيزتي، لقد نسيتُ أنَّك يجب أن تتحملي كلَّ هذه الفواحش.

أمسكت مشطًا كان على التسريحة وبدأت تمشيط شعرها، ذلك الشعر الأسود الطويل الذي يُترك حتى أسفل ظهرها؛ مقسَّمٌ إلى قسمين ثقيلين، وكم تعتني به إمتثال دائمًا، وتعرف عمق عطرها الخفي الذي يُغرِق رغبةَ الأجساد البكر لزبائنها الشباب، إنها عاهرة من طراز خاص، ومهنتها لا تُتعبها كثيرًا، ولا تُسبب لها النفور؛ فعند الاتصال بأحد عشاقها الشباب لا تُحسُّ بأيِّ اشمئزاز، بل يتسلَّيان بجهلهما، وحياتهما في البحث عن المتعة، لقد تعلَّمَت من العديد منهم كيف تُمارِس الحب، وكانت فخورة بذلك، ينتابها قلقُ الأم حين يتقدَّمون في ممارستهم؛ فقد كان رفيق هو الرجل الوحيد الذي أحبَّته، وهو أيضًا الذي كشفت له عن عبق جسدها السري، والتجربة المتمثلة في مهنتها، اعتقدت أنه سيظل يحبُّها دائمًا، وأنَّ فشلهما سوف يُشفى ببطء، ثم جاء الطفل.

نام الطفل على ركبتَي هدى، شاحبَ الوجه ويلمع تحت ضوء المصباح، نظرَت إليه بابتسامة مريرة على شفتَيها المصبوغتَين، تخاف أن يكبر، ولا تستطيع أن تحتفظ به في غرفتها، أحيانًا عندما يبكي، تُضطر أن تُمسكه بين ذراعَيها، وهي تتلقَّى مداعبات زبونها، عليهما أن ينفصلَا يومًا، أو أن يُقيمَا في مكانٍ آخر، في مسكنٍ أوسع، إنه مصدر قلقِها الوحيد، سألت هدى: إذا كنتِ تنتظرين أحدًا، فاطلبي مني أن أذهب.

قالت إمتثال: لا، أنا لا أنتظر أحدًا الآن، يمكنكِ البقاء، احكي لي.

– ماذا تريدين أن أحكيَ لك بعد هذا؟

– أخبريني كيف حال سراج؟ وهل هو منزعج من زواج أبيه؟

– لا، سراج لا يفكر سوى في الخروج للبحث عن عمل، وأنا خائفة عليه.

– لماذا تخافين؟

– لا أعرف، هل تعتقدين أنهم مخلوقون للعمل؟

– أعتقد أنهم غير قادرين، هيه، لعلك تخافين من فقدانه، لكن سرعان ما ستمرُّ هذه الفكرة.

قالت هدى: يسمع منك ربنا؛ فأنا قلبي مهموم.

قالت إمتثال: نعم أعرف هؤلاء الناس، أعرف أنهم قادرون. ويفضِّلون التبوُّل على بنطلوناتهم بدلًا من أن يربطوا أزرارها، وهذا يُتعبهم كثيرًا.

قالت هدى: مثل جلال، إنه هكذا تمامًا.

علَّقت إمتثال: نعم أنا أعرفه، رغم أنني لم أرَه؛ فحين جئت لأسكن هنا، كان مدفونًا في النوم، يتصرَّف كأنه سيدهم، ورفيق معجبٌ به كثيرًا.

قالت هدى: إنه مدهش، عندما أراه، تنتابني الرغبة في النوم، وبشكلٍ تلقائي.

وما إن جاءت سيرة جلال، حتى فتحَت فمها، وتثاءبَت، بدا الطفل ثقيلًا على ركبتها، وأحسَّت بالتعب من مجهود النهار، فارتجفَت أعضاؤها، واختلطَت رائحة مصباح الغاز بالدخان، والمساحيق التي تُثقل جوَّ الغرفة، أحسَّت هدى بأنها تنزلق في نُعاس فوق السرير الكبير، أما مرآة الدولاب فتنعكس عليها حركات إمتثال، كلُّ هذه الأجواء الماسخة السخيفة بدأت تُدير رأسها، رأت جسدَ إمتثال الرشيق، وهو يتمدَّد على ألواح السرير الوردي، ظهرَت إحدى ساقَيها من بين قميصها، فلمعَت في ضوء المصباح الخافت، وكأنها قمة فحشاء الجسد.

أحسَّت هدى بجوِّ الفجور يفوح في المكان، وسمِعَت تغنيجةَ حبٍّ تنفك في صمت، بدا هذا المكان بالنسبة لها، لأول مرة غريبًا، وفاسدًا، اهتزَّت، ودعكَت عينَيها وسألَت بصوتٍ مخنوق: إذن فأنتِ لا تريدين رؤيته؟

– عمَّن تتكلمين؟

قالت هدى: أتكلم عن رفيق، إنه يزعجني بهذا الموضوع، يعتقد أنها غلطتي لو رفضت رؤياه.

صاحَت إمتثال: أخبريه أنني لن أراه أبدًا، وأنني ألعنه بكل روحي، ليبقَ بين أسرته العفنة، آه، أنت لا تعرفين كبرياءه، إنه ينفجر بالغرور، هل تعرفين أنه أخبرني يومًا أنه عندما رأى جنازة فإنه يتمنى لو كان هو الميت، يا للنفخة الكاذبة، هل يمكن أن يكون الإنسان مغرورًا إلى هذا الحد؟

قالت هدى: أخبرني أنه يريد أن يفسِّر لك بعض الأشياء.

– ماذا لديه ليفسِّره لي؟ لا أريد تفسيرًا، يكفيني أن أعرف أنه غارق الآن في مأساة، آه سوف نضحك كثيرًا، أتمنى أن يُوزَّع المُلَبَّس في عُرس هذا العجوز، لا تنسَي أن تُحضري لي نصيبي.

بدَت إمتثال سعيدة، وهي واقفة عند طرَف السرير، وكأنها ضحية، استبدَّت حَفنة ألم بملامحها الملتهبة من المساحيق، لقد حان وقتُ انتقامها أخيرًا، فكشفَت عن صدرها وانفجرت في ضحكٍ مجنون.

أزعجه النداء الدائم والمختال لبائع الذرة: ذرة مشوي، كُلِ الذرة المشوي.

هؤلاء الباعة المتجوِّلون هم أكثرُ ما يكره في العالم، فهم ينادون على بضائعهم في آذان المارَّة، وكأن الأمر يتعلَّق باختراع جديد، لكن هذا لا يزال أكثرَ نبلًا من الآخرين، تبدو عليه ملامح العمال وهو يسحب أكواز الذرة المشوي، يا لَه من غبي، سمِع رفيق نداءه ينطلق من مسافةٍ تملأ الليل، أحسَّ خلفه بزعيق الرجل الصارخ، وكي يتخلَّص منه تعجَّل الخُطَى، الطريق خاوٍ الآن، لكنه أحسَّ بوجود بعض الحيوانات الضالة التي تتأهَّب للموت، وكأنهم يرقبونه خلف جدران المنازل، تكمُن خلف أشواك الحقول المظلمة، وحتى في السماء الداكنة أعلى رأسه.

لا يزال رفيق يتحرَّك منذ لحظة تحت نافذة إمتثال، لم يجرؤ أن يصعد، خشي أن تكون مع أحد الزبائن، فهو لم يعِش مثل هذه اللحظة من الخزي، أحسَّ بغَيرة قاتلة وهو يفكر فيها وهي تمارس الحب، هاجمَته مناظرها وتوتَّر تحت رزحِ ذكرياته الحية، ألقى نظرةً نحو الباب الكبير واستعاد مظهره المكفهر؛ فالمنزل موجود فوق ظليلة ولا تنعكس منه الأنوار، فبدا كأنه غارق في الليل بواجهته الكئيبة، وجدرانه، لم يستطِع رفيق أن يُبعد عينَيه عن البال الكبير؛ فقد دفعَته رغبتُه أن يأتيَ إلى هنا حيث توجد إمتثال، وتغيَّرت إلى رغبةٍ جسدية، فجأةً حدَث تمزُّق، وسطع ضوءٌ في الظلام؛ فقد مرَّت سيارةٌ مسرعة مخلِّفة غبارًا من الرعب، أحسَّ رفيق بأن شيئًا ينهشه، وترنَّح كرجل سكير، لم يحتمل أيَّ صدمة؛ فرأسه يؤلمه، وأعضاؤه توجعه.

أسرع نحو مكانٍ يمكنه الجلوس فيه، خاشيًا أن يسقط فوق الأرض.

كان بالمقهى الذي دخله بعضُ القذارة بدَت تحت ضوء مصباح الغاز، سبحت بعضُ الموائد المترنحة في هذا الضوء الصاخب. جلس صاحب المقهى خلف قِمَطْره، رجل في الثلاثينيات من عمره، شاحب الوجه، فوق أذنه اليمنى وشمُ عصفور، انشغل في إعداد أشياءَ تبدو غير ذات أهمية، لم يكن هناك أحدٌ في المقهى، سوى امرأة عجوز تملؤها التجاعيد، وقد غطَّت رأسها بحجابٍ أسود، شغلت مائدة قريبًا من القِمَطْر، وألقى على الرجل نظرةً بعينَيه المرتبكتين.

طلب رفيق قهوةً، وانتظر شاردًا حتى يستعيد قوَّته، وأن يتخلص من جبنه، لقد خرج بنيةِ أن يرى إمتثال، ولم يجرؤ على الصعود إليها.

لماذا لم يصعد عند إمتثال؟ لا شكَّ أنَّ رغبته فيها تمنعه، وحين خرج من المنزل، كانت رغبته في الخلفية تمامًا، أراد فقط أن يتحدَّث إليها من تحت نافذتها، وفكَّر في أنها تستقبل زبونًا، وأحسَّ بالدم يغلي في عروقه، ولم تنطفئ رغبته فيها، كانت قريبة منه، وتسري فيه حرارةُ جسدها، أحسَّ أنه مطارد من نداء الرغبة القديمة.

وفي هذه اللحظة فوجئ بلعبة غريبة.

تكلَّم صاحبُ المقهى مع المرأة العجوز الجالسة على المائدة القريبة من القِمَطْر، لا شيء غريب فيه، فجأةً، غيَّر صوتَه وحركاته، وبدا كأنه شخص آخر وللحظة طويلة، تم تبادل الدَّور، فيبدأ هو أولًا، ثم يتحوَّل إلى شخص آخر، الشخص الآخر هو نفسه له صوَّت علامات محدَّدة تمامًا، تعرَّف عليه بسرعة بمجرد دخوله في المشهد، دارت اللعبة في احتفالية غريبة، دون أن تفسد سحرها أيُّ أمور غير حقيقية.

بدا رفيق مندهشًا لهذا الغموض، ثم عاود طلبَ القهوة، جذب انتباه الرجل وهو يطرق على المائدة، لوَّح له الرجل برأسه، كأنه يبيِّن له أنه قد فهِم.

وبعد لحظة، أحضر له القهوة، نظر رفيق إلى الرجل بعينَين يملؤهما التساؤل، قال الرجل: أيوه هكذا.

سأل رفيق: ماذا تقصد بهكذا؟

وضع الرجل أصبعًا فوق شفتيه وهو يقول: هذه المرأة أمي.

قال رفيق: وماذا؟

قال الرجل: إنها مجنونة.

قال رفيق: فهمتُ، ولكن لماذا تمثِّل هذه الملهاة؟

قال الرجل: ليست ملهاة، اسمع، إليك الحكايةَ، كان لي أخٌ مات في السنة الماضية.

وأمي لم تصدِّق هذا، فأُصيبت بالجنون، وحتى لا أُحزنها فإني أتصنَّع صوتَ وسلوك أخي، وهكذا فإنها تصدِّق أنه حي وهي تراه.

قال رفيق: يا لَها من حكاية!

قال الرجل: نعم، حكاية قذرة، وهذا يُتعبني كثيرًا، خاصةً مع العمل الذي أؤديه؛ ففي كل مرة تأتي لتراني، أضطرُّ أن أوزِّع نفسي على هذه الأصوات.

قال رفيق: كم أرفق بك!

قال الرجل: وهذا يجعلني في حاجة أن أتكلَّم إلى أي أحد، أنت لا تعرف أي أسًى أنا فيه.

قام رفيق وخرج من المقهى، وقد أثَّر فيه ما رآه لتوه، فالجنون الذي يصيب البشر لم يَعُد يُدهشه؛ فقد عرف العديد من النماذج، ولقد كان صاحب المقهى أيضًا أكثرَ جنونًا من أمه.

إنهما مجنونان، لا يوجد أيُّ عزاء فوق الأرض؛ لذا هرول رفيق إلى بيته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤