٩

الفأر الآن تحت السرير، سمِعه جلال يخربش أطرافَ الباركيه، ولم يجرؤ على الحركة، كما لم يجرؤ أن يفتح عينَيه من بردِ العَرق فوق جسده، وأحسَّ به ينسال في خطوطٍ رقيقة بطول أعضائه، هذا الفأر يجيء كل يوم لينتزعه من نومه، إنه فأر عنيد، يلفُّ في دوائر، ثم يروح يجري من ركنٍ لآخر من الغرفة، تاركًا وراءه أصواتًا مسموعة، أحسَّ جلال الغارق في النوم باشمئزاز، وأنه على وشْك أن يقرض جلده.

رفع الغطاء ونظر حول السرير، لم يكن رفيق هناك، تُرَى أين يمكن أن يكون؟ لقد أصبحَا سخريةً في هذا البيت، ماذا يدفعهما للبقاء هكذا متيقظَين، ضائعَين في عبثٍ لا طائل منه، وكأنهما في نهاية العالم؟ دفعته هذه الفكرة للابتسام، ولكن هل هي نهاية العالم حقًّا؟

تدفَّق نورٌ في أعماقه: زواج أبيه، لقد قرَّر أبوه أن يتزوج فعلًا، أما هو فلم ينَم منذ أيام، ولا يعي شيئًا، كيف يمكن أن تحدُث مثل هذه الكارثة؟ سيكون هذا بؤسًا لا شفاء منه، يجب أن يمنع هذا الزواج بأي ثَمن، وأن يتصرَّف بكل سرعة، يتصرَّف، أحسَّ جلال بهذه الفكرة عبْر تشنجات جسده المؤلمة.

أحسَّ بالتهديد، كيف لم يخمِّن تلك المأساة الحقيرة التي تختفي وراء هذا الزواج؟

فوجود امرأة في المنزل سيقلب حالة النوم السائدة منذ قديم الأزل. فكَّر مرة أخرى أنه يجب أن تبتعد هذه الكارثة، من الأفضل أن يموت أبوه، ولكن هذه المبادرة لم تُعجب جلال كثيرًا.

فموتُ أبيه سوف يُحدِث تعقيداتٍ من نوع آخر، غيرَ مريحة، وأكثرَ سرعة، أولًا ستأتي النائحات اللاتي لن يفوتهن إزعاجه، بصرخاتهن النسائية النارية التي ستملأ البيتَ لعدة أيام.

ثم عليه أن يقوم، ويستقبل المعزِّين، ويمشي في الجنازة حتى يتم الدفن.

لا، من الأفضل ألَّا يموت أبوه، يجب أن يجد وسيلةً أخرى، أحسَّ جلال أنَّ فكرة هذا الزواج سرعان ما تُسبب له الارتباك، وتصوَّر نفسَه في قلب الخطر فلا يعرف كيف يتصرف ولا أحد هناك ليُنقذه، تذكَّر أنه كلَّف رفيق أن يتولى هذه المهمة؛ ولهذا فرفيق ليس فوق سريره، آه، يا للصبي الشجاع! لعله سوف يغتال الحاجَّة زهرة؛ فجلال يثق به تمامًا، لقد كاد أن يصبح مهندسًا، ولديه معرفةٌ تقنية بالغةُ العمق، أحسَّ جلال بهدوءٍ أكثرَ، ولكن النوم لم يأتِ مرةً ثانية.

تُرى كم الساعة الآن؟ على كلِّ حال، فالفجر لم يَحِن بعدُ، لم يتذكَّر جلال أنه سَمِع عرباتٍ تمرُّ، تلك العربات التي تأتي من المصنع القريب، وتنقل الطوبَ الأحمر إلى المدينة، إنها تمرُّ بشكلٍ منتظم فوق الطريق، محدِثةً ضوضاء شديدة تهزُّ المنزل من أساسه، توقظ جلال في كل مرة تحت تأثير الكارثة، لا يمكن أن يمنع نفسَه من التفكير في الرجال الذين يقودون العربات، يتساءل دومًا في معاناةٍ عن أي معجزة توقظ هؤلاء الرجال في الفجر للذهاب إلى العمل، إنه شيء لم يفهمه جلال بعدُ.

بدا الفأر الآن وكأنه مصابٌ بحمَّى، فجأةً راح ينخر، وكأنه يبحث عن مخرج، سمِعه جلال، توقَّفت أنفاسه، والغطاء يغطيه حتى الجذع، أحسَّ بالخوف وأنه يجب أن يغادر السرير، فهذا المنظر يسبِّب له الجنون، أراد أن يُشعل الضوءَ، ولكن كي يصل إلى مفتاح الكهرباء فعليه أن يبذل مجهودًا خارقًا، تململ في غطائه، وحاول أن ينسى كلَّ شيء وأن يستكمل نومه.

أحسَّ بشخصٍ ما على مقرُبة منه، فبُوغت: هل أنت يا رجل؟

كان العمُّ مصطفى واقفًا على مقرُبة من السرير، يرتدي ملابسه كالعادة، ويضع طربوشه على رأسه، سأل جلال: هل ستخرج؟

قال العمُّ مصطفى: لا، لن أخرج، أنا قلِق.

قال جلال: أنتَ ترتدي ملابسك كأنك متأهِّب للخروج دومًا، وهذا الطربوش، كيف يمكنك أن تتحمَّله على رأسك؟ أليس ثقيلًا؟

قال العمُّ مصطفى: الأمر ليس بهذه الصورة، أرجوك، استيقظ لحظة.

قال جلال: يمكنك أن تقول إنك محظوظ، لقد استيقظتُ، ماذا تريد؟

قال العمَّ مصطفى: أنا قلِق.

– لماذا، ماذا هناك؟

– حسن، لقد خرج أخوك رفيق منذ المغرب ولم يَعُد.

سكتَ العمُّ مصطفى ونظر إلى جلال، ومن الباب المفتوح، كانت السهراية تضيء الممرَّ وقد سرَّبت شعاعًا من الضوء، في هذا الضوء الوحيد، بدا جلال شاحبًا، وكأنه جثة، تراجع العمُّ مصطفى خائفًا، وظل فوق سرير رفيق الخالي، وأطلق تنهيدةً أعمق من المعتاد، قال جلال: أنت قلِق بلا سبب، كم الساعة؟

قال العمُّ: العاشرة.

قال جلال: وماذا يعني، اعتقدتُ أن الوقت أكثرَ تأخرًا.

قال العمُّ: هذا ما يقلقني؛ فهو لم يَعْتد الخروجَ وأنا لا أفهم.

قال جلال: ربما صحِبه سراج ليبحث عن عمل.

قال العمُّ: مستحيل، رفيق لا يفعل هذا، فهو لم يبحث قطُّ عن عمل، ثم إنَّ سراج في غرفته.

في الحقيقة لم يكن القلق الذي ينتاب العمَّ مصطفى سوى حجةٍ للثرثرة مع جلال، إنه في حاجة للكلام مع شخص، تحرَّك في المنزل، هذا الصمت المميت يقهر روحه، ووعيه يؤلمه.

فصورة بطن الغسالة المنفوخ لم تتركه قط، وهو لم ينجح في أن ينزعها عن ذاكرته، إنه يبذل أقصى ما لديه يومًا وراء يوم، حاول العمُّ مصطفى أن يدافع عن نفسه، هذا البطن المنفوخ لحياة غامضة تحطِّمه وتخنقه، حدَث شيء غريب في داخله، راح يفكِّر في الطفل، فهذا البطن كان يحمل طفلًا منه، وهو لا يشكُّ في هذا، تُرَى ما مصير هذا الطفل؟ انتاب العمَّ مصطفى شعورٌ بالندم؛ فوجوده معلَّقًا بنقطة محدودة، ظنَّها تتملكه بقوة خلابة، يمكنه أن يقضيَ ساعاتِ فراغه لتعميق إحساسه بالندم، أحسَّ شبابه يعود به: إذن، أليس لديك فكرة أين يمكن أن يكون؟

– يا عم مصطفى، ليس عندي فكرة، ألَا تعرف أنت أين وضعته؟ أنا قلِق، فاتركوني في حالي.

– لا تغضب يا بُني.

– هناك أيضًا هذا الفأر اللعين، لقد استيقظت بسببه.

– هل هناك فأر في هذه الغرفة؟

– نعم، إنه هناك يقرض شيئًا لا أعرفه.

حرَّك العمُّ مصطفى ساقَيه بشكل غريزي أسفله، وألقى نظرةً خائفة على الباركيه … وقال: قلتُ لهدى أن تضع مصيدة.

قال جلال: ولا يهمك، أنا لا أريد مصيدة، فربما أشتبك فيها.

ورانَ صمتٌ، حاول العمُّ مصطفى أن يسمع صرير الفأر، نظر إلى خط الضوء الداخل من الباب، إنها وسيلةُ الإنقاذ الوحيدة ضد الخطر، ولكن ليس هناك أيُّ صوت، رفع عينَيه ونظر إلى جلال في الظلام، ورأى وجهه يلمع بابتسامة كئيبة، سمِع ضحكة ساخرة: يا عمُّ مصطفى، أعرف أين ذهب رفيق.

– أين هو، يا بُني؟

– ذهب يغتال الحاجَّة زهرة، إنه ولدٌ شجاع، يريد أن يجنِّبَنا هذه المأساة الكبرى.

– اسكت، يا جلال يا بني، أنت تُثير دهشتي؛ لأنك ولدٌ عاقل ورزين، وها أنت تتصرَّف بحدة.

– هكذا تكون أمور الزواج.

– سوف يتزوج أبوك، وهذا حقُّه، ولا يمكننا أن نمنعه.

– وماذا يمنعك من النوم يا بُني؟

– يا عم مصطفى، لماذا تتغابَى؟ فالطفل يكاد يفهم هذا الأمر، كيف يمكننا أن ننام في هدوء وفي البيت امرأة؟ امرأة تروح وتجيء طيلةَ النهار، وتُرتب كلَّ شيء حولها؟ تودُّ أن يكون كلُّ شيء مرتبًا ولامعًا كي تُعجِب الجيران، فتبدأ بأن توزِّع علينا الخدمات؛ لأن الصغيرة هدى لن تُوفِّيَ احتياجاتنا، تخيَّل يا عم مصطفى خادمٌ في البيت! كم أتأوَّه من الفظاعة لو أخذنا النسائب في الحسبان، سيأتون لزيارتنا، وعلينا أن نقوم ونرتديَ ملابسنا كي نستقبلهم، وربما ستُضطر للكلام معهم، أسألك أيَّ حياة ستكون؟

– أنت تبالغ يا بُني، ثم إنَّ هذه مشيئة أبيك، فهو السيد، وفيما بعدُ، لن تشعر بالغضب حين تكون هناك امرأةٌ في البيت، الحياة ستكون أفضلَ.

راح العمُّ مصطفى يتخيَّل صورةً مبهجة للحياة عقب زواج أخيه الذي سيغيِّر المنزل، سوف تغمره سعادة من رؤية الناس، وربما من زيارتهم.

– يا عم مصطفى، تصوَّرت أنك يمكن أن تكون خائنًا، لكن ليس إلى هذا الحد، إذن فأنت تريد رؤيتنا ونحن نموت.

– اهدأ يا ابني، صدِّقني فليس في كلامي شيء مأسوي.

– دعني أنام، مَن يعرف إذا كانت أيام نومنا أصبحت محسوبة، لا أريد أن أقول أكثرَ من هذا.

– أرجوك … لا تنَم ثانيةً، كلِّمني قليلًا.

لم يودَّ الصعودَ إلى غرفته؛ فصورةُ الغسالة ذات البطن المنتفخ تنتظره بأعلى، وهذا المساء ليست لديه القوة اللازمة لمواجهتها، إنها أشبه بشيء يمزِّقه، بجسدٍ لم يلمسه إلا بحذرٍ شديد، عليه أن يبقى لأطول وقتٍ ممكن في ركن من الظل، أمام كيان إنساني مشطور إلى قسمين، يكتنفه النوم.

– اسمعني، فلعل هذه الزيجة لا تتم.

قام جلال من سريره، كي يتأمَّل من دهشه: وكيف هذا؟

بسبب الأليطة.

– أي أليطة؟

– أليطة أبيك، لنرَ!

– هل لأبي أليطة؟

– ألَا تعرف؟

– لا، كيف أعرفه، إنه خبرٌ غريب، أعرف أنه مصاب بالسُّكر، أعتقد أنه مرض عابر ولا يعرقل زواجه.

– لا، مرض السُّكر من اختراع الحاجَّة زهرة، الحقيقة أنَّ لأبيك أليطة.

– هل رأيتها؟

– مثلما أراك، إنها ضخمة.

وران صمتٌ شديد، صاح جلال: إذن فقد تم إنقاذنا؟

قال العمُّ مصطفى: أعتقد!

– حسنًا يا عم مصطفى، أشكرك على هذا الخبر، يمكنك أن تذهب الآن، ويمكنني أن أنام.

قام العمُّ مصطفى رغمًا عنه وتردَّد في الذهاب، ولكنه سمِع شخيرَ جلال، وفَهِم أنَّها محاولة غير مجدية، وخرج من الغرفة مكتئبًا.

غمره ضوء المصباح الكهربي كأنه ماء بارد، هبَّ من مكانه وتوجَّه إلى سريره: هل أنت مجنون أن تُشعله دون أن تخبرني؟

– معذرة، فأنا لا أجد بيجامتي.

– إنه رفيق الذي عاد يرتدي ملابسه من جديد.

– هل قتلتها؟

– مَن؟

– بشرفي، الظاهر أنك نسيت كلَّ شيء، أليس من الواجب عليك أن تقتل الحاجَّة زهرة؟ وأنا كغبي اعتمدت عليك.

– أنا لم أنسَ شيئًا، لا تقلق، فسوف أقتلها يومًا؟

تكلَّم جلال وقد احتفظ بعينَيه مغلقتين، إنه لا يستطيع أن يواجه الضوءَ الشديد للمصباح الكهربي، بدا كأنه أعمى، راحت يداه تطوحان في الفراغ: أرجوك، أطفئ هذا النور.

انتهى رفيق من لُبْس ملابسه وانسلَّ في بيجامته، وأطفأ المصباح وتمدَّد على سريره، وبكل برودٍ قرَّر أن ينام.

– اسمعني، لقد أخبرني العمُّ مصطفى بخبر جميل.

سأل رفيق: أي خبر؟

قال جلال بحرارة: خبر على جانب كبير من الأهمية لنا، فأبوك لديه أليطة.

وتحرَّك رفيق ومال خارج السرير.

– هل أنت متأكد أنَّ العمَّ مصطفى لم يكذب عليك؟

– لا أعتقد، أخبرني أنه رآها، وأن الزواج لن يتمَّ.

قال رفيق بصوتٍ حالم: إنه شيء جميل، هل هي ضخمة؟

قال رفيق: ليس تمامًا، يجب أن أراقب الحاجَّة زهرة، إنها خاطبة ملعونة، ويمكنها أن تزوِّج مينا.

وناما في راحةِ بال، وهما يفكِّران في أليطة الأب التي ستنقذهما من الكارثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤