شهيد الفلسفة: سقراط والسقراطيات
سقراط هو قديس الفلسفة وشهيدها؛ فلم يكن أيٌّ من الفلاسفة الكبار مهتمًّا بالحياة المستقيمة التي تغلفها التقوى بقدر ما كان سقراط مهووسًا بها. وكحال العديد من الشهداء اختار سقراط ألَّا يحاول إنقاذ حياته حينما كان ذلك ممكنًا عن طريق تغيير أساليبه. ووفقًا لرواية أفلاطون الذي عاش في الفترة نفسها؛ فإن سقراط قال للقضاة في محاكمته: «إنكم مُخْطِئُونَ في ظنكم أن الإنسان ذا القيمة العالية عليه أن يقضي حياته في حساب احتمالات الحياة والموت؛ فليس على الإنسان أن يضع في اعتباره إلا شيئًا واحدًا عند قيامه بأي عملٍ وهو ما إذا كان هذا العمل صوابًا أم خطأ.» ولكن على عكس الكثير من القديسين كان سقراط يتمتع برُوح الدعابة والفكاهة، وكان هذا يظهر في صورة ظُرف ومزاح تارة وفي صورة سخرية حافلة بالمعاني تارة أخرى. وعلى عكس القديسين في كل الأديان، لم يكن إيمان سقراط في الاعتماد على الوحي أو الأمل الأعمى، وإنما في التفرغ للمنطق الجدلي، ولم يكن ليستجيب لأقل من ذلك.
واجه سقراط مشكلة تتعلق بشروق الشمس في أحد الأيام وظل واقفًا مستغرقًا في تفكيره، ولمَّا لم يصل إلى حلٍّ ظل واقفًا يفكِّر وقد رفض الاستسلام. ومر الوقت، وبحُلُول منتصف النهار أخذ الجنود يتناقلون بينهم قصة وقوف سقراط في مكانه يفكِّر منذ مطلع الفجر، وفي النهاية قبل أن يسدل الظلام ستاره أخرج بعض الأيونيين فرشهم بعد العشاء ليروا ما إذا كان سيبقى طوال الليل، وقد ظَلَّ واقفًا حتى نشر الصباح ضياءه، وعندما طلعت الشمس تلا صلواته لها وذهب.
وعلى الرغم من استغلاله وقت فراغه بهذا الشكل، روت جميع المصادر أن سقراط كان له سجل عسكري مشرف.
وفي الطريق إلى حفل العشاء الذي رُوِيَتْ فيه القصة السابقة، وصف صديق آخر كيف «وقع سقراط في نوبة من التفكير المجرد وبدأ يتلكَّأ في مشيته»، وبعدها انْسَلَّ إلى عتبة أحد الجيران ليستمر في تفكيره، فقال الراوي: «إنها عادة متأصلة فيه أن يذهب بعيدًا ويقف أينما كان.» ولم تتضمَّن عاداته المنتظمة الأخرى أن يغتسل، فحتى أقرب أصدقائه أقروا أنهم لم يعتادوا رؤيته مغتسلًا وقد ارتدى نعليه. لقد كان رَثَّ الثياب أشعثَ، ولم يَكُنْ أبدًا من أصحاب المال ولم يهتم من أين سيحصل على وَجبته القادمة. وقد أقر سقراط أمام المحكمة قائلًا: «لم أعش يومًا حياة عادية هادئة، ولم أهتمَّ يومًا بما يهتم به معظم الناس؛ كجمع المال، وامتلاك منزل مريح، والحصول على رتبة عسكرية أو مكانة مدنية مرموقة، وجميع الأنشطة الأخرى التي يقوم بها الناس في مدينتنا.» ولكن سقراط لم يَرَ أن أيًّا من زخارف الحياة الناجحة بشكل تقليدي كان سيئًا في ذاته، كما لم يكن هو نفسه زاهدًا بالمعنى المعروف للكلمة، فلم يَدْعُ يومًا إلى التقشُّف (ويقول أصدقاؤه إنه قد يَزيد عليهم كثيرًا في شرب الخمر، وإن كان لم يره أحد ثملًا قط)، كما لم يَدْعُ شخصًا قط أن يحيَا حياة بسيطة مثله. ولأنه قوي الاحتمال منشغل الذهن فقد كان لا يعير اهتمامه لأشياء مثل الملبس والطعام والمال.
إذا دخل أيٌّ من المقربين من سقراط في محادثة معه، كان عرضة لأن يُسْتَدْرَجَ إلى جدال، وأيًّا كان الموضوع الذي سيختاره فسيستمر سقراط في مجادلته حتى يكتشف أخيرًا أن عليه أن يقدم تقريرًا عن حياته الماضية والحاضرة، وإذا وقع في الشَّرَكِ فلن يتركه سقراط حتى يُمَحِّصَهُ بشكل كامل.
بالحديث عن نفسي أيها السادة، لو لم أَخْشَ أن تقولوا إنني غُلِبْتُ؛ لأقسمت بصدق على الأثر غير العادي لكلماته في نفسي، فعندما أسمع حديثه يخلبني نوع من الغضب المقدَّس … وتبلغ نفسي التَّرَاقِيَ، وتنهمر الدموع من عينيَّ. ولست وحدي من يحدث معه ذلك بل ثمة كثيرون كذلك …
وغالبًا ما يتركني مارسياس في اليوم الثاني في حالة أشعر فيها أني ببساطة لا أستطيع أن أعيش كما في السابق. لقد جعلني أعترف أنه بينما أقضي وقتي في السياسة فإني أتجاهل الأشياء التي تصطرع بداخلي.
لقد «غُلِبَ» ألسيبيادس الصغير بالفعل في هذه المرحلة من العشاء؛ لذا فلا شك أنه كان منبهرًا. إنها حقيقة بالغة أن الجميع كانوا يُبدُون انبهارًا أثناء حديثهم عن سقراط سواء كان ذلك ألسيبيادس وهو يتغنَّى بمدحه أو أعداءه وهم يهذون أمامه.
وقد أراد ألسيبيادس أيضًا أن يحبه سقراط؛ فقد كان مألوفًا بين فلاسفة أثينا والفتية أن يكون فيهم مسحة من رغبة مِثْلِيَّة وخاصة فيمن حول أفلاطون. وكان أي رجل كبير يُعَلِّمُ الحكمة للوِلدان وهو سعيد مستبشر متأثرًا بوسامة شبابهم وجاذبيته. ولكن أفلاطون وسقراط كليهما انتقدا المِثلية الجنسية؛ فقد شعر ألسيبيادس بالخزي في البداية عندما رفض سقراط التجاوُب مع رغباته الجسدية. وكما أوضح سقراط بلباقة وقتها فقد صَدَّ محاولات ألسيبيادس لأسباب أخلاقية وليس لعدم انجذابه إليه. لقد اشتهر ألسيبيادس بالوسامة الكبيرة وعُرِفَ سقراط بدَمامة وجهه، ولكن الجمال الذي رآه ألسيبيادس في سقراط هو جمال داخلي فقال: «لقد سُحِرَ قلبي أو عقلي أو ما شئت أن تسميه بفلسفة سقراط التي تتشبث بأي عقل صغير وموهوب، تصل إليه كما تتشبث الأفعى بفريستها.»
لقد سخر سقراط من دمامة وجهه واستطاع أن يقدم شيئًا أكثر من محض شبه جِدِّي حتى من موضوع هزلي كهذا. وقد تحداه أحد أصدقائه يدعى كريتوبيولوس في «مسابقة جمال» يحاول فيها كل رجل أن يقنع نموذجًا لهيئة حُكَّام أنه أجمل من نظيره، وقد بدأ سقراط المنافسة قائلًا:
بالطبع خسر سقراط التحدي؛ فقد علم أنه لا يمكن أن يوصَف بحسن الهيئة، وكان الأمر كله محض مزاح. ولم يكُن هذا النقاش (المأخوذ من محاورة لأحد المعجَبين الآخرين وهو زينوفون) لِيُبْكِيَ ألسيبيادس إلا ضاحكًا، كما لا يُظْهِرُ النقاش سقراط وهو في قمة تعقيده، بل على العكس من ذلك تمامًا فهذا سقراط المبتدئ. ولكن اللافت أن هذا المزاح يظهر فيه الكثير من شخصية سقراط الذي يراه الناس في المناقشات الفلسفية الأعمق والأشهر التي رواها أفلاطون في محاوراته.
في البداية نتناول أسلوب الاستجواب المميز لسقراط، فبدلًا من تقديم أطروحته يترك سقراط منافسه ليفعل ذلك وعندها يستنبط النتائج. وكعادة سقراط تبدأ المناقشة بطلب تعريف مبين لما تجري مناقشته، وهو الجمال في هذه الحالة. ويبتلع كريتوبيولوس الطُّعم ويقدم تعريفه قائلًا «(الأشياء) جميلة وجيِّدة إذا ما أُحْسِنَ صنعها للأغراض التي نمتلكها لأجلها أو إذا ما كانت مهيَّأة بطبيعتها لتلبية احتياجاتنا.» وعندئذٍ يسحب سقراط خيط الموضوع تجاهه فلا يجِد أيَّة صعوبة في إثبات أنه إذا كان هذا هو الجَمال فهو نفسه جميل، فحيلة سقراط في لعبة الجدل هي تفنيد ادِّعاءات الآخرين.
وتوضِّح تلك المنافسة أيضًا سخرية سقراط المركَّبة؛ فهو يعلم أنَّه دميم الوجه ويعلَم أن تعريف كريتوبيولوس للجمال خاطئ ولكنه يُتَابِعُ المناقشة وكأنَّ أيًّا من هاتين الحقيقتين لم يكُن، فهو يبدو سعيدًا بتبني هذا التعريف وتوظيفه لإثبات أنه في الحقيقة حَسَنُ الهيئة. ولا يحاول سقراط استغلالَ كلِمات كريتوبيولوس للفوز بمسابقة الجمال بطريقة غير نزيهة فحسب، بل لا يحاول الفوز جديًّا بالمنافسة على الإطلاق. وبينما ادَّعى سقراط المنافسة فقد كان في الحقيقة يفعل شيئًا آخر، فبتبنِّيه تعريف كريتوبيولوس بمهارة يُثبِت سقراط أنه لم يصِل إلى المستوى الأدنى من تعريف الجمال؛ فلا يمكن تعريف الجمال بالملاءمة أو المنفعة وحدهما؛ لأن ذلك يعني أن ملامح سقراط جميلة والجميع يعرف أنها ليست كذلك، وبذلك فإن سقراط في تظاهُره بإقناع كريتوبيولوس بجماله كان في الحقيقة يُثبِت النتيجة السلبية التي تعني أن الجمال لا يمكن أن يكون كما عَرَّفَهُ كريتوبيولوس.
لقد أنكر سقراط مرارًا معرفته أي شيء عن الجمال أو الفضيلة أو العدل أو أيًّا كان ما يناقش، وقد كان هذا الجهل المعلَن علامته المميزة. وكما كان ادعاؤُه الماكر بأنه جميل كان ذلك الإنكار ساخرًا إلى حَدٍّ ما رغم أنه كان لغرض أهم. وبينما كان سقراط دائم الادِّعاء أنه ليس لديه ما يُدَرِّسُهُ؛ فقد بدت أنشطته أنشطةً تدريسية بشكل كبير، حتى إنه كان يُستدعى أمام المحاكم بصفته معلمًا ذا تأثير خبيث. وسنتناول الآن محاكمة سقراط ودفاعه عن نفسه الذي يبين سبب عدم اشتهاره في بعض أوساط أهل أثينا المحافِظِين واشتهاره في أوساط مَنْ أَتَى بعده من الفلاسفة.
•••
جرت محاكمة سقراط عام ٣٩٩ق.م. عندما كان في السبعين من عمره تقريبًا، وكان متهمًّا برفض الاعتراف بالآلهة الرسمية للدولة وبالدعوة لآلهة جديدة على دينها وبإفساد الشباب فيها. وكانت هناك خلفية سياسية قوية للقضية، ولكن ذلك لا يعني أن التُّهَم كانت زائفة وأن المحاكمة كانت سياسية في حقيقتها؛ فقد تداخلت السياسة والدين والتعليم في الأمر. ومهما اختلفت الآراء فلا بُدَّ من الاعتراف أن سقراط كان ينطق بالأشياء الخاطئة في التوقيت غير المناسب.
في عام ٤٠٤ق.م. — أي قبل المحاكمة بخمسة أعوام — انتهت الحرب التي دارت رحاها على مدار سبعة وعشرين عامًا بين أثينا وإسبرطة بهزيمة أثينا، وسقطت الديمقراطية في أثينا وحَلَّ محلها مجموعة من الرجال عينتهم إسبرطة أُطْلِقَ عليهم لاحقًا اسم «الطغاة الثلاثين». ولتكوين سمعة لهم بين الناس قَتَلَ «الطغاة» نفرًا كثيرًا من الناس لدرجة أنهم لم يستمرُّوا إلا لعام واحد، رغم أنه لم تُسْتَعَدْ الديمقراطية بشكل كامل حتى عام ٤٠١ق.م. ومن الواضح أن الديمقراطيين كانوا لا يزالون يشعرون أنهم مزعزعون نسبيًّا عام ٣٩٩ق.م. وكانت هناك أسباب عديدة تُشعِرُهم بعدم الارتياح لوجود سقراط في المدينة.
لقد تورَّط اثنان من رفاق سقراط السابقين في الطغيان: أولهما هو كريتياس قائد الطغاة الثلاثين، وكان على وجه الخصوص متعطشًا للدماء، والآخر هو كارميدس أحد ممثِّليهم (وكان كِلَا الرجلين بالمصادفة من أقارب أفلاطون). كما تبين أن ألسيبيادس كان عائقًا في طريقهم، وحيث إنه كان أرستقراطيًّا عنيدًا ومتعجرفًا فقد اتُّهِمَ بأداء تعاويذ وأعمال مدنسة ارْتُكِبَتْ حينما كان «مغلوبًا». وقد سمع ألسيبيادس بهذه الاتهامات أثناء وجوده في حملة عسكرية في صقلية، وبدلًا من أن يرجع ليواجهها انشقَّ وحارب في صفوف جيش إسبرطة، إلا أن أيًّا من أفعال هؤلاء الرجال لم يَرُقْ لمعلمهم السابق سقراط.
ولكن في عام ٤٠٣ق.م. أُعْلِنَ عفو سياسي عام؛ ولذلك لم يكُن من الممكن توجيه اتهامات سياسية صريحة لسقراط حتى لو أراد الجميع ذلك. هذا بجانب وجود أسباب أكبر تدفع للقلق من تأثير الرجل. وأثناء الحرب الطويلة مع إسبرطة زاد قلق سكان أثينا من الجبهة الداخلية؛ فقد ساد شعور بأن المفكِّرين يُضعِفون المجتمع الأثيني بتقويض قِيَمِهِ ومبادِئِه التقليدية. وقد كان من الممكن أن يكون مصدر الشكوك التي أُثِيرَتْ هو رجل أَسَرَ الشباب العاطلين وفتنهم بتساؤلاته عن العدل. ولم يُساعِد تقديم سقراط في صورة معلِّم متلعثِم ومُذعِن وخاضع في مسرحية لأرسطوفان عُرِضَتْ في أثينا قبل أربعة وعشرين عامًا في تحسين الأوضاع. وأيًّا كانت حقيقة الشائعات التي تقول إن سقراط قد كفر بالآلهة التقليدية — ويبدو أنه كان ينكر التهمة ولكن بشكل غير مقنِع — فلم يَكُنْ هناك شك أن سقراط كان له مذهب غير مألوف في اللاهوت. وقد أعطت الطريقة التي تحدث بها عمَّا سماه «دايمنيون» — وهو «الروح الحارسة» أو «علامة إلهية» شخصية — مبررًا للقلق بشأن «الدعوة إلى آلهة جديدة» حسب الاتهام الذي وُجِّهَ إليه. وقد كان هذا بمنزلة خطيئة بشعة في حق الديمقراطية المترنِّحة. فالدولة وحدها لها الحق في تحديد الشيء المناسِب للتقديس، كما كان لها إجراءاتُها الخاصة في الاعتراف رسميًّا بالآلهة وكل مَنْ كان يتجاهل ذلك كان بالتبعية يتحدَّى شرعية الدولة الديمقراطية. لقد كان كل هذا بانتظار سقراط عندما وقف أمام خمسمائة من مواطني أثينا ليحاكموه.
كان أفلاطون حاضرًا في المحاكمة، ومن المرجَّح أن دفاع سقراط (أو «مرافعة الدفاع») التي كتبها أفلاطون بعد بضعة أعوام هي أول أعماله. وثمة غير سبب يدفعنا للاعتقاد بأن أفلاطون بذل في هذا العمل مجهودًا أكبر ممَّا بذل في غيره لإظهار حقيقة سقراط، رغم أنه لم يُحاوِلْ بالضرورة أن يسترجِعَ ألفاظه بدقة؛ لذلك سنعتمد على ما ورد عن أفلاطون (كما فعلنا في معظم المعلومات عن سقراط حتى الآن). ليس هناك بديل، فلا يوجد في تاريخ الفلسفة كله تقريبًا غير سقراط الموجود في «الدفاع» لأفلاطون.
من الناحية القانونية كانت مرافعة سقراط رديئة؛ فقد بدأ بقوله إنه لا يجيد الحديث ولا يمتلك مهاراته، وهذه حيلة بلاغية معتادة، ولكن في هذه الحالة علينا أن نوافِقَهُ القول إذا كان هدفه من الخطاب أن يبرِّئ نفسه. كما أن كل ما قاله لدَفع الاتِّهامات الرسمية الموجَّهة إليه إما غير ذي صلة بها أو غير مقنِع؛ فقد انشغل بخصوص الاتهامات الدينية على سبيل المثال بالسخرية من المدعي حيث عمل على استفزازِه، حتى ناقض نفسه بقوله إن سقراط ملحد لا يؤمِن بأي إله على الإطلاق، ثم يتساءل سقراط عندها كيف يكون في هذه الحالة متهمًا بالدعوة لآلهة جديدة؟ أما بالنسبة للاتهام بإفساد الشباب فأعطى سقراط جوابًا ملتفًّا غير مقنع بأنه لم يفعل أيًّا من ذلك عن عمدٍ لأن هذا ضد مصالحه، فإفساده أي شخص كما يقول سيؤذيه وإذا آذيت شخصًا فسيحاول أن يرد بالأذى؛ لذا فمن غير الممكن أن يخاطر بذلك. ولكن هذا لم يكن ليقنع أحدًا.
كان سقراط يعلم أن القضاة الذين مثَل أمامهم كانوا متحاملين عليه بسبب تشهير أرسطوفان به، فشرع في تصحيح هذه الانطباعات الخاطئة؛ فقال إنه لا يشتغل بالتدريس من أجل المال كما يفعل «السفسطائيون» المحترفون الذين لم يميِّز أرسطوفان بينه وبينهم. ويبدو هذا صحيحًا؛ فهو لم يفرض قط أية رسوم، ولكنه كان يغنِّي ليكسب قوت يومه، وكان يقبل استضافته في صفقة ضمنية مقابل محاوراته التثقيفية، ولم يشتغل على ما يبدو بأي عمل آخر؛ ولذلك لم تكُن الطريقة التي يكسب بها قوت يومه مختلفة كثيرًا عن السفسطائيين، وكلتا الطريقتين لا تُعتَبَران موضع شبهة في يومنا هذا. كما حاول سقراط أيضًا دفع الافتراء بأنه كان يعلِّم الناس كيف يحتالون للفوز في المجادلات عندما يكونون على خطأ. وبعيدًا عن ذلك كما قال، لم يكن يعلم ما يكفي لِيُعَلِّمَ أي شيء لأي شخص.
لقد كان هذا هو الموضوع الرئيس ﻟ «مرافعة الدفاع» والتي تُعَدُّ دفاعًا عامًّا عن أسلوب حياته أكثر من كونها تفنيدًا للاتهامات الرسمية الموجَّهة إليه ودحضًا لها. ويكمُن أهم ما في هذا الدفاع في ادِّعاء سقراط أنه استفاد من أهل أثينا بإخضاعهم لاستجواباته الفلسفية ولكنهم لم يدركوا ذلك فسخطوا عليه؛ وهذا ما أدَّى إلى محاكمته في النهاية.
لقد فكرت مليًّا وأنا في طريقي ووجدت أني أكثر حكمة من هذا الرجل. ومن الوارد جدًّا أن أيًّا منا لا يملك من المعرفة ما يستعرضه، ولكنه يعتقد أنه يعرف شيئًا هو في الحقيقة لا يعرفه، بينما أدرك أنا أنِّي جاهل تمامًا. عامة يبدو أنني أكثر منه حكمة على الأقل في أنني لا أعتقد أني أعرف ما لا أعرفه في الحقيقة.
متى نجحت في إثبات خطأ ادِّعاء أحدهم الحكمة في موضوع معين ظَنَّ المتفرجون أنني أعرف كل شيء عن هذا الموضوع، ولكن حقيقة الأمر بكل تأكيد أيها السادة هي أن الحكمة الحقيقية للرَّبِّ وحده، وأن هذا العَرَّاف هو وسيلته التي يخبرنا من خلالها أن المعرفة البشرية قليلة القيمة، أو إن شئت فقل لا قيمة لها. ويبدو لي أن العراف لا يشير حرفيًّا إلى سقراط ولكنه ذكر اسمي كمثال، وكأنه يقول لنا إن أكثركم حكمة أيها الناس هو مَنْ أدرك أنه لا قيمة له فيما يتعلَّق بالحكمة كما أدرك سقراط ذلك.
لو قلت إن هذا سيكون عصيانًا للرب وإن هذا هو سبب أني «لا يمكنني الاعتراض على ما أقوم به أنا» لما صَدَّقَ أحد أني جادٌّ. ولو قلت لك إن أفضل شيء يمكن أن يفعله الإنسان هو ألَّا يترك يومًا يَمُرُّ دون مناقشة الخير وسائر الموضوعات الأخرى التي تسمعني أناقشها وأبحث فيها في نفسي وفي نفوس الآخرين، وإن الحياة بدون هذا النوع من البحث لا تستحقُّ أن يحياها المرء؛ لأصبحتَ أقل ميلًا لتصديقي، ولكن هذه هي الحقيقة.
ويمكن لإشارات سقراط الورِعة لحكمة الرب (وهو أحيانًا ما يتحدث عن إله واحد وأحيانًا عن آلهة متعددة) أن يخفي موقفه غير التقليدي من اللاهوت. فعندما يقول إن الحكمة للرب وحده يبدو أنه يعني ذلك بشكل مجازي تمامًا كما يهز المرء كتفيه قائلًا: «الرب أعلم.» فانظر كيف يفسر «كلام» الرب محاولًا استنتاج ملاحظات عن «حكمته». وقد كان عراف دلفي رسولًا صادقًا للرب كأي رسول آخر أرسله الرب في ذلك الزمان، ولكن سقراط لم يقبل ما قاله بل أخذ «يتحقق من صحته». ويقول سقراط في غير موضع: «إنني دائمًا لا أقبل نصيحة أَيٍّ من أصدقائي إلا إذا بيَّنت النتائج أنها خير طريق يقدمه العقل.» ويبدو أنه اتبع النهج نفسه مع نصيحة الرب؛ فلدى معرفته بالإعلان الإلهي أنه لا أحد أكثر حكمة من سقراط، رفض سقراط التسليم بهذا الأمر وأخذه على عواهنه حتى يتأكد بنفسه من إمكانية إيجاد معنى حقيقي فيه.
ويبدو أن سقراط كان يتحدَّث بشكل ملتفٍّ عند الإشارة إلى مهمته على أنها مقدسة؛ لأن عراف دلفي لم يخبره صراحة بأن يقدم على التفلسف، رغم أنه ذكر في أحد المواضع أن مهمة المجادلة والتساؤل التي أخذها على عاتقه كانت «طاعة لأوامر الرب التي نزلت عن طريق العراف، ومن خلال الرؤى وكل وسيلة أخرى فرضت بها الإرادة الإلهية فروضًا على الإنسان»، ولكنه حين يتابع بقوله إن هذا كلام صادق «يسهل التثبُّت منه» يتضمن تحقُّقه من صحة هذا الكلام محاولة إثبات أن مهمته جيدة من الناحية الأخلاقية. فهو لا يُقدِّم أي دليل على أن الرب قد كلَّفه بذلك، وعلى الأرجح أنه وصل إلى لُبِّ الموضوع حينما قال: «أريدكم أن تعتبروا مغامراتي رحلة هدفُها إثبات صدق العراف مرة وللأبد.» وقد كان ضميره وذكاؤه هما ما دفعاه لاستجواب مَنْ يظنون في أنفسهم الحكمة. ولقد كان بإمكانه الادِّعاء أن ذلك «يخدم قضية الرب»؛ لأن مثل هذه الأعمال تسهم في تأكيد إعلان العَرَّاف أنه ما من أحد أكثر حكمة من سقراط، ولكن كلام الرب له بريقُه الذي يسهم في إظهار هدف سقراط الأخلاقي السامي وكسب تأييد مستمعيه؛ فقد كان دافعه الأساسي للتفلسف ببساطة هو أنه رأى أن هذا هو الصواب.
وقد ذكر سقراط أنه تأثَّر في أفعاله بما سماه روحه الحارسة، أو صوت لازَمَه طَوال طفولته. ويبدو أن هذا كان يمثل فكره اللاهوتي الصابئ أو «الآلهة الجديدة» المشار إليها في الاتِّهامات الموجهة إليه. ومرة أخرى يتعامل سقراط مع نصيحة الروح الحارسة على أنها نصيحة يجب اقتناع العقل بها قبل أن تنفذ، كمشورة الأصدقاء أو كلمات عراف دلفي. ومن الواضح أن صوت الروح الحارسة هو ما يمكن أن نطلق عليه صوت الضمير الواعي، وعنه يقول سقراط: «عندما أسمعه أجِده يثنيني عمَّا أفكر في عمله ولا يشجعني عليه أبدًا.»
لقد قضيت كل عمري محاولًا إقناعكم صغارًا وكبارًا ألَّا تجعلوا هَمَّكُم الأول وشغلكم الشاغل أجسادكم وممتلكاتكم وإنما تحقيق أقصى فائدة للروح، وأقول لكم إن الثروة لا تجلب الخير ولكن الخير هو ما يجلب الثروة وكل نعمة أخرى للفرد والدولة على السواء.
ويبدو أن أسلوب الإقناع هذا كان حادًّا في بعض الأوقات، فسقراط يقصد ضمنيًّا أن سكان أثينا يجب أن «يشعروا بالخزي والخجل من انشغالهم بجمع أكبر قدر ممكن من المال وببناء السمعة الحسنة والشرف والانصراف عن الانشغال بالحقيقة وبكمال الروح.» ولا بُدَّ أنه قد أزعجهم أثناء محاكمته بقوله إنه كان يقدم لأهل أثينا «أعظم خدمة ممكنة» بإظهار أخطائهم لهم. وقد كان هذا في مرحلة من إجراءات المحاكمة عندما صُوِّتَ بإدانته وطُلِبَ منه أن يجادل بشأن العقوبة المناسبة لمواجهة طلب الادِّعاء بالحكم عليه بالإعدام. وكالمعتاد تعامل سقراط مع هذه المسئولية بسخرية، فيقول إنه يستحق مكافأة بدلًا من العقوبة نظير الخدمة التي قدمها لسكان أثينا، ويقترح أن تكون مكافأته وجبات مجانية مدى الحياة على نفقة الدولة، وكان هذا امتيازًا يُمْنَحُ للفائزين بالألعاب الأولمبية وما شابهها، فيقول إنه يستحق هذا الامتياز أكثر منهم لأن «هؤلاء يقدمون صورة للنجاح بينما أُقدم أنا الحقيقة.» وينهي سقراط هذا الجزء من حديثه باقتراح غرامة بديلة، يتكفل بها أفلاطون والأصدقاء الآخرون الذين عرضوا أن يتحملوها عنه. ولكن صبر أهل أثينا كان قد نَفِدَ بالفعل؛ فقد صوتوا على إعدامه بأغلبية أكبر من تلك التي أدانته. وهذا يعني أن بعض مَنْ رأَوْه بريئًا في البداية قد استفزتهم وقاحته لدرجة أنهم غيَّروا رأيهم أو قرروا التخلص منه بأي حال.
وتذكر إحدى الروايات أنه بينما كان سقراط يغادر المحكمة، صاح أحد المعجبين المخلصين والأغبياء معًا يدعى أبولودورس أن أصعب شيء عليه أن يُحْكَمَ على سقراط بالإعدام ظلمًا، فرد عليه سقراط محاولًا التخفيف عنه: «ماذا؟ وهل تريد أن يُحْكَمَ عليَّ بالموت عدلًا؟»
إن الخوف من الموت هو صورة أخرى من اعتقاد الإنسان أنه حكيم في حين أنه ليس كذلك … فلا أحد يعلم ما إذا كان الموت هو النعمة الكبرى التي يحصل عليها الإنسان، ولكن الناس يرهبونه وكأنهم على يقين أنه هو الشر الأعظم، وهذا الجهل الذي يدفع صاحبه للاعتقاد بمعرفة ما لا يعرف يجب أن يكون محل استنكار … وإذا ادَّعيتُ أني أكثر حكمة من جاري في أي جانب؛ فهذه الحكمة هي أنني ليس لديَّ أية معرفة حقيقية بما بعد الموت وأنني مدرك مع ذلك أني ليس لديَّ تلك المعرفة.
وأضاف أنه إذا كانت هناك حياة بعد الموت فسيكون لديه فرصة لمقابلة «أبطال الأيام الخوالي الذين لَقُوا حتفهم بمحاكمات غير عادلة ومقارنة حَظِيَ بحظهم، وسيكون هذا ممتعًا.»
•••
ورغم حديث سقراط عن الجهل وإصراره على أنه كان محض قابلة تُوَلِّدُ أفكار الآخرين؛ فقد كان لديه معتقدات قوية خاصة به، ولكن لسوء الحظ لم يُدوِّنها قط. وكان أحد هذه المعتقدات هو أن الفلسفة هي نشاط أساسي وتعاوني، فهي مادة دسمة في المناقشات بين جماعات صغيرة من الناس يجادل بعضهم بعضًا ليصل كلٌّ منهم إلى الحقيقة بنفسه. ولا يمكن استرجاع روح اللهو هذه تمامًا في محاضرة أو في رسالة. وهذا هو سبب اختيار أفلاطون وزينوفون (والعديد من معاصريهم الذين ضاعت أعمالهم) أن يقدموا أفكار سقراط في صورة محاورات؛ فقد كان الحوار حرفته، وهو ما تركه لنا من بعده.
ثَمَّةَ أربعة شهود رئيسين على أفكار سقراط العميقة: أفلاطون، وزينوفون، وأرسطوفان، وأرسطو. ولم يكن حال أيٍّ من هؤلاء كما يتمنى أي مؤرخ. كان أفلاطون أكثر مَنْ تحدَّث عن أفكار سقراط، ولكنه بوصفه مرشدًا موضوعيًّا لسقراط فقد عابه أنه كان يجل سقراط لدرجة العبادة؛ لذلك فمن المرجَّح أنه قد بالغ فيما رأى أنه أحسن صفاته. فبخلاف أنه على مدار أربعين عامًا تقريبًا من التفكير والتدريس تغيرت فيها أفكاره كثيرًا؛ فقد اعترف أفلاطون بالفضل لسقراط في استخدامه كناطق بلسانه. لقد كان أفلاطون يرى سقراط حكيمًا متفوقًا؛ لذلك كان يقدم أي شيء يرى فيه الحكمة على لسان سقراط. وقد وصف أفلاطون (أو أحد الرفقاء المقربين الآخرين) محاوراته بأنها «أحد أعمال سقراط التي نُقِّحَتْ وجُدِّدَتْ.» وهذه مشكلة مركَّبة؛ إذ لم يكتفِ سقراط في محاورات أفلاطون بالحديث عن أفلاطون بدلًا من الحديث عن نفسه، ولكنه جعله أيضًا يقول أشياء مختلفة وقعت في المراحل المختلفة من حياة أفلاطون الأدبية.
وماذا عن الشهود الثلاثة الآخرين؟ لقد كانت عيوب زينوفون (٤٣٠–٣٥٥ق.م.) مختلفة تمامًا؛ فلم يكن فيلسوفًا بشكل واضح — على عكس أفلاطون — ليكون مرشدًا إلى سقراط. ليس من العيب أن يكون زينوفون قائدًا عسكريًّا تقاعَد وأصبح أحد كبار المزارعين، ولكنه ربما لا يكون خير حافظ للأثر الدَّالِّ على أحد فلاسفة العالم العظام؛ فقد كان يستخدم شخصية سقراط ليقدم نصائحه الخاصة عن الزراعة والفنون العسكرية، كما أنه يصوِّره على أنه شخص طيِّع لين العريكة فيقول: «لقد كانت كل سلوكياته الشخصية قانونية ونافعة؛ فقد التزم الطاعة الصارمة للسلطة العامة في كل ما تفرضه القوانين في كُلٍّ من الحياة المدنية والخدمة العسكرية، حتى إنه كان نموذجًا للانضباط والالتزام يحتذي به الجميع.» وقد أشار أحد الباحثين الرُّوَّاد في مجال الفلسفة القديمة بشكل مفهوم إلى زينوفون بأنه «منافق متجهم وعجوز.» لكن إحقاقًا للحق وإنصافًا لزينوفون يجب القول إنه ما من أحد أُعْجِبَ بشخص غريب الأطوار مثل سقراط كما أُعْجِبَ به زينوفون، يمكن أن يكون عَبوس الوجه متجهمًا. ولكن زينوفون لم يكُن هو سقراط نفسه، وربما لم يستطع إدراك غرابة شخصيته وما كان يرمي إليه. وإذا كان زينوفون قد فعل ما بوسعه لِيُظْهِرَ سقراط بمظهر الرجل المحترم والملتزِم فإن الكاتب المسرحي أرسطوفان (حوالي ٤٤٨–٣٨٠ق.م.) لم يدَّخرْ جهدًا ليفعل العكس؛ فسقراط عنده هو مهرج خدعته أسئلة مثل: من أية ناحية تخرج البعوضة ريحها؟ ويتضح عجز أرسطو عن وصف سقراط ببساطة في قوله: «لقد وُلِدَ متأخرًا خمسة عشر عامًا.»
ولكن أرسطو هو من يعرف حقائق مهمة، فرغم أنه لم يسمع آراء سقراط بشكل مباشر فقد درس في أكاديمية أفلاطون لما يقرُب من عشرين عامًا، وحصل على فرصة كبيرة ليسمع آراء أفلاطون من أفلاطون نفسه؛ لذلك فقد كان في موضع يسمح بالفصل بين آراء الرجُلين. وتساعد شهادة أرسطو بشكل كبير على حذف آراء أفلاطون من محاوراته ورؤية ما تبقَّى لسقراط. كما أن أرسطو كان أقل تبجيلًا لسقراط من أفلاطون؛ ولذلك نجح في تبنِّي نهج أكثر حيادية في تعاليمه.
لقد اتَّضح أن اختلاف المصادر الرئيسة الأربعة لسقراط ميزةٌ وليس عيبًا؛ فهو يعني زيادة احتمال صِدق ما هو مشترك بين الروايات المختلفة. وكلما عرَفنا المزيد عن كلٍّ من الأربعة وما كان يسعى إليه كلٌّ منهم؛ سَهُلَ تجاهل تحامُلاته وانحرافاته ورؤية سقراط الحقيقي وراءها. وبتتبُّع تلك الحقائق استطاع الباحثون المعاصرون تجميع كثير من فلسفة الرجل الذي أدمن الجدال حتى الموت حرفيًّا.
ومن السهل تدارُس آراء سقراط في ضوء علاقتها بآراء أفلاطون؛ فالتأريخ التقريبي لمحاورات أفلاطون إضافة إلى بعض المعلومات عن حياته يجعل من الممكن تتبُّع خطوات رحلته الفكرية التي بدأها بصحبة سقراط وأنهاها بعيدًا عنه. في البداية قيَّد أفلاطون نفسه بإعادة إنتاج محاورات أستاذه الموقَّر. وبعد ذلك أُضيفت تدريجيًّا بعض التعليقات الفيثاغورية والصوفية إلى أفكار سقراط. وظل أفلاطون يتأثَّر بشكل متزايد بالفيثاغوريين الإيطاليين. وأخيرًا وصل أفلاطون إلى مرحلة استعان فيها بشخصية سقراط عند شرح جميع الموضوعات.
لقد تمحورت المناقشات الجِدِّية بخصوص سقراط الحقيقي فقط حول الطريقة التي يجب أن يعيش بها الإنسان حياته، واهتمت بالفضائل التي ساد العُرف أنها خمس: الشجاعة، والاعتدال، والتقوى، والحكمة، والعدل. وكانت مهمةُ سقراط حَثَّ الناس على تهذيب أرواحهم بمحاولة فَهم هذه الصفات واكتسابها، وكانت هذه المهمة كفيلة بإبقاء سقراط مشغولًا، ولكن أفلاطون كان أشدَّ طموحًا بالنيابة عن أستاذه، فكتب العديد من المحاورات التي لا تهتم بالأخلاق على الإطلاق، ولكنها اتخذت سقراط متحدثًا رئيسًا فيها؛ فكتاب أفلاطون «الجمهورية» على سبيل المثال يبدأ بمناقشة العدل، ولكن ينتهي بتناول كل ما أثار اهتمام أفلاطون.
وحتى عندما أعلن سقراط الحقيقي أنه لا يعلم شيئًا، ظل أفلاطون مندفعًا في الغالب وأثنى عليه بآراء واثقة؛ فمثلًا اعتقد سقراط أن ما يحدث بعد الموت هو سؤال مفتوح للبحث، ولكن في محاورة «فيدون» التي تُوهِم بنقل كلمات سقراط الأخيرة قبل تناوُله سم الشوكران في سجنه، جعله أفلاطون يقدم سلسلة كاملة من الأدلة على فساد الروح.
لقد بدا أن أفلاطون لم يكُن لديه كثير من الشكوك بشأن ما يحدث بعد الموت. لقد اعتقد أن الروح منفصلة عن الجسد وأنها موجودة قبل الولادة وأنها ستبقى بالتأكيد لما بعد الموت. ونتيجة تأثُّره بفيثاغورس والفيثاغوريين اعتقد أفلاطون أنه بينما ترتبط الروح بجسد مادي أثناء الحياة، فهي تعيش حياة دونية مدنسة تحتاج أن «تُنَقَّى» منها، وأن «تُحَرَّرَ من قيود الجسد.» ووفقًا لما ذكره أفلاطون في هذه المحاورة؛ فإن ما يرجوه الرجل الصالح بعد الموت هو إعادة الاتحاد أو على الأقل المشاركة مع الأسمى من أشكال الوجود المعنوية الأخرى والتي يطلق عليها «الأشكال المقدسة»، وعلى الفيلسوف بخاصة أن يعتبر حياته كلها استعدادًا للعِتق السعيد عند الموت. وكما رأينا فقد عاش سقراط حياةً مثقَلة فقيرة غير تقليدية وكانت غير دنيوية بالتأكيد. أما أفلاطون فقد آمَن بالحياة الأخرى بشكل إيجابي وهو أمر مختلف تمامًا (ولقد عاش في الحقيقة حياة مريحة في مجملها حتى تخلَّص من قيود جسده الممتلئ).
لقد سعى سقراط إلى الفضائل لأنه أَحَسَّ أنه ملزَم بذلك فورًا دون تسويف؛ فالحياة الدنيوية تفرض واجباتها الخاصة وتَمُنُّ بنِعَمِهَا الخاصة، وهي ببساطة ليست استعدادًا لشيء آخر. وقد كانت دوافع أفلاطون أقلَّ استقامة لأنه وضع نُصب عينيه شيئًا أبعد. وكان المعتقَد المشترك بين الرجلين هو أن السعي إلى الخير لم يكن محض أفعال معينة ولكنه عمل عقلي أيضًا، ولكن كلًّا منهما رأى هذا العمل بشكلٍ مختلف؛ فقد اعتقد سقراط أن فَهم الفضائل شرطٌ واجب للحصول عليها، فلا يستطيع المرء أن يكون فاضلًا بحق إلا بمعرفته ما هي الفضائل، والوسيلة الوحيدة للحصول على هذه المعرفة هي دراسة الآراء المتعلقة بالفضائل المختلفة، وهذا ما دفع سقراط إلى أن يسأل الناس ويجادلهم. أما أفلاطون فقد آمن بهذا البحث الجدلي ولكنه فسره أيضًا بأنه شيء روحي تقريبًا. وبينما رأى سقراط أن البحث عن تعريفات الفضائل هو وسيلة إلى غاية معينة هي ممارسة الفضيلة، رأى أفلاطون أن البحث هو غاية في حَدِّ ذاته؛ فالبحث عن التعريف بالنسبة لأفلاطون كان سعيًا وراء الصورة المثالية الأبدية الثابتة لِمَا يخضع للمناقشة، والتأمُّل في هذه المُثُلِ هو قِمَّةُ الصلاح. وهذا ما رأى أن أسئلة سقراط قد بلغته، وما كان ينبغي أن تسعى إليه.
والفلسفة بالنسبة لأفلاطون هي السُّلَّمُ لهذا العالم السامي من المُثُلِ، ولكن ليس كل شخص بقادر على صعوده؛ فدرجاته العُلَى محفوظة لمن يتمتعون بمهارة الحِجاج الجدلي، وهم صفوة مثل واضعي الأديان أو الفيثاغوريين الذين اطَّلعوا على أسرار أستاذهم. أما سقراط فقد تبنَّى مذهبًا يميل إلى المساواة بين المعرفة والفضيلة؛ فالحياة التي لم تخضع للاختبار — كما قال في مرافعة دفاعه الشهيرة — لا تستحق أن تعاش، وهذا ليس أمرًا مقضيًّا قصد من خلاله إدانة الجميع عدا قلة مختارة؛ فكل فرد لديه القدرة على تمحيص حياته وأفكاره وأن يعيش حياةً ذات قيمة. وكان سقراط يسعد بسؤال أي شخص — من صُنَّاع الأحذية وحتى الملوك — ومجادلته، وكان هذا كل ما تعنيه الفلسفة بالنسبة له. ولم يجِد أيَّة أهمية تُذْكَرُ لِمُثُلِ أفلاطون أو المهارات النادرة اللازمة لاكتشافها.
وكان من بين الأشياء التي قادت أفلاطون إلى المُثُلِ الغامضة ولعُه بالرياضيات، وهذا مظهر آخر من مظاهر تأثره بفيثاغورس والفيثاغوريين، وتلك إحدى نقاط اختلافه عن سقراط. وقد ورد أن أبواب أكاديمية أفلاطون كُتِبَ عليها أنه «لا يُقْبَلُ الجاهلون بالهندسة هنا.» وشكا أرسطو من أن «الرياضيات أضحت كل الفلسفة» بالنسبة لأتباع أفلاطون، وهي مبالغة فَظَّةٌ ولكنها هادفة. فما جذب أفلاطون في الأشياء التي تتعامل معها الهندسة مثل الأعداد والمثلثات، هو أنها مثالية وأبدية وثابتة ومستقلة بشكل ممتع عن الأشياء المرئية على وجه الأرض، فلا أحد يستطيع أن يرى الرقم أربعة أو يلمسه؛ لذا فهو موجود في عالم من نوع آخر وفقًا لأفلاطون. كما أن الخطوط والمثلثات وغيرها من الأشياء التي تظهر في الإثباتات الرياضية لا يمكن إيجادُها هي الأخرى فيما هو مادي، فلا تتعدى بعض الخطوط والمثلثات المادية كونَها تقريبًا لنظائرها الرياضية المثالية؛ فالخط المثالي على سبيل المثال ليس له سُمْكٌ على عكس أي خط مرئي أو حافة جسم مادي. وقد استنتج أفلاطون أنه بناء على إعجاز عِلم الرياضيات، فإن أنواعًا أخرى من المعرفة يجِب أن تقتفي أثرها وأن تهتم بالأشياء المثالية والمعنوية أيضًا. وهذه الأشياء التي تختص بها المعرفة هي المُثُل.
لقد استخدم أفلاطون في إحدى محاوراته مثالًا هندسيًّا ليبرهن على أن معرفة المُثُلِ — والتي تعني جميع أصناف المعرفة المهمة بالنسبة له — تُكْتَسَبُ قبل الولادة؛ فحقائق العقل البحت — مثل قوانين الرياضيات — لا تُكْتَشَفُ من جديد، وإنما تُسْتَرْجَعُ بعناء من حياة سابقة عاشت فيها الروح بلا جسد واستطاعت أن تواجه هذه المُثُلَ مباشرة؛ ولذلك فإن الإنسان لا يتعلم هذه الحقائق بالمعنى الحرفي على الإطلاق بل يجتهد في تذكرها. وعندما تُنْفَخُ الرُّوح في الجسد فإن المعرفة التي تمتعت بها في السابق تضيع من الذاكرة مثلما كتَب وردزورث في قصيدته «إرهاصات الخلود» أن «ولادتنا ما هي إلا غفلة ونسيان.» ولم يكن وردزورث يفكر في الهندسة على وجه الخصوص ولكنه أُعْجِبَ بالفكرة العامة. ولتوضيح هذه النظرية جعل أفلاطون «سقراط» يستخرج بعض المعلومات الهندسية البدَهية من عَبْدٍ غير متعلِّم، وهذا لتأكيد الفكرة الأفلاطونية التي تقول إن المعرفة تُسْتَرْجَعُ من حياة سابقة، ولبيان أن تدريس سقراط كان مثل التوليد كما ادَّعى سقراط نفسه.
كانت المشكلة التي وضعها «سقراط» للعبد هي تحديد أضلاع مربع معلوم المساحة؛ فبدأ برسم مربع يبلغ طول أضلاعه قدمين ومساحته من ثَمَّ ستكون أربعة أقدام مربَّعة، ثم سأله عن طول الأضلاع إذا أصبحت المساحة ثمانية أقدام مربعة. في البداية استنتج العبد خطأً أن الأضلاع يجب أن يكون طولها ضعف ما كان عليه في المربع الأصلي؛ أي أن يكون طولها أربعة أقدام. وبرسم آخر يوضِّح «سقراط» سريعًا أن الإجابة خاطئة بالتأكيد؛ لأنه في تلك الحالة ستكون مساحة هذا المربع ستة عشر قدمًا مربعة بدلًا من ثمانية. لقد تفاجأ العبد بأنه لا يمتلك من المعرفة ما ظن أنه يعرفه. ويشير «سقراط» إلى أنه في هذه المرحلة «قدمنا مساعدةً ما لهذا العبد في إيجاد الإجابة الصحيحة؛ فهو لا يجهلها الآن فحسب بل سيكون سعيدًا إذا بحث عنها.» وبعد ذلك بمساعدة رسومات أخرى وبطرح الأسئلة الصحيحة بخصوصها دفع سقراط العبد تدريجيًّا إلى اكتشاف الإجابة بنفسه؛ فطول أضلاع المثلث الذي تبلغ مساحته ضعف مساحة المثلث الأصلي سيساوي طول ضلع المثلث القطري في المربع الأصلي، وهذا ما يتلخَّص من ثَمَّ في نظرية فيثاغورس الشهيرة. ولكن لأن سقراط لم يُخبِر العبد بذلك قط فقد كان العبد «يعرفها» بالضرورة.
إن آراء العبد التي تكوَّنت حديثًا مشوشة مثل الحُلْمِ، ولكن إذا طرحت عليه الأسئلة ذاتها في عدة مواقف وبطرق مختلفة؛ فستجده في النهاية يمتلك معلومات دقيقة عن هذا الموضوع مثل أي شخص آخر …
ولا تأتي هذه المعلومات بالتلقين ولكن بالاستجواب، وسيسترجعها العبد بنفسه.
وهناك حاجة مُلِحَّةٌ إلى تَكرار استجوابات سقراط. بعبارة أخرى، ما يحتاجه العبد هو المعاملة ذاتها التي قدَّمها سقراط الحقيقي إلى أهل أثينا الجاحدين. وكما يقول سقراط في «الدفاع» لو أن أحدًا ادَّعى الصلاح «لسألته واختبرتُه.» لذلك ففي قصته الخيالية عن التذكُّر الذي عاونه عليه، يقدم أفلاطون توضيحًا لما كان يفعله سقراط عندما ادَّعى مساعدة الآخرين على إبداء آرائهم، وكأن سقراط كان يُثَبِّتُ بعض المعرفة الموجودة بالفعل.
ما أجمل كل هذه الحقائق عن مثال أفلاطون عن المثلثات والمربعات التي أحبها؛ فليس من الصعب تصديق أن المستجوب الموهوب يمكنه أن يُعَلِّمَ تلميذه حقيقة رياضية دون أن يذكرها له صراحة، وسيدرك ذلك مَنْ كان له معلم جَيِّدٌ يومًا. ولكن ماذا عن مسائل العدالة والقيم الأخرى التي اهتمَّ بها سقراط الحقيقي؟ فالأخلاق أصعب في التناول من الرياضيات، فمن جهة لا يبدو أن لديها براهينَ لتقدمها؛ لذا فمن المفتَرَض أن الاشتغال بتعلُّم الأخلاق مختلف تمامًا عن الاشتغال بتعلُّم الرياضيات.
لقد علم سقراط ذلك؛ فلم يتوهم القدرة على الإثبات الحاسم لأية معتقدات أخلاقية، بل على العكس فقد كان يُصِرُّ دائمًا على التشكيك الذي اكتنف استفساراته، فمثلًا قبل الشروع في الدفاع عن أطروحةٍ ما، يعترف: «إنني أحيانًا أكون مع الرأي المضاد؛ لأن أفكاري بخصوصه شديدة الاتساع، وهي حالة يسببها الجهل بوضوح.» ويقول لمحاوره إنه لا ريب في أنه أخطأ في تبنِّي هذه الأطروحة الآن، ولكن دعنا نتابع الحِجاج حيثما يقودنا فربما تتمكن من إرشادي إلى الصواب. وعندما قال سقراط سلفًا في تلك المحاورة: «أنا مليء بالعيوب ودائمًا ما أخطئ في فهم الأشياء بطريقة أو بأخرى.» فهو يتواضع بعض الشيء ولكنه يدرك تمامًا أنه لا يملك براهين قاطعة على غرار البراهين الرياضية فيما يخص الفضائل.
هل وصل سقراط إلى شيء إذن؟ هل نجح فعلًا في تقديم أية معرفة بالفضائل؟ من ناحيةٍ ما نعم؛ فهو يقدم — وإن كان بشكل غير مباشر — العديد من الآراء الصريحة وغير التقليدية بعض الشيء حول الفضيلة والتي تُشَكِّلُ في مجملها نظرية للحياة البشرية. أما بخصوص ما إذا كان قد نجح في إقناع مستمعيه بنظريته فالإجابة عامَّة بالنفي، ولكنه لا يستهدف إقناعهم على أيَّة حال؛ لأنه ليس متأكدًا تمامًا من صحة نظريته، إضافة إلى أن على الناس أن يجدوا طريقهم الخاص إلى الحقيقة حول هذه المسائل. إن ما يهدف سقراط لفعله هو إخضاع بعض الآراء حول الفضيلة للتجربة، وهذا ينطبق على كلٍّ من آرائه وآراء مَنْ يحاورهم. ثم تتحول هذه التجربة إلى محاكمة بالإشكال الجدلي، حيث يجب التشكيك في تعريفات العديد من المسائل أو تفسيراتها؛ ومن ثَمَّ أيضًا حلُّها، وأيًّا ما يتجاوز هذا الاستجواب يجري قبوله مؤقتًا. إن النتائج التي تحققها هذه الطريقة لا تصِل إلى كثير من مظاهر الحكمة الحقيقية، ولكنها مع ذلك تبقى أفضل الطرق المتاحة، فتلك الاستفسارات تقود إلى نوع من المعرفة؛ لذلك فإن إنكار سقراط الصريح لمعرفته أي شيء فيه مفارقة جزئية.
إن معظم الاستقصاءات التي تعود في أصلها إلى سقراط في محاورات أفلاطون تنتهي دون الوصول إلى استنتاج نهائي؛ فهو يسعى بشراهة للبحث مثلًا عن ماهية العدالة، ويظل يجادل لبعض الوقت ثم يعود إلى منزله خالي الوفاض، ولكن ليس تمامًا؛ فالمحاورات عادةً ما تنجح على الأقل في كشف شيء مهم في طريقها، فمثلًا في إحدى محاورات أفلاطون الأولى يستجوب سقراط رجلًا يدعى يوثيفرو حول طبيعة التقوى أو القدسية. ورغم أن سقراط لم ينجح في تعريف التقوى بدقة فقد تمكَّن من توضيح شيء مثير عمَّا لا تمثله.
إن الذين يؤمنون أن الرب قد خلق الخير والشر اعتباطًا لا منطق فيه، إنما يجرِّدون الرب من صفة الخيرية؛ إذ لا سبب يجعل العبد يحمَده ويثني عليه على ما يفعله إذا كان يستطيع فعل شيء مختلف تمامًا بدرجة الإتقان نفسها.
لم يطوِّر سقراط — الذي في محاورات أفلاطون — الجدل إلى هذه المرحلة، ولكن يبدو أنه قد رأى أن القِيَم الأخلاقية لا يمكن اشتقاقُها ببساطة من اعتبارات ما تحبه الآلهة؛ لأن ذلك يجرِّد الآلهة (أو الرب) من أية سلطة أخلاقية. ويبدو أن يوثيفرو قد اقتنع، رغم أنه تراجع بعدها وهرع إلى قاعة المحكمة دون أن يستسلم لمنطق سقراط. وهكذا نجح سقراط في إحراز تقدُّم مهم حتى لو لم يحسم المسألة محل النقاش.
ولكن ما زال هناك شيء غير مقنع فيما يهدف إليه سقراط في المحاورات المماثلة، فهل لاستجوابه أو حتى أي نوع من الاجتهاد العقلي أن يُحصل الفوائد التي يزعمها؟ فرغم أنه لا يزعم محاولة الوصول إلى الحقيقة الكاملة للفضيلة، ورغم أننا نتفق أنه نجح مع ذلك في إحراز تقدُّم فكري؛ فمن الصعب معرفة كيف يكون لمناقشاته القوة التي ينسبها إليها. وتكمُن المشكلة في اعتقاده أن مناقشة الفضيلة تؤدي بالفرد فعلًا إلى أن يصبح إنسانًا أفضل. وهذا ليس عَرَضًا جانبيًّا بل هو الفكرة ذاتها التي يستحضرها سقراط لتبرير إخضاعه الآخرين لمحاوراته التجريبية، وهو يعتقد أن هذا في مصلحتهم، ليس لأن تلك المناقشات مهمة في ذاتها، ولكن لأن إجراءها هو السبيل الوحيد إلى الفضيلة الشخصية. ويبدو هذا غير مقبول على أقل تقدير؛ فمعرفة أن مبدأً ما صواب أمر بينما التصرف وفق هذا المبدأ أمر مختلف تمامًا. أولًا يستطيع أي شخص أن يعرف كل شيء عن الفضيلة من خلال مناقشة سقراط ثم يتركه ويتحول إلى الشر؟ وكما رأينا يبدو أن كريتياس وكارميدس وربما ألسبيادس قد فعلوا هذا تمامًا.
لقد اعتقد أن الفضائل جميعًا نوعٌ من أنواع المعرفة بحيث تأتي معرفة العدالة والتحلي بصفة العدل معًا؛ لذلك فهو يتساءل عن ماهية العدالة بدلًا من أسبابها ومصادرها. ويَصلُح هذا المذهب فيما يتعلق بالمعرفة النظرية؛ ذلك أنه ليس ثمة أي شيء آخر في علم الفلك أو الفيزياء أو الهندسة سوى التأمُّل في طبيعة الأشياء؛ فهذا هو مجال بحث هذه العلوم، ولكن هدف العلوم التطبيقية مختلف؛ لأننا لا نَوَدُّ معرفة ما هي الشجاعة بل كيف تكون شجاعًا، ولا ما هي العدالة بل كيف تكون عادلًا، تمامًا كما نَوَدُّ أن نكون أصِحَّاءَ بدلًا من أن نعرف ما هي الصحة.
كان لدى سقراط رَدٌّ على ذلك، وربما كان رَدُّهُ سيسير على النحو التالي: «لقد ظلمتني؛ فالسبب في فشل كريتياس وكارميدس وغيرهم من التلاميذ المثيرين للمشكلات في أن يتحلَّوْا بالفضيلة ببساطة هو أنهم لم يتعلَّموا ما يكفي عنها. ولو أننا استكملنا مناقشاتنا لتحلَّى هؤلاء بالعدل واتصفوا به. وهكذا بينما أتفق أننا لا نريد معرفة كُنْهِ الفضيلة فحسب بل نريد أن نكون أنفسنا فاضلين؛ فإن ما أقصده هو أنه إذا عَرَفْنَا ما هي الفضيلة فستأتي الفضيلة تبعًا لذلك من تلقاء نفسها. وكما أقول دائمًا فأنا لا أعرف ما هي الفضيلة؛ لذا فإني لا أستطيع أن أتحلَّى بها في نفسي ناهيك عن الآخرين. وهذا بالضبط ما يوجِب علينا الاستمرار في البحث عن الفضيلة.»
الفكرة الرئيسة في هذا الرد مقبولة؛ ولا يمكننا القول بدحض ادِّعَاء سقراط بخصوص ما يمكن أن تنجزه أساليبه وتفنيده؛ إذ لم يوضع هذا الادِّعاء موضع الاختبار أساسًا لأنه لم يكتشف بعدُ ماهية الفضيلة. ولكن مع ذلك، لماذا يجب أن يصدقه مَنْ يسمعه يقول إن المعرفة الكاملة للفضيلة إذا ما نجحنا في الوصول إليها تؤدِّي إلى سلوك فاضل؟ يبدو هذا افتراضًا غير معقول عندما نفكِّر كيف أن الناس غالبًا ما يملكون إرادة ضعيفة وتعيبهم الأنانية وقصر النظر؛ فكثيرًا ما يرى الناس خطأ شيءٍ ما من الناحية الأخلاقية، ولكنهم مع ذلك يُقدِمون عليه، فما يدفعنا للاعتقاد أن الوضع سيختلف إذا ما عرفوا المزيد؟
اعتقد أرسطو أن سقراط كان يملك صورة مُبالَغًا في بساطتها عن النفسية الإنسانية فقال: «إنه يتخلص من الجزء غير العقلاني من الروح؛ ومن ثَمَّ فهو يتخلص أيضًا من العاطفة والشخصية.» لقد نظر سقراط إلى الأفعال والعاطفة الإنسانية من منظور منطقي أو عقلاني بشكل كبير متجاهلًا الدوافع واللاعقلانية المتعمَّدة فيقول: «لا أحد يتصرَّف عكس ما يؤمن أنه الأفضل، وما يتصرف الناس هكذا إلا بدافع من جهل.» وهذا يفسر الاهتمام المبالَغ فيه الذي مَنَحَهُ سقراط للتساؤلات حول الفضيلة، فإذا ما كان السبب الوحيد لعجز الناس عن فعل الأفضل أيًّا كان هو جهلهم، فالعلاج إذن للانحراف الأخلاقي هو المزيد من المعرفة.
يبدو أفلاطون لأول مرة في هذه النقطة أكثر واقعية من سقراط؛ فقد أدرك الجزء غير العقلاني من الرُّوح ورأى أنه في صراع دائم مع الجزء العقلاني. (وفي الأوقات التي بَدَا فيها أكثر تأثُّرًا بفيثاغورس ومذهبه وَصَفَ أفلاطون ذلك الصراع بأنه صراع بين الرُّوح والجسد)؛ ولذلك لم يَكُنْ تحقيق الفضيلة بالنسبة لأفلاطون تحصيل المعرفة فحسب ولكن تشجيع سلوك معين. وفي المدينة الفاضلة التي تحدَّث عنها في كتابه «الجمهورية» تضمن الأمر تدريبًا ونظامًا دقيقَيْن للشباب، ومتابعة قريبة لبيئتهم الأولى بل لنوع الموسيقى التي كانوا يستمعون إليها ونوع الحكايات التي سُمِحَ لهم بالاستماع إليها.
ومن الواضح أن سقراط نفسه لم يكُن في حاجة لمثل هذا التدريب؛ فقد كان منضبطًا من جميع النواحي بشكل فائق، وكان أستاذًا للتحكُّم في النفس بطريقة عقلانية. وربما كانت هذه هي المشكلة؛ فقد يفسر ذلك لِمَ علَّق آمالًا عريضة على الآخرين بشكل يستحيل معه تحقيقها، ولِمَ افترض أنهم لو علموا فقط ماهية العدالة لتحلَّوْا بالعدل فورًا. وقد قيل عن سقراط إن «قوة شخصيته هي موطن ضعف فلسفته.» وهذه صياغة أنيقة، ولكن أفكار سقراط كان فيها من الترابط والوضوح أكثر ممَّا يبدو. بيد أنه يجب القول إن تفسيره العقلاني بشكل غير مقبول للنفس البشرية لم يكُن المشكلة الوحيدة على أية حال، فحتى لو كان ثَمَّة حكيم يناهزه انضباطًا والتزامًا، ووُلِدَ بشكل ما دون الجزء غير العقلاني من رُوحه؛ فمن الصعب تصوُّر كيف سيجعله هذا شخصًا صالحًا من الناحية الأخلاقية. أفلا يمكن أن يكون هناك شخص على القدْر نفسه من عقلانية سقراط ويتصف بالحكمة التي كان يسعى إليها، ومع ذلك فهو خبيث مثل شيطان ميلتون الذي تبنَّى الشر على علمٍ بقوله: «فلتكن أيها الشر خيري؟» وعلى عكس ما يقول سقراط الذي قال (وفقًا لرواية أرسطو): «لا أحد يختار الشر وهو يعلم.» ولم يتجاهل سقراط التهور والاندفاع واللاعقلانية بشكل جيد فحسب بل أعلن أن الانحراف الأخلاقي المتعمَّد مستحيل ببساطة. ويبدو أنه لم يقابل قَطُّ إنسانًا شريرًا فضلًا عن ملاك شرير.
هل كان سقراط ساذجًا إذن؟ لقد كتب نيتشه عن «السذاجة واليقين الإلهيين في أسلوب حياة سقراط»، ولكن يبدو أن ما كان يقصده هو التركُّز الحادُّ في رؤية سقراط وليس مجرد براءة حمقاء. لقد ظل نيتشه يفكر مليًّا في عادة سقراط في التعبير عن نفسه بعبارات تبدو ساذَجة، واستنتج أن ذلك كان في الحقيقة «حكمة مليئة بالمزاح». وقد أدرك نيتشه أنه من المهم وضع الظروف التي أجرى فيها سقراط مناقشاته في الاعتبار. وتعتمد معظم الآراء المتناقضة التي قد تُنْسَبُ إلى سقراط على أشياءَ قالها لشخصٍ ما أو أشياء اتفق معها لغرض مميز وفي سياق مميز؛ فقد سعى للتدريس عن طريق الإغاظة والتملُّق والاستفزاز، وأنكر أنه دَرَّسَ من الأساس. وقد حاول إماطة اللثام عن حقيقة الأشياء بتجريب أفكار عدة على مستمعيه ببراعة، ولم تكُن الحيل العقلية جزءًا ولو صغيرًا من هذه الأفكار. وقد كتب جالن — وهو طبيب وفيلسوف عاش في القرن الثاني الميلادي — يقول: «إن هذا كان بمنزلة ربة الشعر لدى سقراط التي تمكنه من المزج بين الجِدِّ وقليل من الهزل.»
ولا يمكن تبرير الجوانب غير المعقولة في آرائه بالقول إنه لم يكن يعنيها؛ فهذا قد يُحَسِّنُ من صورة المنطق السليم الدنيوي لدى سقراط، ولكن على حساب استبعاد كل ما قاله تقريبًا. ومع ذلك يمكن تفسير ما يقوله سقراط بشكل أفضل عند وضع مشروعاته التعليمية غير التقليدية في الاعتبار. وسنقوم الآن بتجميع أجزاء نظرية الحياة الإنسانية التي جاءت في تصريحات سقراط الساذجة وغير المعقولة. والنتيجة هي مجموعة من الأفكار التي ثبَت أنها مثمرة جدًّا على أقل تقدير، ليس في تهذيب بعض مستمعيه المباشرين فحسب، بل في تحفيز قدر كبير من فلسفة الأخلاق فيما بعدُ.
•••
تبدأ نظرية سقراط بالرُّوح وتنتهي عندها، وهو يقول في «الدفاع» إن أهم شيء في الحياة هو النظر إلى رفاهيتها، ويقول في مواضع أخرى إن الروح هي ما «تشوِّهها الأعمال الطالحة وتفيدها الأعمال الصالحة.» وهو لا يعني أعمال الآخرين بل أعمال المرء نفسه، فالأعمال الصالحة تعودُ بالنفع على الروح، والأعمال الطالحة تعود بالضرر عليها والأذى لها. وبما أن الروح تحظى بأكبر قدر من الأهمية فإن أنواع الضرر الأخرى ليست على القدْر نفسه من الأهمية. فلا يمكن لشيء يفعله الناس ضدك أن يضيِّع المنفعة التي حققتها لنفسك بأعمالك الصالحة. ويستتبع ذلك أن الفاسدين لا يضرُّون إلا أنفسهم في النهاية فيقول: «لا شيء يضر الرجل الصالح في حياته أو بعد مماته.»
ولذلك لم يتملَّك سقراط الخوف من المحكمة التي مثلَ أمامها، فهو لم يكُنْ لينحني لسلوك مخزٍ كي يحصل على البراءة لأن «الصعوبة لا تكمُن في الفرار من الموت، بل في الفرار من الأعمال الخاطئة وهو ما يتجاوز فرار الأقدام بكثير.» وترجع صعوبة الامتناع عن الشر في أحد أسبابها إلى أنه إذا حاول شخص أن يؤذيك فمن المغري في الغالب أن تحاول الانتقام منه، ولكن بما أنه من الخطأ أن تفعل شرًّا أو تقترف إثمًا — وهو ما قد يضر رُوحك مهما كان عذرُك — يقول سقراط إنه يجب ألَّا ترد الإساءة بالإساءة.
ويتعارض هذا مع الأعراف الأخلاقية الإغريقية التي تعتبر إيذاءَ الأعداء مقبولًا، رغم أن ذلك لا يشمل الأصدقاء وبخاصة العائلة. ولكن القيم الأخلاقية الصارمة لسقراط تُزيل تلك الفروق بين الناس وتُقدِّم منظومة أخلاقية كونية بديلة. وممَّا يلفت النظر فيها هو أنها تفعل ذلك بمراعاة المصلحة الشخصية لا مشاعر الإيثار التي تُعَدُّ عادةً الدافعَ الرئيس وراء السلوك الأخلاقي؛ فالعمل الصالح يشبه الاهتمام بالجزء الأهم من النفس وهو الرُّوح. ولا يشبه هذا الأمر الأنانية المعتادة لأن السبيل الوحيد لتحقيق تلك المنفعة للنفس هو التحلي بالعدل وممارسة الفضائل الأخرى أيضًا، ولا يمكن تحقيقها بتقديم المصالح الشخصية على مصالح الآخرين، بل بجعل تطوير النفس أخلاقيًّا فوق كل الدوافع الأخرى. وكذلك لا تعتمد هذه الأخلاق غير التقليدية على انتظار مكافأة سماوية أو الخوف من عقاب؛ فثمار الفضيلة تُجْنَى في الحال تقريبًا لأن «العيش الصالح يكافئ العيش بشرف» و«(الرجل) الصالح يسعد والطالح يشقى.» ويرى سقراط أن السعادة والفضيلة مترابطتان؛ ولذا فإن مصلحة أهلها أن يتحلوا بالأخلاق الحسنة.
من الصعب فَهم هذا الجزء بالتحديد؛ حيث إنه من الحقائق غير المنصفة في الحياة أن الأشرار ينعمون أحيانًا، وهو ما يَحدُّ من بريق فكرة سقراط، ولكن سقراط يرى أن العناية الناجحة بالرُّوح تجلِب جميع أنواع الخير التي قد لا تبدو واضحةً في البداية. ويرى سقراط كذلك أن ثَمَّةَ روابطَ غير متوقَّعة بين بعض الأعمال الصالحة في الحياة، وأن السعادة مسألة أعقد ممَّا يظنها المرء في البداية؛ فقد يبدو أن الأشرار يتمتعون بكل أنواع المَلَذَّات ولكن في الحقيقة هناك ما لا يمكنهم التمتُّع به، وهذا له من الأهمية ما يكفي للشَّكِّ في فكرة أن هؤلاء الناس يمكنهم أن يكونوا سعداء على الإطلاق. ويُزْعَمُ أن المتع العقلية تندرِج ضمن هذه الفئة، كما أن ثَمَّةَ أنواعًا أخرى من الرضا والارتياح التي لا يمكن الحصول عليها دون ممارسة الفضائل. ولْنضرب مثالًا بسيطًا على ذلك: إذا لم يمارس المرء فضيلة الوسطية لَما تمتع بالصحة، وربما يحرم نفسه من مَلَذَّات عديدة في المستقبل من أجل القليل الآن. لذا فبِدون ممارسة الفضيلة لن يستطيع الإنسان أن يسعد على الإطلاق.
ويتضح أن الفضائل نفسها هي أحد جوانب الحياة الصالحة التي يرتبط بعضها ببعض بشكل رائع ومدهش. ويرى سقراط أنها تأتي دفعة واحدة أو لا تأتي على الإطلاق، فدائمًا ما تحاول محاوراته إظهار أن فضيلةً معينة لا تعمل بشكل صحيح إلا بوجود فضيلة أخرى؛ فالشجاعة مثلًا تتطلب الحكمة. وليس من الجيد أن تكون جريئًا إذا كنت أحمقَ لأن الشجاعة المنشودة في تلك الحالة ستتضاءل إلى محض تهور. وكذلك تتشابك كل الفضائل الأخرى بطرق مماثلة، وتلعب إحداها دورًا خاصًّا وهي فضيلة الحكمة؛ لأنه دون مقدارٍ معين من الحكمة سيُسيء الناس تقدير عواقب الأعمال حتى لا يتمكنوا من معرفة الصواب من الخطأ، وهو الشرط الأساسي للحياة الفاضلة. وبدون الحكمة لن يتمكَّنوا أيضًا من أن يكونوا سعداء؛ ذلك أن المنفعة التي قد تؤدي إلى إسعاد الإنسان يمكن أن يُساء استخدامها ومن ثَمَّ تؤدي إلى العكس. ولذلك يحتاج الإنسان للحكمة لكي يحقق المنفعة من وراء الأعمال الصالحة وأيضًا ليتحلى بالفضيلة.
ويرى سقراط أن الرابط بين الفضيلة والحكمة شديد القوة؛ لدرجة أنه قد طابق بينهما بشكلٍ ما. من المؤكَّد أنهما متداخلتان، كما يرى سقراط أنه إذا تحلَّى أي شخص بأيٍّ من الفضائل الأخرى فمن المؤكد أنه يتحلَّى بالحكمة لأنه إن لم يفعل فسيكون قد فشل في أن يكون فاضلًا، أما إن كان يتحلى بفضيلة الحكمة فسيكون قد تحلى بالفضائل الأخرى كافة؛ ذلك أن هذه الحكمة سَتُمَكِّنُهُ من إدراك أنه لن يستطيع تحقيق السعادة دون ممارسة الفضائل الأخرى أيضًا. وكما رأينا فقد اعتقد سقراط أن السلوك الأخلاقي يعودُ بالنفع على الرُّوح، وأن الشخص الشرير يؤذي نفسه روحيًّا. وإن صَحَّ هذا فسيدرك من كان حكيمًا بحقٍّ هذه الحقيقة. وكل مَنْ يُدرِك هذه الحقيقة وكل مَنْ يُقَدِّرُ قيمة رُوحِهِ كما يفعل كل رجل حكيم سيتجنب حينئذٍ الأعمال الطالحة. وهذا يوضِّح لماذا اعتقد سقراط أن أحدًا لا يفعل الشر عن علم؛ لأنه عندما يرتكب الإنسان خطأً فإن التفسير الوحيد المعقول لذلك هو أنه لا يعلم أن أفعاله تلك تؤذي رُوحه؛ ومن ثَمَّ فهو يتصرف عن جهل. وبشكل عامٍّ فإن هذه الاعتبارات كانت تدعَم فكرة سقراط التي تقول إنه إذا ساعدت محاوراته الناس في الوصول إلى الحكمة فسيكون هو قد ساعدهم في الوصول إلى الفضيلة أيضًا.
من الضروري أن يكون الرجل المعتدل صاحب العقل السليم يا كاليكلس صالحًا — كما أوضحنا أنه عادل وشجاع وتقي — ويجب على الرجل الصالح أن يتقن أي شيء يفعله، ومن يتقن عمله يعِش سعيدًا منعَّمًا، أما الشرير الذي يُفسد عمله يصبح بالضرورة بائسًا.
هل نجح سقراط فعلًا في أن يثبت كل هذا؟ لقد أجفل مستمعوه كثيرًا من القفزات المنطقية التي كان يقوم بها دون عناء؛ ولذلك ظلت أشياء كثيرة مَحَلَّ شك وبخاصة حديثه عن السعادة. وقد كان أرسطو محقًّا في اعتراضه على تلك النقطة حيث يقول: «إن الذين يقولون إن الضحية التي تتعرض للمعاناة، أو الإنسان الذي يتعرض للمحن يسعد إن كان صالحًا سواء قصد ذلك أم لا؛ فكلامه هراء لا صحة فيه ولا طائل من ورائه.» وفي إحدى المرَّات علَّق أحد المستمعين لسقراط بنبرات مرتبكة بقوله: «إذا كنت جادًّا وكان ما تقوله صحيحًا فمن المؤكد أن حياتنا نحن البشر الفانين مقلوبة رأسًا على عقب.»
وهذا بالضبط هو ما أراد سقراط فعله: أَلَا وهو إعادة صياغة أفكار الناس عن الأخلاق. ومن الواضح أن هذا لم يكُن بالأمر السهل؛ فلِكي يتمكن من فعل ذلك بالمجادلة يجب أن تكون المناقشات مختلفة تمام الاختلاف عن المناقشات النظرية؛ لأن «ما يُنَاقَشُ ليس أمرًا عاديًّا بل كيف يجب أن نعيش.» وسيكون من الضروري أحيانًا استخدام قَدْرٍ من المبالغة والتبسيط إذا ما كانت الفكرة الأخلاقية محَل النقاش تُفْرَضُ بالقوة، فعندما قال سقراط مثلًا إن الرجل الصالح لا يمسه السوء، لم يقصد من ذلك أنه بمنأًى عن العديد من الأشياء المكروهة، بل كان يحاول إقناع مستمعيه بأن تلك المِحَن أقل وطأةً من إفساد الرجل رُوحه. وبالمثل عندما قال إن الإنسان الشرير بائس لم يكن يعني أنه لا يمر أحيانًا بأيام سارَّة. لقد كان يَعِظُ مَنْ يسمعونه حتى يقدروا قيمة الفضيلة بأوسع معانيها، وربما ليشفقوا على مَنْ لم يتمكن من الوصول إليها. وعندما قال إن الصلاح يجلِب الثراء وكل النعم الأخرى، لم يكن يقصِد أنه بتهذيب النفس يصبح الإنسان ثريًّا بشكل سريع. وفي هذا السياق الذي اهتم فيه بنفي أن الثروة تجلب الصلاح أكثر من اهتمامه بإقناع الناس بالعكس، رسم سقراط صورة لأفضل أنواع الحياة الإنسانية يسعى فيها الإنسان خلف كل ما هو صالح ويستمتع به على نحو كامل؛ بفضل ممارسة الحكمة العملية والفضائل الأخرى.
وليست هذه فعليًّا مجموعة عادية من المبادئ، بل إنها ليست مبادئ على الإطلاق. إن ما أُطلق عليه نظرية سقراط عن الحياة الإنسانية لم يقدمه سقراط مباشرة بهذا الشكل؛ فهذه الأفكار هي الأفكار التي اعتمد عليها عند استجوابه للآخرين أو التي قاومت المحاكمة عن طريق الإشكاليات الجدلية. وكان الهدف النهائي الذي ربما لم يتحقق قط هو إنتاج نوع من المعرفة المتخصصة، كما المعرفة المتخصصة للحرفيين المهَرة، رغم أنها لم تختص بصناعة الأحذية ولا بالمعادن ولكن بالحِرفة الأم وهي العيش السليم.
ولا يجب النظر إلى ما انتهى إليه سقراط من المناقشات على أنه أكثر من مجرد خطوات متعثِّرة في سعيه إلى المعرفة الأخلاقية المتخصصة. وأحيانًا ما انحرف سقراط عن الطريق كلَّما تملَّق سقراط إلى رفاق دَربِه أو حثهم على السعي بوخزاته الساخرة أو بتقديم حجة تجذِبهم بشكل مشوِّق (أو على الأقل تدفعهم إلى التوقف والتفكير). وكانت النتيجة كما قال نيتشه هي حكمة مفعَمة بالمزاح. ولأن ما حاول سقراط الوصول إليه كان نوعًا من الحكمة يتميز بطابَع أخلاقي؛ فقد اصطبغت محاوراته بالوعظ والمثالية ومخاطبة العاطفة الأخلاقية والمنطق والفطرة السليمة على حَدٍّ سواء. ولهذا بدا أن تلك المحاورات — من وجهة النظر المجرَّدة وباعتبارها محاولات للوصول إلى منطق خالص — تتضمَّن فجوات غير معقولة من النوع الذي لاحظه أرسطو.
ولم يقدِّم سقراط تصورًا ملهمًا عن الحياة المثالية فحسب، بل إن أسلوب حديثه يُزاوِج بين الوعظ والمنطق، وهو السبب في اعتبار أسلوبه إضافة للفلسفة الجدلية وإثراءً لها أكثر من الوعظ الديني؛ فكل ما يقوله يأتي في سياق جدلي حيث تُطْلَبُ الأسباب وتُخْتَبَرُ الاستنتاجات وتُنَقَّحُ التعريفات وتُسْتَنْبَطُ النتائج وتُسْتَبْعَدُ الفرضيات. وهذا هو المذهب الوحيد الذي فيه من الجِدِّية ما يكفي للتعامُل بإنصاف مع مسألة الحياة السليمة؛ ولذلك يرى سقراط أن الوعظ المسئول يتعيَّن تضمينه في جِدالٍ مدعوم بالبراهين. ولا يمكِن للتلخيص المجرد لاستنتاجات سقراط المرحلية كذلك الذي عرضناه هنا أن يبيِّن قوة مزجه بين المثالية والمنطق الواقعي؛ إذ إن هذا التلخيص بالضرورة يجعل أفكاره كسربٍ من الأسماك التي لفظها البحر على الشاطئ وتعاني للعودة إليه. لقد ترعرعت أفكاره أثناء سَبْحِهِ في بحر الجدال، ولا يمكن النظر إليها الآن إلا في سياق محاورات أفلاطون الأولى.
•••
لم يكن سقراط معلمًا يسهُل اتباعه؛ ومن أهم أسباب ذلك أنه رفض بإصرار أن يكون معلمًا. ومع ذلك فليس من المدهِش أن نَجِدَ بعض أصدقائه أرادوا بعد وفاته أن يستكملوا هذا العمل الصالح بشكلٍ ما. وبما أنَّه كان ولا يزال من الصعب تحديد ما وصل إليه هذا العمل؛ فليس من المدهش أيضًا أن نَجِدَ خلفاء سقراط المستقبليين وقد انتهى بهم الأمر بتبنِّي قضايا مختلفة. كان أفلاطون أعظم مَنْ خلَفه. أما البقية فكانوا مجموعة متنوعة، ولكن كان لثلاثة منهم تأثير ملحوظ بشكل أو آخر.
وقد صار اثنان ممَّن كانوا حاضرين وقت وفاة سقراط — وهم أنتيزينيس الأثيني وإقليدس الميجاري — فيما بعدُ مؤسِّسَيْن لمدارس فكرية استمرَّت آثارها لعدة قرون تالية أو أبوين رُوحيَّيْن لها. ولم تستمر المدرسة التي أنشأها رفيق ثالث لسقراط وهو أرسطيبوس القوريني في ليبيا (حوالي ٤٣٥–٣٥٥ق.م.) بالشكل نفسه، ولكن ذلك لم يمثل خسارة كبيرة. وكان ما فعله أرسطيبوس وأتباعه بتعاليم سقراط شيئًا من الأهمية بمكانٍ كمثال على أن أتباع سقراط كانوا بسهولة يبالغون فيما تعلموه ويحرفونه.
لقد تفرَّغ القورينيون الذين اتَّبعوا أرسطيبوس للمتعة لكن بطريقة فلسفية غريبة. ففي ظِلِّ انبهار أرسطيبوس بالتحكُّم العقلاني في النفس لدى سقراط حَوَّلَ انضباطه إلى سعي مُكَرَّسٍ لإشباع رغباته. وبينما لم يَجِدْ سقراط حرجًا في الاستمتاع بمَلَذَّاتِ الحياة — شريطة ألَّا يتعارض ذلك مع سعيه إلى الفضيلة بالطبع — لم يَجِدْ أرسطيبوس داعيًا لفعل ما سوى ذلك. وبعد وفاة سقراط أصبح أرسطيبوس مهرجًا ملكيًّا رسميًّا لديونيسيوس الأول الحاكم المستبدِّ لسرقوسة في صقلية الذي اشتهر بوفاته أثناء شربه الخمر احتفالًا بفوزه بجائزة في مسابقة مسرحية.
وقد كان أساس سعي أرسطيبوس نحو المتعة الصاخبة أو ما سواها على ما يبدو صادقًا، وكان اتِّباعًا لمذهب سقراط في جُزْءٍ منه. وكما هو الحال مع معظم أصحاب الفضيلة يُحَذِّرُ سقراط من أن يصبح الإنسان عبدًا لرغباته. ويتَّفق أرسطيبوس مع هذا الكلام، ولكن تفسيره المبتدع له يعني فرض السلطة على هذه الرغبات بجعلها تعمل وقتًا إضافيًّا لحسابه. وقد جعله هذا سعيدًا، ولكن ما العيب في السعادة على أية حال؟ ألم يَعِدْ سقراط بالسعادة بوصفها حافزًا على الفضيلة؟ فلا حرج في ذلك إذن.
لقد قدَّم سقراط تعريفًا مغلوطًا عن السعادة بأنها حالة من الإشباع الرُّوحي يسببه العيش النبيل. هنا سعى أرسطيبوس للاختلاف بكل قوته؛ فحسب قوله فإنَّ السعادة التي ينبغي للإنسان أن يسعى إليها هي المتعة الجسدية حيث اعتبر أن هذه المتعة هي المعيار الوحيد الصالح لمعرفة ما هو الصالح وما هو الطالح بشكل عامٍّ. ويبدو أنه اعتقد أنه لا يمكن الحصول على معرفة معينة بأي شيء سوى حواس الإنسان نفسه، وهي فكرة فلسفية دافَع عنها الكثيرون في ذلك الوقت؛ لذلك فإن الإحساس باللذة — والذي كان بلا ريب شيئًا جيدًا بطريقة ما حتى إن لم يكن هناك سواه — ربما كان الشيء المنطقي بالنسبة للفيلسوف ليركِّز عليه في ظل عالم ملتبس.
ولذلك فقد كان السعي وراء الملذَّات أمرًا جادًّا، وكانت وظيفة الفيلسوف أن يُطَوِّعَ رغباته وظروفه لمضاعفة إحساسه باللَّذَّة، وأن ينقل الحكمة من أسلوب العيش هذا إلى الآخرين (الذين وجب عليهم بطبيعة الحال أن يدفعوا مقابلًا لتلك النصيحة القيمة). لقد تطلَّب الأمر ضبط النفس ليتمكن سقراط من إنجاز هذه المهمة بشكل صحيح، أو هكذا ظن أرسطيبوس، وكان من المهم ألَّا تصرفه مساعي الآخرين التي قد تلهي الإنسان عن المطلب العملي الواضح والوحيد في الحياة وهو المتعة. ولم تَكُنِ الرياضيات والعلوم مثلًا ذواتي فائدة وكان ينبغي تجاهُلهما. وهنا يمكن استرجاع مثال سقراط مرة أخرى بصعوبة. ألم يكُن يبحث بلا انقطاع في كيفية الحياة السليمة على حساب كل القضايا الأخرى؟
كان سقراط ليستمتع بتعريف أرسطيبوس والقورينيين الآخرين كيف أنهم مخطئون، وكان ليرغب مثلًا في معرفة ماذا حدث للعدالة والفضائل الأخرى التي دَعَا إليها. كما كان ليرفض كذلك أفكار الكلبيين رغم أنها كانت مثيرة للاهتمام. فعلى غرار القورينيين سرق أنتيزينيس (حوالي ٤٤٥–٣٦٠ق.م.) ومَنْ تبعه من الكلبيين بعض الأفكار التي تلقوها من سقراط وأخرجوها من سياقها. وقد وصف أفلاطون ديوجين الكلبي، وهو أحد أتباع أنتيزينيس، بأنه «سقراطي فقد عقله.» ولكنَّ الكلبيين حافظوا على ميراثهم من سقراط بشكل أفضل من أرسطيبوس، وكان مذهبهم بالفعل على النقيض تمامًا من الانغماس القوريني.
لقد رأى أنتيزينيس مثل أرسطيبوس أن قوة سقراط العقلية كانت ضرورية للسعي نحو السعادة؛ وهنا ينتهي الاتفاق بينه وبين أرسطيبوس حيث آمن أنتيزينيس أن السعادة لا توجد في إشباع الرغبات كما اعتقد القورينيون بل في فقدانها؛ فقد انبهر أنتيزينيس بعدم اكتراث سقراط بالثروة والنعيم، وحَوَّلَ هذا إلى فلسفة زاهدة تُرَحِّبُ بالفقر، فقد قال سقراط على أية حال إن الرجل الصالح لا يَمَسُّهُ سوء. وقد استنتج أنتيزينيس أنه ما دام الإنسان قد ظل صالحًا فلا شيء يُهِمُّ في الحياة بعد ذلك. ولا ريب أن هذا القول يتجاوز سقراط الذي لم ينكر أبدًا أن امتلاك الثروة أو الأملاك إن وُضِعَتْ في موضعها السليم خيرٌ من عدمه، فقد كان عدم اكتراثه الظاهر بهما — بخلاف شرود الذهن — نتيجة ثانوية للسعي الحثيث نحو الفضيلة وسلامة الرُّوح.
وبينما كان سقراط على استعداد لتجاهُل العادات والقيم التقليدية إذا تطلبت مبادِئُه ذلك، بدا أنتيزينيس وكأنه يسعى نحو اللاتقليدية في حَدِّ ذاتها، فإذا كان هناك ما ليس بعمل فاضل ولا شرير، فلا فرق إذا قام الإنسان بهذا العمل أو امتنع عنه. ويمكن تصوُّر تلك الفكرة كإرشادات فعَّالة ليصبح الإنسان غريب الأطوار. فالرجل الحكيم بتحرُّره من الرغبة في التملُّك ومن السلوك المألوف، يمكنه أن يسير في الأرض مهاجمًا عادات المجتمع الحمقاء وأن يميز نفسه عمومًا. وكان أنتيزينيس يُعَزِّي نفسه بمعرفته أن القيم المألوفة لا تساوي شيئًا ومختلفة تمامًا عن القيم الطبيعية للحياة السليمة. ولسوء الحظ لم يتضح قط ما هي القيم الطبيعية وما هي الفضيلة الحقيقية، فأنتيزينيس كان يجيد انتقاد ما لا يدخل في خصائصهما.
نزل ديوجين السينوبي (حوالي ٤٠٠–٣٢٥ق.م.) — وسينوب مدينة تقع على البحر الأسود — بأثينا وفتنته أفكار أنتيزينيس، ولكنه رأى أن أنتيزينيس لم يلتزِم بالتعاليم التي وضعها بنفسه، ولم يكن ذلك بغريب. وقد أضاف ديوجين الكثير إلى أنتيزينيس بشكل رائع خاصة فيما يتعلق بغرابة الأطوار والعيش غير المألوف حيث ورد في إحدى الروايات المشهورة عن الفلاسفة الأوائل أن ديوجين عاش في حوض خزفي، وورد في رواية أخرى أنه ابتدع بين الكلبيين ممارسة الاستمناء باليد على الملأ. وسواء صَحَّ ذلك أم لا، تشير نتيجة تلك الروايات عن كلماته وأفعاله الحمقاء إلى الانطباع المربِك الذي خَلَّفَه. وقد كان يستمتع بلقب «الكلب» وهو السبب في تسمية الكلبيين بهذا الاسم. لقد أُطْلِقَ عليه هذا اللقب لأنه أراد حياة بسيطة فطرية وقِحة كالحيوانات؛ لأنها الممثل بحقٍّ للقيم «الطبيعية.» لقد كان سليط اللسان وكان سريع الهجوم على مَنْ يختلف معهم، وهو الأمر الذي ربما ساهم في إطلاق هذا اللقب عليه. وقد كان معاديًا لأفلاطون بالتحديد، وكان يحب تدبير المقالب الفكاهية له. وفي إحدى محاضرات أفلاطون لوَّح بدجاجة نُتِفَ ريشها ليقاطع باحتقارٍ كلامَه أثناء تقديمه لتعريف ما، وهو محاكاة دنيئة لحكمة سقراط «المفعمة بالمزاح».
ولم يكن زهد ديوجين المزعج في الحياة التقليدية كافيًا ليكون هذا «السقراطي الذي فقد عقله» ناسكًا زاهدًا؛ فلم يكن يملك الوقت الكافي لذلك. لقد كان هناك أناس يجِب إقناعهم وأمثلة يجب وضعها ووعظ يجب تقديمه ونصائح عملية يجب إسداؤها. ويبدو أن أنشطة ديوجين أكسبته شهرة واسعة. وقد قيل إن سكان أثينا تعاونوا فيما بينهم واشترَوْا حوضًا جديدًا له عندما انكسر حوضه. ويبدو أن صِدقه وبساطة حياته قد حازَا الإعجاب من بعيد، رغم أن تعاليمه كانت أكثر تشدُّدًا من أن تجذب أكثر من شرذمة قليلين من التابعين المخلِصين أو أن يكون لها أي تأثير سياسي مباشر. لقد دَرَّسَ أن السعادة تكمُن في إشباع الحاجات الأساسية فقط وفي ضبط النفس لكيلا ترغب في المزيد، ونبذ ما وراء ذلك مثل المال والرفاهية والحياة الأسرية التقليدية؛ لأنها لا تجعل الإنسان أفضل من الناحية الأخلاقية. كما كان ينبغي نبذ زخارف الحضارة المقيدة في المدينة من تحريم نكاح المحارم أو أكل لحم البشر وصولًا إلى الزواج، إضافة إلى قيود المكانة الاجتماعية والدين التقليدي للسبب ذاته. أما المجتمع المثالي فهو المجتمع الحر الذي تعيش فيه كائنات تُغَلِّفُ البساطةُ حياتها، وتحقق اكتفاءها بنفسها، وتُعْمِلُ عقلها في كل شيء، وتقيم كل أنواع العلاقات التي يوافق عليها جميع أطرافها دون التقيد بالمحظورات التقليدية.
كان الهدف من كثير ممَّا قاله ديوجين أن يصدم الناس، فربما لم يَعْتَدْ دائمًا انتهاك جُلِّ المُحَرَّمات التي أدانها، ولكنه أراد أن يحرِّك الناس ليختبروا حياتهم. وبمرور الزمن وبخاصة في القرنين الأوَّلَيْن من العهد المسيحي، جذبت الكلبية كل أنواع الشباب المتمرِّد ومحبي الحرية والمتسولين الرحَّالة، الذين كانوا مهتمين باستنكار كل شيء والسخرية من المجتمع أكثر من اهتمامهم بالفلسفة أو بالعمل الصالح. وقد أدَّى وجود هذا النوع من البشر بجانب الأدب الساخر والمتهكِّم الذي تأثر بهذا التيار إلى ظهور المصطلح الحديث «الكلبي». ولكن الكلبيين الأوائل رغم أنهم كانوا بوهيميين فقد رَأَوْا أنهم معلِّمون للأخلاق، ويبدو أنهم يقدمون خدمات جليلة للبشرية؛ فقد تنازل قراطيس الطيبي (حوالي ٣٦٥–٢٨٥ق.م.) — على سبيل المثال — عن ثروته الكبيرة ليكون تلميذًا لديوجين. وكان يتجوَّل بين المنازل على أنه معالج أو قس ليقدِّم خدمات الإرشاد الأخلاقي التي لم تكُن متوافرة للعامة من أيَّة مصادر أخرى، وبخاصة مدارس البحث الفلسفي الصُّورية التي أسسها أفلاطون وأرسطو. وقد كانت هيباركيا أخت أحد تلاميذ قراطيس الطيبي تتوق إلى مشاركة قراطيس الطيبي في حياته غير التقليدية، ولكن كان عليها أن تهدد أبويها الثريين بالانتحار قبل أن يوافقا في النهاية على ما تريد، «فكانت تتجول رفقة زوجها ويمارسان الجنس على الملأ ويخرجان لتناول العشاء.»
كان إقليدس — آخر أتباع سقراط الذين سنتناولهم في هذا الفصل — مخلصًا لأستاذه؛ لدرجة أنه قيل عنه إنَّه تنكر في شكل امرأة عندما مَنعت أثينا دخول أهل ميجارا إليها، وتسلل إلى المدينة في جُنح الظلام ليصل إلى سقراط. ولم يشترك إقليدس مع سقراط في الاهتمام بحسن الأخلاق فحسب، بل بشغفه بالمجادلة أيضًا. وبينما بَدَا سقراط مستعدًّا لاتِّباع أية سلسلة منطقية واعدة مهما كانت نتيجتها، اهتم إقليدس بالمجادلات المنطقية في حَدِّ ذاتها وبخاصة المتناقضة منها. وقد تحدَّث أحد الخصوم عن «إقليدس المجادل الذي ألهم أهل ميجارا حب المجادلة المستعِر.»
وسواء أكان هذا الحب مستعرًا أم لا، فقد أدَّى الفضول العقلي لأهل ميجارا إلى تقديمهم بعض أقوى الألغاز في المنطق واللغة. وقد نُسِبَ إلى يوبولايدس — وهو أحد تلاميذ إقليدس — العديد من تلك الألغاز، بما فيها أشهر الألغاز والمعروف ﺑ «الكاذب»، وهو مفارقة جاءت في قول أحدهم: «هذه الجملة خاطئة.» وتكمُن المشكلة في الحكم على جملة كهذه، فالحجج التي تتحدث عن صدقها تدور في دائرة مفرغة. فإن كانت الجملة خاطئة مثلًا فقد أصاب المتحدث لأنها كانت مثلما قال، أما إذا كان صادقًا فهذا يعني أن الجملة خاطئة لأنه حكم عليها بعدم الصدق، وهذا يستتبع أنه إذا كانت الجملة خاطئة فهذا يعني أنها صحيحة وإذا كانت صحيحة فهذا يعني أنها خاطئة. إن السخرية من هذا اللغز أسهل من حَلِّهِ إذ يقدر على الوقوف في وجه أي حل مقترح؛ ولذلك قد يشفق المرء على الشاعر فيليتاس الكوسي الذي يقال إنه انشغل بهذا اللغز بشدة حتى ساء حاله فأصبح نحيفًا جدًّا حتى إنه وضع ثقلًا من الرصاص في حذائه كي لا يكون في مَهَبِّ الريح. وقد كانت المرثية على شاهد قبره كما يلي:
من الصعب الاعتقاد بأن هذا اللغز عميق، ولكن كانت هناك محاولات لفهمه فهمًا عميقًا. لقد أفرز لغز «الكاذب» قدرًا كبيرًا من البحث في طبيعة الحقيقة والمعنى اللغوي عن طريق علماء المنطق الرياضيين واللغويين الذين يتعاملون مع البِنية الشكلية للغات المختلفة، ولكن يبدو أن ذلك لم يُسَبِّبْ أيَّة خسائر أخرى. وكانت إحدى النتائج الثانوية للاهتمام بنوع الجمل ذات «المرجعية الذاتية» الموجودة في هذا اللغز — الجملة المتناقضة التي تتحدث عن نفسها — هي نظرية جودل، وهي إحدى أهم نتائج الرياضيات الحديثة التي تقول إن هناك حدودًا معينة للبراهين الرياضية.
لقد حوَّل تلاميذ إقليدس وأتباعه ميجارا إلى نسخة حية من «مصنع المنطق» المبالَغ فيه بشكل هزلي، والمذكور في مسرحية أرسطوفان عن سقراط. وحقيقة أن عملهم بالنسبة للمتشكِّكين لم يَكُنْ إلا «جدالًا» من أجل الجدال — وقد كان بعضه كذلك بلا شك — تعيد إلى الأذهان كيف استقبل بعض مواطني أثينا ذَوِي القدرات العقلية الأقل محاورات سقراط المتواصلة عن الفضيلة. وكان أحد الأسباب وراء اعتقاد إقليدس أنها مهمته بوصفه فيلسوفًا أن يستمرَّ في الحديث عن حسن الخلق وأن يشترك في طرح الأسئلة المنطقية المبهمة؛ هو إعجابه برأي سقراط القائل إن المعرفة هي طريق الفضيلة. وربما لم يتناول سقراط نفسه المنطق ولكن إقليدس شعر أن هذا إحدى وسائل البحث عن الحكمة وبخاصة إذا فهم المرء عملية المجادلة؛ فمن المفترض أن يساعد ذلك في متابعة الاستجوابات السقراطية الفعَّالة.
•••
لقد اجتمعت المدارس الفلسفية التي انحدرت من سقراط على فكرة أن الحكمة تؤدي إلى الفضيلة وأن الفضيلة تؤدي إلى السعادة. ومن الواضح أنهم اختلفوا في تفسير ما تعنيه السعادة (فكانت الانغماس في المتعة بالنسبة للقورينيين، والانضباط الزاهد بالنسبة للكلبيين)، ولكنهم اتفقوا على أن التفكير الفلسفي نوعًا ما هو الطريق إليها، وأن الاشتغال به يؤدِّي إلى الحياة الصالحة. وقد كانت جُلُّ الآراء الأخلاقية لهؤلاء الفلاسفة ذات طابع يؤمن بالفردية نسبيًّا (شديد الفردية في حالة ديوجين)، ويمكن معرفة كيف أدت حياة سقراط غير المعتادة إلى هذا. ولكن في حالة الكلبيين على الأقل كان هناك اختلاف واضح مع سقراط حول روابط الالتزام الاجتماعي والإخلاص لقِيَم المدينة. لقد أكد الكلبيون على التناقُض بين الحياة الفاضلة وبين حياة المدينة التي يولد الفرد أو يعيش فيها. وقد فعل سقراط ذلك أيضًا من منظور معيَّن لكنه لم يفعل ذلك من منظور آخر؛ فقد كان يَقبل بالتأكيد أن الفرد يجب عليه أن يتبع ضميره وليس ما تمليه عليه المدينة حينما يتعارض ما تفرضه المدينة مع العدل، ولكنه سعى إلى تحسين الحياة في المدينة بدلًا من هجرها بالكلية؛ فحث أهل أثينا على أن يعيشوا معًا في ظل العدل وأن يحسنوا قوانينهم وسلوكياتهم عند الضرورة، لا أن يتخلَّوْا عن مشروع الحضارة بكامله ويفقدوا احترامهم للقانون.
لقد أوضح سقراط أنه رغم وجوب عصيان القوانين إذا كانت ظالمة، فإنه يجب الخضوع للعقاب عند الوقوع تحت طائلتها، وهو ما فعله بالضبط عندما أُدِينَ رغم أن بعض أصدقائه قد وفَّروا له فرصة للهروب من السجن ومغادرة أثينا قبل إعدامه. وقد تناولت إحدى محاورات أفلاطون الأولى وتُدعى «الكريتو» هذه الحادثة وعرضت أسباب رفض سقراط الهرب. وإضافة إلى إحساسه بالالتزام الأخلاقي تجاه السلطة الشرعية في المدينة وتجاه الإجراءات القانونية السليمة؛ فقد أحب سقراط أثينا ولم يرغب في العيش بمكان آخر. وتوضِّح بعض الأشياء التي نقلها أفلاطون على لسانه في محاوراته أن سقراط كانت لديه شكوك في الديمقراطية بوصفها صورة من صور الحكم، وهو ما أدى إلى وصفه أحيانًا بعَدُوِّ الديمقراطية. ولكن في الحقيقة كانت هذه شكوك أفلاطون، تمامًا كما شك في النهاية في كل أشكال الحكومة التي مَرَّ بها. لقد أظهر سقراط كل مظاهر الولاء والطاعة لدستور أثينا، ولطالما أشاد بالمدينة وبمؤسساتها، ويبدو أنه لم يغادرها قَطُّ إلا أثناء الخدمة العسكرية. أما بخصوص ما إذا كان مؤيدًا لطريقتها في الديمقراطية فقد أكد سقراط على ذلك حين رفض الهرب منها. لقد كان ثمة العديد من الدول الأخرى غير الديمقراطية التي كان يمكنه الهجرة إليها. وربما كان من المحرج لخصومه في ذلك الوقت الذين وَدُّوا أن يُبعدوه بوصفه عَدُوًّا للديمقراطية أنه خاطر بحياته في ظل حُكم الطغاة المعادين للديمقراطية برفضه الاشتراك في القبض على رجل بريء.
كان سقراط أكثر ديمقراطيةً ممَّا يتحمله أهل أثينا. وقد كان هذا الجانب في شخصيته وفي تدريسه السبب في الفردية المفرطة لبعضٍ من مقلِّديه. ومن الممكن القول إن موقفه تجاه الدين والأخلاق موقف ديمقراطي متشدد؛ فلا شيء مُسَلَّم به خاصة إن لم تفرضه سلطةٌ ما تعتبِر نفسها فوق المنطق الأخلاقي للناس، سواء أكانت سلطة افتراضية في صورة زيوس أو طاغية من طغاة البشر. وعلى كل إنسان أن يعرف بنفسه الصواب من الخطأ والصالح من الطالح، ولا محيص لأي إنسان من اختبار نفسه وحياته. ويجب أن تكون النتيجة المثالية لمثل هذه المناقشات بين المواطنين مجتمعًا عادلًا بقوانينَ عادلة يتوصَّل الإنسان إليها من خلال الاختبار الجماعي للنفس. وفي حُلم سقراط الديمقراطي تؤدِّي القناعة الفردية إلى التوافُق الجماعي، ليس في كل شيء بالطبع، ولكن على الأقل في الخطوط العريضة لكيفية العيش السليم.
لم يكن سقراط سياسيًّا؛ فقد رأى أنه لا يمكنه أداء دوره إلا عن طريق مجادلة الأفراد فردًا فردًا أو في جماعات صغيرة، وعن ذلك يقول: «أعرف كيف أصنع شاهدًا واحدًا على حقيقة ما أقول، وهو الرجل الذي أُجادله، أما الآخرون فأتجاهلهم. كما أعرف كيف أحصل على تأييد رجل واحد ولكن في الجماعة لا أدخل حتى في المناقشة.» وعلى مَرِّ العصور أخذ تأييد سقراط يتزايد نتيجة احتفاظ محاورات أفلاطون بمجادلاته أو بمثالٍ لها بعد أُفُولِ نجم أثينا وولائم العشاء فيها في القرن الخامس قبل الميلاد. وثمة شيء واحد قاله سقراط للقضاة في محاكمته يندر أن نجد في وقتنا الحاضر من يختلف معه وهو: «إذا حكمتم عَلَيَّ بالموت فلن تجدوا من يحل محلي بسهولة.»