المعلم الأول: أرسطو
لو كان أرسطو شخصية خرافية لكانت محاولة اختراعه عبثًا، وما كان أحد ليصدق بوجود مثل هذا الرجل. وحتى مع الوضع في الاعتبار الأعمال المفقودة للعلماء الموسوعيين القدماء كديموقريطس وبعض السفسطائيين؛ فلا يعتقد أحد أن هؤلاء المفكرين حتى لو بذلوا ما في وسعهم ليؤلِّفوا كل الكتب التي تُعْزَى إليهم كان من الممكن أن يحققوا الكثير. ولكن الأمر يختلف بالنسبة لأرسطو، فما تبقَّى من مؤلفاته يناهز مجموعُ كلماته المليون ونصف المليون كلمة، بل هناك ما يحمل على الاعتقاد أن هذا لا يزيد على رُبع ما كتبه، فكثير من كُتُبِهِ التي أُعِدَّتْ للنشر فُقِدَتْ، بما فيها بعض المحاورات التي كُتِبَتْ على شاكلة محاورات أفلاطون، ومع ذلك فإن ما تركَه لنا اليوم جديرٌ بأن يضعه في مكانة لا ينازعه فيها أحد؛ إذ إن أية محاولة للتعبير عن جليل أثره لن تضاهي قدره.
والأعمال التي وصلتنا هي مجموعة من الرسائل التي كان يستخدمها في معهد أبحاث قام بإنشائه في أثينا عام ٣٣٥ قبل الميلاد يُعْرَفُ بالليسيوم، وتضم هذه الرسائل كتبًا تتناول علوم الأخلاق والسياسة النظرية والخطابة والشعر والتاريخ الدستوري واللاهوت والحيوان والأرصاد الجوية والفلك والفيزياء والكيمياء والبحث العلمي والتشريح وأسس الرياضيات واللغة والمنطق الصوري وأساليب الاستنتاج والأغاليط وموضوعات أخرى يَسْهُلُ وصفها فيما بعدُ. وثمة أعمال أخرى لا يُعْرَفُ مؤلفوها الحقيقيون تبحث في «الاقتصاد» (وهو التدبير المنزلي في حقيقة الأمر) والميكانيكا ومجالات أخرى. كما تحتوي رسائل أرسطو على أول معالجة منهجية لما نطلق عليه الآن علوم الاجتماع والسياسة المقارنة وعلم النفس والنقد الأدبي. وما زالت كتبه في السياسة والشعر — علاوة على كتاباته الفلسفية المجردة — تُدْرَسُ حتى اليوم، ولكنَّ ثمة إنجازين من إنجازاته يسموان على جميع إنجازاته الأخرى أصالةً وقوة، وهما: المنطق الصوري الذي ابتكره أرسطو من لا شيء تقريبًا، وعلم الأحياء الذي عُدَّ أكثرَ الباحثين فيه تأثيرًا حتى مجيء داروين.
كان والد أرسطو طبيبًا، وكانت الأحياء هي أول ما انشغل به أرسطو، وخُمُسَ ما وصلنا من أعمال أرسطو يتناول بالوصف الخصائص الفسيولوجية والسلوكية لما يقارب ٥٤٠ نوعًا من أنواع الكائنات، معتمدًا في ذلك على عمليات التشريح التي قام بها وملاحظاته وتحليلاته الخاصة، والتقارير التي قدمها الآخرون. وما أشد الحرج الذي وقع فيه من جاءوا بعده من علماء الحيوان بسبب ما أخذوه من وقت طويل ليضيفوا إلى دراسات أرسطو الدقيقة المُحْكَمَةِ، إلا أنهم كانوا يُخفُون ما وقعوا فيه من حرج بتسليط عدسة النقد على الأخطاء التي كان لزامًا أن تتخلل أعماله. وقد ظلت بعض آرائه عن كيفية إتمام عملية الهضم في الحيوانات المجترة وعن الأجهزة التناسلية في الثدييات دون تغيير حتى القرن السادس عشر، وظلت بعض آرائه حول القلب والأوعية الدموية تُقْبَلُ دون نقاش حتى القرن الثامن عشر، كما أن وصفه لعادات الأخطبوط وحُبَّارِ البحر لم يطرأ عليه تعديل كذلك حتى وقت متأخر.
وكغيره من أعاظم العلماء كان أرسطو أحيانًا يُجانِب الصواب بسبب بعض التعميمات المتسرعة؛ فقد رأى على سبيل المثال أن حشرات النحل العامل لا يمكن أن تكون إناثًا لأنها تقدر على الوخز، و«ليس من شأن الطبيعة أن تجهز الإناث للحرب»، بل قال إن عدد أسنان الرجال يزيد بطبيعة الحال عن عدد أسنان النساء، وهو ما دفع البعض إلى التساؤل لماذا لم يكلف أرسطو نفسه عناء النظر في فَمِ زوجته ليتأكد من صحة رأيه. ولكن يبدو أن شرذمة قليلين من البالغين هم الذين كانوا يستطيعون الاحتفاظ بأسنانهم كاملة في ذلك العهد، ويبدو أن أرسطو جانَبه الصواب كذلك في ملاحظاته عن البقر والثيران والأيائل والظباء التي يمتلك فيها الذكور أسلحة أكثر فاعلية. وبشكل عامٍّ نجد أن نجاحات أرسطو تفوق إخفاقاته بكثير. ويعرض كتاب يؤرخ لعلم الأجنة قائمة بأربعة عشر اكتشافًا من أهم اكتشافات أرسطو في هذا العلم منها أحد عشر اكتشافًا صحيحًا مقابل ثلاثة اكتشافات ثبت خطؤها. هذا بالإضافة إلى أن ثَمَّةَ مسألتين في علم الأحياء كان يُعْتَقَدُ خطأ أرسطو بشأنهما على مدى قرون طويلة (وهاتان المسألتان تتعلقان بأسماك كلب البحر وأحد أنواع سمك الحُبَّار وبعض الأنواع الأخرى)، بيد أنه تأكدت لاحقًا صحة آرائه بشأنهما.
ويختلف المنطق الصوري اختلافًا كبيرًا عن علم الحيوان من حيث استخدام منهج الاستقصاء، فكم من أناس يستمتعون بمشاهدة الحيوانات وملاحظتها بينما لا يجدون في أنفسهم أيَّ ميل للمنطق الصوري إذا ما قُدِّرَ لهم الاطِّلاع عليه، فالمنطق لا ينطوي على أيٍّ من الأوصاف الدقيقة للطبيعة التي كان أرسطو مولعًا بها، ولكنه ينطوي على التصنيف الصارم الذي استخدمه في علم الأحياء. وقد وظف أرسطو هذه المهارة توظيفًا جيدًا في تصنيف الأنواع المختلفة من الاستدلالات المنطقية وتمحيصها، والتي لم يفكر أحد في استخدامها من قبلُ. وقد كان لأبحاث أرسطو المنطقية كل الفضل في تطوير أجهزة الحاسوب الرقمية ولغاته، بعد طريق طويل قطعته في دروب تاريخ علم الرياضيات المتعرج مَرَّتْ فيها بكثير من اللحظات الفارقة والأشخاص ذوي الأطوار الغريبة، كالمتصوف المعتوه الذي أتى من مدينة مايوركا، والذي صمم آلة لإجبار الكافرين على الإيمان بعد أن فشِلت الحملات الصليبية في تحقيق مراميها، إضافة إلى اللعبة اللوحية المملة التي اخترعها لويس كارول. وعندما كتب العالم جون هيرشيل في القرن التاسع عشر أن «الملاحظات التي لا تُجدي على الإطلاق هي دائمًا تلك التي انبثقت منها معظم التطبيقات العملية.» لم يكن يدرك عندها بالتحديد ما قد يكون أهم هذه التطبيقات التي سيتبين فيما بعد أنها تطبيقات المنطق الصوري. لا يخفى على أحدنا ما هي الحواسيب، أما التعريف الدقيق للمنطق فسيأتي شرحه فيما بعد.
قد يكون أرسطو مصدر إعجاب لنا، ولكنه كان بالنسبة للمتعلمين في العصور الوسطى المتأخرة يمثل الماء الذي يشربونه والهواء الذي يستنشقونه؛ فقد ظل التعليم المدني العالي على مدار قرون يقوم على النهل من رسائل أرسطو والتعليق عليها. وعندما استخدم دانتي (١٢٦٥–١٣٢١م) عبارة «المعلم الأول» في «الكوميديا الإلهية» لم تكن ثمة حاجة للإشارة إلى أرسطو بالاسم. وبعد ذلك بأكثر من ٣٠٠ عام كتب ديكارت آسفًا: «كم كان هذا الرجل محظوظًا! فكل ما كتبه سواء أمعن فيه فكره أم لم يُمعنه ينظر إليه الناس اليوم وكأنه وحي نزل من السماء.» ولا يزال أثر أرسطو باقيًا في القرن العشرين ليس بما تبقَّى من مفاهيمه ولكن بما خَلَّفَه من آثار في لغتنا ومن مفاهيم في فكرنا؛ فالمفاهيم التالية على سبيل المثال أخذناها عنه من خلال ترجمتها عن اللاتينية في الغالب: القوة والديناميكا والطاقة والمادة والكيفية والجوهر والفئة.
دعني أقُل لك إن هذه التأمُّلات الستة تحتوي على كل أسس الفيزياء التي وضعتها، ولكن أرجوك لا تخبر أحدًا بذلك؛ فإن هذا من شأنه أن يؤلِّب عَلَيَّ أنصار أرسطو فلا يقبلونها؛ فكلي أمل أن يعتاد القراء تدريجيًّا على آرائي ومبادئي ويدركوا ما فيها من حقائق قبل أن يلاحظوا أنها تقوض مبادئ أرسطو.
كانت ردة الفعل العملية على أرسطو في ذلك الوقت قاسية، وشابتها المغالاة في بعض الأحيان. وقد كتب الشاعر جون درايدن الذي كان يخوض في العلم أحيانًا الأبيات التالية في العام الذي انْتُخِبَ فيه عضوًا بالجمعية الملكية، وهي من أولى المؤسسات الأوروبية التي عملت على التخلُّص من الفكر المدرسي الأرسطي ونشر المعرفة الجديدة فيقول:
كانت كيمياء أرسطو وفيزياؤه وآراؤه في علم الكونيات أول ما سقط سقوطًا مدوِّيًا في القرن السابع عشر على يد جاليليو وبويل وغيرهما؛ فآراء أرسطو العلمية — باستثناء علم الأحياء — قد نُبِذَتْ لا لأنها أخطأت في بعض الجزئيات، ولكن لأنها ضلَّت طريق الصواب، وهذا صحيح. ولكن قدرًا كبيرًا من الذَّمِّ الذي ناله أرسطو كان يُحَمِّلُهُ بغير حَقٍّ خطايا أتباعه الضعفاء الخانعين. وهذا ما نجِده في هجوم فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦م) أحد أبرز الشخصيات في الجمعية الملكية وأحد مَنْ مثلت كتابتهم نقطة انطلاق للثائرين في مجال العلم.
لا يزال بيكون يُوصَف بأنه أحد أنبياء الثورة العلمية على الرغم من أنه كثيرًا ما لم يكُن يَعِي جيدًا ما يتحدث عنه، بل كانت لديه قدرة لافتة على أن يغفل عما يحدث من أمور مهمة. لم يكن بيكون لِيُلاحظَ أي اكتشاف علمي مهم حتى لو حدث أمام عينيه كتفاحة نيوتن الشهيرة. إضافة إلى ذلك غض بيكون طرفه عن إنجازات طبيبه ويليام هارفي الذي اكتشف الدورة الدموية، ونبذ نظرية المغناطيسية التي قدمها شخص معروف لديه هو ويليام جيلبرت قائلًا إنها محض عبث لا فائدة تُرْجَى منه، كما تجاهل كذلك جاليليو وكبلر لأنه لم يُوَفَّقْ في فَهم نظرياتهما الرياضية، فضلًا عن أنه لم يتمكن من فهم كوبرنيكوس. ومع ذلك فقد لعِب دورًا كبيرًا بصفته دعائيًّا في الانقلاب على كلٍّ من أرسطو والفلاسفة المدرسيين.
وقد وجَّه بيكون نقدين أساسيين لأرسطو: أولهما أن فيزياء أرسطو أصابها كثير من المفاهيم الخبيثة الخاطئة والنظريات المشوَّهة، وقد كان بيكون محقًّا في ذلك (رغم أنه لم يُكلِّف نفسه عناءَ تفنيد أيٍّ منها بنفسه)، والآخر أن أرسطو كان دائم التجاهُل للحقائق والازدراء لفكرة الملاحظة نتيجة لالتزامه الأعمى بالنظريات التي وضعها بنفسه. كانت هذه هي أشد الانتقادات التي وجهها بيكون لأرسطو ولكنها تُجافي الصواب تمامًا رغم أنها تتردد على ألسنة هؤلاء الذين لم يعبَئُوا بقراءة ما قاله أرسطو قبل ترديدها.
تبدو هذه هي حقيقة تكاثُر النحل اعتمادًا على الحكم النظري، وما يُعْتَقَدُ أنها حقائق متعارَف عليها في هذا الشأن ولكن لم يؤمن الناس بها حق الإيمان، وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نمنح المصداقية إلى الملاحظة لا إلى النظريات. ويمكن أن نمنح المصداقية إلى النظريات في حالة موافقتها للحقائق الناتجة عن الملاحظة.
وبصفة عامة نجد أرسطو قد كتب في موضع آخر يقول: «يجب أن نتحقق مما قلناه سابقًا ثم نختبر صحته بمقارنته بحقائق الحياة، فإذا ما وجدناه يتفق معها فعلينا إذن أن نقبله، وإذا ما تعارض معها فلا مَفَرَّ من التسليم بأنه محض حديث نظري.» وليست هذه مجرد عبارة توضح نيته بل إنها تشير بدقة إلى المنهج الذي اتبعه أرسطو في أعماله العلمية التي لا تزال موجودة حتى اليوم. والحقَّ نقول إن أرسطو كان يحركه الفضول المتفتح نفسه الذي كان يحرك أعضاء الجمعية الملكية؛ ولكن لأنهم اعتبروا أنفسهم أصحاب فكر ثوري فقد حاولوا أن يقنعوا أنفسهم بغير ذلك. ولم يكن ما يحتاج إلى تعديل هو المناهج التي اتبعها أرسطو بل النتائج التي توصَّل إليها والتي لم يتمكَّن من تعديلها نظرًا لوفاته منذ ألفي عام. وليس خطأَه أن تتحول أفكاره وظنونه إلى عقائد يتبعها أتباعه ومَنْ جاءوا بعده.
وقد أحسن جاليليو فَهم ذلك أفضل من بيكون؛ حيث أقر أن أرسطو «لم يعترف بالتجربة ضمن طرق الوصول إلى نتائج المسائل الفيزيائية فحسب، بل قدمها على غيرها.» ولنأخذ مثلًا مسألة البقع الشمسية، وهي التي كان اكتشافها تقويضًا للصورة التي رسمها أرسطو للعالم (تلك الصورة التي ظلت محل إجلال قبل مجيء جاليليو لأكثر من ألف عام). وقد قال أرسطو: «على مدار العصور التي خلت حتى آخر يوم سَجَّلَتْهُ صحائفنا التاريخية، يبدو أنه لم يطرأ أي تغيير على السماء العليا.» وهو ما يعني أن شيئًا لم يحدث بتاتًا للنجوم. وقد استنتج أرسطو في نهاية المطاف أن الشكل الوحيد للتغيير الذي يمكن ملاحظته خارج الغلاف الجوي للأرض هو الحركة الدائرية المطَّرِدة، وأن هذا ما يفسر التباين الجذري بين عالم الأرض المضطرب وعالم السماء الصافي الهادئ. وقد توافقت هذه الفكرة بشِدَّةٍ مع الأغراض الدينية في العصور الوسطى؛ حيث إن هذا التقسم بين السماء والأرض يتَّسق مع ما جاء به الكتاب المقدَّس. ولكن عندما نظر جاليليو من منظاره ورأى بقعًا شمسية غير منتظِمة الشكل تُدنِّس سطح الشمس؛ أدرك حينها أن السماء ليست بهذه الصورة من الهدوء، وأنها لم تعد ثابتة بأي حال من الأحوال. كما أدرك أن فكرة أرسطو حول الأرض والسماء كانت ستتغير لو أنه «ضَمَّنَ نظريته الدليل الحسي الجديد» ولكان على القساوسة المتفلسفين في العصور الوسطى أن يبحثوا عن نظريات أخرى يعلقون عليها خيالاتهم الدينية. بالطبع لا يمكننا القطع بأن أرسطو كان سيغير رأيه إذا رأى ما رآه جاليليو، ولكن ما من سبب منطقي يدعونا للاعتقاد بأنه كان سيرفض ذلك.
ورغم ذلك فإننا نجِد أنه كان هناك فارق جوهري ثوري بين منهج أرسطو في المعرفة العلمية والمنهج الذي تبنَّاه بيكون، وهو يتمثل في موقف الرجُلين من التكنولوجيا. أما أرسطو فلم تكن لديه أدنى فكرة عن هذا الأمر، حيث كانت معرفة الطبيعة غاية مرغوبًا فيها في حَدِّ ذاتها ولم يكن لها شأن باختراع الأدوات الموفِّرة للجهد. وأما بيكون فكان رسول المجتمع التكنولوجي، ورغم أنه لم يكن منخرطًا في العلم تمام الانخراط إلا أنه كان يظن بشكل من الأشكال أن العلم هو سبيله للوصول إلى مراده؛ فالطبيعة الأم يجب أن تخضع للإنسان وتلبي احتياجاته. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية وتنفيذ هذا المشروع الجديد أكد بيكون على ضرورة إجراء المزيد من التجارب والقيام بالمزيد من الملاحظات المنهجية إلى جانب تعزيز التعاون العلمي. ولم يكن أي من هذه الأشياء جديدًا في حَدِّ ذاته إلا أن جهوده في هذا المضمار مثلت مسارًا إصلاحيًّا في تقاليد العصور الوسطى.
فكر بيكون مليًّا في الطرق التي يمكنه من خلالها إبراز بيانات المسائل التجريبية وتقييمها، ولكن لسوء حظه لم يكُن يُجيد هذا الأمر بنفسه، بيد أن مبادئه كانت صحيحة؛ إذ كانت تحقق النجاح أينما ذهبت. آمن بيكون أنه بطرحه لهذه الأفكار يقدِّم أسلوبًا جديدًا يمكن من خلاله استبدال مبادئ المنهج العلمي الذي دافَع عنه أرسطو. كما آمن بيكون — ككثير من الأجيال التي سبقته — أن أرسطو ينظر إلى العلم على أنه محض اختلاق لمجموعة من المبادئ العامة التي تتَّسم في ظاهرها بالحقيقة، ثم الحصول منها على أكبر قدر من النتائج دون الحاجة إلى الرجوع إلى الحقائق. وانتشرت هذه الشائعة في الوقت الذي كانت فيه أعمال أرسطو الموجودة حينذاك لا تتعدَّى بضعة أجزاء من رسائله في المنطق، كما أنها كانت تعتمد على الفَهم الخاطئ لهذه الرسائل، فما كان يُعْزَى لأرسطو من آراءٍ لم يكن هو ما قاله حقيقة.
وينطبق هذا على العديد من الموضوعات التي كتب أرسطو عنها ولا يزال صحيحًا حتى الآن. على سبيل المثال، يعتقد كثير من دارسي المسرح أن أرسطو يشترط في المسرحية المأساوية الجيدة أن تُراعيَ ما يُسمَّى ﺑ «الوحدات الثلاث» وهي وحدة المكان والزمان والحدث (وهو ما يعني إجمالًا أن العمل ينبغي أن يصوِّر حدثًا رئيسًا واحدًا يقع في مكان واحد ولا يستغرق وقتًا أطول من وقت العرض المسرحي نفسه). وقد وضع هذه القواعد أحدُ النُّقَّاد الإيطاليين في القرن السابع عشر تعليقًا على أرسطو. أما أرسطو نفسه فلم يكُن لِيعلَمَ عن هذه القواعد شيئًا، كما أنه لم يكُن ليعلم الكثير عن قواعد الفلك والفيزياء الغريبة التي فُرِضَتْ عليه. ووفق أحد الأدلة الموضوعة للعامة عن العلوم فإن أرسطو كان يعتقد أن الجنس البشري هو الهدف من وجود الكون بأَسْرِهِ؛ أي إن كل ما هو موجود في الكون قد وُجِدَ لخدمة الإنسان ومن أجله، وهذا خيال محض لا يمتُّ للحقيقة بصلة ولكنه العرف الشائع آنذاك. ويؤكد تاريخ العلم أن أرسطو فسَّر سرعة سقوط الأشياء بقوله إن الجسم الهابط لأسفل «يتحرك سعيدًا مسرورًا كل دقيقة لأنه وجد نفسه يقترب من هدفه.» وثَمَّةَ العديد من الأمور الغريبة عند أرسطو، ولكن هذا ليس واحدًا منها؛ إذ إنه قدم تفسيرًا ميكانيكيًّا لمسألة التسارع ولكنه غير صحيح. والخلاصة أن التشويهات والأوصاف السيئة التي قد تُطْلَقُ على أرسطو يمكن أن تطول وتطول.
إذا كان الجميع يفهمون شخصًا ما خطأً بشكل دائم؛ فإن ذلك عادة يرجع إلى خلل في هذا الشخص. وقد يُعْزَى ذلك إلى تشوُّش كتاباته أو تناقضها أو ضعف صياغتها أو إلى كل ذلك. ولا تخلو رسائل أرسطو تمامًا من أيٍّ من هذه المثالب، ولكن عذره الأوجه لعادة التفسيرات الغريبة التي استمرت طويلًا يكمُن في أن كتاباته لم تكن مُعَدَّةً للنشر وأن ترجماتها (التي عادة ما تُنْقَلُ عن تراجم عربية أو لغات أخرى) تتابع ظهورها في أشكال ملتبسة. وكان من الصعب في كثير من الأحيان أن تفهم بعض الأجزاء دون وضعها في السياق العام. بَيْدَ أن هذا لا يُسوِّغ كذلك ما يقوله الناس حتى اليوم من كلام غريب عن أرسطو. وعلى أية حال فهذه عاقبة الشهرة الهائلة والتأثير البالغ اللذين يحدَّان من الاهتمام بقراءة ما تكتبه بالفعل.
•••
وُلِدَ «المعلم الأول» — الذي كان كثيرًا ما كان يُسَمَّى ﺑ «الفيلسوف» في أواخر العصور الوسطى — في مكان خامل بمدينة ستاجيرا المغمورة الواقعة شمال اليونان عام ٣٨٤ق.م. وكان والده طبيبًا بالبلاط الملكي للملك أيمنتاس الثاني ملك مقدونيا. ولو لم يُقَدَّرْ لوالد أرسطو أن يفارق الحياة في سِنٍّ صغيرة لاستأنف أرسطو مزاولة مهنة العائلة وأصبح هو نفسه طبيبًا، ولكن نظرًا لتغيُّر الظروف انتقل أرسطو إلى أثينا وهو في السابعة عشرة ليلتحق بأكاديمية أفلاطون التي ظَلَّ بها طَوال العشرين عامًا التالية. ورغم أنه يبدو من الوهلة الأولى تابعًا متحمسًا لأفلاطون؛ فقد خالفه في كثير من آرائه فيما بعدُ. ويُزعَم أنه قال: «أفلاطون من المقربين إليَّ ولكن الحقيقة أقرب.» ولعلَّ رغبة أفلاطون في أن يَخلفَه طالب أكثر تمسكًا بآرائه من أرسطو كانت السبب في تجاوز الأخير عندما احتاجت الأكاديمية لرئيس يَخلفُ أفلاطون بعد وفاته عام ٣٤٧ق.م. لتَئُول في النهاية إلى سبوسيبوس ابن أخي أفلاطون. وبعد ذلك غادر أرسطو أثينا ومكث بعيدًا لاثني عشرَ عامًا. ثم يسَّرت له روابطه الأسرية الحصول على وظيفة المعلم الخاص للإسكندر الأكبر عام ٣٤٣ق.م. ولم يكُن الإسكندر حينها عظيمًا بل كان صبيًّا في الثالثة عشرة من عمره. وقد أنجز أرسطو معظم ملاحظاته الميدانية في علم الأحياء خلال هذه الفترة من التَّرحال. ويقال إنه بعد تنصيب الإسكندر ملكًا استخدم نفوذه في مساعدة معلمه أرسطو في الحصول على عيِّنات للكائنات الموجودة، فيقول: «لقد أُعْطِيَتِ الأوامر لبضعة آلاف من الرجال بآسيا الصغرى واليونان لضمان إطْلاع … (أرسطو) على أي كائن جديد يُولَدُ في أية منطقة.» وفي عام ٣٣٥ق.م. — أي بعد تولِّي الإسكندر مقاليد الحكم بعام واحد — آبَ أرسطو إلى أثينا وأنشأ معهد الليسيوم بينما شرع تلميذه السابق في فتوحاته. وظل بعدها أرسطو لمدة ثلاثين عامًا مقيمًا بأثينا يزاول التدريس والإشراف على الأبحاث ويكتب رسائله.
وعندما توفي الإسكندر عام ٣٢٣ق.م. وقع تمرد في أثينا ضد حكومة مقدونيا حيث كانت أثينا مثلها مثل باقي المدن الأخرى ترضَخ للحكم المقدوني خلال عصر الإسكندر الأكبر. ولُفِّقَتْ لأرسطو الذي كان على علاقة طيبة بالنظام المقدوني تهمةُ الخيانة فغادر أثينا قبل أن يُحَاكَمَ. ويقال إن أرسطو لم يشأ أن «يُلوِّثَ أهلُ أثينا أنفسهم مرة أخرى بدماء الفلسفة» بعد ما حدث لسقراط. وقد توفي بعدها بعام في منفاه.
•••
لا يسهل اليوم قراءة أعمال أرسطو إلا قليلًا، بيد أن أسلوبَه المنهجي يبقى عصريًّا بصورة تبعث على الاندهاش عند مقارنته بكتابات أيٍّ من الفلاسفة الإغريق الأوائل؛ فهو يبدو في كتاباته كما لو كان أستاذًا جامعيًّا من عصرنا هذا. وليس هذا من قبيل المصادفة؛ فالأكاديميون في عصرنا هذا ينحدرون من سلسلة طويلة من الأكاديميين الذين ساروا على دربه واقتفَوْا أثره، وآية ذلك أنَّه يبدأ عادة بتعريف موضوع دراسته ويحدد بدقة الأسئلةَ التي سيعمل على حَلِّهَا ثم يعمد إلى الإجابات القديمة على هذه الأسئلة ويعمل على تفكيكها وتبسيطها، ويزن الأقوال المعارِضة لها ويحدِّد الفوارق حتى يُزيل الغموض واللبس عن الأمور، ثم يدلي بدلوه في المسائل التي تبقَى دون حلول أو إجابات، ويضع لها بعض الإجابات والتفسيرات من عنده، ويوضح حدود كل مسألة ويربطها ببعض تفسيراته لمسائل أخرى، ثم يلخصها في النهاية. وقد يكون من الصعب متابعة الموضوعات والمسائل التي تعج بها صفحات كتبه، ولكن ما يهون الأمر هو أن القارئ دائمًا ما يكون على دراية بما يسعى إليه أرسطو.
كان أرسطو يخوض دروب المعرفة كلها بنفسٍ يملؤها التفاؤل في أن يحوز المعرفة ويجني ثمارها، ولم يكن لديه من الوقت ما يضيِّعه مع مَنْ يقرون بأنهم من أتباع مذهب الشكوكية، الذين قالوا إن المرء يجب أن يُحجم عن إصدار الأحكام لأن الحقيقة أمر لا سبيل للوصول إليه، فقال: «كل الناس يتوقون للمعرفة بطبيعتهم.» ولم يراوده الشك في أن يأتي اليوم الذي تتحقق فيه هذه الغاية وتُلَبَّى هذه الرغبة، وكان يؤمن أن الناس «ينزعون بفطرتهم لمعرفة الحقيقة وعادةً ما يصلون إليها.»
ورغم هذا فإن أرسطو لم يكن راضيًا عن الطريقة التي بحث بها أسلافه من الفلاسفة عن الحقيقة، فعادة ما كانوا يطرحون أسئلة خاطئة ومختلفة ما كان لهم أن يشغلوا أنفسهم بها. ويرى أرسطو أن ثمة أربعة أمور رئيسة يجب على المرء أن يشغَل بها نفسه حيال أي شيء وأن تبقى مميزة؛ أولها: ما المادة التي يُصْنَعُ منها الشيء؟ وثانيها: ما صورة الشيء (أي تركيبه)؟ وثالثها: ما الغرض منه؟ وأخيرًا: ما الذي أخرجه للحياة أو أدَّى إلى تغييره؟ ولا يتوافق مع الفكرة المعاصرة عن «العلة» إلا السؤال الأخير، إلا أنه يُشار إلى الأسئلة الأربعة مجتمعةً ﺑ «علل أرسطو الأربع» وهي العلل المادية والصورية والغائية والفاعلة على التوالي. ولتوضيح هذه العلل الأربع نضرب مثالًا بالمنزل؛ فعلته المادية هي أشياء مثل قوالب الطوب والأسمنت والأخشاب والحجارة، وعلته الصورية هي كيفية ترتيب هذه المكونات لتناسب تصميمًا شاملًا معينًا، وعلته الغائية (أو الغرض) هي توفير مأوًى للناس، وعلته الفاعلة هي عامل البناء. ويمكن تطبيق هذا المخطط الرباعي على الظواهر الطبيعية كافَّةً ولا يقتصر على المصنوعات اليدوية فحسب.
ويرى أرسطو أن الفلاسفة الأوائل قد أَوْلَوْا جُلَّ اهتمامهم للعِلَل المادية دون غيرها، فكلما حاولوا تفسير ظاهرةٍ ما يذكرون ببساطة مادتهم المفضلة كالماء أو الهواء أو النار أو غير ذلك، ثم لا يعرفون ما يتعيَّن عليهم فعله بعد ذلك؛ ولهذا لم يُحَصِّلُوا الكثير. ويرجع السبب وراء فقر التفسيرات القديمة في مسألتي العقل والنفس إلى أن الفلاسفة الأوائل شغلوا أنفسهم بالبحث عن المادة التي صُنِعَا منها.
وعلى العكس من ذلك نجِد أن الفيثاغوريين لم يُولُوا المادة اهتمامًا كبيرًا، وقد توصَّلوا لإجابات تخص مسألة الشكل، فتوصلوا خصوصًا إلى معرفة كيفية استخدام الأفكار الرياضية في تفسير بنية الأشياء وتكوينها، متجاهلين في ذلك العلل المادية. وهذا يفسر وَلَعهم الشديد بتفسير جميع الظواهر والأشياء على أنها محض أرقام. وإن كان مجهودهم هذا أمر يُذْكَرُ فَيُشْكَرُ إلا أنه يبدو أنهم لم يدركوا أهمية اكتشاف المادة التي صُنِعَتْ منها الأشياء (أي اكتشاف العلل المادية). وهذا يبين لنا أهمية الأخذ بالعِلل الأربع وعدم الاستغراق المفرط في واحدة دون غيرها.
وكما قال أرسطو، من أهم المآخذ على فكر الفلاسفة الأوائل — لا سيما ديموقريطس — إغفالهم أهمية العلل الغائية أو الأغراض. فقد أجاب ديموقريطس على جميع الأسئلة الخاصة بالعِلَلِ المادية والصورية والفاعلة بالحديث عن ذَرَّاتٍ متغايرة الشكل تتحرَّك في الفراغ. مِمَّ تتكون الأشياء؟ من الذَّرَّات. كيف تكتسب صورها؟ ليس هناك غير الذَّرَّات. ما الذي يجعلها تتحرك أو تتغير؟ ذرات أخرى. وقد رفض ديموقريطس الحديث عن أية غايات، وهذا خطأ كبير من وجهة نظر أرسطو؛ إذ إن تجاهل الحديث عن الغاية أو العلة من وجود شيءٍ ما ووظيفته يعني الإخفاق في تفسير كثير مما يتعلق به. وهنا ندرك حِدَّة شعور عالم أحياء مثل أرسطو بهذا النقص. وإلا فكيف يمكن تعليل وجود أجزاء النباتات وأعضاء الحيوانات إلا ببيان الوظائف التي تؤديها.
أما أفلاطون فلم يرتكب خطأ ديموقريطس بتجاهُل العلل الغائية؛ فقد رأينا كيف يؤكِّد على أهمية الدور الذي يلعبه الغرض في الطبيعة للدرجة التي جعلته يقول إن صانعًا ماهرًا ينظم الظواهر جميعها. ولكن أرسطو يرى أنه على الرغم من الأهمية الكبيرة التي أَوْلاها أفلاطون للعِلَل الغائية فقد تخبَّط عند الحديث عن العلل الصورية؛ فقد انبثقت نظرية أفلاطون الخاصة بالمُثُلِ من تشوُّش في معرفة كُنْهِ الصورة، فكما رأينا يعتقد أفلاطون أن صورة شيء ما (كصورة منضدة مثلًا أو شيء جميل) هي كيان غير مادي لا يرتبط حتمًا بمنضدة معينة أو شيء جميل محدد، فحقيقة أن السرير مثلًا يتكوَّن من مجموعة من المواد يمكن تفسيرُها على أن هذا السرير نسخة غير مثالية من شكل السرير. وينطبق الأمر نفسه على الأشياء الجميلة، فأفلاطون يُصرِّح على لسان «سقراط» أن الشيء الجميل «يبدو جميلًا لأنه يقتسم جزءًا من هذا الجمال المطلق لا لشيء آخر.» أما أرسطو فقد حال تفكيره الواقعي دون اقتناعه بهذا الكلام، حيث كتب يقول إن التسليم بوجود هذه المُثُلِ أو الأشياء المطلقة «حديث مجرد لا فائدة منه»؛ إذ لا يفسر كل شيء. ولهذا السبب ولأسباب أخرى رفض أرسطو القول إنه لا يجب النظر إلى شكل شيء ما على أنه شيء منفصل يتَّحد معه بطريقة ما؛ ذلك أن الشكل ما هو إلا سمة من سمات هذا الشيء أو مظهر من مظاهره وليس شيئًا مستقلًّا في حَدِّ ذاته.
وقد استغل أرسطو هذه الفكرة الخاصة بالشكل ليقدم نظرية جديدة تتحدث عن علاقة الجسد بالرُّوح؛ فهو لم يؤمِنْ بأن الروح طيف يسكن الجسد مؤقتًا كما كان معروفًا في العقيدة الأورفية التي اعتنقها أفلاطون، بل اعتقد أن ترتيب الخصائص الجسدية هو المسئول عن حياة الإنسان وهو ما يساعده على الفهم والإدراك؛ أي إنه لن تكون لك رُوح ما لم يكُن لك جسد منظَّم يعمل بطريقة خاصة. فمن ناحية نرى أن أرسطو كان يؤمِن بالمادية لأنَّه أنكر أن ما يمنح الإنسان الحياة ويجعله بشرًا هو وجود أيِّ شيء غير المادة؛ فالمادة هي المسئولة عن الحياة ولا شيء سواها. ومن ناحية أخرى نجِد أنه لم يخطُر ببال أرسطو أن تكون الإجابة على السؤال «ما هي الروح؟» هي ببساطة «كتلة من اللحم»، فلو فعل ذلك لكرر الخطأ الذي وقع فيه الفلاسفة الأوائل كطاليس مثلًا الذي لم يفرق بين الشكل والمادة. ويقع الحديث عن امتلاك الإنسان رُوحًا في نطاق الحديث عن الشكل؛ ومن ثَمَّ فإن السؤال عن المادة التي تتكون منها الروح يحيد بنا عن جادة الصواب. وبالمثل يقول أرسطو: «يمكننا أن ندع التفكير في مسألةٍ ما إذا كان الجسد والروح كيانًا واحدًا أو لم يكونا؛ لأن ذلك يشبه التساؤل عمَّا إذا كانت قطعة الشمع وشكلها شيئًا واحدًا أم لا.»
بيد أننا نعثر على أثر لأفكار أفلاطون بين طيات فكر أرسطو في مسألة الرُّوح، فأفلاطون كان يظن أن الناس يحملون قبسًا إلهيًّا بداخلهم وُجِدَ فيهم قبل أن يُولَدُوا وسيبقى بعد فَنائهم. ويرتبط هذا القَبَسُ (أو الروح) بشكل من الأشكال بملَكة التفكير التي رأينا كيف تتحكم بطريقة ما في سير الكون كله وفي حياة الإنسان السعيد صاحب الفضيلة في الفلسفة الأفلاطونية. وقد قال أرسطو أيضًا إن العقل هو أفضل ما يميزنا، فقد أَقَرَّ في كتاباته الأخلاقية أن استخدام ملَكة العقل يمهد الطريق للسعادة القصوى. وهذا حديثٌ لا غبار عليه، ولكنه قال أيضًا إن العقل هو الجزء الخالد من الرُّوح. فكيف لنا أن نقنع بهذا؟ وبما أن أرسطو يعتقد أن الرُّوح ليست إلا شكل الجسد فإن هذا يقتضي القول إنها لم تكُن موجودة قبل الجسد ولن توجد بعده؛ فالرُّوح لا بد وأن تفنى بفناء الجسد تمامًا كما يضيع الشكل المرسوم على قطعة الشمع بذوبان مادتها، وبذلك فإن خلود العقل مهما بلغ لا يمكن بحال من الأحوال أن يفضي إلى خلود الشخص. ونحن لا نعرف على وجه اليقين السبب الذي دفع أرسطو إلى الاعتقاد بخُلُود العقل. ولا يمكننا أن نفسِّر ذلك إلا من خلال القول إنها كانت فكرة أفلاطونية كامنة فيه.
وليست هذه سوى واحدة من نقاط كثيرة تظهر فيها أصداء عقيدة المعلم في كتابات تلميذه؛ فرغم رفض أرسطو لفكرة أفلاطون القائلة إن الواقع مقسم إلى عالَمَيْنِ أحدهما دنِيٌّ تملؤه الأشياء المادية العادية، والآخر علوي تعمره المُثُلُ المجردة فلا نزال نرى في كتابات أرسطو انعكاسًا لهذه الفكرة الأفلاطونية القديمة؛ فإن سماء أرسطو تظهر وكأنها أثر من سماء عالم المُثُلِ الأفلاطوني الذي لا نراه، فعندما يتحدث أرسطو عن «الاهتمام الأسمى بالأمور السماوية التي هي موضوع الفلسفة العليا» فقد نعتقد للوهلة الأولى أنه يتحدث عن علم الفلك، ولكنها تبدو وكأنها ترانيم أفلاطون التي يمدح فيها عالم مُثُلِهِ الذي من المفترض أن يدرسه الفلاسفة التابعون له.
وغالبًا ما تستهل أشهر الكتب المعاصرة التي تتناول دراسة الفضاء حديثها بمناقشة الأجرام السماوية. وعادة ما يُظْهِرُ كُتَّابُهَا الخشوعَ أمام عِظَمِ الكون حال مقارنته بما يحيط بنا من بيئة متواضعة. أما أرسطو فلم يكُن عِظَمُ الكون واتساعه هو السبب وراء إثارة دهشته بل كماله وإحكامه؛ فقد كان يعتبر الفلك أسمى من أن يكون فرعًا من فروع العلم؛ ذلك أن الأجرام السماوية (فيما عدا كوكب الأرض والشهب والمذنَّبات) منتظمة الحركة وتتسم بالكمال والثبات والأزلية، وهي بذلك تحظى بقدر من القداسة الإلهية. وهذا ما جعلها لا تُشبه الأشياء التي تقع دراستها في نطاق فروع العلم الأخرى التي تقِل أهمية عنها كعلم الأحياء والميكانيكا الأرضية. فالأشياء الثابتة المستقرة التي لا تتغير كانت في مرتبة أعلى على مقياس الكمال الكوني. وكان التفكير من منطلق هذا النطاق تفكيرًا أرسطيًّا بحتًا حيث كان أرسطو يصب جُلَّ اهتمامه وتركيزه على اكتشاف الطبقات، فإذا ما تُرِكَ بمفرده مع بعض الأحجار الفكرية مثلًا قام عقلُه المولع بالتصنيف بوضع هذه الأحجار في شكل هرم، وكان في الأخير يجِد حجرًا يتميز عن باقي الأحجار ليضعه على قمة الهرم. ويقع الإنسان على قمة هرم الكائنات الحية الفانية، ويقع العقل على قمة هرم السِّمات العقلية، وتقع الأجرام السماوية الثابتة على قِمَّةِ هرم الفيزياء.
أن بعض المواد التي تشكلت بفعل الطبيعة لم تنشأ من العدم، ولا تفنى، وتتمتع بالخلود الأبدي، بينما بعض المواد الأخرى تسري عليها قوانين النشوء والفناء. ويتمتع النوع الأول من الموادِّ بالسُّمُوِّ والقداسة، ولا يمكن معرفة الكثير عنه. كما أن الدلائل التي قد تساعد على معرفة شيءٍ عنه تقع في نطاق الحس والشعور وعلى نحو غير كافٍ. أما فيما يخُص النباتات والحيوانات الفانية فلدينا قدر وافر من المعلومات عنها؛ فهي تعيش مثلنا في عالمها الخاص، ويمكن جمع الكثير من المعلومات عن أنواعها المختلفة إذا كانت لدينا الرغبة والعزم … فمعرفتنا بالمخلوقات الأرضية تتسم باليقين وكمال المعرفة.
وقد سعى أرسطو وتلاميذه في معهد الليسيوم بكل جهدهم لاستغلال هذه الفرصة؛ بجمع المعلومات الكثيرة المتوفرة عن المخلوقات الأرضية وتصنيفها ومحاولة شرحها، ليس في مجال الأحياء فحسب بل في كل مضمار كان من الممكن فيه إشباع «الرغبة الطبيعية للمعرفة لدى الإنسان.» وفضلًا عن نشاطهم العلمي قاموا بتجميع تفاصيل ١٥٨ دستورًا سياسيًّا وقاموا بعمل مجموعات من الكتب عن عادات البربر ومعتقداتهم وتجميع التقاويم الرياضية (التي كانت من طرق تسجيل التاريخ المهمة في ذلك العصر) بالإضافة إلى كُتُبٍ في تاريخ الفلسفة وسجلات العروض المسرحية والموسيقية. وقد اشتهر أرسطو كذلك بجمع الكتب، فيبدو أن معهد الليسيوم كان يحتوي على مخططات تشريحية لجسم الإنسان وخرائط وربما عينات بيولوجية شكلت جزءًا من مكتبته.
ويوضِّح مدح أرسطو لمجال دراسته المفضل وهو علم الحيوان الفرقَ الجوهري بينه وبين أفلاطون؛ فقد كان أفلاطون يرى العالم الدنيوي من حوله بعين التشاؤم بحيث لا يحوي كل شيء حوله بين دفَّتيه المعاييرَ التي حددتها المُثُلُ العليا. وكانت مهمة الفيلسوف أن يُقنع الناس بهذه الحقيقة المحبِطة وبالسمو فوق هذا العالم ولو في عقولهم على الأقل، وأن يحببهم في المُثُلِ بدلًا منه. أما أرسطو فقد كان متفائلًا، فبينما كان أفلاطون يحاول الهروب من الكهف المظلم الذي تقبع فيه الحقيقة المادية بحثًا عن عالم أرقى وأسمى، كان أرسطو يرى أن هذا الكهف ليس بهذا السوء إذا ما أضاءته المصابيح، وخاصة إذا ما شرعت في تشريح الحيوانات داخله. فالجمال الذي كان يرومُه أفلاطون في المُثُلِ غير الواقعية التي لا وجود لها في عالمنا كان أرسطو يراه في كل شيء حوله.
ولذلك كان أصغر الأشياء والكائنات في نظر أرسطو يستحق الدراسة؛ ذلك أن «كل شيء فيها سيكشف لنا عن جانب رائع من جوانب الطبيعة.» وما أثار أرسطو هو أن «غياب العشوائية وكَوْن كل شيء يقود إلى غاية يشيع في الطبيعة شيوعًا جِد كبير.» وكان أرسطو يقصد ﺑ «كَوْن كل شيء يقود إلى غاية» أن كل شيء في العالم مُعَدٌّ للعمل لتحقيق غاية محددة، وهذه النقطة يمكن تفسيرها في ضوء نظريته عن «العلل الغائية». فأجزاء العين على سبيل المثال تتكاتف وتتَّحد لتنتج لنا الرؤية، وبذلك تكون الرؤية هي العلة الغائية أو الغرض من العين؛ إذ تقوم أجزاؤها بعملها من أجل تحقيق الرؤية، وهذا هو المدخل لفهم هذه الأجزاء ومعرفتها كما يقول أرسطو. فالأسود لديها أنياب حادة لِتُجْهِزَ على فريستها وتُقَطِّعَ لحمها، وجذور النباتات تمتد لأسفل وليس لأعلَى بحثًا عن الرُّطوبة وهكذا. وقد أقر أرسطو أنه لا يمكن وصف كل ما في العالم الطبيعي بهذه الطريقة؛ فبعض الأشياء لا توجد لغرض بعينه وإنما وُجِدَتْ على حالتها تلك بالصدفة دون أي سبب.
لماذا لا تعمل الطبيعة فحسب بالطريقة نفسها التي تمطر بها السماء دون غرض أو سبب ودون أن يكون ذلك هو الأفضل؟ فالآلهة لا تُنْزِلُ المطر من السماء من أجل إنبات الذُّرَة في الأرض، وإنما يهطل المطر نتيجة لضرورة معينة؛ فالبخار الذي يرتفع لأعلى يبرُد وبمجرد برودته يتحول إلى ماء ثم يسقط مرة أخرى على الأرض. أما نمو الذُّرَة في هذه الحالة فهو محض صدفة. إذن لماذا لا يمكننا أن ننظر من المنطلق نفسه لباقي أجزاء الطبيعة؟ لماذا علينا أن نعتقد أن أسناننا على سبيل المثال برزت لضرورة ما؟ ولماذا لا نقول إنه من قبيل الصدفة المحضة أن صارت أسناننا الأمامية مثلًا حادَّةً ومناسبة من أجل التقطيع، وضروسنا كبيرة وملائمة من أجل مضغ الطعام؟
ولكن أرسطو رفض هذا التفسير البديل واصفًا إياه بأنه بعيد الاحتمال بدرجة كبيرة، وفي ذلك يقول: «لأن الأسنان وجميع الأشياء الأخرى الموجودة بالطبيعة قد وُجِدَتْ بطريقةٍ ما، ولا يمكن أن تكون هذه الطريقة هي نتاج الصدفة أو التلقائية.» وقد يحدث مصادفة أن تُولَدَ بعض المخلوقات بسِمَاتٍ أفضل لا تتوافر لغيرها، ولكن ليس إلى هذا المدى ولا بهذا الانتظام الثابت الذي لا يتغير. ولو كانت الصدفة هي المسئولة عن وجود الأسنان مُحْكَمَةِ الصُّنع على سبيل المثال لكانت هناك أسنان كثيرة أخرى سيئة الصنع ولا حاجة لها. وإذا نظر الإنسان حوله فلن يجد مثالًا على هذا التنوُّع العشوائي.
وقد كان أرسطو محقًّا فيما ذهب إليه؛ إذ ليس من قبيل الصدفة أن توجد الطبيعة على هذا القدر من الإحكام، فعلى سبيل المثال يعتبر تمكين الأسنان الحادة الأسود من الصيد والأكل جزءًا من سبب وجودها. وهذا هو ما كان يرمي إليه أرسطو؛ فقد كان على يقين من أن مبدأ النفع يلعب دورًا كبيرًا في التفسيرات البيولوجية رغم أنه لم يكن يُدرك السبب الحقيقي وراء هذا المبدأ؛ لأنه لم يكن يعرف شيئًا عن نظرية الانتخاب الطبيعي لداروين. ففي مثال الأسود نجد أن أرسطو قد فاته معرفة أن الأُسود ذات الأسنان الحادة ستحظى بحياة أفضل على حساب سائر الأسود الأخرى وستنتشر بشكل أكبر منها؛ ذلك أن الأسود التي ستأتي فيما بعدُ ستكون هي سليلة الأسود الأوفر حظًّا ومن ثَمَّ سيكون لها أسنان كأسنانها. وبوضع هذه التفاصيل المهمة التي ذكرها داروين في الحسبان يمكننا أن ندرك أن هذه الأسنان التي تُسْتَخْدَمُ لتحقيق هدفٍ بعينه تساعد على تفسير وجود الأسود اليومَ بمثل هذه الأسنان. وبهذا نرى أن أرسطو كان يسير في الطريق الصحيح ولكن بخطوات متعسِّرة.
ولا تغنينا تفاصيل داروين عن العلل الغائية لدى أرسطو، بل على العكس فالآلية التي تعمل وَفقًا لها نظرية الانتخاب الطبيعي توضح كيف تنطوي الطبيعة على العلل الغائية لا أن تستغني عنها. وقد طمست هذه الحقيقة عن طريق الاستخدامات الدينية واستخدامات مَنْ يسعَوْن لإعاقة تحقيق أي تقدُّم لمصطلح أرسطو العلماني والبسيط للعلل الغائية. وفي الحقيقة توضح نظرية الانتخاب الطبيعي أنه ليس من المهم أو الضروري أن يعتقد الناس في وجود إله أو وجود آلية مبهمة أو عقل واعٍ في الطبيعة البيولوجية لنتمكن من تفسير كيفية عملها. ولم تتضمن العلل الغائية التي تحدَّث عنها أرسطو أيًّا من هذه الأمور؛ ولذلك قام اللاحقون من رجال اللاهوت من أتباع أرسطو باستحضار هذه الأشياء مستعينين في ذلك بفكر أفلاطون، وإن كان لهذا حديث آخر. وقد بذل أرسطو ما في وُسعه لتوضيح أنه حين قال إن الخصائص الوظيفية للنباتات أو الحيوانات «تخدم» هدفًا بعينه أو غرضًا محددًا لم يكن يعني بذلك وجود تخطيط واعٍ لا على مستوى الكائن نفسه ولا على مستوى الإله أو الطبيعة المتجسدة. أما بيكون وكثيرون آخرون فقد قالوا إن العلل الغائية التي قال بها أرسطو ليست إلا أكوامًا من قمامة يجب التخلص منها قبل أن يشق أيٌّ من العلوم الناضجة طريقه. وقد يصح هذا الكلام إذا ما قصدنا به بعض العلل الغائية التي نسبها إلى أرسطو زُورًا بعضُ أتباعه، وهي مزاعم لا شأن لأرسطو نفسه بها.
ولكي ندرك ما كان أرسطو يعنيه بالعلل الغائية، علينا أن ندرك نطاقها الذي حدده لها؛ فقد قال إن تفسير الأمور على أساس الغرض منها لا يتخذ إلا ثلاثة أشكال: أولها الأفعال الذكية للكائنات الحية كأنْ يطارد حيوان فريسته ليأكلها، أو أن يمشي الإنسان لعمل بعض التمرينات؛ فالحيوان كان يسعى للحصول على الطعام والإنسان كان يسعى وراء الهواء، وهذه أسباب ما أَتَوْا من أفعال. ولا خلاف على هذا النوع من «الأغراض» أو «العلل الغائية» ولا على النوع الثاني الذي يشمل المصنوعات كالبيت. ويرجع السبب في حديثنا عن العلل الغائية أو الغرض في شرح الدافع وراء بناء سقف للبيت إلى أن الشخص الذي بناه كان يقصد شيئًا من وراء ذلك، مَثَلُهُ كمَثَل الحيوان المفترس أو من يعتني بصحته؛ إذ إن لكلٍّ منهم خطة لما يفعل وغرض منه، فربما بنى البيت بهذه الطريقة ليقيه من المطر على سبيل المثال، وفي هذه الحالة يمكننا القول إن «الغاية» من بناء السقف هي حماية السُّكَّان من المطر، وهذه حقيقة لا لبس فيها. أما النوع الثالث من العلل الغائية فهو ذلك الذي تعج به كتابات أرسطو في علم الأحياء ويشمل تفسير بعض خصائص الكائنات الحية التي تقوم ببعض الوظائف المفيدة لهذه الكائنات، مثل النظام المعقَّد الموجود بالعين أو شكل الأسنان أو النظام الغذائي بالنباتات. وكما أكد أرسطو يكمُن الفارق الكبير بين هذا النوع والنوعين السابقين من العِلَل في أنه لا ينطوي على أيِّ نشاط عقلي؛ أي ليس ثمة هدف محدَّد يبتغيه الكائن الحي. ورغم هذا فإن العيون والأسنان والجذور تؤدي وظيفة في الكائنات التي هي جزء منها، حتى وإن كان هذا الهدف لا يمثل جزءًا من خطة واعية، ولا يمكنك فَهم الطريقة التي تعمل بها ما لم تفهم الوظيفة التي تؤديها. وهذا ما أدركه أرسطو فجعل يتحدَّث عن العلل الغائية في تفسيراته البيولوجية، كما أنه لم يتوصَّل إلى سبب وجود أجزاء العين وسبب عملها «من أجل تحقيق الرؤية».
ولا ينبغي أن يُضِلَّنَا مصطلح العلل «الغائية» ويقودنا إلى الاعتقاد أن أرسطو قصد اعتبارها مطلقة بأي حال من الأحوال، حيث كانت هذه العلل تمثل له أجمل ما يمكن إدراكه من علل، إلا أنه لم يَكُن ليعتقد أنه بمجرد التوصل إلى العلة الغائية لظاهرةٍ ما يصير كل شيء آخرَ بلا قيمة. فلا يزال ثمة أشياء أخرى قيد الاستقصاء مثل «العلل» بالمعنى الحديث للكلمة؛ أي الظروف السابقة التي أدت إلى نشأتها. ولم يكن أرسطو يسعى لإلغاء هذه العلل «الفاعلة» ليستبدل بها العلل الغائية، كما لم تكن علله الغائية مطلقة بمعنى أنها توضِّح النظام العام الذي يسير الكون وفقًا له، فكثير من المفكرين اللاحقين قد اعتقدوا أن الرب خلق الكون من أجل الإنسان ونفعه، وأنه دبر أمور الكون بما يحقق مصلحة المخلوقات الأثيرة لديه؛ فقد خلق الرب بعض أنواع النباتات والحيوانات على سبيل المثال لكي يأكلها الإنسان (وقد قال أحد رجال الكنيسة عام ١٨٣٦م إن الرب قد وضع الفحم في الأرض ليُحرقه الإنسان في النهاية). ولكن مثل هذه الأفكار لم تكن مألوفة لدى أرسطو؛ إذ لم يَرَ أي رابط بين الأنواع المختلفة في الكون، إضافة إلى أن الرب لدى أرسطو لم يكن ليعبأ بالإنسان ولا ليلقي له بالًا كما سنرى. ونادرًا ما يُسهِب أرسطو في الحديث عن هذه الأفكار الغريبة بطريقةٍ قد تلتمس لها الأعذار وتؤيد صحتها إلى حَدٍّ ما، فأحيانًا يتحدث عن الطبيعة كما لو كانت مخلوقًا ذكيًّا قام بتصميم الآليات المذهلة لعلم الأحياء، ولكن السياق العام للأفكار يبين لنا أنه كان يستخدم المجاز كما يفعل بعض علماء الأحياء هذه الأيام. ولو فُسِّرَتْ هذه الأفكار حرفيًّا لما توافقت مع مجمل أفكاره بالمرة. بيد أن أرسطو قد أَقَرَّ مصادفةً ذات مرة أن النباتات «وُجِدَتْ من أجل» الحيوانات وأن الحيوانات وُجِدَتْ من أجل الإنسان، ولكن السياق العام يوضح مرة أخرى أنه لم يقصد سوى أن نوعًا ما من الأحياء قد يستغِل نوعًا آخر باتخاذه طعامًا على سبيل المثال.
ومحصلة ذلك أنه عندما رفض المفكرون أصحاب الثورة العلمية في القرن السابع عشر الكون الذي تفسره الأغراض والذي قال به سلفهم في العصور الوسطى؛ فإنهم لم يتخلصوا بذلك من أرسطو وأفكاره، بل على العكس كانوا يرجعون إليهما، فعندما قال ديكارت: «إننى أرى أن البحث المألوف عن علل غائية في مجال الفيزياء هو أمر لا طائل منه.» لم يكن يعارض أرسطو وأفكاره رغم أنه كان يظن ذلك. وفي علم الأحياء لم يكن حديث أرسطو بأن بعض الأشياء قد وُجِدَتْ «من أجل» غيرها أكثر غموضًا من اقتناعه بأن البحث عن وظائف الأشياء وتنظيمها يحمل متعة أكبر من البحث الجاف في المادة التي تتكون منها، والذي كان الشغل الشاغل لعلماء الطبيعة الأوائل.
ما إن ننقي أرسطو وأفكاره ممَّا علق بهما من شوائب «المذهب الأرسطي» في العصور الوسطى (بل وبعد ذلك بقليل) نرى أن قدرًا ضئيلًا جدًّا من أفكاره حول غائية الطبيعة لا يتوافق إلا مع طرق التفكير العلمي المعاصرة فيما عدا أمرًا واحدًا فقط، وهو أمر شديد الأهمية إلا أن غرابته تتعلق بفكرة أرسطو حول الأحياء والجمادات أكثر من تعلُّقها بفكرة الغايات والأغراض؛ فقد كان أرسطو يعتقد أن حركة بعض الأجرام السماوية على الأقل يمكن أن تُفَسَّرَ في إطار نظرية الغائية؛ أي الرغبة في التقرُّب للرب، وعن ذلك يقول دانتي في الأسطُر الأخيرة من «الكوميديا الإلهية»: إن «الحب هو الذي يُسَيِّرُ الشمس والنجوم الأخرى.» ويبدو هذا أمرًا مضحكًا على خلاف ما أراد دانتي، فَأَنَّى للحب أن يحرك نجمًا! وتبدو هذه الفكرة للوهلة الأولى وكأنها تطيح بكل ما ذكره أرسطو من أشياءَ محسوسة عن العلل الغائية، كما أنها تعزِّز النظرة التقليدية لأرسطو على أنه شخص يتبنَّى رؤية غامضة للطبيعة يُفَسَّرُ فيها سلوك الأجسام الفيزيائية البسيطة كسقوط حجر مثلًا في إطار رغبة هذا الشيء وأهدافه. والحقَّ نقول إن ما كتبه أرسطو عن حركة الأجرام السماوية يُعَدُّ من أكبر الأسباب التي أدت إلى شيوع هذا التفسير.
ويقدم هذا التفسير صورة مغلوطة على أية حال، فالحقيقة الجلية هي أن أرسطو كان يعامل النجوم والكواكب معاملة الحيوانات لا معاملة الأحجار؛ فهي في نظره تتمتع بالحياة على خلاف الأحجار، وما دامت تتمتع بالحياة فإن لها نصيبًا من النشاط العقلي. وبناءً على هذه الفكرة (وإن كانت غريبة بالنسبة لنا فإنها تبقى أقلَّ غرابة إذا كانت فكرة الألوهية لديك تشمَل النجوم بطريقة طبيعية كما هو الحال مع قدماء الإغريق) فليس غريبًا أن يقول إن النجوم والكواكب تحرِّكها النوازع والرغبات، فالحب الذي يحرك النجوم يشبه الشهوة التي تحرِّك الحيوانات نحو فرائسها، فحركات النجوم تتأثر بحبها للرب كما تتأثر حركات الناس بمن يحبون من أقرانهم من البشر. ومهما كانت الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى مثل هذه الفكرة فإن ما يقوله أرسطو عن الأجرام السماوية يتَّفق على الأقل مع باقي تفسيراته المحكمة للعلل الغائية.
إلا أننا قد نتساءل عما دفع أرسطو إلى الحديث عن حياة الحب التي تحياها النجوم. وهنا نجد أن أرسطو كثيرًا ما يذكر أن النتائج المتعلقة بالمسائل الفلكية عادةً ما تكون غير مؤكَّدة، وهو الجانب المؤقت فيها. ولعل ما دفعه إلى اعتناق هذه الأفكار حول الرب والحب والنجوم هو باقي آرائه الفيزيائية لا سيما ما اعتبره آراءً قوية عن طبيعة الحركة والتغير. وقد كانت فكرة الحب الذي يحرك النجوم محض نتيجة لم يدرك كيف يتفاداها بعد أن حصر نفسه في زاوية ضيقة.
ويرجع السبب في جزء من ذلك إلى أن أرسطو هو مَنْ أراد أن يحصر نفسه في تلك الزاوية؛ حيث رأى أن الفكرة الغامضة التي تقول بوجود رَبٍّ يساهم فيما يقوم به الكون من نشاطات أو يتدخل في طبيعته، كانت معتقدًا واسع الانتشار اعتبره الناس آنذاك أحد الحقائق المقبولة، وكان على العلماء الحقيقيين تفسيره، وكذلك فإن الاعتقاد السائد آنذاك بأن السماء على قيد الحياة كان لا يقبل الشك. وقد كان ضربًا من المستحيل أن نصدق أن الجميع كانوا مخطئين بخصوص هذه الأفكار. فإذا ذهبت أفضل النظريات الفيزيائية التي يمكنه التوصل إليها إلى أمرٍ ما وكان الإله الذي توصَّلوا إليه أدنى مرتبةً كالكائنات ذات المراتب العُلَى — وهو ما يتوافق مع أفكار أرسطو الدينية — إذن لكان من الأفضل أن يأخذ بالآراء كلها. إلا أن ثَمَّة قسطًا من أفكاره الفيزيائية أصابها قَدْرٌ من التشوُّه بسبب محاولات أرسطو لتوسيع هذه الأفكار لتصل إلى الاستنتاجات اللاهوتية المُقَدَّرَةِ سلفًا، ولكن هذا لا يسري على كثير من أفكاره. وبصفة عامة نجِد أن الصورة التي رسمها أرسطو عن العالم تتلاءم أجزاؤها بشكل محكَم ودقيق؛ مما يفسر سر ذيوعها وانتشارها بهذه الطريقة. وسنعرض الآن للنقاط العامة التي تمثل إطار صورته وصولًا إلى المحطة الرومانسية الأخيرة في أفكاره حول السماء.
•••
كانت الفيزياء في مفهوم أرسطو هي دراسة التغير، وكانت مهمتها الرئيسة الوصول إلى طريق وسط بين أفكار بارمنيدس الساذجة التي أنكر فيها حدوث التغيُّر من الأساس وأفكار هرقليطس الذي رأى أن ليس هناك سوى التغير. وللوصول إلى تفسير وسط بين هذين الرأيين المتطرفين عاد أرسطو إلى جذور القضية لينظر في كُنْهِ «التغير» ويبحث في ماهيته، وتوصل إلى أنه ينطوي على ثلاثة أمور وهي: الشيء الذي يتغير، والحالة التي يتغير إليها، والحالة التي يتغير منها. ولنضرب مثالًا بإناء من الماء البارد يتعرض للحرارة؛ فلدينا إناء الماء ولدينا حالة البرودة وحالة الحرارة، والتغيُّر هو تحول الماء من الحالة الأولى إلى الثانية. إلا أن التغيُّر لا يحدث دومًا على شاكلة هذا المثال؛ فقد لا تحتوي حالات التغيُّر على الخصائص الملموسة كالبرودة والحرارة، فبالإضافة إلى تغيُّر الخصائص ثمة تغيُّرات في المكان (أي الحركة) والحجم (أي النمو أو النقصان) والمادة (أي النشوء والفناء أو الميلاد والموت). وفي نوع من أنواع التغيُّر نجد العناصر الثلاثة المذكورة آنفًا وهي وجود الشيء الذي يتغير والحالات التي يوجد عليها قبل التغيُّر وبعده.
وقد استفاد أرسطو من ذلك كثيرًا في تطوير أفكاره بالبناء على أفكار هرقليطس. لقد أسهب هرقليطس وأطنب في الحديث عن حدوث التغيُّر في كل مكان، ولكنه لم يَقُلْ من الكلام القَيِّمِ عن سبب هذا التغيُّر إلا قليلًا (كما رأينا في مثال إناء الماء المذكور آنفًا). وهذا التجاهل من جانب هرقليطس لأسباب التغيُّر يشبه في غرابته اختفاء قطة شيشاير التي ذكرها لويس كارول والتي تركت ابتسامتها حاضرة بعد اختفاء وجهها بوقت طويل، ولا يمكن التبسُّم دون وجود وجه يتبسم. وبالمِثل يقتضي التغيُّر وجود شيء متغيِّر، ويظل هذا الشيء المتغير ثابتًا بطريقةٍ ما خلال عملية التغير، وهو ما يعني أن التغير يتضمن شكلًا من أشكال الثبات؛ فعند تغير درجة حرارة إناء الماء فإنه يَظَلُّ رغم ذلك إناءَ ماءٍ. ويستدعي ذلك أن التغير المستمر — أي الغياب التام — لا يمكن أن يكون أساس الطبيعة بالطريقة التي قال بها هرقليطس؛ لأن هذا ببساطة يعني وجود ابتسامة القطة دون وجود القطة نفسها.
ولا ينطوي التغيُّر على فكرة الثبات فحسب، بل على مفهوم الاحتمالية كذلك؛ ذلك أن هناك حدودًا لعملية التغيُّر، فالبذرة قد تتحول إلى نبات وليس إلى تمثال، وهي في هذه الحالة نبات محتمل وليست تمثالًا محتملًا. وبشكل عامٍّ عندما تتغير المادة من حالة إلى أخرى فإن هذا يعني أن الحالة المحتملة أصبحت حالة حقيقية. وهذه الأفكار المتعارف عليها حاليًّا والتي تتعلق بالاحتمالية والحقيقة هي من بنات أفكار أرسطو، وقد شكَّلت الأساس الذي اعتمد عليه في الرد على أفكار بارمنيدس. لقد اعتقد بارمنيدس لغير سببٍ أن الموجود لا يمكن أن يأتي من العدم وأن هذه الاستحالة هي التي كان مفهوم «التغيُّر» (الذي كان مدعاة للسخرية آنذاك) ينطوي عليها، ولكن أرسطو اعتقد أن الحديث عن الوجود والعدم أمر يكتنفه الغموض والإبهام. وما ينطوي عليه التغير هو تحوُّل من الاحتمالية إلى الحقيقة. ومن خلال هذه الفكرة فقط يمكننا أن نفهم بطريقةٍ واضحة ودون أية إشكاليات أن الأمر كان تحوُّلًا من العدم إلى الوجود؛ فالماء (في المثال السابق) كان من المحتمل أن يكون ساخنًا ثم تحول إلى الحالة الساخنة بالفعل، والبذرة كان من المحتمل أن تكون شجرة ثم تحولت إلى شجرة بالفعل. وبهذا فليس ثمة غموض ينافي المنطق في هذه الفكرة.
وبعد أن أوضح أرسطو مفهوم التغيُّر وأكسبه احترامًا على المستوى الفكري أخذ ينظر إلى العوامل المادية الداخلة في صُلب القضية عن كثب. فما هي الأشياء المادية التي يصيبها التغيُّر؟ ولم تقنعه في هذا الشأن ذرات ديموقريطس وليوكيبوس؛ لأن المادة لديهما كانت قابلة للانقسام إلى ما لا نهاية (أو كذلك قال أرسطو)، وهو ما يعني أنه لا توجد تلك الجزئيات المطلقة. أما ذرات أفلاطون الهندسية فقد كانت أسوأ من ذلك؛ فهي أشياء مجردة لا تتصف بالمادية ولم يكن لها أن تقبع تحت مظلة هذا الجانب من علم الفيزياء، فمجالها هو الرياضيات البحتة؛ ولذلك قرر أرسطو العودة إلى «الأضداد» التي تحدَّث عنها أهل ملطية كالساخن والبارد والرطب والجاف، وهذه على ما يبدو هي الخصائص التي تدخل في جميع عمليات التغير التي تحدث على الأرض وفي الجو، وهي أشياء على الأقل يمكن أن يتعاطى الإنسان معها.
كانت الثنائيات الأربع لهذه الخصائص تجسيدًا للعناصر الأربعة لدى إمبيدوكليس: النار (الساخن والجاف)، والماء (البارد والرطب)، والتراب (البارد والجاف)، والهواء (الساخن والرطب). يرى إمبيدوكليس أن جميع الأشياء المعروفة في عالمنا بما فيها الكائنات الحية تتكوَّن من مزيج من هذه العناصر الأربعة وأن كل شيء يعمل تبعًا لخصائص العناصر الغالبة على تكوينِه. وعلى عكس عناصر إمبيدوكليس يتميز كل عنصر من عناصر أرسطو بالقدرة على التحوُّل إلى أيٍّ من العناصر الأخرى عندما تخلط العناصر الأساسية الأربعة؛ فمثلًا عند تجفيف الأشياء الرطبة تبرُد الأشياء الساخنة وهكذا. وكان هذا هو أحد الأسباب التي ساعدت على ازدهار علم الكيمياء في العصور الوسطى، حيث لم يذكر أرسطو شيئًا يستبعد احتمال تحوُّل المعادن الخسيسة إلى ذهب إذا كانت الظروف مواتية، إلا أن أرسطو لم يكُن يروم من دراسة الفيزياء تحقيق الثراء والغِنَى، بل أراد تفسير طريقة عمل الظواهر الطبيعية وحسب. وكانت حرارة الشمس هي المحرِّك الرئيس لعملية التغيُّر التي تصيب التحوُّلات المختلفة للعناصر، وهو ما مَثَّلَ أُولى الحبات في عقد التغيُّر الذي صهر كل شيء آخر في أتون وأحدث التفاعل بين الأضداد الأربعة.
وكان للقياس دور ضئيل في هذا النظام الفيزيائي، وهو السبب الرئيس وراء وصوله إلى طريق مسدود. فاستخدام أرسطو لعناصره الأربعة في تفسير الأشياء كان يؤتي ثمارًا طيبة في بعض الأحيان، ولكنه كان دائمًا ما يصِل به إلى طريق مسدود. وقد تناول المُطْلَقات في المقام الأول مثل: «الحرارة والبرودة» و«الارتفاع والانخفاض» و«الثقل والخفة» وهكذا في حين أنه لم يهتم بالمواد القابلة للقياس بالدرجات، وتمسُّكه بهذه المُطْلَقات جعل من المستحيل أن تخرج مفاهيمه حول الخصائص الفيزيائية دقيقةً من الناحية العلمية. وتصل كتب أرسطو في الفيزياء إلى أَوْجِ عظمتها وعطائها عندما تتناول مفاهيم الزمان والمكان والحركة والأزلية، والتي تُقَدِّمُ بعض الحلول لمفارقات زينون. وقد كانت هذه المجالات الأكثر تجرُّدًا للتناول والمعالجة الرياضية بشكل جزئي على الأقل، فما ذكره أرسطو في تفسير الديناميكا على سبيل المثال يُقَدِّمُ أول القوانين الكَمِّيَّة التي حاولت الربط بين العوامل التي تَحْكُمُ سرعة الأشياء المتحركة، ولكن اتَّضَحَ خطأ هذه النتائج كما هو معروف، وهذا يعود في الأغلب إلى اعتماد أرسطو الكبير على المعلومات التي تَحَصَّلَ عليها من الملاحظة البدهية دون أن يلجأ للمعاجلة المثالية بشكل كافٍ، كما فعل نيوتن ووجد فيها ضالته (مثل الحركة التي لا يتولد عنها الاحتكاك في الفراغ التام).
ويرجع فشل أرسطو في تحقيق طفرة خيالية أو حتى أي إنجاز على شاكلة ما حقَّقه نيوتن وجاليليو في الميكانيكا بشكل كبير إلى رغبته في ملازمة جانب الحقائق المعروفة أكثر من غَضِّ الطرف عنها كما فعل نُقَّادُ القرن السابع عشر. فلم يدرك أرسطو على سبيل المثال أن نظريةً كاملة عن الحركة كانت تتطلب منه بشكل إيجابي أن يتخلى عن بعض البدهيات التي ربما تكون مُضلِّلة حتى يتمكن من صياغة قوانين دقيقة ومحكمة. كما أن عزوفه عن القيام بتجاربَ معقدة في مجال الفيزياء يرجع أيضًا إلى رغبته في الثقة في الظواهر لا إلى كسله أو الرضا بما توصَّل إليه من نظريات (وهو ما قد يبدو غريبًا على آذاننا هذه الأيام)، فكان أرسطو يعتبر وظيفة «الفيلسوف الطبيعي» هي التوصُّل إلى ما تفعله الأشياء بشكل طبيعي؛ إذ يرى أن التدخل في عمل الطبيعة بوضع شِرَاكٍ لها كما يفعل العلماء المعاصرون إنما هو تحايل عليها يؤدي إلى اختلاط عناصرها، وهي أمور من شأنها أن تؤدِّي إلى تغيير صورة الطبيعة لا إلى كشف النقاب عنها؛ فالتشريح في علم الأحياء شيء قائم بذاته ولكن التجارب المصطَنَعة لا تؤدي إلا إلى تشويه الطريقة التي تسير عليها نواميس الطبيعة.
وهنا نَجِدُ أن معالجة أرسطو لمسألة الحركة تُعَدُّ مثالًا جَيِّدًا لمذهبه السلبي واهتمامه البالغ بكل ما هو طبيعي؛ فعندما تأمَّلَ أرسطو الطبيعة من حوله بدا له أن ثمة نوعين من الحركة: حركة طبيعية وحركة قسرية. ولكل عنصر طريقته الخاصة في الحركة الطبيعية والتي تُعْرَفُ بالاتجاه الذي يسلكه حال تحرُّرِه وإطلاق العِنان له؛ فالتراب والماء يتحرَّكان بشكل طبيعي نحو مركز الكون الذي يقع في منتصف كوكبنا، أما الهواء والنار فيميلان بطبيعتيهما إلى الحركة في الاتجاه المعاكس، وهذا ما يُفَسِّرُ سقوط التفاحة (التي يغلب التراب على مكوِّناتها) إلى الأسفل عندما ينكسر الجِذع المُمسك بها، في حين أن ألسنة النار تتجه إلى الأعلى بسرعة. ويفسر ذلك أيضًا خاصيتي الثقل والخفة؛ فالأشياء الثقيلة هي تلك التي يغلب التراب والماء على تكوينها؛ ومن ثَمَّ فهي تنزع إلى الحركة نحو الأسفل، أما الأشياء الخفيفة فتميل إلى الحركة نحو الأعلى نظرًا لتكوينها المختلف. وكذلك يفسر نزوع الأشياء الثقيلة إلى التحرُّك نحو مركز الأرض لماذا تبدو الأرض كروية لا مسطحة. وقد كان أرسطو يدرك أن الأرض كروية الشكل، واستنتج ذلك من عدة ملاحظات منها مثلًا أن الأرض تظلل القمر بظل مُنْحَنٍ. وقد قدمت نظرية الحركة الطبيعية تفسيرًا قويًّا لتلك الظاهرة، فبما أن المادة الثقيلة قد تجمَّعت من جميع الأماكن في هذه النقطة دون غيرها (لأنها مركز الكون) فإن هذه المادة قد تكتلت حول المركز من كل اتِّجَاهٍ بشكل متساوٍ حتى كوَّنت الشكل الكُرَوِيَّ الحالِيَّ، أما الماء فلم يَكُنْ لينزِع للهبوط لأسفل كما هو الحال مع التراب، وكذلك الهواء لم يَكُنْ ليتحرك لأعلى بشدة مثل النار؛ ولذلك فقد تَجَمَّعَ الماء على سطح الأرض (مكوِّنًا المحيطات) وتحرك الهواء نحو الغلاف الجوي السفلي وتحركت النار لأعلى. وبهذه الطريقة استقر كل شيء في مكانه الطبيعي.
لا يعني هذا أن كل شيء ظَلَّ في مكانه الطبيعي دائمًا، أو أنه لم يتحرك إلى هذا المكان قط؛ ذلك أن العالم مزدحمٌ ومعقَّد ويعج بالأمور والأشياء التي من شأنها أن تتدخل في الحركة الطبيعية للأشياء. وقد تدعم الأشياء الثقيلة بعضها بعضًا فيَحُول ذلك دون تحرُّكها نحو مركز الأرض، أو قد يرتفع بعض الهواء بعد تسخينه حاملًا معه بعض أوراق الأشجار لبعض الوقت؛ وبذلك فهو يقاوم رغبتها الطبيعية في السقوط بإجبارها على الحركة في اتجاه معاكس. ومن الأشياء التي قد تتدخل في عمل الحركة الطبيعة كذلك الكائنات الحية كالإنسان مثلًا؛ فقد يلتقط أحدنا تفاحة ويُلقي بها إلى الأعلى على سبيل المثال فارضًا عليها حركةً معينة. وبالطريقة نفسِها يمكن لأحدنا أن يُخمِدَ ألسنة اللهب التي تَنْدَفِعُ بطبيعتها إلى الأعلى. ولا مفر من أن الكائنات الحية كانت تخضع للحركات الطبيعية والقسرية كما هو الحال مع الأجسام المادية كافَّة، ولكن كثيرًا منها لديها القدرة على تحريك نفسها، وهذه القدرة هي التي تُميِّزُ الحياة الحيوانية عن غيرها؛ فعلامات وجود الحياة كما يراها أرسطو هي التغذية والتكاثُر والإحساس والقدرة على الحركة والتنقل والرغبة والقدرة على التخيُّل والعقل. وكلما زادت حصيلة الكائن من هذه الخصائص أو الصفات ارتفعت مكانَتُه في سُلَّمِ الطبيعة. ولا يجمع بين جُلِّ هذه الصفات إلا الإنسان، وهذا ما يجعل حياته أرقَى أساليب الحياة على سطح الأرض. وتستطيع جميع الكائنات التي تعلو النباتات في المكانة تحريك نفسها، وهذه الحركات التي تأتي بها يمكن تفسيرها في إطار نظرية العِلَلِ الغائية؛ فهي تحدث دائمًا «من أجل» شيءٍ ما، فالكائنات تتحرك من أجل تلبية احتياجاتها وإشباع رغباتها بدافع من الإحساس وأيضًا بدافع من الخيال والفكر (إذا كانت تتمتع بهما) كي تهتدي إلى الطريق. وبشكل عامٍّ لا يتحرك شيء إلا بسبب شيء آخر؛ فأشكال الحياة العليا تحركها رغباتها، بينما باقي الأشياء تدفع حركتها أشياء خارجية.
وقد يتوهم القارئ للوهلة الأولى أن هذه الفكرة تهدي أرسطو إلى طريق الرَّبِّ، فإذا كانت كل الجمادات تحركها قوًى خارجية أفلا يستلزم هذا أن يكون ثمة عِلَّةٌ أولى استهلت كل ذلك؟ ولكن كان لأرسطو رأي آخر؛ فقد كان يعتقد في أزلية الكون ولذلك لم يكُن هناك أي شيء أَوَّلِي. كان هذا هو أحد جوانب فكر أرسطو الذي أثار حفيظة الفلاسفة المسيحيين واليهود والمسلمين في العصور الوسطى؛ فقد كان أرسطو يعتقد في وجود رَبٍّ ضعيف لا يتمتع بصفات الألوهية؛ فليس هو مَنْ خلق العالم أو بدأ ما فيه من حركات. وقد حاول فريق من فلاسفة العصور الوسطى — على رأسهم توماس الأكويني (١٢٢٥–١٢٧٥م) الذي أصبحت آراؤه كاثوليكية خالصة — أن يُثنوا أرسطو عن هذا الاعتقاد ويُثبِتوا وجود الرب الذي هو العلة الأولى والذي خلق كل شيء وحَبَاهُ الحركة، ولكن الطُّرُقَ التي سلكها أرسطو إلى الرَّبِّ ليست مباشرة بالمرة. ولنتمكن من الوقوف على أبسط هذه الطرق ينبغي لنا معاينة النصف الثاني من الصورة التي رسمها للعالم وهو الجزء الذي يتعلَّق بالسموات، وبالأخص نوع حركتها.
وكما أشرنا سابقًا تعجَّب أرسطو من أن أحدًا قبله لم يلتفِتْ إلى حدوث أي تغيُّر يُذْكَرُ في السماء؛ فلم يلحظوا إلا أنوارًا لا يُرَى آخرُها وأجسامًا بعيدة. وقد كان بمقدور المرء أن يدرك بنفسه أن السماء تتميز بحركة دائرية موحدة، أو هكذا اعتقد أرسطو. وقد كانت هذه حقيقة بارزة تحتاج لتفسير؛ لأن الدوران الموحَّد لم يَبْدُ سمةً طبيعية لأيٍّ من الموجودات على الأرض؛ فالعناصر الأرضية وكل ما يتكون منها تسير في خطوط مستقيمة ما لم يعترضْ طريقها عائقٌ يُجبِرُها على الارتداد أو التحرُّك في اتجاه معاكس؛ ولذلك رأى أرسطو أن هذا يقتضي وجود نوع خامس من المادة (أو «الجوهر» كما سُمِّي فيما بعدُ) يتحرك بشكل طبيعي في حركة دائرية، وهو ما يفسر اختلاف الحركة بين الأجرام السماوية والأشياء الأرضية؛ ذلك أنها مصنوعة من نوع مختلف من المادة. وكان أرسطو يُطلِق أحيانًا على هذه المادة اسم «الأثير» وهو مصطلح كان يُطْلَقُ على المادة النارية التي تكوَّنت منها النجوم والكواكب كما كان الاعتقاد السائد قديمًا.
ودائمًا ما تُطِلُّ فكرة الرب برأسها لا سيَّما عند التفكير في السر الكامن وراء حركة هذه الأجرام السماوية. وتوضِّح الفرضية التي تقول بوجود المادة الخامسة التي تتحرَّك بشكل دائري سَبَبَ تحرُّكها بهذا الشكل الدائري بدلًا من التحرُّك في خطوط مستقيمة، ولكنها لا تُبَيِّنُ السَّبَبَ وراء حركة هذه الأجرام وعدم سكونها. وحتى إن كانت هذه الأجرام أزليَّةَ الحركة كما اعتقد أرسطو؛ فلا يُغنِينَا ذلك عن النظر في الأسباب التي تؤدِّي إلى حركتها. وقد رأى أرسطو أن الحديث عن وجود أية قوة مادية عادية تدفعها للحركة هو ضرب من المستحيل؛ فهذا الشيء ليس لديه من القوة ما يُمَكِّنُهُ من الحفاظ على الحركة إلى الأبد. بالإضافة إلى ذلك كان أرسطو يرى أن ثَمَّةَ مشكلة أكبر من كل ذلك؛ فأيًّا ما كان الشيء الذي يحرك الأجرام السماوية فلا بد وأن يكون ساكنًا وإلا لكان علينا البحث عن شيء آخر يكون مسئولًا بدوره عن حركة هذا الشيء. ولن نَصِلَ إلى أصل الموضوع أبدًا؛ فحركة الأرض يمكن أن نعزوَها إلى تأثير حركة الأجرام السماوية (من خلال حرارة الشمس التي صهرت الأشياء وخلطتها على سبيل المثال) ولكن لا بد من الوصول إلى الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة. ويستتبع ذلك أن ما يُحَرِّكُ السموات لا يتحرك؛ أي إنه مُحَرِّكٌ لا يتحرك. ثم شرع أرسطو بعد ذلك في البحث في طبيعة عمل هذا الشيء.
وهنا تتبادر إلى الأذهان فكرة تَحَرُّكِ الحيوانات بدافع أهدافها وغاياتها، فإذا رأى أسد حمارًا وحشيًّا وأراد أن يلتهمه فإن الحمار الوحشي في هذه الحالة يُعَدُّ دَافِعَ حركة الأسد ولو لم يتحرك (وفي الواقع فإن الأسد يفضل أن يقبع الحمار الوحشي في مكانه دون حراك)؛ ومن ثَمَّ فإن الشيء المرغوب فيه هنا يقوم بدور المحرِّك الذي لا يتحرك، وهو ما يوضح كيف لنا أن نحل مشكلة الأجرام السماوية. فإذا كان لهذه الأجرام رغبات أو شيء من هذا القبيل إذن فالشيء المرغوب فيه يكون الدافع لحركتها، كما أن هذه الرغبات ستكون علة غائية بالمعنى الذي حدَّده لها أرسطو وليست علة فاعلة، وستكون هي الهدف من الحركة لا الدافع الذي بدأها، وقد تكون ساكنةً في نفسها. وهذا يفسر لنا بطريقة مُحْكَمَةٍ كيف لشيء أن يُسَبِّبَ الحركة الأزلية للأجرام السماوية دون إثارة سلسلة طويلة من الأسئلة عمَّا يحرك المحرك. وقد يساعد هذا كذلك في الوقوف على البذور الأولى لفكرة أن الأجرام السماوية كائناتٌ حية. لقد انتهى العديد من الأفكار بأرسطو إلى أن أي محرك سماوي لا يتحرك يجب أن يكون بسيطًا لا يتغير إذا كان يريد أن يؤدِّي وظيفته على أتمِّ وجه. كما قدم أرسطو براهين قوية تُبيِّن كيف يجِب أن يتمتع هذا المحرك بالأزلية وألَّا يكون له شكل أو حجم معينان. ولأن السموات تتَّسم بالكمال والإحكام؛ فإن نوع الرغبة الذي يمكن العثور عليه سيكون رغبة فكرية مفعمة بالحب ولا يشبه رغبة الأسد في التهام الحمار الوحشي. وبصفة عامة نَجِدُ أن المحرِّك الذي لا يتحرك الذي تحدَّث عنه أرسطو يُشبِهُ فكرة الرَّبِّ في كثير من الأمور.
كان أرسطو أحيانًا يُغَيِّرُ رأيه بخصوص بعض التفاصيل الخاصة بهذه المسألة، فيقول أحيانًا إن النجوم والكواكب هي التي ترغب في المحرك الذي لا يتحرك، ثم نجده في النهاية يخلص إلى أن الرغبة لا تنبع من النجوم وإنما من «السماء الخارجية»؛ أي الفلك الشفاف العملاق الذي تكمُن فيه أبعد النجوم، كما كان يعتقد سائر الرُّوَّاد من الفلكيين اليونانيين. وقد كان هذا الفلك يدور لأن رغبته تُحرِّكه نحو المحرك الذي لا يتحرك حاملًا النجوم حوله. ثم تنتقل حركة هذا الفلك المرصَّع بالنجوم بشكل آلِيٍّ إلى مجموعة من الكواكب متَّحِدة المركز بداخله والتي تحمل جميع الأجرام السماوية الأخرى (ولكلِّ كوكب فلكه إلى جانب بعض الأفلاك المتوسطة). فالمنظومة كُلُّهَا تعمَل كالساعة التي تملأ نفسها لأنها حية تحرِّكها رغبة تَسْتَعِرُ داخلها؛ ومن هنا تأتي فكرة «الحب الذي يحرك النجوم». وعندما أراد أرسطو أن يطوِّر بعض النِّقَاط الصغرى في الفكرة التي طرحها، اقترح وجود عَدَدٍ كبير من المحرِّكات التي لا تتحرك لكي يجد تفسيرًا للحركة الفلكية الملحوظة، بيدَ أن هذا كان أبعدَ ما يكون عن اليقين. وأما ما كان متأكدًا منه إلى حَدٍّ كبير فهو أن حركة السماء الخارجية تتطلَّب محركًا لا يتحرك يكون أعلى مقامًا، وأن الشيء الفلكي الغامض المرغوب فيه يفسر لنا حقيقة المعتقَد القديم في وجود كبير للآلهة.
نحن نفترض أن الآلهة أسمى من المخلوقات جميعًا تَحيا حياةً مباركة هانئة، ولكن ما هو شكل العمل الذي نوكِّله إليهم؟ أهو إقامة العدل؟ ألن تبدو الآلهة في موقف سيئ إذا وقعت العهود وأعادت الودائع؟ أم أن عملهم يتمثَّل في الشجاعة والإقدام على اقتحام المخاطر والأهوال بدافع من النبل أو غيره؟ أم أن عملهم يتمثَّل في تصريف الحرية؟ ولمن سيَهَبُونها؟ سيكون الأمر غريبًا إذا امتلكوا أموالًا أو شيئًا من هذا القبيل … وإذا استعرضنا هذه الأمور كلها فسنجد أن ظروف ما يقومون به من أعمال إنما هي ظروف وضيعة لا تليق بهم، ورغم ذلك فإن الجميع يعتقِد في حياتهم وبالتالي في نشاطهم، ولا يَسَعُنَا أن نزعُمَ أنهم نائمون مثل إنديميون. وبعد هذا لنا أن نسأل: إذا كانت الآلهة قد أخذت العمل والتكاثُر من الكائنات الحية فماذا تبقَّى لها غير التأمل والتفكير؟
يتكون نشاط الإله الذي يحرك السماء الخارجية من خلال إلهامها بالحب من التأمُّل الفكري في المقام الأول، وهو النشاط الأنقى للعقل والذي يُعَدُّ أفضل شيء في الوجود. والإله لا يفكِّر إلا في ذاته، ما لم يكن ثمة شيء آخر يستحق التفكير فيه إذا كنت إلهًا.
وهذا الصرح العظيم الذي يقوم على خليط من الأفكار الفيزيائية واللاهوتية يمثل للعقول الحديثة أمرًا عبثيًّا أيما عبث. ولكن أرسطو سيعود إلى الإطراء بلا ريب، فلو افترضنا اقتناع أرسطو بما توصَّلنا إليه في الفيزياء الحديثة وعلم الفلك لما اقتنع أبدًا بإله الإنجيل أو القرآن، فما كان ليُضيع لحظة في التفكير في وجود كائنٍ قام ذات صباح بخلق الكون من العدم، ثم طفق يحدد الثواب والعقاب لسُكَّان الكون البائسين؛ إذ هو يرى أن آلهة الأساطير القديمة لم تكن سوى خيال صبياني، وما كانت فكرة جمع الآلهة في إله واحد ووضع جميع صفاتهم في شخصه لِتُحْدِثَ فارقًا كبيرًا لديه.
ولا يتطلب الأمر أن يكون المرء متعصبًا لأحد الآلهة حتى يكتشف الفجوات الواسعة التي عابت فكرة أرسطو حول المحرِّك الذي لا يتحرك؛ فالتشبيه بين الرغبات المحفِّزة للحيوانات والإنسان من جانب والأجرام السماوية من جانب آخر تبدو غير مقنعة بالمرة. والأسوأ من ذلك أنها لا تستتبع أن ما ترغب فيه الأجرام السماوية ليس موجودًا من الأساس، فقد يظن الأسد وجود حمار وحشي في أجمة بالقرب منه فيقفز عليه ثم يكتشف أنه لم يكن هناك أي شيء، وفي هذه الحالة يُعَدُّ الحمارُ الوحشي المُتَوَهَّم هو العلة الغائية لحركة الأسد، فالأسد قفز «من أجل» الحصول على الحمار الوحشي الذي ظن وجوده، إذن فالحمار الوحشي هو غاية هذه الحركة وهدفها رغم عدم وجوده في الحقيقة. ولربما كانت الأجرام السماوية قد خُدِعَتْ هي الأخرى بالطريقة نفسها؛ إذ ربما تتحرك هذه الأجرام بدافع الحب للمحرِّك الذي لا يتحرك والذي قد يكون محض خيال، وبهذا تسقط حجة أرسطو في وجود الإله لأنه لا يمكنه أن يتجاهل هذا الاحتمال.
وقد كان لأرسطو غير سبب جعله يؤمن بوجود المحرِّك الذي لا يتحرك بالشكل ومن ثم قد لا يكون للنقد السابق أثر عليه. ولتوضيح ذلك دَعُونا ننظرْ في المثال الآتي: ليس للزمن بداية ولا نهاية؛ لأن هذا يعني وجود زمن قبله وآخر بعده، وهذا بالطبع هراء لا فائدة منه؛ ومن ثَمَّ فإن الزمن لا بد وأن يكون أبديًّا، ومن ثَمَّ يصبح التغيُّر أبديًّا هو أيضًا لأن الزمن ببساطة هو إحدى طرق قياس التغيُّر، ومن ثَمَّ أيضًا لا يمكن الحديث عن فترة من الوقت لا يحدث بها أي نوع من التغيُّر. ويدَّعي أرسطو أنه إذا افترضنا صحة هذه الفكرة فلا بد من وجود شيءٍ يضمن دوام التغيُّر واستمراره. وفي هذا الصدد قدم أرسطو أسبابًا للاعتقاد أنه لا يضمن ذلك سوى كيان غير مادي يتمتَّع بالأزلية والكمال المطلق، وأن هذا الكيان لا يمكن أن ينشغل طوال أزليته بسوى التأمل الفكري؛ وبهذا نجد أن أرسطو قد شَقَّ طريقًا آخر نحو الإله. إن الأسئلة التي أثارها حَرِيٌّ بها أن تُوضَعَ موضع التشكيك في كل تفاصيلها، ولكنها مرتَّبة ومنظمة، وقد بناها على آرائه الأخرى التي أوردها في طَيَّات كتاباته وصاغها كلها بشكل متناغم. ومحصِّلة ذلك هو رسم صورة كاملة المعالِمِ ومُحْكَمَةِ التفاصيل للعالم جعلت أجيالًا وأجيالًا تتوقف عندها بالتأمل والتدبر.
•••
ويمكن العثور على معظم مناقشات أرسطو المجرَّدة للحركة والزمن والتغيُّر، والمحرك الذي لا يتحرك في رسائله الفيزيائية والفلكية ورسائله في علم الأحياء. وقد كانت هذه الأفكار جزءًا جوهريًّا من العلم بصفة عامة؛ فقد برزت بشكل طبيعي في محاولاته لفَهم العالم وسَبر أغواره، إلا أنها امتدَّت إلى سياقٍ آخر لا يُعَدُّ اليوم مجالًا من مجالات العلوم. وقد اكتمل الكثير من حجج أرسطو عن هذه الموضوعات في مجموعة رسائل سمَّاها أحد المحقِّقين اللاحقين «الميتافيزيقا» أو «ما وراء الطبيعة»، وكان هذا المصطلح يشير في ذلك الوقت إلى أن هذه الكتب التي تحمل اسم «ما وراء» تأتي بعد كتب «الطبيعة»؛ أي كانت محض مصطلح مكتبي. بيد أن هذا المصطلح سلك طريقًا خاصًّا به فيما بعدُ؛ ففي العصور الوسطى أصبح علم «ما وراء الطبيعة» يشير إلى فرع من المعرفة يختلف اختلافًا جِذريًّا عن «الفلسفة الطبيعية» (أي العلم)، فكانت صفة «ما وراء الطبيعة» تعني «ما يتجاوز الطبيعة». وبالنسبة لبعض الفلاسفة المتأخرين الذين كان يساورهم الشك في احتمالية هذا التجاوز — لا سيما ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر وفلاسفة المنطق الوضعي في القرن العشرين — اكتسب مصطلح «ما وراء الطبيعة» سمعة سيئة بشكل من الأشكال، فكان يُنْظَرُ إلى الشخص الذي يهتم بما وراء الطبيعة على أنه شخص يجيد حياكة الألغاز السفسطائية المبهَمة؛ فقد كان عمله محض عبث فكري لا يُفضي إلى أية نتيجة لعدم اعتماده على الأدلة التجريبية أو المعرفة العلمية. وتُسْتَخْدَمُ صفة «ما وراء الطبيعة» في العصر الحالي مرادفًا لكلمة «خرافي».
ولنتمكن من فَهم ما كان يدور بِخَلَدِ أرسطو عند استخدامه لهذا المصطلح؛ فمن الأفضل أن نتجاهل المعاني التي ذكرناها آنفًا لهذا المصطلح. إن الكتب الأربعة عشر التي جُمِعَتْ تحت عنوان «ما وراء الطبيعة» تحتوي على موضوعات كثيرة دون ترتيب معين؛ فهي تتضمن هجومًا طويلًا على تفسيرات أفلاطون الرُّوحية الزائفة للرياضيات يقول فيها أرسطو إن الأرقام والنقاط والمثلثات وما إلى ذلك يجب أن ننظر إليها على أنها أشياءُ مجرَّدة في العقل بدلًا من كونها أشياءَ غامضة توجد بذاتها. كما تتضمن هذه الكتب معجمًا يوضح فيه أرسطو المعاني المختلفة لثلاثين مصطلحًا من المصطلحات الرئيسة المستخدمة في تحليلاته وتحقيقاته مثل: «المادة» و«الرغبة» و«الخاصية» و«الضد» و«الكل» و«المستحيل» و«الزائف»، كما يتناول بالشرح في أجزاء أخرى من كتاب «ما وراء الطبيعة» مذهبه عن العلل الأربع ويربطها بأفكار المفكرين الأوائل حيث حاول تطوير أفكاره حول الفرق بين الصورة والمادة، إضافة إلى حديثه عن مبادئ التصنيف والتعريف، ومناقشة مفاهيم الوحدة والتنوُّع، كما عمل على إيضاح بعض التفاصيل الرياضية في علم الفلك، وتحدَّث عن الإله، فضلًا عن انتقاده لمذهب الشكوكية والنسبية ضمن أشياءَ أخرى، كما ناقش بعض المبادئ الأساسية في علم المنطق كالمبدأ القائل إنه «لا يمكن أن تكون عبارةٌ ما صحيحة وخاطئة في الوقت نفسه.»
ويبدو أن هذه الموضوعات المختلفة لا تمت لبعضها بصلة، ولكن كان ثمة رابط بينها ساعد على تجميع معظمها في عقل أرسطو؛ ففي موضعين من كتابه «ما وراء الطبيعة» نجِده يتحدَّث عمَّا يسميه «الفلسفة الأولى»، ويبدو أنه قصد بها أَعَمَّ المبادئ والعلل والمفاهيم العامة؛ فهي تناقش المسائل والموضوعات العامة التي تدخُل في جميع المجالات من علم الحساب وحتى علم الحيوان في محاولة للوصول إلى الحقائق التي «تحمل الخير لكل الموجودات». كما نجد أن ما ذكره أرسطو حول استقصاء العلل الأربع ومفاهيم الصورة والمادة والاحتمالية وغيرها تتَّسم كلها بالعمومية لدرجة تجعلُنا نضعها تحت مظَلَّة الفلسفة الأولى إذا طُبِّقَتْ على نطاق واسع. والحال نفسه مع مبادئ المنطق الرئيسة. بيد أنه لم يتَّضِح لماذا يوضَع الفلك واللاهوت كما يقول أرسطو في سلة واحدة. ويمكننا القول إن كليهما يتناول الأمور العلوية أو بالأحرى أكثر الأمور كمالًا والتي تعد مسئولةً مسئولية تامَّة عمَّا يجري في العالم الأرضي. وتقول فكرته الرئيسة عن الفلسفة الأولى إنها تتناول نوع المعرفة المطلوب للحصول على الحكمة؛ أي ما يتوق المُحِبُّ المخلص للمعرفة إلى الحصول عليه، وهو يفسر ذلك على أن الفلسفة الأولى تُخبِر هذا المحب بالأشياء الأكثر أهمية (مثل الإله والأشياء الأخرى الأزلية غير المتغيرة) وبالحقائق والمفاهيم التي تحتل أعلى منازل الأهمية (أي الأعم).
وأكثر المفاهيم عموميةً هو مفهوم الكينونة أو الوجود؛ حيث إنه الشيء الوحيد الذي تتمتع به جميع الأشياء. وقد يظن المرء للوهلة الأولى أن الكينونة مفهوم عام جدًّا يستحيل الحديث عنه أو وصفه، ولكن أرسطو توصَّل إلى بعض الحقائق بشأنه. بعد توضيح الطُّرُق الكثيرة التي يُمكِن للمرء من خلالها أن يَصِفَ شيئًا ما أو أن يقول فقط بوجوده، حاول أرسطو اكتشاف ما إذا كان ثمة نوع أساسي للوجود يعتمد عليه وجود باقي الأشياء والموجودات. ويقول أرسطو إن ثمة وجودًا لجميع الأشياء المادية مثل الأشجار والصخور والنباتات والحيوانات، ويعتقد أن جميع أنواع الوجود الأخرى تُعَدُّ وجودًا تطفليًّا على هذه الأشياء المادية، فعند الحديث مثلًا عن شيء كبير أو أحمر أو جميل فإن صفات الجمال أو الاحمرار أو الحجم لا يمكن ادِّعاء وجودها إلا إذا كان هناك شيء معين يحمل هذه الصفات؛ فلا يمكن لهذه الصفات أن تسبح بمفردها أو بذاتها. وتتناقض هذه الفكرة تناقضًا صارخًا مع نظرية المُثُلِ لدى أفلاطون التي تقول بأن الاحمرار والجمال يُعَدَّانِ أكثر واقعية من أي شيء أحمر أو جميل. ففي عالم أفلاطون يعتبر وجود المُثُل هو الوجود الأوَّلي والأساسي للأشياء، كما أن عالم الأشياء المادية هو حالة من التغيُّر الدائم والمضطرب تمثل انعكاسًا ناقصًا لهذه الحقائق. أما أرسطو فيعتقد أن هذا يشبه وضع العربة أمام الحصان وأن هذا الحديث المضطرِب يعوق الفهم الصحيح لوجود الأشياء، وهو أحد أكثر الموضوعات عموميةً ومن ثمَّ فهو موضوع مطلوب في السعي وراء الحكمة.
ويعدُّ نقد أرسطو لتفسير أفلاطون للرموز الرياضية جزءًا من بحثه العام في أنواع الوجود، وكذلك نظريتا النسبية والشكوكية اللتان يعدهما ردتي فعل متطرفتين وانهزاميتين في مواجهة مسألة تحديد أنواع الموجودات في العالم. ولكن لا فائدة تُرجَى من ربط كل ما قاله أرسطو في كتابه «ما وراء الطبيعة» وجمعه في مشروع واحد واضح المعالم؛ فمن ناحية اعتقد أرسطو أن الفلسفة الأولى علم يتميز عن باقي العلوم بانشغاله بالبحث في الأمور العامة؛ ولذلك ثمة تداخل كبير بين أجزاء الفلسفة الأولى والأجزاء العامة والنظرية من فروع البحث المتخصصة كالفيزياء، ولذلك نجد أنه يتحدث عن المحرك الذي لا يتحرك في كتابيه «الفيزياء» و«ما وراء الطبيعة».
وبما أن ما يعنيه الفلاسفة المتأخرون ﺑ «ما وراء الطبيعة» يختلف غالبًا عمَّا كان أرسطو يعنيه ﺑ «الفلسفة الأولى» فحَرِيٌّ بنا أن نؤكد على أنه لم يعتقد أن الفلسفة الأولى كانت تتضمن أية آليات خاصة للبصيرة العقلانية. وقد رأى آخرون من المهتمِّين بعلم ما وراء الطبيعة أن هذا الموضوع يتجاوز طرق البحث العلمي للبرهنة على بعض الحقائق الأساسية عن العالم عن طريق العقل المحض والتي لم تكُن العلوم الكادحة لتتوصل إليها؛ ومن ثَمَّ فإن المهتم بعلم ما وراء الطبيعة يُعَدُّ عالمًا خارقًا لا يضارعه غيره من أقرانه. ولكن لم يكُن أرسطو ليسلك هذه الطريق؛ إذ كان يرى أن مَنْ يدرس الفلسفة الأولى «في منزلةٍ أعلى من الفيلسوف الباحث في الطبيعة»؛ ذلك أن «الطبيعة محض نوع من أنواع الوجود» أي لكون الفلسفة الأولى مهتمة بالبحث في جميع أنواع الوجود (بما في ذلك الوجود الرياضي والوجود الإلهي) وليست مقصورة على البحث في الوجود الطبيعي. ولكن هذا يعني أن الفلسفة الأولى هي الأخرى تُعَدُّ علمًا تقليديًّا شديد العمومية والتنوع ولكن يستحق أن يبذل الباحث فيه كل جهد.
ومن مجالات البحث التي تتداخل دائمًا مع الفلسفة الأولى أو ما وراء الطبيعة علم المنطق الذي يمكن تعريفُه بأنه علم الاستدلال والبرهان. وقد كان لأرسطو أسبابٌ وجيهة كي يخوض في هذه الأمور خلال بحثه في المسائل العامة والمجردة، فإذا كانت الفلسفة الأولى هي أشد العلوم عمومية فإن علم المنطق هو أكثر العلوم شمولًا؛ فهو أداة يمكن استخدامها عند البحث في كافة العلوم إلى جانب كونه ساحرًا وفاتنًا في حَدِّ ذاته. وكما يقول أرسطو فإن الباحث عن الحكمة «يجب أن يبحث كذلك في مبادئ الاستدلال». وقد كان أرسطو هو أول من قام بذلك بطريقة منهجية؛ ولذلك فهو يُعَدُّ مبتكر علم المنطق.
•••
إن كل هذه الكلمات عدا «جميع» و«إذن» لا معنى لها، إلا أن أيًّا مِنَّا قد يَجِدُ لها سياقًا تكون فيه صحيحة، فالنتيجة تنبع منطقيًّا من المقدِّمات، فإذا كانت جميع السناكر بناكر وكانت جميع البناكر حناكر فإنه «من الضروري» نتيجة لذلك أن تكون جميع السناكر حناكر. وفي الحقيقة لا يوجد أي معنى للسناكر أو البناكر أو الحناكر، إلا أنه لا علاقة لهذا بمسألة النتائج والمقدمات، فهذه الكلمات التي لا معنى لها في هذا الاستدلال تُسْلِمُنَا إلى حقيقة مهمة مفادها أن صحة مسألة استدلالية منطقية أو خطأها (أي سواء أكان الاستنتاج ينبع من المقدمات أم لا) لا يعتمدان على صحة المقدمات أو خطئها. وقد كان أرسطو أول من عُنِيَ بالبحث عما تعتمد عليه المسائل الاستدلالية وبتقديم الإجابة الصحيحة على هذا السؤال.
في هذه الحالة لا يهمنا ما يرمز إليه كلٌّ من «أ» و«ب» و«ج» أو أية مصطلحات أخرى نستبدلها بها، فستكون النتيجة استنتاجًا صحيحًا؛ أي إنه إذا كانت الكلمات التي سَتُسْتَبْدَلُ بها الأحرف «أ» و«ب» و«ج» تجعل العبارتين الأوليين صحيحتين فإن العبارة الثالثة ستكون صحيحة بشكل تلقائي، والمثال الذي ضربناه عن السناكر والبناكر يتبع هذا البناء ومن ثَمَّ فإنه صحيح.
وهذا بالتأكيد غير صحيح وباطل؛ لأنه وضع حقيقتين ونتج عنهما نتيجة زائفة، فلم تكن الطيور يومًا خنازير ولا يمكن للخنازير أبدًا أن تطير ولكن الطيور بالتأكيد تستطيع الطيران؛ ومن ثَمَّ فإن شكل البناء المنطقي «جميع «أ» هو «ب»، وجميع «ب» هو «ج»؛ إذن فإن جميع «أ» هو «ج»»، هو شكل صحيح، أما البناء المنطقي ««أ» ليس «ب»، و«ب» ليس «ج»؛ إذن «أ» ليس «ج»»؛ فلا بد أن يكون شكلًا زائفًا وباطلًا، والمثال السابق عن الطيور يثبت صحة ذلك.
وقد أصبح هذا النوع من استخدام الرموز العامة مثل «أ» و«ب» و«ج» أمرًا معتادًا لا سيما في الرياضيات وكذلك في الأغنية القائلة:
وكما أن بمقدور المرء أن يصوغ الحقائق الرياضية العامة باستخدام الرموز التي ترمز إلى الأرقام وليس باستخدام رقم محدد (كما نقول في س + ص = ص + س) فقد استطاع أرسطو أن يصوغ الحقائق العامة عن المنطق باستخدام الرموز التي ترمز للمصطلحات وليس لمصطلح بعينه مثل الحروف «أ» و«ب» و«ج». ويبدو أن أرسطو هو مَنْ ابتكر مفهوم «المتغيِّر» كما يُسمَّى الآن على الأقل في هذا النوع من الاستخدام. ومن الواضح أن علماء الرياضيات لم يستخدموا هذا المفهوم حتى وقته بدلًا من الأرقام، رغم أنهم استخدموا الحروف للإشارة إلى خطوط الأشكال الهندسية، وهو ما كان بذرة فكرة أرسطو الرائعة.
وتدور الحقائق المنطقية العامة التي اعتمد عليها أرسطو حول أنواع الجمل الأربعة التالية: «كل «أ» هو «ب»»، و«كل «أ» ليس «ب»»، و«بعض «أ» هو «ب»»، و«بعض «أ» ليس «ب»». وقد قال أرسطو إن كل عبارة يمكن اختصارُها في جملة من مصطلحين هما: «الموضوع «أ» والمحمول «ب»»، ويجب كذلك أن تكون إما موجبة أو سالبة وأن تكون إمَّا خاصة أو عامة لكي تُمَكِّننَا من الحصول على أحد هذه الاحتمالات الأربعة. وقد كانت الحقائق العامة الأولى التي تَوَصَّلَ إليها أرسطو عن هذه الأنواع من العبارات تدور حول تبديل أماكن الموضوع والمحمول «أ» و«ب»، وقد أشار إلى أنه من الممكن أن تُبَدَّلَ على النحو التالي: «ليس «أ» هو «ب»»، و«بعض «أ» هو «ب»»، ولكن ليس على نحو «كل «أ» هو «ب»»، أو «بعض «أ» ليس «ب»»، فعلى سبيل المثال إذا كان «أ» ليس «ب»، فإن هذا يعني أن «ب» ليس «أ» (أي إذا لم يكن السياسيون جديرين بالثقة؛ فكل جدير بالثقة ليس سياسيًّا بالتأكيد). وكذلك إذا كان بعض «أ» هو «ب»، فإن بعض «ب» هو «أ» (أي إذا كان بعض المحامين كَسَالى فإن بعض الكسالى محامون). أما إذا كان كل «أ» هو «ب»، فليس كل «ب» هو «أ» (فكل القطط حيوانات، ولكن ليست كل الحيوانات قططًا). وإذا كان بعض «أ» ليس «ب»، فلا يعني هذا أن بعض «ب» ليس «أ» (فبعض الحيوانات ليست قططًا، ولكن هذا لا يعني أن بعض القطط ليست حيوانات).
ويبدو أن أرسطو قد افترض أن أكثر أشكال الاستنباط إثارةً ومتعة وتشويقًا هي تلك التي يمكن أن يُعبر عنها في صورة حجج كما في أمثلة السناكر والخنازير والطيور؛ ذلك أنها يمكن ترتيبها في شكل عبارات ثلاثية تتكون من مقدمتين ونتيجة واحدة، وتنتمي كل عبارة منها لأحد الأنواع الأربعة التي ذكرها (كل «أ» هو «ب»، وكل «أ» ليس «ب»، وبعض «أ» هو «ب»، وبعض «أ» ليس «ب»). وقد أصبحت الحجج التي من هذا القبيل يُطْلَقُ عليها اسم أشكال القياس. وبِناءً على تصنيف أرسطو لهذه الأشكال كان هناك ١٩٢ صورة متفرِّعة عن الأشكال الأربعة منها ١٤ فقط صحيحة. واستطاع أرسطو باستخدام هذا التصنيف للأشكال الأربعة وضعَ بعض القواعد العامة للقياس المنطقي، وكانت اثنتان من أبسط هذه القواعد هما أن لكل قياس صحيح مقدمة واحدة موجبة (أي «كل «أ» هو «ب»»، أو «بعض «أ» هو «ب»»)، والأخرى هي أن لكل قياس صحيح مقدمة كلية واحدة على الأقل (أي «كل «أ» هو «ب»»، أو «كل «أ» ليس «ب»»).
ويقول أرسطو إن أربعة من أشكال القياس التي تَوَصَّلَ إليها «مثالية» أو «كاملة» بمعنى أن صحتها وصِدقها يظهران للعيان من الوهلة الأولى. وقد استخدم طرقًا عدة لربط كلٍّ من الأشكال العشرة الأخرى الصحيحة للقياس المنطقي بواحد من هذه الأنواع الأربعة. ونظرًا لأن الأشكال الأربعة المثالية صحيحة فقد برهن أرسطو على أن الأشكال العشرة الأخرى يجب أن تكون صحيحة أيضًا.
ومن خلال اشتقاق جميع الأشكال الصحيحة للقياس المنطقي من الأشكال الأربعة المثالية (وتوضيح أن هذه الأشكال الأربعة هي بدورها أمثلة لمبدأ عام وحيد لن نتطرق إليه) بنى أرسطو نظامًا منطقيًّا مبهرًا تاه به فخرًا على خلاف ما عهدناه منه. فحتى نهاية القرن التاسع عشر كان جُلُّ المهتمين بالبحث في هذا المجال تقريبًا يعتقدون أن هذا النظام لا يمكن تطويرُه بشكل كبير، ولم يتبقَّ إلا أن يتعلموه بدقة. وقد كان الطلاب في العصور الوسطى يتعلمون منظومات شعرية طريفة تساعدهم على هضم فكرة القياس العبقرية لدى أرسطو التي بدت وكأنها وحي نزل من السماء، وذلك على النحو التالي:
وكانت هذه المقطوعات الشعرية الرباعية، التي تتكون من أسماء أشكال القياس، تضم رسائل مضمَرة تخبر الطلاب بالصحيح منها وبكيفية ربط كلٍّ منها بأحد الأشكال الأربعة المثالية للقياس.
واستغرق اكتشاف أن المنطق ينطوي على ما هو أكثر من أشكال المنطق الأرسطي برهة طويلة من الزمن. فكتب كانط في عام ١٧٨٧م يقول إن أشكال المنطق الأرسطي المثالية «كانت مذهبًا متكاملًا لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل.» وبالمثل كتب أحد الأساقفة في القرن التاسع عشر نصًّا في المنطق واصفًا فيه منطق أرسطو بأنه «الشكل الذي يمكن أن تُخْتَزَل فيه جميع أشكال الاستدلال الصحيحة»، وكذلك كتب جون ستيوارت مِل في عام ١٨٤٣م يقول إن أشكال القياس الأرسطي المثالية هي «الأنواع الجامعة لجميع أشكال الاستنباط الصحيح.» ولكن في الحقيقة قال أوجست دو مورجان — وهو أحد الفلاسفة وعلماء الرياضيات الإنجليز في ذلك الوقت — إن منطق أرسطو (بغض النظر عن ادِّعاء كونِهِ جامعًا) لا يمكنه أن يبرهن على أن رأس الحصان هو رأس حيوان؛ أي لا يمكنه التدليل على صحة استنتاجات مثل «الخيول حيوانات إذن إن رأس الحصان هو رأس حيوان» لأن مثل هذا الاستنباط لا يمكن أن تعبر عنه أشكال القياس الأرسطي.
وتُسَمَّى دراسة الاستنباطات من هذا النوع بالمنطق الافتراضي لأنه يستخدم كثيرًا من المتغيِّرات ليشير إلى افتراضات كلية مثل «ضعفت الطاقة»، في حين أن المنطق الأرسطي لا يستخدم إلا «أ» و«ب» ليشير إلى مصطلحات الموضوع والمحمول مثل «الطيور» و«الذباب». وفي المنطق الافتراضي يمكن استخدام الرمز «أ» للإشارة إلى «ضعفت الطاقة»، والرمز «ب» للإشارة إلى «ستتوقف الساعة»؛ ومن ثم يمكن عرض الشكل المنطقي لهذا القياس على النحو التالي «إذا ترتب «أ» على «ب»، وكان «ب» غير موجود؛ إذن ﻓ «أ» ليس موجودًا كذلك.»
وبعد عصر أرسطو بفترة قصيرة قام بعض الفلاسفة الذين كانوا ينتمون إلى المدرسة المعروفة بالرواقية بدراسة هذه الاستنباطات فوضعوا نظامًا منطقيًّا يمكن أن يتناول مثل هذه الاستنباطات إلى حَدٍّ معين. وبما أن الرواقيين كان يُنْظَرُ إليهم دائمًا على أنهم معارضون لأرسطو، وبما أن أرسطو قد ذاع صيتُه بين الناس على أنه رجل حكيم فإن ثمة اعتقادًا ذاع بأن منطق الرواقيين غير صحيح؛ ممَّا تسبب في تجاهُلِه. والحق أن هذين المذهبين لا يتعارضان مع بعضهما أبدًا بل يُكملان بعضهما؛ حيث أدرك علماء المنطق فيما بعدُ حاجة المنطق الأرسطي إلى تدعيمه بالمنطق الرواقي الافتراضي والعكس صحيح.
بيد أن المنطق الأرسطي يحتاج كذلك إلى توسيع دائرته كي يتواكب مع العبارات التي تُسْتَخْدَمُ فيها المصطلحات «ذات الصلة» كما تُسَمَّى والتي تعبر عن العلاقات بين شيئين أو أكثر مثل «أطول من» و«مساوٍ ﻟ» و«هو والد فلان»؛ ذلك أن أشكال القياس الأرسطي لا يمكن الارتكان إليها مع مثل هذه العبارات. (ويندرج مثال أوجست دو مورجان عن رأس الحصان تحت هذه الفئة لأنه يحتوي على العلاقة رأس كذا). وكان أحد الذين أدركوا الحاجة إلى منطق يتعامل مع العلاقات هو جالين الفيلسوف والطبيب اليوناني الذي عاش في القرن الثاني الميلادي وحَظِيَ بشرف التوصُّل إلى بدايات هذا النظام، ولكن معظم أعماله في المنطق قد ضاعت إثر الإهمال، شأنه شأن كثير من الرواقيين، ربما لأن أحدًا لم يعرف كيف يوفق بينها وبين المنطق الأرسطي. ومثل هذه التعقيدات كانت تعني شيئًا واحدًا فحسبُ وهو الحاجة لاستظهار المزيد من المنظومات الشعرية. وحتى نهاية القرن التاسع عشر لم يدرك سوى قليلين أن علماء المنطق كان عليهم أن يُولُوا اهتمامًا أكبر للرواقيين وجالين واهتمامًا أقل لأرسطو.
إن الطريقة الوحيدة لتصحيح استدلالاتنا هي أن نجعلها ملموسة مثل الاستدلالات الرياضية حتى نتمكَّن من اكتشاف أخطائنا في لمح البصر، وإذا حدث خلاف بين بعض الأشخاص بخصوص مسألةٍ ما يمكننا بكل بساطة أن نحتكم إلى الحساب لنرى مَن على صواب ممَّن هو مخطئ. وإذا فُسِّرَ الكلام وَفقًا لطريقة أراها ممكنة، والتي لم يتوصل إليها أولئك الذين أسسوا اللغات، يمكننا أن نصل إلى النتيجة المبتغاة عن طريق الكلمات نفسها. وفي الوقت نفسه فثمة طريق آخر وَعْرٌ علينا أن نسلكه وهو أن نستخدم رموزًا يمكن من خلالِها أن نصحح أفكارنا وأن نضيف إليها براهين رقمية تمامًا كما يفعل علماء الرياضيات.
وقد تفاءَل لايبنتس تفاؤلًا مفرطًا بأن استخدام مثل هذا الحساب يمكن أن يحل جميع المشكلات الفكرية. وفي هذا ما فيه من المبالغة؛ لأن كثيرًا من الخلافات لا تدور حول مسائل منطقية معينة ولكن حول بعض الحقائق، كما أنه ليس من الممكن إثبات الحقائق المنطقية كافَّة باستخدام الرياضيات بالطريقة التي ارتآها لايبنتس. ولكن رغم ذلك فإن رغبته في إنشاء «لغة تلعب فيها الرموز والأحرف الدور الذي تلعبه الرموز الحسابية في الأعداد ورموز الجبر للكميات بشكل عام» كانت مؤذِنة بما حدث بعد ذلك.
وقد نشأت فكرة لايبنتس عن اللغة الحسابية جزئيًّا من المشروع بالغ الغرابة لرامون لول (١٢٣٢–١٣١٥م)، وقد كان لول شخصًا خليعًا يعمل في البلاط الملكي قبل أن يصبح راهبًا بعد قصة حب غير موفقة. وكان لول يعتقد أن المسلمين — وكذلك كل مَنْ يشك في المسيحية من أتباع توماس — يمكن أن يروا حقيقة المسيحية إذا قدروا الفضائل المختلفة التي يمتلكها المسيح الإله حق تقديرها. وقد ابتكر العديد من الأجهزة الميكانيكية والمخططات لعرض الرموز التي تشير إلى صفات الإله مثل «الخيرية» و«الأزلية» و«العظمة». ويمكن لمجرد التأمُّل في هذه الصفات أن يأتي بالضالة ويحقق المراد؛ فإبرة المنطق في وسط هذه الكومة من العَتَه تتمثل في أن التلاعب بالرموز يمكن أن يلعب دورًا في عملية الاستدلال أو يجسدها على الأقل. وقد دفعت الفكرة نفسها لايبنتس إلى التفكير في طريقة يمكن بها اختزال المنطق في عملية آلية بحتة؛ ومن ثمَّ استخدامه للوصول إلى نتائج لا يمكن تفنيدها كما هو الحال في الرياضيات.
عندما أتحدث عن الاستدلال فإنني أعني بذلك الحساب، ولكي تقوم بعملية حسابية الآن فإما أن تجمع مجموعة من الأشياء التي أُضِيفَتْ إلى بعضها أو أن تعرف قيمة المتبقي إذا طرحت شيئًا من شيء آخر، فجميع أنواع الاستدلال تندرج تحت هاتين العمليتين العقليتين ألا وهما الجمع والطرح.
ولم تكُن لدى هوبز المعرفة الرياضية الكافية ولا الرغبة في تطوير هذه الفكرة. أما لايبنتس فكان يمتلك كلتا الميزتين ولكنه لم يحقِّق إنجازًا كبيرًا في هذا المجال، فوضع بعض التشبيهات بين الصيغ الرياضية والعبارات العادية، وجرب بعض المفاهيم الرياضية وقدم بعض المُسَلَّمَاتِ التي يمكن من خلالها استنتاج نظام منطقي كامل بالشكل الذي عليه براهين إقليدس الهندسية، ولكنه لم يستكمل مشروعه هذا كشأنه في مشاريعه الأخرى، فانتقلت المهمة إلى اثنين من علماء الرياضيات الإنجليز وهما جورج بول (١٨١٥–١٨٦٤م) وأوجست دو مورجان (١٨٠٦–١٨٧٦م) اللذان كرَّسَا جهدًا أكثر لها، فأرسى بول أسس علم جبر الفئات والذي يمكن استخدامه في التعبير عن أشكال القياس لدى أرسطو، وكذلك أرسى أسس علم الجبر للمنطق الافتراضي، أما أوجست دو مورجان فقد وضع علم جبرٍ أوَّليًّا للعلاقات. وفي النهاية أصبح من الممكن إثبات أن رأس الحصان هو رأس حيوان.
وفي القرن التاسع عشر وضعت اللمسات النهائية للمنطق الأساسي على يد الفيلسوف الأمريكي شارل ساندرز بيرس (١٨٣٩–١٩١٤م) وعالم الرياضيات الألماني جوتلوب فريدج (١٨٤٨–١٩٢٥م). وقد نُسِبَ كل الفضل لفريدج بعد موته على الرغم من أن ملاحظاته لم تكن قابلةً للاستخدام حيث بَيَّنَ مَنْ أتى بعده من المفكِّرين أن أعماله لم تعلب إلا دورًا صغيرًا في تطوير علم المنطق على عكس ما ادَّعى الكثير من كتب التاريخ. وبين عامي ١٩١٠م و١٩١٣م نشر برتراند راسل ومعلِّمه السابق ألفريد نورث وايتهيد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي جمع ما سَيُعْرَفُ فيما بعدُ بالمنطق الرياضي. ومنذ ذلك الوقت بدأ البحث في المنطق والبحث في الحساب يتضافران كما حدث في عقل لايبنتس. وفي عشرينيات القرن العشرين ابتكرت الإجراءات الآلية — أي تلك الإجراءات التي تجري من خلال آلة — من أجل اختبار مدى بروز النظريات الرياضية المذكورة في كتاب «مبادئ الرياضيات» من المُسَلَّمَاتِ الخاصة بها. وقد كانت هذه خطوة رئيسة في الطريق إلى ابتكار لغات الحاسب الآلي التي كانت ثمرة الحسابات المنطقية. وفي عام ١٩٣٨م توصَّل الباحثون إلى أن تصميمات مفاتيح التحويل في الدوائر الكهربية يمكن اعتبارها متوافقة مع صيغ المنطق الافتراضي حيث ترمز المفاتيح «تشغيل» و«إغلاق» إلى «حقيقي» و«مزيف» على التوالي، (كما فعل بول في علم الجبر الذي يبحث في الافتراضات عندما عَادَلَ «حقيقي» و«مزيف» بالرموز «١» و«٠»). وفي عصرنا الحالي يقوم علماء الرياضيات البحتة بدراسة بعض الأجزاء المتنوعة من علم المنطق الرياضي والأنظمة الصُّورِيَّة، بينما يقوم علماء الحاسب الآلي بدراسة أجزاء أخرى. أما الفلاسفة فيتجولون بعشوائية في جميع المجالات.
لقد بدأ الأمر كله بمقدمات أرسطو، ولكن من الواضح أن ثمة شيئًا كثيرًا قد حدث قبل أن تخرج الحسابات الشاملة للمنطق الحديث ولغات الحاسب للحياة. وربما كان السبب الرئيس الذي جعل منطق أرسطو محدود النطاق جدًّا يكمن فيما دفعه إلى هذا المجال منذ البداية، فمعظم ما أحرزه المنطق من تقدُّم وإنجازات حتى اليوم كان على يَدِ مَنْ كانوا مهتمِّين بتوضيح البراهين الرياضية أو تحويل كل الاستنتاجات المنطقية إلى نوع من الرياضيات أو كليهما. أما أهداف أرسطو فكانت مختلفة، فيبدو أن اهتمامه بالاستنباط المنطقي لم يتأثر كثيرًا بأي اهتمام بالرياضيات، ولا برغبة في دراسة أنواع الاستدلال المختلفة وإنما بولعه بنوع الحجج التي استخدمها سقراط، فيبدو أن أشكال القياس لدى أرسطو كانت تناسب ما كان يطرحه سقراط من أسئلة وكأنها ثَوْبٌ على مقاس صاحبه، أما المشكلة فتكمُن في أنها لا تصلح لكثير من الأمور الأخرى.
ودائمًا ما كانت تنتهي تحقيقات سقراط في محاورات أفلاطون بالحديث عمَّا إذا كانت فئة معينة من الأشياء لها خاصية أو ميزة خاصة بها أم لا، فهل كانت جميع أمثلة العدل أمثلة لإعادة ما جرى امتلاكُه؟ وهل كانت كل الأشياء التي تحبها الآلهة مقدسة؟ وخلال المناقشات كان سقراط يسأل دائمًا عن تعريف يضم كل الأمثلة المشتركة للعدل على سبيل المثال، فإذا ما حاول ضحيته أن يفلت من خلال الحديث عن بعض الأمثلة الصحيحة عن العدل، كان سقراط يعترض مؤكدًا على أنه مهتم بماهية العدل وكنهه؛ ولذلك كان يحتاج إلى معرفة ما ينطبق على العدل في «جميع» صوره. وقد حالفه الحظ أحيانًا في التوصُّل إلى اتفاق حول افتراض معين يتخذ الشكل التالي: «جميع أفعال العدل هي كذا وكذا» والذي بناءً عليه يخرج بنتائجَ منطقية ويعيد النظر في الاستثناءات ويقوم بصياغة مبادئ عامة جديدة. ويبدو أن أرسطو قد راعته فكرة انطواء هذه المناقشات على عبارات عن كل المقدمات أو بعضها أو أيٍّ منها، وعما إذا كانت هذه المقدمات متوافقة أم لا. وقد يكون ذلك هو السبب وراء عدم اكتراثه بالحديث عن هذه الأمور في أعماله بعدما حقق إنجازًا رائعًا بتحليل هذه العبارات.
ولم يكُن التحقيق في القياس الأرسطي بمقدمتيه «أ» و«ب» إلا جزءًا من كتابات أرسطو في المنطق، ورغم أنه الجزء الأصلي في هذه الكتابات، فهناك أشياء أخرى لها بالغ الأثر على هذا المنطق، منها ما هو مفيد ومنها دون ذلك. وقد دُرِسَتْ هذه الكتابات بحماس بالغ في العصور الوسطى، ربما لأنها أُولى أعمال أرسطو التي تُتَرْجَمُ إلى اليونانية. وإحدى رسائله تسمَّى «الموضوعات» هي عبارة عن كتيب من النصائح تُسْتَخْدَمُ في المناقشات التنافسية، التي كانت من الرياضات المفضلة التي حَظِيَتْ بشعبية جارفة في عصر أرسطو. وتحتوي هذه الرسالة على ملحق يضم مجموعة متنوِّعة من المغالطات، ويوضح للمرء كيف يكتشفها قبل أن يسقط فيها. وقد قال أرسطو إن التدريب الذي يقدِّمه كتاب «الموضوعات» مفيد لأهداف جادَّة مثل البحث العلمي؛ لأنه يُسَهِّلُ التمييز بين الغث والسمين من الاستدلالات، كما يحتوي على قدر من التحليل المعقَّد، ولكن أرسطو يعطي كذلك بعض الملاحظات غير المهذَّبة التي يمكن استخدامها لهزيمة الخصم والتغلُّب عليه، مثل نصيحة المتحاور بالتحلِّي بالصبر، والتحدث بسرعة، وبذل قصارى الجهد لجعل الخصم يفقد أعصابه. أما العقل الحديث فلا يرى أدنى علاقة لهذه النصائح بالمنطق. وثمة رسالتان أخريان تناقشان بعض الأمور التمهيدية لدراسة المنطق: إحداهما تتناول الأنواع المختلفة للافتراضات وعلاقتها ببعضها وبعض المشكلات المتعلقة بالحقيقة والمعنى، والأخرى تتناول الأنواع المختلفة للمصطلحات التي تتكوَّن منها الافتراضات.
تناولت إحدى الرسائل المنطقية الأخرى «أشكال القياس العلمي»، وكان يُنْظَرُ إليها على أنها إنجيل المنهج العلمي حتى عصر النهضة، وهو ما يثير دهشة القارئ إذا ما قرأ وصاياها للمرة الأولى؛ فمناقشة أرسطو ﻟ «المبادئ الأولى» التي ينبغي أن تبدأ منها كل البراهين العلمية يبدو أنها صِيغَتْ على شاكلة البراهين الهندسية؛ حيث تُشتق فيها النظريات من مجموعة من التعريفات الأوَّلية والمعطيات الأساسية والمُسَلَّمَاتِ اليقينية. ومن الواضح أنه كان يرى أن كل العلوم يمكن أن تُخْتَزَلَ في صورة الرياضيات البحتة؛ لأنه قال إن المعرفة العلمية الأصلية تتكون من مجموعة من «الحقائق الضرورية» (التي لا تقبل الخطأ)، وإن هذه الحقائق كلها تتعلق بالأشياء الخالدة غير المتغيرة. يبدو هذا للوهلة الأولى مبهمًا؛ إذ كيف يمكن أن يتسق هذا مع أبحاث أرسطو البيولوجية؟ فليس هناك على سبيل المثال شيء خالد في أسماك كلب البحر، ولكن يبدو أن أرسطو كان حريصًا على اكتشاف الكثير عنها. ولنا أن نتساءل: أليس هذا من العلم؟ يبدو هنا أن أرسطو قد ثار على انتقاداته لأفلاطون وعاد للنظرة الأفلاطونية التي تقول إن المعرفة عن الأشياء الثابتة التي لا تتغير والأشياء التي لا تنتمي إلى عالم الأرض هي النوع الحقيقي الوحيد من المعرفة.
ولم يُقَدِّمْ أرسطو ما يكفي من الأمثلة المفصَّلة لنتأكد ممَّا كان يعنيه بملاحظاته عن المبادئ الأولى والبراهين العلمية، ولكن يبدو أنه كان يتحدَّث عن شيء مثالي يجب أن يسعى إليه كل فرع من فروع المعرفة. كانت الهندسة هي أكثر العلوم تطورًا آنذاك؛ ولذلك يبدو أن أرسطو افترض أن باقي فروع المعرفة ستسعى إلى أن تكون مثل الهندسة، مُكَوَّنَة من مجموعة من الحقائق منظومة في سلسلة من الاستنباطات، بطريقة يمكن للمرء فيها أن يرى كيف أن النتيجة التي يُتوصَّل إليها لا يمكن إلا أن تكون صحيحة كما هو الحال في الهندسة. أما فيما يخص سمكة كلب البحر والخلود فقد كانت فكرة أرسطو تقول إن العلم المتقدم يجب أن يكون مهتمًّا في المقام الأول بكل ما هو صحيح بصفة عامة عن كل أنواع الأشياء، والذي وفقًا لهذا المعنى يمكن أن يتعامل مع حقائقَ خالدة لا تقبل التغيُّر كما هو الحال في الهندسة كذلك. فأفراد الأبقار على سبيل المثال لا تُعَدُّ من المجترات عند موتها ولكن تبقى حقيقة خالدة (كما يقول أرسطو) أن جنس الأبقار بصفة عامة من المجترات. وبالمثل قد تموت زهرة الأقحوان ولكن تستمر فصيلة المجترات في مضغها؛ وبذلك يمكن لعلماء الحيوان أن يتأكدوا من أن «نظرياتهم» ستظل صحيحة للأبد كما هو الحال مع النظريات الهندسية.
إن تفسير أرسطو للعلم بوصفه متوالية هندسية من أشكال القياس يدعونا إلى التفاؤل؛ حيث إنه يفترض أن كافة المعلومات قد جُمعت في سؤالٍ مثير حول كيفية تنظيمها وترتيبها في شكل مبادئ وتعريفات ونظريات وهكذا، وكلها تسير نحو هذا السؤال. ويبدو أن أرسطو كان على وعي بأن تفسيره لا يمكن تطبيقُه على أيٍّ من العلوم الفعلية (عدا الهندسة نفسها)؛ لأنه لم يَجْرِ استكمال ما يكفي من البحوث لذلك، وهذا ما يفسر إحجامه عن ترجمة أعماله العلمية في أشكال القياس فيما عدا بعض العيِّنات البسيطة التي تأتي على سبيل التفسير. وأما عن جمع المعلومات العلمية في المقام الأول فلا يرى أرسطو نصيحةً أفضل من قوله: «اذهب واكتشفها بنفسك.» فقد كان هذا أمرًا يتوقف على بصيرة الباحث المتمرِّس وما يبذله من جهد في هذا السبيل، وليس على البراعة المجرَّدة لِعَالِمِ المنطق؛ ولذلك لم يُقدِّم أرسطو تفسيرًا يتبع طريقة علمية عملية بالمرة، بل كان الأمر يشبه كتابًا يُحْفَظُ لِمَنْ يعرف كل شيء. وفي القرون التالية عانت أفكار أرسطو من سوء الاستخدام على يَدِ أُنَاس انكبُّوا على رسائله في المنطق وأهملوا (أو لم يعرفوا شيئًا عن) رسائله العلمية؛ حيث أراد مفكرو العصور الوسطى آنذاك أن يتجاوزوا البحث ويركِّزوا على أشكال القياس الأرسطي. وهذا الخلط الذي لا فائدة منه بين التعريفات والاستنباطات هو الذي تسبَّبَ في إلصاق سُمعة سيئة بالمنهج العلمي «الأرسطي»، لا سيما عند مقارنته بنظيره لدى فرانسيس بيكون.
وبهذا نَجِدُ أن الجزأين الأساسيين من منطق أرسطو قد أحدثَا بعض المشكلات فيما بعدُ بشكل غير مقصود. وقد عَمَّرَتْ نظرية أرسطو العامة حول القياس وآتت أُكُلَهَا في النهاية وكبحت تطور المنطق الاستنباطي؛ ذلك أن معجبيه تأثروا بأنه مَن وضع حجر الأساس لهذا العلم حتى ظنوا أنه هو صاحب الكلمة الأخيرة فيه. وأما عن نظريته حول البرهان العلمي أو أشكال القياس العلمي فقد أدَّت إلى التقليل من مكانة الدور الذي يلعبه البحث التجريبي؛ لأن بعضًا من معجبي أرسطو أخذوا بحثَه التجريدي الذي تناول فيه الشكل المثالي الذي يمكن أن يبدو عليه العِلم حجةً لهجر العمل التجريبي قبل الأوان.
•••
يَجِبُ تقديم التفسير الشامل لكل ما يتعلَّق بالسلوكيات في إطار عامٍّ وليس بدقة … فالأمور التي تتعلق بالسلوك وما يحمل لنا الخير ليست ثابتة تمامًا كتلك الأمور التي تتعلَّق بالصحة. وبما أن هذه هي طبيعة التفسير الشامل فإن تفسير بعض الحالات الخاصة تنقُصه الدقة … ويجب على الأفراد الفاعلين في كل حالة أن يضعوا في الاعتبار ما يناسب الموقف كما يحدث في الطب أو الملاحة.
إن الحياة فيها من التعقيد ما يجعلنا نعجز عن العيش فيها بقائمة من الأوامر والنواهي وحسب، فإذا حاولت أن تضع مجموعة كاملة من القواعد التي تعيش وفقًا لها فستكون هذه القواعد على درجة من التعقيد تمحو أيَّة فائدة عملية منها. في الحقيقة توجد مجموعة من القواعد الثابتة والسريعة مثل «لا تقتل» و«لا تسرق»، ولكنها لا تغطي إلا الأسئلة السهلة، وهي صحيحة بتعريفها. (فلا يُعَدُّ قتلًا إلا القتل بظلم؛ ولذلك فإن عبارة «لا ترتكب جريمة القتل» لا تعني سوى لا ترتكب ظلمًا). وما يحتاجه الإنسان ليفرِّق بين الخير والشر في عالم متداخل هو الشخصية والخبرة وحكم متوازن من الشخص الذي تدور حوله الأحداث. وقد يساعدنا ذلك على اتخاذ القرارات المناسبة في المواقف الصعبة وعلى تحديد أهدافنا في الحياة.
ويختلف هذا المذهب العملي والمرن اختلافًا كبيرًا عن طريقة أفلاطون المفضلة في الحديث عن الأخلاق. فإذا كان الأمر كما يعتقد أرسطو لا يتعلق بصياغة قواعد عامَّة؛ فإن الأخلاق لا يمكن أن تكون قضية فكرية كما يرى أفلاطون، فقد قال أفلاطون إن طبيعة «الشيء الخَيِّر» يمكن تمييزُها من خلال التأمُّل المحض في الصفات المشتركة بين جميع أفعال الخير. وبعد حياة مديدة من الدراسة الجادة والاستعداد الشديد استطاع الملوك الفلاسفة من أتباع أفلاطون اقتباس جزء من المثال الأعلى للشيء الخَيِّرِ، وقدموا إجابات على كل الأسئلة عن أي الأشياء خيِّرة وأيها غير ذلك، ثم قاموا بسَنِّ القوانين للجميع. وانتهى الأمر على هذه الحال ولم تَعُدْ ثمة مشكلات تتعلق بالأخلاق. وكما رأينا لم يتوقع أفلاطون حدوث أيٍّ من هذه الأمور، ولكن الدرس المستفاد من القصة كان واضحًا وضوح الشمس في كَبِدِ السماء ألا وهو: تمسك بالمثال الأعلى للشيء الخَيِّرِ — أو الخير ذاته كما كان يسميه — والباقي تفاصيل محضة.
لم يَرُقْ هذا الأمر لأرسطو، فلم يكُن يفهم علاقة المثال الأعلى للشيء الخَيِّرِ بأي شيء آخر، فمن ناحية تفترض الصورة التي رسمها أفلاطون أن الخير هو شيء واحد؛ فالرجل الصالح والمنزل الصالح والدجاجة الصالحة كلها تجتمع في علاقة واحدة مع هذا المثال الأعلى. وقد اعترض أرسطو قائلًا إن هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا؛ لأن هناك العديد من المعاني التي يمكن أن يقال عن الأشياء فيها إنها خَيِّرَةٌ (أو غير ذلك) وهي تختلف بشدة تبعًا للأمر الذي يتحدث الإنسان عنه، فكيف يكون هناك فائدة من «الخير نفسه» إذا كانت فكرة الخير تنطبق على الكثير من الأشياء؟ وعلى أيَّة حال فقد كان من المريب أن أحدًا لم يحاول استغلال هذا المعيار أو المقياس العام للخير. فإذا أراد الإنسان أن يصبح طبيبًا ناجحًا فعليه أن يدرُس الطب، وإذا أراد أن يصبح نجارًا ناجحًا فعليه أن يعرف عن الأخشاب والأدوات؛ وبهذا نجد أن المثال الأعلى للشيء الخَيِّرِ لا علاقة له بالأمر. ويمكننا تطبيقُ الأمر نفسه على طريقة العيش والحياة، فإذا أردت أن تعرف كيف تتفوَّق في هذا المجال فإن ما يجب أن تهتم به هو تفاصيل الشخصية الإنسانية والظروف المميزة للحياة البشرية.
وهذا هو ما كان أرسطو يحاول أن يفعله في كتاباته عن الأخلاق. وبما أن طريقته كانت — كما كانت في سائر أبحاثه — تعتمد على تفسير الحقائق كما تبدو بشكل عام، والبناء على الآراء المقبولة والمتعارَف عليها بشأن هذه الحقائق وتنقيحها؛ فليس من العجب أن نكتشف أنه كان صاحب ثورة في الأخلاق لا تقل عن سقراط وأفلاطون. فكما رأينا لم يَهْتَدِ سقراط في الأساس بالأخلاق التقليدية، بل بضمير يخبره رغم كل شيء أن يتجنب فعل كل ما قد يَضُرُّ، كما أن الحاجة إلى الحفاظ على نقاء رُوحه وتقويتها كانت تعني أن يعيش عِيشَةَ القديس وألَّا يرد الصاع بالصاع. أما لدى أفلاطون فإن مطالب الضمير ارْتَدَتْ لباس العقل بوصفها مطالبَ للبحث عن «الخير نفسه»، وقد ظلت مُثُلُهُ مجرَّدةً ولكنها ظلت على غير العادة تضع معايير رفيعة ولو على المستوى النظري على الأقل، كما كانت بعض الإصلاحات التي نادى بها في كتابه «الجمهورية» — مثل مساواة المرأة ونظام الإفقار الإجباري للقيادات الحاكمة — تحمل من الإبداع والابتكار ما أذهل الجميع.
لم تَكُنْ آراء أرسطو عن القِيَم التقليدية التي امتدحها المتعلمون والمثقفون من أبناء عصره مختلفة اختلافًا كبيرًا، إلا أن هذا لم يجعل فلسفته الأخلاقية باعثة على الملل من حيث كونُها لم تقدم جديدًا؛ لأن الأمر يختلف عندما تكون قادرًا على تفسير هذه القيم والاستفادة منها. لقد ذهب أرسطو بعيدًا في محاولته لتبرير نظام العبودية الذي كان المفكِّرون اليونانيون الآخرون يقبلونه على أنه مجرد حقيقة حتمية في الحياة، فمروا عليه مُرُور الكرام. أما أرسطو فكان يَعِظُ بما يمارسه الآخرون ولا يتكلمون عنه، وهو ما يُعَدُّ من الناحية الأخلاقية سلوكًا محافظًا ومن الناحية الفكرية عملًا فيه قدر من المغامرة. وبصفة عامة إذا كانت الفلسفة الأخلاقية لدى أفلاطون وسقراط يمكن النظر إليها على أنها محاولة لوضع بعض القوانين لأحد الأندية؛ فإن أرسطو كان مهتمًّا بإلقاء الضوء على الدستور الذي يسير النادي وَفقًا له، وأن يبحث عن الطريقة المُثلى التي تجعل أعضاءه يتصرفون على أساسه. ولا يعني هذا أنه كان يقبَل كل القيم التقليدية دون تفكير؛ فقد اعترف أن «العادات القديمة هي عادات ساذَجة وهمجية إلى حَدٍّ كبير … كما أن ما تبقَّى من القوانين القديمة ليس إلا عبثًا لا فائدة منه.» وقال أرسطو أيضًا إن القوانين القديمة «يجب ألَّا تبقى دائمًا بعيدة عن معاول التغيير والتبديل.» فهو يرى أن حدوث التغيير يجب أن يكون بحرص شديد؛ لأن «العجلة في التغيير من القديم إلى الحديث تُضعف قوة القانون.»
يرى أرسطو أن دهماء الناس يعتقدون أن هدف الحياة هو المتعة، ولكنه يَعُدُّ هذا نوعًا حقيرًا من أنواع الوجود لا يليق إلا بالحيوانات؛ فالناس «ذوو الذوق الرفيع والمزاج النشيط» يعرفون هدف الحياة على أنه الشرف والسمعة الحسنة، وهو ما يمكن للإنسان أن يحصل عليه من وظيفة جيدة في الحياة العامة. لكن لأسباب عدة تعد هذه أيضًا طريقة سطحية في التعامُل مع الحياة. إن هذا الشرف لا يعكس إلا طريقة تفكير الآخرين، فهل يمكن أن تعتمد سعادة المرء على السلوكيات المتقلِّبة للآخرين؟ وإلى جانب هذا يَوَدُّ الناس دائمًا أن يُكَرَّمُوُا ليس من العامة فحسبُ وإنما أيضًا من أصحاب الحكم الحصيف؛ ومن ثَمَّ فإنه من غير المنطقي أن يهتم المرء باحتفاء الناس به وتكريمهم له أكثر من اهتمامه بالفضائل نفسها التي من المفترض أنه يعرفها، فالناس يعجبون ببعضهم لأنهم أهل لهذا الإعجاب لا لأنهم معجبون؛ وبذلك فإن الشرف والاحتفاء لا يمكن أن يكونا هما أهداف الحياة.
ويؤدي هذا إلى القول إن هدف الحياة قد يتمثَّل في التمتع بجميع الفضائل (أو «أنواع التميز» التي تعني لدى الإغريق المعنى ذاته) سواء أكانت فيها احتفاء العامة بالمرء أم لا. ولكن هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا أيضًا؛ أولًا: لأن هذا سلوك سلبي، فأرسطو كان يرى الفضائل على أنها ميول أو قدرات، وقد يكون للمرء كثير من هذه الميول والقدرات دون الاستفادة منها في شيء. وثانيًا: لأنه حتى لو تَصَرَّفَ المرء وفقًا للفضيلة وبدت منه جميع أشكال التميُّز والرُّقِي فقد لا يكون هذا كافيًا؛ لأن المرء قد يعاني من مصائبَ عدة مثل المرض أو الفقر أو فقدان الأصدقاء والأهل، ومثل هذا الإنسان البائس «لن يدعوه أحد إنسانًا سعيدًا»، فهذه الظروف التي تُخفيها الحياة تذهب بزهرة السعادة. وسرعان ما تخلص أرسطو من فكرة أن الثروة قد تكون مفتاح الحياة الكريمة، فالمال يُبْتَغَى لما يمكن أن يحققه وحسبُ، فهو وسيلة لغاية ما.
كما هو الحال مع عازف الناي والنَّحَّات وأي فنان، بل وكل الأشياء التي لها وظيفة أو نشاطٌ ما، يظن الناس أن الخير يكمُن في الوظيفة نفسها؛ وبالمثل يُظَن أن ثمة خيرًا في الإنسان إذا كانت له وظيفة. فهل للنجار أو الدباغ وظيفة بينما ليس للإنسان أية وظائف؟ هل جُبِلَ الإنسان بدون وظيفة؟ وبما أن للعين واليد والقدم وسائر الأعضاء وظائف تُؤَدِّيهَا فهل يمكننا القول إن للإنسان وظيفة تختلف عن كل ذلك؟
وكما رأينا في أبحاث أرسطو البيولوجية فإن السؤال عن وظيفة الكائن الحي (أو أحد أجزاء الكائن الحي) هو سؤال عن طبيعة عمله الأساسية. إن وظيفة العين هي الرؤية، ولذلك فإن الخير الذي تناله العين هو الرؤية الجيدة. ولننظر إلى كل ما يقوم به الإنسان بشكل طبيعي، فهو يأكل ويتنفس ويدرك وينام ويتحرك ويفكر وما إلى ذلك، ولكن معظم هذه الأمور يشترك فيها مع كثير من المخلوقات الأخرى؛ ولذلك فهي لا تُعَدُّ من الوظائف المميزة للإنسان. ويقول أرسطو إن ما يتبقَّى لنا بعد أن ننحي كل هذه النشاطات المشتركة جانبًا هو العقل أو الذكاء؛ فإن العقل أو الذكاء هو الذي يميز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى، وبذلك نعثر على وظيفة الإنسان ومن ثَمَّ على مفتاح السعادة.
يميل الإنسان بطبيعته لوضع الخطط، وتكون لديه دوافع معينة ويقوم بحساب النتائج، ويسعى إلى اكتشاف الأشياء ومعرفتها، كما يؤدي حركات إرادية ويفكر في كل شيء من حوله ويدرسه. وتعتمد كل هذه النشاطات على الذكاء. وهذا يقودنا إلى القول إن مصلحة الإنسان و«خيره» يتضمَّن إتقان عمل كل هذه الأشياء، أو «بما يتفق مع (الصورة المناسبة من) التميُّز»، وهو ما يعني أن نشاط الإنسان الخيِّر السعيد وسلوكه يَعْرِضَانِ الفضائل المناسبة لكل نوع من أنواع التصرفات الذكية والتفكير العقلاني؛ فلا يجب عليه أن يتصرف بهذه الطريقة لمرة أو مرتين، بل طوال حياته كلها؛ ذلك أن «ممارسة عمل ما مرة واحدة أو مرتين لا يكفي، كما أن الوقت القصير لا يجعل الإنسان سعيدًا مُنَعَّمًا.» وقد رأينا أن الحظ العاثر قد يؤدِّي إلى ذبول زهرة السعادة؛ ولذلك فلِكَيْ نقول إن إنسانًا يحيا على أكمل وجهٍ؛ فإنه يحتاج إلى قدر وافر من الحظ وأن يكون «لديه ما يكفي من العوامل الخارجية» والتي يعتبر بعضها كالصحة ضروريًّا للسلامة والرفاهية، وبعضها الآخر مثل الثروة يساعد على القيام بالأمور النبيلة.
وتبقى الفضائل أمرًا أساسيًّا؛ ولذلك يجب أن يتناولها المرء بمزيد من العناية. وَيُقَسِّمُ أرسطو أشكال التميُّز الإنساني إلى مجموعتين هما: فضائل الشخصية (أى الفضائل الأخلاقية)، والفضائل الفكرية. وكلا النوعين مرتبطان بالعقل. وتعتبر الفضائل العقلية من قبيل المهارة في التخطيط والبصيرة الفكرية تجسيدًا للعقل نفسه، أما الفضائل الأخلاقية مثل الشجاعة والكرم فيقال إنها «تستمع» للعقل أو تهتدي به. وبينما تستخدم الفضائل العقلية في تصميم الخطط بعيدًا عن العاطفة وحساب العواقب وتقدير الظروف، تجذب الفضائل الأخلاقية الإنسان إلى التصرُّف بشكل معين فَتُوَلِّدُ عنده رغبة في عمل أمور معينة؛ وبذلك فإن نوعَي الفضيلة يعملان جنبًا إلى جنب لإنتاج الفعل الصحيح.
ويقول أرسطو إن الفضائل العقلية ليست فطرية ولا غير طبيعية؛ فهي حالات عقلية مُكتَسَبة يفرضها الاستخدام المتكرر، فلكي تكون للإنسان شخصية كريمة على سبيل المثال، يجب أن يتصرف بكرم متى سنحت الفرصة، وكلما انتهز الإنسان مثل هذه الفرص أصبحت طباعُه تتَّصف بالمزيد من الكرم. ويسري الأمر نفسه على الرذائل أيضًا؛ فالإنسان البخيل هو الذي يختار دائمًا أن يتصرف بطريقة معينة، وكلما استمرَّ في التصرف بهذه الطريقة ازداد بُخلُه. ولأن الرذائل بذلك تُعتَبر نتاجًا لاختيارات الماضي، يرى أرسطو أن كل إنسان مسئول أخلاقيًّا عن رذائله، وهو يعترف أنه بمجرد التعوُّد على عادةٍ معينة فمن الصعب الخلاص منها بعد ذلك، ولكنه يُصِرُّ على أن الناس مسئولون عن العادات التي اكتسبوها بأنفسهم.
يتعلق التميُّز الأخلاقي بالعواطف والأفعال، وفي هذه الأمور لدينا درجات من الإفراط والنقص والاعتدال. فنجد على سبيل المثال أن مشاعر مثل الخوف والثقة والشهية والغضب والشفقة والمتعة والألم يمكن أن تنتاب الإنسان بقدر كبير أو قليل، وفي كلتا الحالتين فهذا أمر غير جيد، ولكن أن نشعر بهذه المشاعر في الأوقات المناسبة تجاه الأشياء المناسبة وبالطريقة الصحيحة فهذا هو الطريق الوسط المعتدل والأفضل، وهذا إحدى سمات التميز. وكذلك الأمر مع الأفعال، فلدينا فيها درجات من الإفراط والنقص والاعتدال … فالإفراط شكل من أشكال الفشل وكذلك النقص، أما الاعتدال فهو حَرِيٌّ بالمدح والثناء ويعتبر شكلًا من أشكال النجاح.
ولا يمتدح أرسطو هنا التوسط فحسبُ، فليس هذا المقصود بالوقوف على «الاعتدال»؛ فبعض المواقف تتطلب من الإنسان أقصى درجات التصرُّف والعاطفة، فإذا تعرض الإنسان على سبيل المثال لسلوك شديد الأنانية بشكل فيه من اللامبالاة ما يثير الحنق والغضب، ينبغي عليه أن يعبر عن غضبه الشديد إزاء هذا السلوك، فلا يشجبه برفق ولين، فقد يعاني الإنسان من الإفراط في الاعتدال. والمقصود بالاعتدال هنا هو أن تكون عاطفة الإنسان أو تصرُّفه مناسبًا للموقف وعلى مستوى الحدث، فلا يكون مبالغًا فيه ولا دون الحدث؛ ذلك أن التعرف على كُنهِ «الاعتدال» يتوقف على الظروف الواقعية، حيث يقول أرسطو إن الأخلاق لا تقتصر على معرفة القواعد والمبادئ العامة فحسب؛ فالفضيلة الفكرية للحكمة الواقعية يجب تطبيقها على الفور للوقوف على المسار «المعتدل».
ويقول أرسطو إن أسلوب النظر في قضايا الفضيلة والرذيلة يمكن أن يتسع ليشمل الأمور المتعلقة بالشجاعة والزهد والمال والشرف والود والغضب والفخر والصدق والحياء وغير ذلك الكثير، بل يشمل ذلك أيضًا المزاح والفكاهة؛ فالإنسان الذي يتمتع بفضيلة الفكاهة يستطيع أن يشق طريقًا وسطًا بين الهزل الماجن والفظاظة الجافة كما يقول أرسطو. ولكن لم يتمكن أرسطو من تطبيق هذا الأسلوب عند تناوُلِه لقضية العدل الذي يقسمه إلى عدل توزيعي (توزيع أعمال الخير والشرف) والعدل الإصلاحي (تصحيح الأخطاء) والعدل التبادلي (التبادل العادل). وتتشابك محاولته لضَمِّ كل هذه الأشياء في حُزمة واحدة وتتعقد باعترافه هو. ومع هذا فقد كان لتحليلاته للمفاهيم القانونية والاقتصادية خلال مناقشته لقضية العدل كبير الأثر حتى صارت تبدو اليوم من البدهيات. ويشير أحد شارحي أرسطو المعاصرين في هذا السياق إلى أعمال أرسطو قائلًا: «إنها تعج بالتفاهات كما تعج مسرحية هاملت لشكسبير بالاقتباسات.»
ولتلخيص المسألة حتى الآن نقول إن الحياة الكريمة تتطلب حدًّا أدنى من الراحة المادية وحظًّا سعيدًا، ولكن يبقى الأمر الأساسي هو أن نقوم بكل ما يوصف بالإنسانية بدافع من المحفِّزات الصحيحة؛ فمثل هذه الحياة تجلب أفضل أنواع المتعة من منظور الرجل الحكيم. وتأخذ القضية مُنحنًى جديدًا عندما ندرك أن نشاطًا ما له قيمة أكبر ممَّا سواه؛ وبذلك فإن أفضل شكل من أشكال الحياة سيكون هو المخصَّص لمثل هذا النشاط. ويوضح أرسطو أن هذا النشاط يتمثَّل في التأمُّل العقلي أو البحث عن الحقيقة لِذَاتِهَا. هذا أمر ينطبق على الفلاسفة والعلماء، وهو يشبه قول الخبَّاز إن أفضل الحيوات هي تلك التي يقضيها في خَبْزِ الخُبْزِ. وهذا يجعلنا نتساءل ما إذا كان هذا النشاط العقلي يتناسب فعلًا مع أرسطو ومنهجه الواقعي في البحث عن كيفية الحياة. ويبدو أن ظلال أفلاطون — وكذلك فيثاغورس والأورفية — تُخَيِّمُ على فكر أرسطو في هذه النقطة.
ويؤمن أرسطو أن «الحياة سيرًا على منهاج العقل هي أفضل الحيوات وأكثرها سرورًا على الإطلاق؛ لأن العقل هو الذي يميز الإنسان أكثر من أي شيء آخر»؛ فقد أثبت فعلًا أن الذكاء أو العقل هو ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات. ويسوق أرسطو كثيرًا من الحجج ليوضح أن القدرة على الانشغال بالبحث الخالص عن الحقيقة هو «أفضل ما يميز الإنسان»، فمن ناحية هو النشاط الوحيد الذي نشترك فيه مع الآلهة، فكما رأينا عند مناقشة ما يفعله المحرِّك الذي لا يتحرك في وقته فإن التأمل هو النشاط الوحيد الملائم للآلهة. كما أن ثمة العديد من الاعتبارات الأخرى التي تجعل التأمل هو الغاية القصوى من الحياة بما يقدم من متعة لا تذبُل، كما هو الحال مع العديد من المتع الأخرى؛ إذ يمكن الاستمتاع به باستمرار، فكما يقول إن هذه المتع «رائعة بفضل نقائها واستمراريتها». بالإضافة إلى ذلك تتميَّز حياة التأمُّل بتحقيق الاكتفاء الذاتي لصاحبها، وهي سمة من سمات الحياة الفُضْلَى فلا يحتاج الإنسان إلى الاعتماد على أي شيء أو أي شخص ليحوزها، فهي النشاط الوحيد الذي يحبه الناس لذاته، في حين أن كافة الأمور الأخرى يؤديها الإنسان سعيًا لكسب شيء آخر بخلاف المتع التي يجلبها النشاط نفسه (أو هكذا ادَّعَى أرسطو). وأخيرًا يندرج التأمُّل ضمن قائمة نشاطات الفراغ، وهو أحد السِّمَات الأخرى للحياة الفُضلى من وجهة نظر أرسطو.
سنعمد الآن إلى مناقشة ما كان أرسطو يعنيه ﺑ «التأمل العقلي». لا يتضح في حالة الإنسان ما إذا كان هذا التأمُّل يشتمل على أبحاث علمية نشِطة من النوع الذي برع فيه أرسطو، أم أنها تقتصر على التأمُّلات غير الفعالة (كما في حالة الرب الذي ليس بحاجة إلى إمعان النظر في أي شيء). وعلى أية حال يبدو هذا التأمل أقرب ما يكون إلى البحث الخالص عن المعرفة الذي امتدحه الفيثاغوريون على أنه أفضل الطُّرُق للخلاص. والتأمُّل العقلي لدى الفيثاغوريين وأفلاطون وكذلك أرسطو هو القَبَس الإلهي في الطبيعة الذي يفتح نافذة على الحياة الخالدة، وإن كُنَّا لا نستطيع في حالة أرسطو إلا أن ننظر من تلك النافذة دون أن نفكر في القفز منها، لأنه ليس ثمة خلود بشري.
وبذلك فإن المدح الذي أَوْلَاهُ أرسطو للتأمُّل العقلي لم يكن فتحًا جديدًا في الأخلاق اليونانية، إلا أن ما قاله أرسطو وغيره من الفلاسفة في هذا الصدد يبقى غريبًا بعض الشيء؛ فالأخلاق اليونانية لها خلفيتها في الأدب اليوناني، لا سيما في مسرحيات سوفوكليس التراجيدية وملاحم هوميروس التي لا يجهلها جاهل. وقد كانت حياة هؤلاء الأبطال الذين تحدَّثت عنهم هذه القصص هي البذرة التي نما منها الفكر الإغريقي عن «خير» الإنسان. ومن هذه الأعمال أدركنا أن الحكمة العملية وغيرها من الفضائل الأخرى المختلفة هي كلها عناصر تدخل في بنية الحياة المثالية، إلا أن هذه العناصر لم تضمن تحقيق السعادة؛ لأن الأمور قد تسير على غير ما يرام (ودائمًا ما كانت تسير على غير ما يرام في المسرحيات التراجيدية). وفي مدحهم لفضيلة التأمل العقلي ابتعد الفلاسفة كثيرًا عن الأوديسة والإلياذة؛ فأوديسيوس يملك قدرًا وافرًا من الحكمة العملية التي قال عنها أرسطو إنها قوام الحياة الكريمة، في حين أن التأمل العقلي لم يشغله كثيرًا؛ فهو لم يفقأ العين الوحيدة الغريبة للسيكلوب العملاق كي يُشَرِّحَهَا أو يصوغ أشكال القياس عن كيفية عمل أجزائها. كانت أعمال هوميروس ستختلف كثيرًا إذا استغرق أبطاله الوقت في التفكير والبحث عن المعرفة، فمن المحتمل أنهم كانوا سيمضون وقتًا أطول في التأمل العابس، كما فعل أخيل. ومن الصعب كذلك أن نرى كيف من المفترَض أن يتناسب التأمُّل العقلي مع حياة الفضائل كما يصفها أرسطو، ناهيك عن الصورة التي رسمها هوميروس في أعماله. وإذا كانت هذه الحالة الرفيعة هي أقصى أماني الإنسان فأين يأتي ما تحدَّث عنه أرسطو سابقًا من نعم دنيوية وحسن حظ وفضائل دنيوية مثل الشجاعة والفطنة وغيرهما؟ فكما رأينا، لم تعبأ آلهة أرسطو بمثل هذه الأمور الدنيوية التافهة مثل العدل، فلماذا إذن على الإنسان أن يعبأ بها؟
ثمة تناقض هنا، وإن كان أرسطو لا يراه عيبًا في نظريته عن الحياة الإنسانية بقدر ما يراه تناقضًا لا يمكن التخلص منه في الحالة الإنسانية نفسها؛ ذلك أن للإنسان طبيعة مركبة كما قال الأورفيون والفيثاغوريون وأفلاطون. فمن ناحية يعتبر الإنسان حيوانًا فانيًا يعيش وسط أقرانه من بني جلدته، وبالتالي عليه ممارسة الفضائل الإنسانية إذا أراد أن يحيا حياة سعيدة، وسيحتاج بطبيعة الحال إلى ضروريات الحياة والحظ الحسن للاستمتاع بها. ومن جهة أخرى نَجِدُ أن للإنسان صفة لا تُمَيِّزُهُ عن الحيوانات فحسب، بل تمنحه نصيبًا ممَّا يتعين أن تنطوي عليه الحياة الإلهية؛ وبناءً على هذه الحقيقة «لا ينبغي لنا أن نتبع نصائح من يَحُثنا من بني البشر على التفكير في الأمور البشرية ومن أهل الفناء والزوال على التفكير في الأشياء الفانية، بل علينا أن نجعل أنفسنا خالدين قدر المستطاع وأن نبذل قُصارى جهدنا لكي نحيا على أفضل ما فينا»، فالحياة الفاضلة إنما هي عمل متوازن تُرَاعَى فيها مطالب الإنسانية من جانب والمطالب الإلهية من جانب آخر.
وقد اعترف أرسطو أن الوجود إن لم يكُن فيه إلا التأمُّل الخالص «لشق على الإنسان الوصول إليه لا بسبب طبيعته البشرية ولكن بسبب شيء إلهي داخله»، فالإنسان يُضْطَرُّ غالبًا إلى القَبول بسعادة «ثانوية» في الحياة طبقًا لفضائل الحياة اليومية التي «تُلائِم حالتنا البشرية». كما أن فكرة أن الحياة التأملية هي أرقى صور السعادة وأقواها تصب جُلَّ تركيزها على فكرة الكمال لدى الإنسان. ولا ريب أن الإنسان قد لا ينال مثل هذه الحياة المثالية يومًا، بل وقد يفشل في تحقيق الفضائل الدنيوية «الثانوية»، ولكن إذا كان الإنسان يعلم ما يحاول أن يفعل «فمن المُحتَمَل أن يصيب هدفه كرامي السهام الذي يصوب على علامة محددة.»
قد تبدو هذه نهاية أكاديمية مخيبة للآمال، فلا ريب أن تحديد الإنسان هدفًا في حياته أمر مفيد ونافع، ولكن آمالنا كانت أبعد من ذلك؛ فمن المفترض أن أرسطو كان أكثر المفكرين اهتمامًا بالجوانب العملية حيث قال صراحة: «إننا لا نبحث في التميُّز لكي ندرك ماهيته، بل لينعكس علينا ونصبح أناسًا صالحين.» وبالبحث الدقيق يتبيَّن لنا أن منهج أرسطو في المادة عملي من الدرجة الأولى؛ لأنه يجيب على سؤال: «كيف يمكن أن أصبح إنسانًا صالحًا؟» بالإجابة التالية: «إذا لم تكن قد تربيت على أن تكون إنسانًا صالحًا يتعين على الدولة أن تجبرك على ذلك.» ويرى أرسطو أن الأخلاق تمهد للسياسة وأن السياسة هي التي تتحقق الفضائل بها؛ فالأخلاق تهتم بدراسة أشكال التميُّز التي تتحلى بها شخصيات أعظم الناس وسلوكياتهم، وبذلك توضح الهدف من الحياة التي تستحق الدراسة. أما السياسة فتَهْتَمُّ بدراسة القوانين والدساتير التي من شأنها أن تشجع التميز وتساعد على ازدهاره؛ وبذلك فالسياسة هي «الفن الرئيس» الذي ينتج السعادة والخير على نطاق واسع. ولم يكن أرسطو موهومًا بقوة الجدال العقلاني المحض، فالفضيلة كما يحاول أن يوضحها في كتاباته عن الأخلاق هي مسألة تتعلق بالشخصية، والشخصية تتكون من مجموعة من العادات؛ ولذلك يقول: «ليس هينًا أن يكتسب الإنسان عادات مختلفة منذ نعومة أظفاره؛ فذلك يصنع فارقًا كبيرًا، بل إن شئت فقُل يصنع كل الفارق.» وبذلك فإن وظيفة المشرعين هي «أن يجعلوا المواطنين صالحين بتكوين العادات فيهم»، فثمة مجموعة صغيرة ومختارة من المواطنين ستصل إلى «تصور عن الأمور النبيلة والسارة» ربما من خلال قراءة ما قاله أرسطو عن الأخلاق، وسيتصرفون على أساسها. ولكن بصفة عامة ﻓ «إن القوانين هي الطريقة المُثلى لتحقيق الصلاح.»
لسنا هنا بصدد استعراض كتابات أرسطو السياسية التي يناقش فيها بعض القوانين وأشكال المجتمع التي يمكن من خلالها تحقيق هذا الهدف، (ففي مناقشته للأمور الدستورية كان يكرس كل هجومه على الشيوعية ثم ينتهي به الأمر إلى تأييد اضطراري لنظام يسمح بمقدار محدود من الديمقراطية). وبدلًا من ذلك سيسلط الجزء الأخير من هذا الفصل الضوءَ على آراء أرسطو في الشعر، ولكن باختصار، حيث يتضح أن الشعر أيضًا يلعب دورًا في جعلنا أناسًا صالحين ولو بطريقة غير مباشرة.
•••
لو سُئِلَ الناسُ اليوم عن أيهما أقرب شبهًا للعلم: التاريخ أم الشعر؛ لأجاب معظمهم: «التاريخ»، فالتاريخ بشكل عامٍّ يُعَدُّ حقيقة على عكس الشعر. أما أرسطو فما كان إلا ليجيب بأن الشعر هو الأقرب شبهًا للعلم، وأن هذا بالضبط هو ما يجعل للشعر مغزًى أخلاقيًّا أعلى من التاريخ. ولا تستعصي هذه المفارقة على الفهم إذا ما تذكرنا ما قاله أرسطو بشأن العلم وما قاله بشأن الأخلاق.
كما رأينا يعتقد أرسطو أن علامة العلم المتطور هو أنه يتناول الحقائق العامة والأساسية عن الأشياء، مثل أن الأبقار تنتمي كلها للمجترات على سبيل المثال. ومن أفضل طرقه للتعبير عن هذه الحقيقة هو قوله إن العلم يهتم «بما عليه الشيء طوال الوقت … أو في غالب الأحوال.» فلا شأن للعلم بالأحداث العابرة أو التفاصيل الثانوية والأمور الغريبة الطارئة (وهو أحد عيوب العلم الأرسطي، ولكن لهذا حديث آخر). أما التاريخ كما يراه أرسطو فهو على النقيض من هذا؛ إذ يعج بالأحداث العابرة غير الضرورية ولا يهتم بالبحث في الحقائق العامة، ولذلك فلا شأن له بالعلم، فالتاريخ يتعامَل مع أشياء معينة تحدُث للتو. أما الشعر الجيد كأعمال هوميروس أو مسرحيات سوفوكليس التراجيدية فتعالج التفاصيل والملابسات غير ذات الصلة؛ بغية التركيز على الحقائق العامة الشاملة عن الحياة والطبيعة البشرية، فالشعر الجيد (الذي يشمل الدراما الجيدة) يلفت نظرنا إلى الخصائص الجوهرية للأنواع المختلفة من البشر من خلال تحديد سلوك أبطال هذه الأعمال وخصومهم وما نتوقع أن نجده في هؤلاء «دائمًا أو في أغلب الأحيان». وبهذا نرى أن «الشعر شيء ذو طبيعة فلسفية أكبر من التاريخ، وجدير بالاهتمام أكثر منه؛ لأنه في الوقت الذي يهتم الشعر فيه بالحقائق العامة يركز التاريخ على حقائقَ معينة. وأعني بالحقائق العامة هنا ما قد يفعله أو لا بد أن يفعله شخص ما في موقف ما.»
ولا تتناسب فكرة أن الشعر يصب اهتمامه على الشخصية مع كثير ممَّا نسميه شعرًا، إلا أنها تلائم ما صنَّفه أرسطو على أنه النوع الأفضل من الشعر مثل الإلياذة والأوديسة. وتُعْنَى الأخلاق كذلك بالشخصيات والأفعال، وبما أن الشعر هو ما يحرك مثل هذه الأشياء أو يحاكيها؛ فلا محيص من أن يكون له مغزًى أخلاقي. وباستحضار أنواعٍ معينة من الشخصيات والأفعال، وحثنا بمهارة على تبنِّي مواقفَ معينة تجاهها، يقوم الشاعر البارع بتقوية الحالات المزاجية المختلفة لدينا بوضعنا فيما يشبه آلة للتدريب العقلي. وبهذا نخلص إلى أن الفضيلة «تنطوي على الفرح والحب والكره بطريقة صحيحة.» وفي سعينا نحو الفضيلة فإننا نهتم ﺑ «اكتساب … القدرة على تكوين الأحكام الصحيحة وعلى الفرح بالحالات المزاجية الجيدة والسلوكيات النبيلة وزيادة هذه القدرة». وقد يساعد الشعر على تقوية جميع هذه الأشياء؛ لأن «الشعور بالمتعة أو الألم بسبب التمثيلات الشعرية لا يختلف كثيرًا عما يحدث مع الواقع.»
وقد استمر أرسطو ثابتًا على موقفه في عدم اعتبار الشعر بشكل عام أداة للتطوير الذاتي، وعدم اعتبار المسرح على وجه الخصوص منبرًا يلقي الواعظ من عليه خطبه؛ فقد كان الغرض من الشعر وجميع الفنون الجميلة هو تحقيق المتعة عن طريق المحاكاة بكافة أنواعها وأشكالها حتى لو كان ينطوي على جانب أخلاقي. فمن الطبيعي أن يحاكي الإنسان الأشياء، وأن يجد نصيبًا من المتعة في نتاج محاكاته. ولم ينبِذ أرسطو هذه المتع والمَلَذَّات كما نبذها أفلاطون في كتابه «الجمهورية»؛ إذ يرى أفلاطون أن معظم الشعر يجعل الإنسان عاطفيًّا وضعيفًا بتشجيعه على ارتكاب كل الأخطاء واقتراف كل الذنوب والآثام التي يجب أن تكون محظورة. وفي نهاية «الجمهورية» جعل أفلاطون شخصية سقراط تعترض على المحاكاة الفنية بالكامل بزعم أنها تَصْرِفُ الأذهان عن الأشياء المهمة في الحياة، ألا وهي المُثُلُ العليا. وإذا كانت الأشياء المادية التي يظنها الإنسان حقيقية هي مجرد ظلال تتراقص على جدران أحد الكهوف؛ فإن الصور التي نجدها في الفنون تنأى عن الحقيقة أكثر وأكثر. فالصور والقصائد تحاكي الأشياء المادية، والأشياء المادية بدورها تحاكي المُثُلَ؛ ومن ثَمَّ فإن الشعر والدراما والموسيقى والفنون البصرية هي محاكاة المحاكاة؛ أي ظلال الظلال، فالفن هو كهف داخل كهف.
ويبدو أن أفلاطون لم يفكر في مدى سوء فكرة الكهف داخل الكهف؛ فأحيانًا كان يقول إن الرقابة على الشعر أمرٌ ضروري، وإن الأشكال الشعرية اللائقة قد يُسْمَحُ بمناقشتها على الملأ (وينبغي أن يؤخذ هذا على أنه وجهة نظره الشخصية)، وفي أحيان أخرى كان يقول إنها يجب أن تُحَرَّمَ بالكلية عدا «الترانيم التي تُغنَّى للآلهة ومدائح الصالحين.» كان رأي أفلاطون متشددًا للغاية. لقد وافق أرسطو على فكرة منع الأطفال من بعض أشكال الشعر، أما أفلاطون فقد أراد أن يعامل الجميع كالأطفال حتى في لحظات اعتداله.
وبينما كانت نصيحة أفلاطون الرئيسة للشعراء هي أن يختفوا من الوجود أو أن ينتقوا موضوعات آمنة؛ فإن رسالة أرسطو في هذا الموضوع كان لها هدف عملي أكثر إيجابيةً يرمي إلى تفسير طبيعة الشعر الجيد.
إن المسرحية التراجيدية هي محاكاة لفعل جادٍّ له كثير من الأهمية، ويتسم بالكمال الذاتي بجانب كونه جذَّابًا حيث يُسْتَخْدَمُ كل نوع من أدوات الزينة المستخدمة في لغته على حِدَة في أجزاء العمل بشكل درامي لا سردي حكائي، ويجري هذا بالتوازي مع وجود أحداثٍ تبعث على الشفقة والخوف؛ الأمر الذي يؤدي إلى تطهير تلك المشاعر.
(ثَمَّةَ جدل واسع منذ ذلك الوقت حول ما كان يعنيه بكلمة «تطهير المشاعر»، وسنعود لذلك فيما بعدُ، ولكن نكتفي الآن بالإشارة إلى أنها كانت تعني في السياقات اليونانية في ذلك الوقت «التطهير» أو «تنقية النفس».)
إذن ما هو الشكل الذي يجب أن يكون عليه هذا النوع الدرامي من حيث الشخصيات والحبكة؟ إن البطل الرئيس يجب أن يكون إنسانًا فاضلًا، وإلا فلن يتعاطف معه الجمهور فيما يمر به من مِحَنٍ. كما يجب أن يكون إنسانًا متميزًا؛ لأن السقوط من الأعلى ومن المكانة الرفيعة له تأثيره الأكبر في إثارة الشفقة في النفوس. ولأن هذه الحالة من الخوف الذي يثير الشفقة تَصدُرُ عن إنسان «مثلنا»؛ فإن البطل يجب أن يكون على درجة من الفضيلة كتلك التي يعتقد الجمهور أنَّه عليها. وثَمَّةَ سبب آخر وراء ألَّا يكون بطل المسرحية التراجيدية رجلًا فاضلًا إلى أعلى الدرجات، وهو أنه لو بلغ أقصى درجات الفضيلة فإن النهاية غير السعيدة ستبعث الضيق في نفوس الجمهور، وليس ذلك من العدل في شيء، فيجب أن يكون به عيبٌ ما أو أن يرتكب خطأً ما كأن يندفع بتهوُّر على سبيل المثال لتكون هذه هي بداية سقوطه، وإلا لأصبح ما يصيبه محض حظٍّ عاثرٍ لا دخل له فيه، ولأصبح ذلك موضوعًا لا يناسب مسرحية جادة. وكما نرى فالشاعر التراجيدي يجب أن يراعي الدقة الشديدة كمن يمشي على الحبل لتخرُج المسرحية على النحو المطلوب. بالإضافة إلى ذلك يجب أن تكون الشخصيات واقعيةً، وأن تُصوَّر بطريقة متناسقة حتى لو كان التناقض جزءًا من طبيعة الشخصيات، وفي هذه الحالة يجب أن تكون الشخصيات «غير متناسقة بشكل متناسق».
أما فيما يخص حبكة المسرحية التراجيدية الجيدة؛ فإن الشفقة والخوف يجب أن يُثارَا لا عن طريق المؤثرات المسرحية كمناظر الدم فحسب، بل عن طريق القصة نفسها؛ ففي المسرحية الجيدة يكون توضيح الأحداث هو ما يحقق الغاية منها. والوسيلتان اللتان تعتمد عليهما الحبكة للعب على مشاعر الجمهور هما «الانقلاب» و«الإدراك»، والانقلاب يحدُث عندما يؤدي حدَث ما إلى عكس ما كان مُخَطَّطًا له أو مُتَوَقَّعًا منه، كما في مسرحية «أوديب» عندما حمل الرسول أنباء كان يَظُنُّ أنها سارة ولكن تبين بعد ذلك أن لها دلالاتٍ مرعبة. وقد كان حادث الرسول في هذه المسرحية مثالًا على نوع «الإدراك» الذي تعتمد عليه حبكة العمل التراجيدي؛ ذلك أن هذا الحادث قد كشف النقاب عن نَسَبِ أوديب الحقيقي، وهو ما يمثل الفاجعة الرئيسة في المسرحية. ويفضل أرسطو أن يحدث الانقلاب والإدراك معًا كما يبين هذا المثال. ويبقى الشيءُ الأهم هو توالي الأحداث وتسلسلها تسلسلًا منطقيًّا بطريقة يُمكِن تصديقُها، فلا يكون هناك أمر غامض حول ما يحدث كما يمزق الخوف والرعب كل ما يصاب بهما.
من الواضح أن التراجيديا الأرسطية ليست محض مسرحية أخلاقية يَلقى فيها الشخص الشرير القصاص العادل. وإذا كان الكاتب قد أدَّى وظيفته على أتم وجه فإن الجمهور لا يترك المسرح مسرورًا بالجزاء العادل الذي تلقَّته الشخصيات، وإنما يغادر في حالة من التأمل والسكون العقلي. ولكن لِمَ يحدث هذا؟ لقد كان لدى أرسطو المزيد ليقوله عن الشعر، ولكن لم يكن هناك أفضل مما لم يَقُلْهُ عن حالة تطهير المشاعر التي تُحْدِثُهَا المسرحية، فكيف لنا أن نحصل على المتعة في مثل هذه المحاكاة التي تبعث فينا الخوف والشفقة إذا كان لا يجدر بنا الشعور بأيٍّ منهما في الحياة الواقعية؟ وقد أثار أفلاطون هذا السؤال من قبلُ دون تقديم إجابة له. ومن المفترض أن نظرية أرسطو حول «تطهير المشاعر» كانت ستنطوي على إجابته عن هذا السؤال، ولكن يبدو أن جُلَّ معالجته لهذه القضية قد فُقِدَتْ أو لم تُكْتَبُ من الأساس. ولكن يمكننا رغم ذلك أن نخمن بعض الأمور على أساس مستنير بهذا الشأن.
قد يقود إنسانًا جبانًا إلى إدراك أن مخاوفه مُبَالَغٌ فيها، وأن مشكلاته ليست على هذه الدرجة من الرعب والتخويف. وقد تثير المسرحية نفسها في رجل قوي واثق من نفسه يتصرف بكِبر وغرور مع الآخرين فكرةَ أن أقوى حكام الأرض قد يحتاج ذات يوم لشفقةِ مَنْ هم أضعف منه ومساعدتهم.
وبِغَضِّ النظر عن شخصيات الجمهور وظروفهم الشخصية، سيتعرضون ﻟ «تطهير» تربوي، وسيشعرون بمتعة خاصة إزاء ذلك؛ لأنه — كما يرى أرسطو — أمر ممتع بطبيعة الحال أن تشاهد «مشاهد المحاكاة» خاصة إذا كان للإنسان أن يتعلم منها. ورغم أن المسرحية التراجيدية الأرسطية ليست نوعًا بسيطًا من المسرحيات الأخلاقية، فلا يعني هذا أنها ليست مسرحية أخلاقية إلى حَدٍّ ما.
وتبقى الآثار الأخلاقية والعاطفية للأدب وشكل العلاقة بينهما لغزًا محيرًا يبعث على الحزن؛ لأننا لا نملك سوى تخمين ما اعتقده أرسطو بشأنها. فلو أَلَّفَ أرسطو كتابًا عن السمك الذهبي وفقده لملأتنا الثقة أننا لم نفقِد الكثير، أما في حالة تناوله لآثار الشعر فمن الصعب أن نكون على القدر نفسه من اليقين.
وثَمَّةَ جزءٌ آخر مفقود من رسالته حول الشعرية — وهو جزء نعتقد بشكل شبه يقيني أنه قد كَتَبَهُ — وهو معالجته لفن الكوميديا؛ فهناك بعض المحاولات لإعادة بنائها تعتمد على مصادر ثانوية كُتِبَتْ في وقت مبكر، كما يُلقي أمبرتو إيكو الضوء على هذا الموضوع في روايته المثيرة «اسم الزهرة»؛ حيث يحكي هذا العمل أن كتاب أرسطو المفقود عُثِرَ عليه في العصور الوسطى على يد راهب بندكتي، وجد أن محتوياته تنطوي على معانٍ مروِّعة عن المسيحية؛ لدرجة أنه كرَّس حياته البائسة لحماية العالم من وصول أفكار هذا الكتاب إليه. (ولأن هذا الراهب كان يعمل أمين مكتبة فلم تكُن نفسه لتطاوعه على التخلُّص من الكتاب حتى اللحظة التي تنحل فيها عقدة الدراما.)
مقارنة الأحسن بالأسوأ والعكس، وذلك عن طريق إثارة الدهشة من خلال مواقف الخداع، والمواقف المستحيلة، وانتهاك قوانين الطبيعة، وما ليس له علاقة بالأمور محل النقاش، وما هو غير منطقي، وتشويه الشخصيات، واستخدام المسرحيات الإيمانية الكوميدية العامية، والتنافر، واختيار الأشياء التي لا تستحق أدنى اهتمام.
إذا افترضنا أن شخصًا ما … رفع سلاح الكوميديا في الموقف الذي يحتاج إلى سلاح جادٍّ … وإذا افترضنا أن فن السخرية أصبح يومًا مقبولًا ونبيلًا وحرًّا متحررًا … وإذا افترضنا أن شخصًا ما جاء ذات يوم يقول (وسمعه الآخرون): «أنا أسخر من تناسخ الأرواح.» فلن يكون لدينا ما نحارب به هذا الكفر … وقد برر هذا الكتاب فكرة أن الحكمة تكمن في البساطة.
الإجابة هي لأن كاتبه هو «الفيلسوف»؛ إذ هدم كل كتابٍ كَتَبَهُ هذا الرجل جزءًا تعليميًّا تَرَاكَمَ في المسيحية على مَرِّ القرون. لقد قال كهنة (الكنيسة) كل شيء يجب معرفته عن قوة الكلمة … ولكن تحول بعد ذلك اللغز الإلهي للكلمة إلى محاكاة بشرية للفئات وأشكال القياس. فسِفر التكوين يروي كل ما يجب معرفته عن تكوين الكون وكان كافيًا لإعادة اكتشاف كتاب «الفيزياء» الذي أَلَّفَهُ الفيلسوف لإعادة فَهم الكون في إطار الحديث عن المواد المعتمة والطينية … قبل ذلك، كُنَّا ننظر إلى السماء بعين الإجلال والوقار وننظر شزرًا إلى الطين، أما الآن فننظر إلى الأرض … فكل كلمة قالها الفيلسوف، والذي يقسم به الآن القساوسة والأنبياء، قلبت صورة العالم.
قد يكون هذا من وجهة نظر شخص مسيحي ضيق الأفق ومتحفِّظ ممن عاشوا في أواخر العصور الوسطى تلخيصًا جيدًا لبعض آثار أرسطو على الفكر الغربي. وبعد إعادة اكتشاف أعماله في القرن الثاني عشر، وقبل أن تجد المسيحية طُرُقًا لاستيعابها وفهمها جيدًا كان يُنْظَرُ إليها بعَيْنِ الشَّكِّ وأحيانًا كانت تُحَرَّمُ. لقد دافع أرسطو عن المنطق والعقلانية اللذَيْنِ كانا يُهَدِّدَانِ الإيمان الأعمى؛ فقد دافع عن دراسة الأشياء الأرضية التي تُشتِّت ذهن الإنسان عن التفكير في السماء والتفكُّر فيها. ويستأنف الراهب حديثه قائلًا: «لكنه لم ينجح في الإطاحة بصورة الرب، فلو أصبح هذا الكتاب … متاحًا للتفسير العام لكُنَّا قد تخطينا الحاجز الأخير.» وهذا يعني أنه إذا أَوْلَى المفكرون كثيرًا من الاهتمام لهذا العمل كما هو الحال مع سائر أعمال أرسطو إذن لعَمَّت الفوضى والاستهتار العالمَ بأسره، وهو ما لا يتفق مع فكرة إله المسيحية. لا ريب أن هذا محض خيال. ويصعب أن يتقبل المرء أن يكون لعمل واحد مثل هذا الأثر العظيم إلا لو كان هذا العمل من أعمال أرسطو ذاته.