قلعة الورع: من العصور القديمة حتى عصر النهضة
في عام ٥٢٩م — أي بعد وفاة سيكستوس إمبيريكوس بحوالي ثلاثة قرون — وجد أحد الأباطرة المسيحيين سبيلًا سريعًا لوضع حَدٍّ للصراعات الفلسفية. ولم يكُن هذا الأمر بجديد، فقد حاول سيكستوس وبعض الفلاسفة الشكوكيين الآخرين أن يستدرجوا الفلاسفة المتعصِّبِين لمذاهب معينة إلى صمت هادئ ولكن معظمهم كانوا يتشككون بدرجة كبيرة في مذهب الشكوكية إلى درجة منعتهم من الالتزام بذلك. لكن الإمبراطور جستنيان جَرَّبَ أسلوبًا مباشرًا بشكل أكبر، فأغلق المدارس الفلسفية في أثينا، إذ يبدو أنه أراد منع الفلسفة غير المسيحية في جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية. لقد كان هدفه الأول هو التخلُّص من الوثنية — فقد قيل إنه أجبر سبعين ألفًا على التَّنَصُّرِ في آسيا الصغرى وحدها — رغم أنه كان يرغب أيضًا في سحق أثينا بوصفها الخصم الفكري لجامعته الإمبراطورية في القسطنطينية. وبغَضِّ النظر عمَّا دفع جستنيان لإغلاق المدارس الفلسفية؛ فقد كانت أيام التساؤلات العقلية المنفتحة معدودة على كل حال. لقد كانت القيود الرُّوحية والدينية على الفكر اليوناني الروماني تزداد قوة لفترة ليست بالقليلة؛ ولذلك كتب بروكليوس — أشهر الفلاسفة الإغريق في القرن السابق — في إحدى ترانيمه للأوثان يقول: «فدعني أحط رحالي أيها الشريد في قلعة الورع.»
وقد بدأت علامات الفلسفة اليونانية التقليدية تخبو حتى بين المفكرين غير المسيحيين. فالصبغة العقلانية التي اتَّصَف بها طاليس وأناكساجوراس وديموقريطس وأبيقور، وعادة التساؤل المتأصِّلة التي اتَّصَف بها سقراط والسفسطائيون والشكوكيون، وحب أفلاطون للجدال المنطقي، وفضول أرسطو العقلي واسع النطاق، كل هذه الصفات كانت تختفي أو على الأقل تتغير. لقد اهتم بروكليوس بالسحر والعرافة قدر اهتمامه بالهندسة وبأفلاطون، وكان من هذا الجانب نموذجًا لفلاسفة عصره. وكانت الأساليب الفلسفية القديمة قد استُهلِكَت قبلَ محاولة جستنيان القوية للقضاء عليها بوقت طويل.
ولم يكُن إغلاق المدارس الفلسفية في أثينا عام ٥٢٩م أمرًا خطيرًا في حدِّ ذاته، فقد سبقه حدثان ألحقَا ضررًا أكبر بالحياة الفكرية؛ أولهما: تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى الغرب اللاتيني والشرق اليوناني في القرن الرابع حيث فصل سريعًا بين الأوروبيين وبين تراثهم الإغريقي، وثانيهما: تدمير الإمبراطورية الغربية وحضارتها على يد البربر في القرن الخامس. ومع ذلك يُعَدُّ عام ٥٢٩م علامة فارقة في تاريخ الفلسفة؛ فمنذ ذلك التاريخ ظلت الفلسفة في الغرب بشكل أو بآخر أسيرة للديانة المسيحية قرابة ألف عام.
لقد ساد بشكل كبير في أوساط أساتذةٍ رغم اتصافهم بالذكاء الحاد، ووفرة وقت الفراغ لديهم، وعدم تنوع قراءاتهم، واقتصار معرفتهم واطلاعهم على القليل من المؤلفين (وعلى رأسهم أرسطو حاكمهم المطلق) لأن شخوصهم انعزلت في الأديرة والكليات، وبمعرفتهم القليل عن التاريخ سواء تاريخ الطبيعة أو تاريخ الزمن؛ فقد نسجوا لنا من مادة غير وفيرة، وباستثارة عقولهم طويلًا هذه الشبكات الغزيرة من المعرفة الموجودة في كتبهم، وهي شبكات معرفية تثير الإعجاب في عملها وفي جمال خيوطها ولكن بلا مضمون أو فائدة.
وبعد ظهور بيكون بقرنين من الزمان — في الوقت الذي أصبح يُنسَب فيه الفضل لديكارت في إزالة هذه الشبكات العنكبوتية — أدان هيجل فلسفة العصور الوسطى، ولم يُدِنْهَا بما قاله بل بما لم يقُلْه. فمن بين ألفٍ وثلاثمائة صفحة رَصَدَ فيها تاريخ الفلسفة رصدًا زمنيًّا خصص مائة وعشرين صفحة فقط للحقبة الوسطى التي استمرت ألف عام، وأفرد ثمانمائة صفحة للفكر القديم الذي امتد عبر ألف ومائتي عام، وأربعمائة صفحة للفلسفة الحديثة التي استمرت لمائتي عام.
ولن يختلف غالبية القراء المعاصرين مع تصنيف هيجل كثيرًا؛ فالنتاج الفلسفي للحقبتين القديمة والمعاصرة بشكل عام ليس أكثر إبداعًا فحسب، بل أسهل فهمًا بالنسبة للقارئ المعاصر من التعليقات المطولة والممارسات الجدلية التي لفظتها العصور الوسطى. وفي ظل ضِيق الوقت والمساحة فمن الأفضل أن نترك فلسفة العصور الوسطى تتيه في غابتها المظلمة التي تغطيها الأشواك.
وليس هناك داعٍ لأنْ نأخذ كلام هوبز أو بيكون على محمل الجِدِّ بخصوص السبب في اختلاف فلسفة العصور الوسطى بصورة غير محمودة، فلم يكُن السبب هيمنة أرسطو أو هيمنة الدين عليها فحسب، كما أن القول إن أفضل عقول العصور الوسطى في الغرب لم تُنتِج شيئًا له «مضمون أو فائدة» هو قول مبالغ فيه.
صحيح أن الفلسفة في العصور الوسطى كانت خادمة للَّاهوت المسيحي، ولكن من المؤكَّد أن فلاسفة العصور الوسطى أنفسهم الذين كانوا جميعًا رجال دين وكان معظمهم يتكسَّب من تدريس اللاهوت لم يعارضوا هذا الوصف، ولكن تلك الخادمة كانت تتحصل على عطلات أحيانًا. وقد جرت العادة على دراسة فروع عديدة من الفلسفة دون النظر إلى حصة اللاهوت من تلك الدراسات. هذا بخلاف أن العديد من الموضوعات الدينية قد أفضى بطبيعته إلى موضوعات فلسفية. فقضية الرُّوح مثلًا يمكن أن تتحول سريعًا إلى دراسة لكيفية اكتساب العقل لمعرفته عن العالم المادي وكيفية ارتباط العقل بالجسد. وبالمِثل قد تتحول مناقشة موضوع الخطيئة إلى معالجة لمسألة الإرادة الحرة، كما يمكن لمسألة العلم السابق للرب أن تُفضي إلى دراسة طبيعة الزمن. والحق نقول إن الكثير من عقائد الديانة المسيحية في العصور الوسطى كان في أَمَسِّ الحاجة للمعالجة الفلسفية؛ فقد كان على المسيحيين أن يؤمنوا مثلًا أن قطعة من الرقاق يمكن أن تتحول إلى قطعة من اللحم بينما لا تزال تبدو كقطعة من رقاق، وأن الرب يمكن أن يكون ثلاثة أشخاص في وقت واحد. ولذلك كانت النظريات المعقَّدة بخصوص المادة والصورة وجوهر الأشياء — والتي تُقَدِّمُ تفسيرًا لهذه الألغاز — تلقى ترحيبًا كبيرًا.
لقد كان لتزاوج الفلسفة بالدين الذي سيطر على جوانب كثيرة من الحياة في العصور الوسطى مميزات عدة، فرغم أن ذلك فرض قيودًا على دراسة الفلسفة نراها الآن غير مقبولة، فقد جعلها محلَ اهتمامِ راعٍ واسِع النفوذ. ولأن الكنيسة كانت مهتمة بالفلسفة كان على كل مَن أراد الترقِّي في مناصبها أو حتى الحصول على تعليم مناسب أن يهتم بالفلسفة أيضًا. وعلى عكس الحال اليوم كان كل المتعلِّمين يدرسون الفلسفة عمليًّا بقدر ما تحت اسم اللاهوت أو الفلسفة الطبيعية أو المنطق على الأغلب. وكان الفلاسفة — رغم أنه كان من الممكن أن يحملوا ألقابًا أخرى من الناحية الرسمية على ما يبدو — رجالًا من الأهمية بمكان. اليوم، قد يطمح أحد الفلاسفة المشهورين في تقديم النُّصح لإحدى اللجان الحكومية بخصوص مسألة صغيرة نسبيًّا، أما في العصور الوسطى فقد كان يمكن أن يكتسب نفوذًا كبيرًا بأن يتولى منصب كاردينال أو مطران أو حتى البابا.
وكان يمكن أيضًا أن يُسجَنَ أو يُعزَلَ أو أكثر من ذلك إذا وصل إلى استنتاجات خاطئة. ولكن الإدانات والتحريم اللذين حدَّدَا مسار الفلسفة في العصور الوسطى لا يمكن أن نأخذهما على عواهنهما، فهما يُبَيِّنَان أن الفكر المستقل لا يمكن التخلُّص منه بسهولة، وإلا فَلِمَ كان على الكنيسة أن تحاول باستمرار التخلص منه؟ فقد فعلت الكنيسة كل ما بوسعها ولم تَجنِ من ورائه إلا القليل في عصر النهضة عندما تحولت الأفكار غير التقليدية من قطرات إلى سيل من الأفكار. وحتى عندما كانت الكنيسة في أَوْجِ قوتها لم تتمكن الأحكام الكَنَسِيَّة إلا من إبطاء وتيرة التغيُّر الفكري وليس تغيير مساره. ففي عام ١٢١٠م مُنِعَ الطلاب في جامعة باريس من دراسة أعمال أرسطو العلمية حتى على المستوى الخاص، وكانت العقوبة الحرمان الكَنَسِي، وبعد عقود قليلة أصبحت دراستها إلزامية.
ولم تكُن قبضة الكنيسة على الفلسفة في العصور الوسطى بشدة مثيلتها التي فرضتها الماركسية واللينينية في أوروبا الشرقية قبل انهيار الشيوعية. وثَمَّةَ العديد من الفروق بين الحالتين، ربما أهمها أن الأنظمة الفكرية البديلة لم تُمنَع في أوساط الطلبة والمعلمين في بداية العصور الوسطى كما مُنِعَت أحيانًا في ظل الشيوعية. ولم تُمنَع هذه الأنظمة لأنها لم تكُن موجودة على الأقل في أية صورة قابلة للتطبيق. ولنفترض لوهلة أنَّ أحد المفكرين الخياليين في أوائل القرن الثاني عشر قد تحرَّر فجأة من قيود المجتمع والنظام التعليمي اللذين تحكمهما الكنيسة. ولنفترض أيضًا أنه كان يملك الوقت والمال اللازمَيْن للبحث في أي موضوع يريده، ويمكنه الوصول إلى أحدث الأعمال المكتوبة بلغة يفهمها، ولديه من الزملاء البارعين المتحررين بالقدر نفسه مَن يستطيع التحدُّث إليه. فكيف كان سيستغل هذه الحرية؟ وما هي قِبلته التي يتلمس فيها الإلهام والأفكار؟ ليس هناك سوى أعمال قدماء الإغريق وتعليقات العرب عليها. وهذا هو ما فعله تمامًا المفكرون الحقيقيون في القرن الثالث عشر عندما شرعوا بعد وقت طويل في استعادة تراثهم الإغريقي وترجمته. فهل عرقلت الكنيسة إذن ما تبِع ذلك من فهم وتطوُّر لما جرى اكتشافه؟ بل على العكس ربما كان مفكرو الغرب سيتباطئون في تعديل التراث القديم وتحويله كاملًا ما لم تجبرهم مطالب المسيحية على دراسته بعين نقدية للغاية. ولنأخذ على سبيل المثال ما حدث عام ١٢٧٧م عندما أدان أسقف باريس ٢١٩ مؤلَّفًا مستمَدًّا من الكتابات الإغريقية والعربية المكتَشَفة حديثًا أو مدعومًا بها على الأرجح. وكما سنرى لاحقًا، لم يكُن التأثير بعيد المدى لهذه الإدانات (التي سرعان ما وقع مثلها في بريطانيا) لتقيد المفكرين بالكنيسة، بل جعلتهم يفكرون بأساليب جديدة.
ولذلك ليس ثَمَّة ما يدعو للاعتقاد بأن البُعد عن المسيحية في القرن الثاني عشر مثلًا كان سيُحدِث تطوُّرًا جِذريًّا في الحياة الفكرية في الغرب اللاتيني. والحقيقة أن التعليم قد وصل إلى حالة مُزرِية في أوائل العصور الوسطى بدرجة جعلت الكنيسة المستبدة أدنى مشكلات المفكرين في العصور الوسطى. فبحلول عام ١٠٠٠م كانت علوم الطب والفيزياء والفلك والأحياء وجميع فروع المعرفة النظرية باستثناء اللاهوت قد انهارت من الناحية العملية. وحتى القليلون ممَّن حصلوا على قدر من العلم الذين فَرُّوا إلى الأديرة كانت معرفتهم أدنى بشكل ملحوظ من معرفة مَن عاش مِن الإغريق قبل ثمانية قرون. ولم يكن معظم الأدب القديم — بما فيه الأدب الروماني — معروفًا إلا لحَفنة من الرهبان، وكانت الملاحظات الرياضية القليلة الموجودة معظمها شديد التفاهة، وكانت النصرانية باختصار غارقة في الجهل (بينما حقَّق العرب تقدمًا كبيرًا في الطب والعلوم والرياضيات والفلسفة منذ أن بدءوا في ترجمة الأعمال الإغريقية إلى السريانية والعربية في القرن الثامن).
لم يَختَفِ التراث الإغريقي بسبب قمعه، بل لأنه تُرِكَ ليذهب أدراج الرياح. وربما تورَّطت المسيحية في بعض هذا الإهمال. فعلى كل حال اعتقد العديد من المسيحيين الأوائل ذوي التأثير الكبير أن الشيء الوحيد المُهِمة معرفته عن العالم هو أن الرب خالقه، وأن أية تفاصيل أخرى لم تكُن ضرورية. وقد أدان القديس أوجستين «شهوة العيون» و«الإدراك عن طريق اللحم، وحب الاستطلاع غير المجدي الذي تزينه نسبته للمعرفة والعلوم.» واعتُبِرَ تشريح جسم الإنسان بغرض معرفة تركيبه فسقًا يخالف تعاليم الدين؛ لذلك توقف البحث الطبي الجادُّ. وقد اعتبر بعض الباباوات الأكثر انفتاحًا أن قدماء الإغريق هم أبناء الرب لذا علينا الاستماع لهم، ولكن الأصوات الأكثر تأثيرًا قالت إن الإغريق جاءوا في مرحلة مبكرة جدًّا فلم يعرفوا الأشياء المهمة في الحياة؛ لذا كان يمكن تجاهل «معرفتهم». ولم تكن الأمور لتتحسن في ظل هذه الظروف ولا في ظل سقوط الإمبراطورية الرومانية واندثار الحياة المتحضرة والمدارس بالتبعية في ذروة العصور المظلمة في أوروبا (من عام ٤٥٠م إلى ٧٥٠م تقريبًا). هذا بخلاف ضعف اهتمام الرومان نوعًا ما بالتراث الإغريقي قبل تحوُّل الإمبراطورية إلى المسيحية بوقت طويل، وكذلك صار حال الإغريق أنفسهم بحلول القرن الثالث الميلادي.
وإذا لم تكُن الكنيسة قد أضرَّت بالحياة الفكرية بالقَدْر نفسه الذي صُوِّرت به في بعض الأحيان، فماذا عن منبع الشر الوارد في تلميحات هوبز: «أرسطو»؟ فهيمنة فكر أرسطو على العصور الوسطى لها شرط لم يتحقق؛ فجميع أعماله لم تكُن معروفة من الناحية العملية في معظم تلك الحقبة. وباستثناء رسالتين صغيرتين عن المنطق لم تنتشر أعمال أرسطو حتى القرون الثلاثة الأخيرة من العصور الوسطى (١١٥٠–١٤٥٠م). ومع ذلك كان هذا الجزء الأخير من تلك الحقبة هو ما شهد معظم الحراك الفكري، فمعظم المؤلَّفات العلمية والفلسفية المعقَّدة قد كُتِبَت في تلك الحقبة إثْر ترجمة أعمال المؤلفين الإغريق والعرب التي بدأت من منتصف القرن الثاني عشر تقريبًا. وفي الواقع انحصر أشهر فلاسفة العصور الوسطى من ألبرت الكبير إلى ويليام الأوكامي في مدة زمنية قصيرة امتدت لمائة وخمسين عامًا. وقد تطورت صورة العالم في العصور الوسطى كما نعرفها — عالم دانتي وتشوسر — لتأخذ شكلها النهائي بين عامي ١٢٠٠م و١٣٥٠م. وفي هذه المرحلة كان تأثير أرسطو قويًّا بالفعل.
لقد وفَّر ما قدمه أرسطو من مفاهيمَ ومصطلحات بعد ترجمتها إلى اللاتينية الأدواتِ اللازمة للتبادل العلمي. فإذا كتب أرسطو عن أي موضوع — وعادة ما كان يكتب — كانت نظرياته نقطة البداية لأية مناقشة عميقة لهذا الموضوع. ودائمًا ما كان هذا العصر يبحث عن سلطة إرشادية تُنِيرُ له الطريق. وبالنسبة للشئون العلمية لم يكُن أحد لينازع أرسطو الخبير في عمله. وكان أحد أسباب ذلك أن الجامعات في القرن الثالث عشر كانت في حاجة لما يملأ مناهجها، وكانت مقالات أرسطو مناسبة لذلك الغرض. وكان التعليق عليها أحد الأشكال الرئيسة للنشاط الفلسفي في الجامعات. وقد كتب ألبرت الكبير حوالي ٨٠٠٠ صفحة من هذه التعليقات.
ولكن لم يكُن ألبرت ليَجِدَ الكثيرَ ليقوله لو اتَّفَقَ دائمًا مع أرسطو. فالعقيدة المسيحية جعلت الاتفاق التام ضربًا من المستحيل. لقد قال أرسطو إنَّ العالم كان موجودًا على الدوام، ولكن المسيحيين كانوا يعرفون أنه لم يكن موجودًا. وقد قال أرسطو إن الرُّوح لا تبقى بعد الموت، ولكن المسيحيين كانوا يعرفون أنها تبقى. وما قاله أرسطو عن المادة تَضَمَّنَ أن القربان المقدس كان أمرًا مستحيلًا من الناحية المنطقية، وهو ما لم يكُن مقبولًا. ولم يكن رَبُّ أرسطو مهتمًّا تمامًا بما يفعله الإنسان، ومن الواضح أن هذا كان مشكلة في حدِّ ذاته.
دائمًا ما كانت أفكار أرسطو يتلقاها الجمهور بحذر وجِدِّيَّة، فقبل كل شيء كان يجب توفيقها مع تعاليم الإيمان، ولم يَعْنِ هذا حذف بعض الفقرات المسيئة فحسب بل التوفيق بين مبادئ المسيحية والمبادئ الأرسطية. وكان العمل المتوِّج لهذا التوفيق هو «الخلاصة اللاهوتية» الذي ألَّفه أفضل تلاميذ ألبرت القديسُ توماس الأكويني (١٢٢٥–١٢٧٤م). كما وجب مقارنة أفكار أرسطو بالإسهامات الجليلة الأخرى على قِلَّتِهَا مثل الإسهامات الأفلاطونية. (ولم تكن أعمال أفلاطون باستثناء قصة الخلق في محاورة «طيمايوس» معروفة على نطاق واسع حتى القرن الخامس عشر، ولكنَّ هناك أفكارًا متنوعةً اعتُبِرَت أفلاطونيةً وردت عن مؤلفين مرموقين منهم القديس أوجستين). إضافة إلى ذلك وصلت مقالات أرسطو إلى الغرب مصحوبةً بتعليقات ضخمة ومثيرة ألفها الباحثون العرب. وبالكاد شرَع أساتذة الجامعة المسيحيون في تعلُّم كل هذه الحكمة ونقلها دون أن يكون لهم رأيهم الخاص؛ ولذلك لم تُستَقبَل أفكار أرسطو وتُقَدَّم كما هي بأي شكل. فعندما يتَّفق معه مفكرو العصور الوسطى فهم لا يردِّدون آراءه فحسب بل يؤكدون أنهم وصلوا إلى الاستنتاجات نفسها.
ولكن حتى عندما يعارضون أرسطو كانوا يفعلون ذلك على طريقته. وهذا ما انتقده نقاد عصر النهضة المتخصصون في علم اللاهوت في العصور الوسطى. لا يمكن تحميل أرسطو نفسه المسئولية عن انقطاعه عن ساحة العلم بعد وفاته بستة عشر قرنًا، ولكن المشكلة كانت في تعامُل أتباعه في أواخر العصور الوسطى مع منهجه الفلسفي وكأنه حي يتحدَّث إليهم. ربما أضفى هؤلاء الأتباع المتأخرون صِبغة مسيحية ولكنهم ظلوا يتحدثون بلغة أرسطو. وربما كانت نظرتهم مختلفةً في بعض الأحيان ولكنهم ظلوا يعيشون في عالم أرسطو. وحتى عندما شكَّكوا في استنتاجاته كانوا أسرى مفاهيمه وتصنيفاته ومناهجه.
لم يكُن أرسطو ليرغب في مثل هذا التأثير بعد وفاته؛ فقد اعتبر نظرياته كما رأينا تفسيرات مؤقتة تستحق البقاء ما دامت توافق الحقائق التي أثبتتها التجربة. وقد حركته هو نفسه روح التساؤل الحر، فلم يكن هو من سمح لمجموعة المفاهيم الجديدة والمتحررة أن تصبح سجنًا للعقل. وهذا يقربنا من المشكلة الحقيقية للتعليم في العصور الوسطى، فقد كان أساتذة العصور الوسطى هم من سمحوا لأنفسهم بأن تستعبدهم الكتب. ولم تكمُن المشكلة في كتب أرسطو أو في الكتب المقدَّسة بل في موقفهم تجاه الكتب عامة، فبدلًا من اختبار الأفكار في ظِلِّ المعارف الجديدة، نزعوا إلى اختبارها في ضوء الكتب القديمة.
رجل متعلم فقَد قدرًا هائلًا من كتبه ونسِي كيف يقرأ كل كتبه الإغريقية … ولنضرب مثالًا على ذلك فيه قدر من المبالغة لا الكذب بركاب سفينة منكوبة شرعوا في العمل على بناء حضارة على جزيرة غير مأهولة معتمِدين في ذلك على مجموعة غريبة ممَّا تبقى من الكتب التي تَصادف وجودها على متن سفينتهم.
ولا يمكن تفسير السبب الأصلي في غرق السفينة وفي هذه الرغبة المتَّقِدة في التمسُّك بالحطام الأدبي في هذا الموضع. ولكن تجدر الإشارة إلى أنه عندما يأخذ إخراج كل نسخة من كل كتاب وقتًا أطول من قراءتها، فبقاء أي نص كان أمرًا محفوفًا بالمخاطر، وكان يحظى بحفاوة بشكل أكبر ممَّا يمكننا تصوره.
ليس من الصعب أن نرى كيف يؤدي الهوَس بالنصوص ومصادر السلطة القديمة إلى صورة من المعرفة تتجه بلا انحرافٍ إلى كل ما هو مُجدِب ومعقَّد فكريًّا. وما إن يفحص عاشق الكتب المنكوب التراث الذي ورثه حتى يدرك أن هذا التراث لا يقول الشيء نفسه. وإضافة إلى مشكلة توفيق نصوص الكتاب المقدس مع بقايا التعليم الوثني، كانت هناك مشكلة التوفيق بين باباوات الكنيسة وبعضهم، وفيما بين نصوص الكتاب المقدس ذاتها، وبين المعلِّقين بعضهم البعض، وكان هذا عملًا لا ينتهي. وكان من الأفضل محاولة إظهار التوافق بين الجهات المختلفة متى أمكن ذلك. ومتى استحال التوصُّل إلى تركيبة متناغمة بين هذه الجهات فقد يفيد البحث عن طريق وسطي أو أرض مشتركة. وإذا كان هذا مستحيلًا أيضًا فعلى المرء أن يقبل الأمر برُمَّته مقدرًا الإيجابيات والسلبيات ويُغَلِّبَ بالمنطق أحد الطرفين. ولحسن الحظ — أو ربما لسوء الحظ إن لم تتفق معه فيما يفعله — فإن أحد الأشياء التي نجح مستكشفُنا في الحفاظ عليها هو المنطق القديم. لقد قدَّم هذا النظام نظرية كاملة عن التحليل والحِجَاج بدءًا من وضع نظام فني للتعريف والتصنيف وحتى دراسة مشكلات الحِجاج. وعلى عكس المنطق المعاصر، لم يقتصر على مبادئ الاستنتاج السليم رغم أنه تناولها هي الأخرى. وبذلك نرى أن المنطق بهذا المعنى الواسع كان أحد أركان التعليم في العصور الوسطى، وطُبِّقَت أدواته باصطناع متزايد في معالجة النصوص وتنقيحها.
وبِغَضِّ النظر عن البدايات الدقيقة والمميزات الأصلية لهذا الأسلوب التعليمي، فقد سيطرت عليه الرداءة التعبيرية. وقد ازداد الاهتمام بالقدرة على «تمييز» فرضيات الحجة؛ أي إثبات التباسها، وأنه يمكن الإقرار بصحتها من أحد الجوانب دون الآخر. وأصبح استخراج معانٍ مختلفة من الأطروحة الواحدة مهارةً يُحتَفَى بها. وقد سيطر القياس الأرسطي الذي يتكوَّن من ثلاث خطوات على دراسة المنطق، فوظف المفكرون العباقرة عبقريتهم بشكل كبير في فرض القضايا المهمة على قوالب هذا القياس المنطقي الذي لم يكُن مناسبًا لهم. وبمرور الوقت أصبحت المناظرات الشفهية وأدبُها أقلَّ حيوية وأكثر جمودًا. وفي بداية القرن السادس عشر زال شغف انتظار الإجابة «الصحيحة» في المناظرات وحل محله نموذج آخر تُقَدَّمُ فيه الإجابة في بداية المناظرة، ولكن كان يجب الاستمرار في تقديم الحجج والأدلة الداعمة والمناهضة. ويبين هذا النظام المقلوب مَيْلَ تلك المناظرات لأن تكون ممارسة للمهارات المنطقية لذاتها. وكان من الصعب أحيانًا مقاومة إغراء تناوُل نقطة معينة، ليس لأنها مشوِّقة في حدِّ ذاتها، ولكن لأن أحد المتناظرين لديه إجابة ذكية لها.
ثمة فكرة شائعة مغلوطة تقول إن الأسلوب العلمي لدراسة الفلسفة قد اندثر في أواخر القرن الرابع عشر تقريبًا. كثيرًا ما يدفع تاريخ الفلسفة لذلك الاعتقاد، ولكن في الحقيقة احتفظت الفلسفة بحيويتها في العديد من الجامعات حتى القرن السابع عشر. وما حدث هو أن الجامعات ومناهجها لم تعُد تروق للمؤرِّخين اللاحقين. وبعد ظهور الكتب المطبوعة من منتصف القرن الخامس عشر ونتيجة لعوامل أخرى كذلك، ابتعدت الحياة العلمية كثيرًا عن قيود المؤسَّسات التعليمية. وفي العلوم والفلسفة على وجه الخصوص عمِل معظم المبتكِرين خارج النطاق الأكاديمي، وتحوَّلت الأنظار إليهم. ولم يكُن لأيٍّ من الفلاسفة الكبار في مرحلةِ ما بعد العصور الوسطى وحتى كانط الذي تُوُفِّيَ عام ١٨٠٤م عَلاقة بأيَّة جامعة (مع أن لوك دَرَّسَ الطب في جامعة أكسفورد لبعض الوقت).
لقد كرَّس فلاسفة العصور الوسطى أنفسهم لكشف النقاب عن الجوانب الغامضة من التاريخ الفلسفي؛ إذ كان موت الفلسفة مُحْدِقًا منذ وقت طويل. ورغم أن مذهبهم الشَّاقَّ وأُفُقَهم الضيق واهتماماتهم الدينية قد أعاقت انجذاب القُرَّاء اللاحقين لهم، فلا ينبغي القول إن أعمالهم الفلسفية لم تكُن إلا تصيُّدًا هامشيًّا للأخطاء. والشيء الوحيد الذي سمِعَه الجميع تقريبًا عن الفلسفة في العصور الوسطى هو أن ممارسيها كانوا يجادلون في أمور تافهة تمامًا، كالسؤال عن عدد الملائكة التي تستطيع أن ترقص على سن إبرة. وتحتاج هذه القصة لنظرة أكثر تفحُّصًا وتعمُّقًا لأن العِبرة الواردة فيها هي عكس المتوقَّع.
قد تكون الحكايات الخاصة بالمحاولات الجادة لتحديد عدد الملائكة الراقصة لطيفة، ولكن لا يمكن أن تكون حقيقية. فلم يكُن اللغز صعبًا ليشغل الفكر لوقت طويل، ولكن في ظِلِّ الاعتقاد بأن الملائكة لم تكُن لها أجسام، فإجابة السؤال عن عدد الملائكة التي تستطيع الرقص على سن الإبرة هي «لا أحد»، فأنَّى لها أن ترقص إن لم يكن لها جسد. ولذلك لم يكُن غريبًا عدم وجود دليل على أن أحدًا قد بحث في هذه القضية بجِدِّيَّة. ومع ذلك أُجرِيَت بعض مسابقات المنطق في الجامعات للترفيه فحسب. وتشبه هذه المسابقات المناظرات التي تُجرَى بين الطلبة في نهاية كل فصل دراسي في الوقت الحالي: «تعتقد إحدى مجموعات الطلبة أن الملوك يفضلون الكرنب»، وليس من المستبعَد أن تكون الحكاية القديمة بخصوص الملائكة ناتجةً عن موقف فكاهي مماثل، وفي هذه الحالة سيكون المنتقِدون — لا فلاسفة العصور الوسطى — هم مَن افتقدوا رُوح الدعابة. ولكن من المرجَّح أن الحكاية بدأت في عصر النهضة في صورة رسوم ساخرة تعرض نقاشًا حول السماء والملائكة وقد رُسِمَت بريشة جون دونز سكوتس (حوالي ١٢٦٦–١٣٠٨م) وهو أحد أَهَمِّ فلاسفة العصور الوسطى. وإن كان هذا صحيحًا فما زالت الدعابة تتحدث عن مفكِّر عصر النهضة — كائنًا من كان — الذي وضع هذه الحكاية؛ ذلك أن هذه القضية التي تناولها سكوتس شبيهة في جوهرها بالقضية التي أقلقت نيوتن بعدها، وظلَّت قضية مثيرة للاهتمام في أساسيات الفيزياء.
تُعرف هذه القضية بقضية الفعل عن بُعد. فكيف لجسمٍ ما أن يؤثِّر على شيء دون وجود تلامُس مادي بينهما؟ لم يكُن نيوتن سعيدًا بأن قُوَى الجاذبية التي افترضها انطَوَت على مثل هذا الفعل اللامترابط؛ فقد بدَا أن الأرض تؤثِّر على تفاحته الشهيرة دون وجود وسيلة اتصال بينية. وبالمِثل لم يكن سكوتس سعيدًا بشأن أن الملائكة التي شاع الاعتقاد بأنها تتسبب في حوادث مادية عندما يأمرها الرب، لم يكن لها أجسام ولم تستطع لذلك التواصُلَ مع أي شيء، فكيف لها إذن أن تُنفِّذ ما أمرها به ربها؟ ولحل هذه المشكلة كان على سكوتس أن يُعيد النظر فيما قاله أرسطو عن مفهوم المكان، فكان الحل الذي قدمه هو أن الملائكة يمكنها أن تتَّخذ موقعًا في الفضاء دون أن يكون لها شكل أو حجم، فكما هو الحال مع النقاط في الرياضيات (رغم أن سكوتس لم يَقُل ذلك) يمكن وضع إحداثيات للملائكة؛ ومن ثَمَّ يمكن للملائكة أن تكون «حاضرة» أو قريبة من الأشياء التي تؤثِّر فيها، وبذلك نتفادى الظاهرة المحيِّرة للفعل عن بُعد، أو هكذا ظن سكوتس.
ثمة الكثير من الأشياء الغامضة في تفسير سكوتس، ولكنه مع ذلك كان يحاول حل لُغز كبير آنذاك. وإن كان هناك ما هو سخيف في تفسيره للطبيعة المادية للملائكة؛ فالخطأ يكمُن في الإيمان بالملائكة وليس في منطقه بخصوصها.
وعند الانغماس في كتابات العصور الوسطى من الممكن أن نرى ذكاءً كبيرًا ورغبة في التعلُّم والفهم. وكلما أمعنَّا النظر وجدنا مزيدًا من الأدلة على ذكاءٍ حادٍّ يتخطَّى ظروفه المحيطة. علاوة على ذلك، في ظل عدم طباعة معظم مخطوطات العصور الوسطى بخلاف المترجَمة من اللاتينية، من المرجح توافُر الكثير من الباحثين الذين يُعلِنون بحماس عن اكتشافهم شيئًا مفيدًا وسط هذا الحطام. ومع ذلك فإن مثل هذا التمحيص يجب أن يُكمله رؤية من منظور أوسع. وإذا نظرنا إلى تراث العصور القديمة وتراث العصور الوسطى في ضوء ما سبق وتلا كلًّا منهما، فلن تكون المقارنة بين ما جاء أولًا وما جاء ثانيًا مدعاة للسرور.
سيرصد باقي هذا الفصل أجزاء قصة الفلسفة والعلم منذ اندثار العالم القديم حتى مولد العالم الجديد، وسنَقِف عند بعض الشخصيات ونقاط التحوُّل. وليس المقصود رسم صورة كاملة عن هذه القصة أو ذكر الجميع.
•••
لنرجع إلى زمن سيكستوس إمبيريكوس آخر مَن ذكرناهم من الفلاسفة في الفصل السابق، والذي لم يعرف للسعادة طعمًا في حياته. في بداية القرن الثالث الميلادي عندما كان سيكستوس يكتب دفاعه عن مذهب الشكوكية لبيرو تحوَّل المشهد الفلسفي إلى كابوس للمتشككين؛ إذ كان هذا العصر عصر مؤمنين لا متشككين، ونجح الناس في الوصول إلى أقوى مراتب الإيمان. وبينما حاول سيكستوس وحَفنة من المتأخرين مقارنة عقائد أفلاطون وأرسطو وأتباع المذهب الأرسطي ببعضها؛ فَضَّلَ معظم المفكرين محاولة الجمع بينها وتَقَبُّلِها دفعة واحدة. وتَضَمَّنَ الأمر الديانَةَ المسيحية والرُّوحانيات الوثنية وسحر تحضير الأرواح وهُراء التنجيم الفيثاغوري وخليطًا من الديانات الشرقية.
إذا تميز القرنان الأول والثاني بعد وفاة أرسطو برُوح التنافُس بين الاتجاهات الفلسفية المختلفة؛ فإن المفكِّرين في العصور القديمة تميَّزوا برُوح التصالح. ولا يعني هذا أن الجميع كانوا متفقين أو أن الفلاسفة امتنعوا عن سَبِّ بعضهم بعضًا، ولكن خيرة الفلاسفة من بعد القرن الأول قبل الميلاد كانوا لا يزالون يهتمُّون بتبجيل فلاسفة الماضي العِظَام أكثر من مواجهة معاصريهم. وكان القليل من فلاسفة الرومان المعروفين قد اكتَفَوْا بمذهبٍ فلسفي واحد، فتبنَّى لوكريتيوس الأبيقورية وتبنَّى سينيكا وإبيكتيتوس وماركوس أوريليوس الرواقية. وبالرغم من تمسُّك لوكريتيوس بكتابات أبيقور فقد أمطر أتباع الرواقيين الرومان الأفكار الأصلية للرواقيين الإغريق بإضافات من مصادر أخرى. وكان هذا التوجُّه الانتقائي سِمَةً أساسية لهذا العصر. وكان التوجُّه الرئيس وخاصة بين الإغريق يَنْصَبُّ في نظرية عن الحكمة القديمة حاولت إثبات مدى التشابُه بين الفلسفات المختلفة. وأعلن أنطيوخوس الأسكالوني الذي شغل منصب رئيس الأكاديمية في أثينا من عام ٨٦ق.م. إلى ٦٨ق.م. أن المذاهب الأفلاطوني والأرسطي والرواقي متماثلة في مضمونها. وكان شيشرون الخطيب الذي حضر محاضرة أنطيوخوس باحثًا آخر بدت كتاباته الفلسفية وكأنها كتابات فيلسوف أفلاطوني يعمل بالقطعة، وأحيانًا مثل كتابات فيلسوف رواقي قد ضَلَّ سبيله. ومما يزيد الأمر بعثًا على الحيرة أنه قد وصف نفسه بالمتشكك.
وعادت الفيثاغورية للظهور من جديد في زمن شيشرون، وحاول أتباعها إثبات أن أفلاطون استقى كل أفكاره الجيدة من فيثاغورس. وادَّعى هؤلاء الأتباع المجدِّدون أيضًا أن أرسطو جاء بكل أفكاره من أفلاطون، جامِعين بذلك قدرًا كبيرًا من الفلسفة الإغريقية القديمة في مذهب واحد. وكان ثمة مشروع آخر أكثر طموحًا للتوفيق بين المذاهب لصاحبه الفيلسوف اليهودي فيلو السكندري (حوالي ٢٥ق.م.–٤٥م). وشجعت شروحه الضخمة والمتضاربة أحيانًا للسبعونية (ترجمة إغريقية للعهد القديم والكتب المنحولة) على المزاوجة بين الكتب المقدسة والفلسفة الإغريقية التي أضاف إليها فيما بعدُ علماء العقيدة اليهود والمسيحيون والمسلمون. وبحلول القرن الثاني الميلادي كان قد جرى الجمع بين أفكار فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو والرواقيين وغيرهم في فسيفساء أبهرت الوثنيين والمسيحيين على السواء.
وقد جمع أحد الكتب المدرسية الفلسفية لمُعلِّم وثني يُدعَى ألسينوس كثيرًا من هذه الأفكار، وقد قال فيه إن الكون خلقه صانع أكبر من خلال الوسائل الواردة في محاورة أفلاطون «طيمايوس». وقال أيضًا: «لقد صممه الرب عندما نظر إلى فكرةٍ ما عن الكون كانت هي نموذجه وكان هو نسخة لها.» ورغم أن أرسطو لم يكُن لديه من الوقت ما يكفي لقصة خلق كهذه، فقد استعان ألسينوس بمفهومه عن المُحَرِّك الذي لا يتحرك في تفسير الحركة المتواصلة في السماء فقال: «دون أن يتحرك بذاته يصرف الرب العلي الكون كما … يثير الشيء المرغوب فيه الرغبة في النفوس دون أن يتحرك بنفسه.» وكما هو الحال عند أرسطو قال ألسينوس إن هذا الرب يجب أن «يتأمل نفسه وأفكاره إلى أبد الآبدين»؛ ذلك أن لا شيء سوى ذلك من العظمة بمكانٍ بحيث يشغله عنه. فما هي إذن هذه الأفكار بالتحديد؟ لم يستطع أرسطو أن يجيب على هذا السؤال ولكن ألسينوس عَرَّفَها بالصور الأفلاطونية المثالية التي كانت نموذجًا لخلق العالم. وبينما اعتبر أفلاطون الصور قِيَمًا مستقلة قائمة بذاتها هُرِعَ ألسينوس على آثار الفيلسوف فيلو في قوله إن الأفكار في عقل الرب. وقد كان هذا التعديل مناسبًا للمسيحيين والمسلمين واليهود؛ لأنه استبعد فكرة أفلاطون عن أن الصور أعظم من الرب. وفي ظل هذه المواءمات الغنية والاقتباسات من الأعمال السابقة استعمل ألسينوس مفهوم الرواقيين عن «العناية الإلهية الباهرة» التي تُوَجِّهُ العالم بما يحقِّق أعظم فائدة للإنسان. وذهب هذا إلى جعل الرَّبِّ أكثر اشتراكًا في العالم من ذلك الرب المُحَرِّك الذي لا يتحرك الذي اقتصر على التأمل عند أرسطو.
يتأمَّل المرء أولًا جمال الجسد، ثم ينتقل إلى جمال الرُّوح، ثم إلى الجمال الموجود في العادات والقوانين، ثم إلى بحر الجمال الواسع، وبعدها يدرك المرء الخير المجرَّد نفسه؛ إذ تظهر غاية الحب والرغبة كالضوء الساطع على الرُّوح في صعودها. ويضاف إلى هذا مفهوم الرب لعظمته المطلقة.
لقد بلغت ديوتيما الذُّروة وارتقت «سلم السماء» وصولًا إلى «روح الجمال المطلق»، ولكن نجح ألسينوس هنا في أن يتجاوز ذلك بدرجتين؛ فهو يقفز من صورة الجمال الأفلاطونية مباشرة إلى صورة الخير، وهي الصورة الأسمى لدى أفلاطون، والتي شبهها في «الجمهورية» بالشمس التي تسطع على كل شيء، ثم يقفز ألسينوس من صورة الخير إلى الرب. وفي الواقع كان الرب وصورة الخير يُعَدَّانِ شيئًا واحدًا في القرن الثاني الميلادي، رغم أن أفلاطون نفسه كان مُصِرًّا على أنهما شيئان مختلفان تمامًا؛ إذ اعتبر الرب قبل خمسمائة عام رُوحًا لا صورة مُجرَّدة. وكانت الفلسفة تهتم بالصور بينما اختص الدين بالأرواح والآلهة، أما الآن فقد امتزجت الموضوعات الفلسفية والدينية ببعضها، فما كان يومًا مجردات فلسفية تحوَّل إلى آلهة محددة وما يخصها من أفكار مقدسة.
لقد اقتفى قليل من مفكِّري القرن الثاني الميلادي أثر الرواقيين في وصف الرب بالنار التي تتخلل الكون، ولكن هذا كان مخالفًا للعُرف آنذاك؛ إذ كان الوضع السائد في هذا الوقت مُعادِيًا للمادية، وبَدَتْ فكرة الرب الناري شديدة المادية. وكان مَن تَأَثَّرَ بالفيثاغورية يشير إلى الرب ﺑ «الواحد»؛ لأنه لو كان معدودًا فذلك هو أفضل الأرقام له. ومع ذلك لم يكُن هؤلاء المتأخرون من أتباع فيثاغورس موحِّدين، فقد اعتقدوا أن هناك آلهة أَدْنَى مرتبة كان لكلٍّ منهم رقمه الخاص، وهو ما اقتبسوه غالبًا من الأساطير. ويبدو أن نومينيوس الأوبامي — وهو أحد أتباع المذهب الفيثاغوري ممَّن عاصر ألسينوس — كان يعتقد بوجود إلهين رئيسين على الأقل، فكان هناك الإله الصغير الذي قام ببناء العالم، ونظيره الكبير الذي لم يُرِد أن يلوث يديه بمثل هذا العمل. وقد تمكَّن نومينيوس من اقتباس بعض من النصوص اليهودية والمصرية والفارسية والهندية المقدسة دعمًا لأفكاره الفيثاغورية والأفلاطونية. وتساءل ذات مرة مَن يكون أفلاطون إن لم يكُن موسى الإغريقي؟
لقد احتلت صورة أفلاطون مكانة خاصة بين هذه المصنَّفات من الحكمة القديمة، كما سيطرت على مشهد الحياة الفكرية المتفكك بالكامل. بالطبع قدَّم ألسينوس كتابه بوصفه «ملخصًا لتعاليم أفلاطون الأساسية» رغم ما يحويه بين دفتيه من اقتباسات واضحة من عدة مصادر أخرى. وفي الواقع اعتبر كل الفلاسفة الإغريق أنفسهم بدءًا من القرن الثالث الميلادي فصاعدًا أفلاطونيين بشكل أو بآخر؛ فقد طغت فكرة أفلاطون التي تقول إن العالم المادي كان محض ظل لحقيقة أسمى على كل النظريات البديلة تدريجيًّا. أما آراء أرسطو الواقعية والنزعة المادية المتشددة للرواقيين الأوائل ولأبيقور، فلم تجِد صدًى لها في حضارة سيطرت الغيبيات على اهتماماتها الدينية والفلسفية.
وفي حياة ألسينوس (على الأرجح في عام ١٢٠) شُيِّد نُصُبٌ يعبر عن التأثير المتراجع لمذهب أبيقور المادي في مدينة أونواندا بجنوب غرب تركيا. وقد جعلت النقوش المحفورة عليها هذه الوثيقة أغرب وثيقة في تاريخ الفلسفة. وبالمثل أنشأ مواطن معروف يُدعى ديوجين صفًّا من الأعمدة بطول ١٠٠ ياردة حفر عليها رسالة من حوالي ٢٥٠٠٠ كلمة في مدح أبيقور والدفاع عنه. ولم يكُن من المقصود أن تكون هذه الأعمدة ضريحًا تذكاريًّا كبيرًا، ولكنه صار كذلك. وظهر أتباع معدودون لأبيقور على مدار القرون القليلة التالية، ولكنهم لم يخرجوا إلى النور إلا ليكونوا هدفًا لهجوم المسيحية؛ إذ قام أهل أونواندا بهدم الضريح في وقت ما في القرن الثالث واستخدموا أحجاره في بناء منازلهم. وتم استخراج ما يقرب من ربع الرسالة وإعادة تجميعه، وتضمن هذا الجزء نبوءة بعهد ذهبي قادم يجلبه اعتناق مذهب أبيقور. وقد ساعدت إعادة إنتاج نظريات أبيقور الفيزيائية في القرن السابع عشر على الترويج لها في ظل الثورة العلمية، ولكن ديوجين كان يأمل أن لو حدث هذا في وقت مبكر عن هذا.
وتتحدَّث تلك النقوش عن «الخلاص» الذي قد تأتي به الأبيقورية. وعلى الأقل في اختياره لهذا المصطلح اقتبس ديوجين روح عصره. وكانت الفلسفة آنذاك يراها الناس طريقةً للخلاص الرُّوحي لا وصفة للسلام النفسي أو النشاط الفكري. وقد عَرَّفَت مجموعة من الكتابات الروحية الفلسفة بأنها الاشتغال ﺑ «تعلُّم معرفة الإله عن طريق التأمُّل المنتظم والتفرُّغ الورع.» وقد ركزت الحركات الدينية المعاصِرة مثل الأدرية على الطبيعة الدنيا والخادعة للعالم المادي، وعلى العديد من الطرق غير العقلية للبحث عما هو أفضل.
أضِف إلى ما سبق أن ديوجين اعتبر فلسفة أبيقور دليلًا على أن العلوم الطبيعية تعود بعظيم الفائدة على البشرية، إلا أن هذه الفكرة لم تَلْقَ تجاوُبًا ولا قَبولًا على الإطلاق؛ إذ لم يكُن ثمة أي اهتمام بالعلم بين مفكِّري القرن الثاني إلا قليلًا. فقد أشاد ألسينوس وزملاؤه «الأفلاطونيون» بعلوم الحساب والهندسة والفلك سيرًا على نهج أفلاطون، ولكن يبدو أن جهدهم قد ذهب أدراج الرياح. أما المسيحيون كما رأينا فكان لديهم ما يَشغَلُهم وكانوا على كل حال يشككون في العلوم الإغريقية. وكان الطبيب العظيم جالين البرجامومي (١٢٩–١٩٩م) ومعاصره بطليموس السكندري من أكبر علماء الحضارة الإغريقية القديمة كلها وأوسعهم تأثيرًا، ولكنهما كانا نهاية السلسلة، فلم يظهر من يَخلُفهُما لمدة طويلة. كان بطليموس أشد علماء الفلك تأثيرًا حتى الثورة العلمية، حيث ظلت روايته لنظرية أرسطو عن أن الأرض مركز الكون خارج نطاق المناقشة لألفٍ ومائتي عام. أما كتابات جالين المبنية على تشريح الحيوانات فكانت فعليًّا مصدر كل العلوم الطبية حتى العصور الحديثة؛ فقد كان عالِمًا موسوعيًّا على الطراز القديم، أضاف الكثير إلى الفلسفة وبخاصة المنطق ومحاولاته الرد على الشكوكية. ولكن لم يكُن بطليموس وجالين ليتمكنا من ترك هذا الأثر طويل الأمد إن لم يكونا آخر جنسهما المندثر، حيث لاحظ جالين أن معرفة الناس بالعالم المادي أقل بكثير من معرفتهما به، ربما لأنهم لم يعودوا مهتمِّين به.
لم تزدهِر العلوم الإغريقية لعدة أسباب في ظل الحكم الروماني؛ فالطبقات الرومانية الحاكمة كانت تشعر بخليط غريب من الازدراء والإجلال تجاه ما حقَّقه رعيَّتُهم وخَدَمُهم الإغريق من إنجازات. فمن ناحية، لم يستطع أي متعلمٍ من الرومان أن ينكر تفوُّق الإغريق في الفنون والعلوم، فبِغَضِّ النظر عن أي شيء آخر كان أدب الإغريق أكثر اتساعًا وتعقيدًا من أدب الرومان، كما كان المعلمون الإغريق هم الأفضل لمن يُطيق أجرَهم، وكانت اللغة اليونانية القديمة هي المستخدَمة في التعليم الراقي. ورغم أن الإمبراطور ماركوس أوريليوس كان يُجري أعماله الإدارية باللغة اللاتينية بشكل طبيعي، فقد كان أيضًا من الطبيعي وقتها أن يكتب تأملاته الفلسفية باليونانية القديمة. ومن ناحية أخرى فرضت الكبرياء الرومانية أن تظل ثقافة العِرق المهزوم في محلها، كما كان للرومان مواهبهم الخاصة التي استحقت أن تتقدَّم على ما سواها. وقد كانت الاهتمامات والمهارات الرومانية عمليةً أكثر منها نظرية، فمن الواضح أنهم كانوا يفضلون شق القنوات على الدخول في مناقشات. وقد جعلت إنجازاتهم الاعتراض على هذا السلوك صعبًا. فنظام الصرف الروماني على سبيل المثال أنقذ بالتأكيد أرواحًا أكثر من تلك التي أنقذتها علوم الطب اليونانية العظيمة.
لم تتجاهل الطبقات المتعلِّمة التقاليد الفكرية الإغريقية برُمَّتِها، ولكنها كذلك لم تتمسك بها جميعًا، فكانت النتيجة أن كانت فلسفتهم فلسفةَ تقليد ومحاكاة وكذلك علومهم، وهو ما يعني عدم وجود علوم حقيقية على الإطلاق. لقد وضع الرومان موسوعات ومصنفات لحقائق مهمة وقرءوا مثلها، ولكن على المستوى العام لم يكُن لديهم دوافع الإغريق للملاحظة والفهم والتنظير والاستنتاج والحفاظ على رُوح التساؤل؛ فقد كانوا مُصَنِّفِين مجتهدين لا مفكرين مبدعين. وفي كتابه «التاريخ الطبيعي» تباهى بليني الكبير (٢٣–٧٩م) بأنه جمع «حوالي ٢٠٠٠٠ حقيقة تستحق التسجيل لمائة مؤلف أجرى عليهم بحثه»، وأضاف قائلًا: «لا أشك أن العديد من الحقائق قد فاتني.» ومن الاختلافات العديدة بين هذا النوع من الجمع وبين دراسات أرسطو أنه لم يكن ليخطر ببال أرسطو أن يحصي عدد الحقائق في جعبته.
قال بليني أيضًا إنه ضَمَّنَ كتابه بعض المعارف القَيِّمَة التي استقاها من تجاربه الشخصية، فيقول على سبيل المثال: «إليكم هذه الحقيقة المذهلة التي من السهل اختبارها: حينما يندم المرء على ضربة ضربها فيبصق في راحة اليد الباطشة؛ فإن الشخص المضروب يقل سخطه.» ولم يَرَ بليني أي فرق بين العلم ورواية الحكايات؛ فهو يروي قصة لؤلؤة كليوباترا الذائبة، ويتحدث عن القدرات العجيبة للدلافين، ويصف كيف رأى امرأةً تتحول إلى رجل في ليلة زفافها. وكذلك ثمة قدر كبير من الملاحظات والتصنيفات الواقعية نسبيًّا في الجغرافيا وعلوم الحيوان والنبات والطب والأحياء، ولكنه يُبقِي على بعض الأمور الغريبة فيقول مثلًا: «تتفق المصادر المدروسة بعناية على أنه أثناء عمل ماركوس ليبيدوس وكوينتوس كاتيولوس قنصلين، لم يكن هناك منزل في روما خير من منزل ليبيدوس نفسه، لكن بعد خمسة وثلاثين عامًا لم يكن هذا المنزل ضمن أفضل مائة منزل.»
-
لماذا أدخل أجدادنا حرف الهاء الحلقي في بعض الأفعال والأسماء؟
-
ليس مؤكدًا أي الآلهة يجب تقديم القربان له عند وقوع زلزال.
-
في الكثير من الظواهر الطبيعية لوحظت قوة وفاعلية معينة للرقم سبعة.
-
قال كبار العلماء إن أفلاطون ابتاع ثلاثة كتب من فيلولاوس الفيثاغوري وإن أرسطو ابتاع بعض الكتب من الفيلسوف سبوسيبوس بأسعار خيالية.
-
أغرب ما عُرِفَ عن طائر الحجل ما سجَّله ثيوفراستوس، وأغرب ما عُرِفَ عن الأرنب البري ما دوَّنه تيوبومبوس.
-
بعض الملاحظات المفيدة والمشوقة في فرع علم الهندسة المسمى باسم «البصريات» وفي فرع آخر باسم «التناغم» وفي فرع ثالث باسم «القياس».
-
مخطئ من يظن أنه عند الكشف عن الحُمَّى يُفحَصُ نبض الأوردة وليس الشرايين.
-
أظرف ردود أنطونيوس يوليانوس على بعض الإغريقيين في مأدبة.
وتحظى هذه الموسوعة الآن بأهمية أكبر من تلك التي حظِيت بها وقت كتابتها، فهي مصدر لجميع أنواع المعلومات والقصص العتيقة التي لا توجد في سواها بدءًا من بعض أفكار الفيلسوف الرواقي المتقدم كريسيبوس عن القدر إلى الحكاية المشهورة حاليًّا عن أندروكليس والأسد المُسالِم. ولكنَّ الشيء الأكثر دلالة على الأرجح ممَّا تُبَيِّنُه الموسوعة عن العالم القديم هو كيف أن الواقع العلمي أصبح هشًّا يعتمد على المصادفة والنقل.
وحتى المؤلَّفات القليلة المتخصصة في الرياضيات والطب والفلك التي وضعها مفكرو الإغريق بَدءًا من القرن الثالث فصاعدًا، كانت في أغلبها تصنيفات وشروحًا لأعمال سابقة بدلًا من الرسائل الأصلية. وكذلك كانت معظم الكِتَابات الفلسفية البحتة على مدار القرون الثلاثة التالية في شكل شروح. وظهر في بعض هذه الأعمال فكرٌ قويٌّ وجديدٌ، ولكن تقديمها في صورة تعليقات على نصوص ذات مكانة هو حقيقة ذات دلالة، ففي معظم الأحوال بدا أن الفلسفة والعلم يفقدان الشجاعة.
•••
كان أكبر فلاسفة القرن الثالث وأقواهم تأثيرًا استثناءً لهذه القاعدة ولم يكُن يكتب محض شروح، إلا أن معظم تعليمه الشفوي كان يرتكز حولها، كما أنه تأثَّر حتمًا بجميع الاتجاهات الفكرية التي لاحظناها. إنه أفلوطين (٢٠٥–٢٧٠م) المعلِّم الوثني الذي تلقى العلوم في الإسكندرية ودَرَّسَ في روما. اصطبغت فلسفة أفلوطين بصبغة غيبية وبنزعة دينية عميقة لم تتأثر قَطُّ بالفضول العلمي. وجريًا على العادة وقتها فقد حاول الجمع بين أفكار المفكرين الأوائل مع وضع أفلاطون فوق الجميع. ودشنت أفكار أفلوطين ذات النزعة الرُّوحية المرحلة الأخيرة من الفلسفة الإغريقية في ظل سقوطها من عالم العقل والمنطق إلى عالم القوى الخفية والدين. وقد كانت هذه الأفكار مثالية للقديس أوجستين (٣٥٤–٤٣٠م) الذي قال إنها ضمَّت كل شيء ذي أهمية في الديانة المسيحية باستثناء شكل المسيح نفسه، بل إن شئت فقل إن علم اللاهوت المسيحي تبنَّى العديد من أفكار أفلوطين، ويرجع الفضل في جزء من ذلك لجهود القديس أوجستين.
يقول تلميذ أفلوطين وكاتب سيرته فرفريوس (٢٣٢–٣٠٥م) إن أفلوطين «كان يشعر بالخزي من وجوده الجسدي»، فقد رأى أفلوطين أن الحياة الدنيوية نوع من الوجود الأدنى مرتبةً، تمامًا كالسجناء المصفَّدين في كهف أفلاطون المُظلِم. ولتأثُّره بحديث أفلاطون عن الأرواح غير المادية وعن الصور المثالية التي تعكسها الكائناتُ الأرضية على نحو باهت، حَثَّ أفلوطين تلاميذه على التركيز على عالم رُوحي أسمى. وكان ما حاول تحقيقه أكثر من أي أفلاطوني آخر هو الوقوف على حقيقة العلاقة بين الحقائق الأدنى والأسمى، فلم يُقدم أفلاطون نفسه ما يزيد على تلميح بوجود عالم أسمى، أما أفلوطين فقد حاول أن يرسم خريطة توضح نقطة التقاء العَالَمَيْن، فَأُعِيد إحياء النظرية الناتجة بما قدَّمته من توصيفات شعرية للتسلسلات الهرمية المُبهَمة بشكل متقطع في الفكر الأوروبي فيما بعدُ. ومنذ القرن التاسع عشر أطلق المؤرخون على هذه النظرية اسم «الأفلاطونية الجديدة» لبيان أنها تجاوزت كل ما اكتُشِفَ عن أفلاطون.
لقد علِم أفلوطين أنه كان يحاول وصف ما لا يوصف، وكان هدف فلسفته الاتحاد بما يشبه الرب الواحد، وهو ما ادَّعى حصوله معه من حينٍ لآخر. ورغم أنه تمكَّن من وصف حالات الاتحاد العابرة، فإن طبيعتها تبين أنه لم يكُن لديه الكثير ليقوله عنها. لقد رأى أن هذا الواحد يتجاوز قدرات العقل الإدراكية، وكان أسمى ممَّا سواه بحيث لا يوجد مفهوم ينطبِق عليه. فمن ناحية أَقَرَّ أفلوطين أن الإشارة إلى هذا الرب ﺑ «الواحد» أمر مضلِّل؛ إذ إن هذا يثير التساؤل: «واحد من أي شيء؟» فالواحد (أو أيًّا ما كان) لا يمكن أن يكون كائنًا لأنه «يتجاوز الوجود» على حد وصف أفلاطون. وقد كتب أفلوطين أنه «لا يمكن الجزم بأيٍّ ممَّا له، لا الوجود ولا الذات ولا الحياة، لأنه يسمو فوق كل هذا.»
إن الواحد يسمو فوق كل شيء لأنه أصل كل شيء ومصدره. وكانت إحدى صور أفلوطين المفضَّلة لاستحضار الطريقة التي لا تُوصَف والتي جاء كل شيء فيها من الواحد هي «الانبثاق»، فالوجود ينبعث من الواحد كما ينبعث الضوء من الشمس، ولكن هذه الصورة معيبة لأنها لا تعبر عن فكرة أفلوطين عن التسلسل الهرمي للحقائق. وربما من الأفضل أن نستخدم صورة النافورة المندفعة حيث يندفع كل شيء من قمة عالية — أي الواحد — إلى ما دونها من طبقات. ومع ذلك لا يجب النظر إلى هذا الفيض القادم من الواحد بوصفه حدثًا ماديًّا. وفي الحقيقة هو ليس حدثًا على الإطلاق لأنه خارج حدود الزمان، فما يحاول أفلوطين وصفه يتعلق بما وراء الطبيعة كلها؛ فهو لا يصف ظاهرة طبيعية معينة يمكن تفسيرها في ضوء السبب والنتيجة.
وتتكوَّن هذه النافورة المجازية عند أفلوطين من ثلاث طبقات «يفيض» كلٌّ منها بشكل ما لتُخَلِّفَ ما دونها، وتحت ينبوع الواحد هناك طبقة العقل، وتليها طبقة الرُّوح. في طبقة العقل نجِد الصور الأفلاطونية المثالية التي تُعَدُّ عقولًا حية بشكلٍ ما، فالعقل فيض الواحد والرُّوح فيض العقل. ويمكن تقسيم الروح ذاتها لعدة طبقات ثانوية تفيض أدناها مُخرِجَة لنا العالم المرئي. أما المادة على الأرض فهي أدنى ما في المرتبة الدنيا، فهي الأبعد عن «الواحد»، الذي يسميه أفلوطين «الخير»، وهذا يعني أنها شريرة. ويحمل مفهوم الشر لدى أفلوطين دلالة سلبية تمامًا، ويشير إلى أبعد مسافة ممكنة عن الواحد أو الخير.
وللحقيقة عند أفلوطين درجات، كما للخير درجات. فهناك أشياء حقيقية أكثر من غيرها، وكلما زاد قربها من الواحد كانت إلى الحقيقة أقرب. ولا يقصد أفلوطين بهذا التعبير الغريب على سبيل المثال أن الخيول «حقيقية أكثر» من الحصان وحيد القرن؛ لأن الخيول موجودة بينما الحصان وحيد القرن منعدم، وإنما يقصد أن هناك عدة درجات للحقيقة حتى بين الموجودات. فحتى إن كان الحصان وحيد القرن موجودًا فعلًا فسيعتبره أفلوطين في أدنى درجات سلم الحقيقة؛ لأن الحصان وحيد القرن لن يتعدى كونه شيئًا ماديًّا، وهذه الدرجة الأخيرة لم تَحظَ من اهتمام أفلوطين بالكثير. وتُعَدُّ هذه الفكرة نوعًا من مذهب الكمال في أكثر صوره تشددًا؛ إذ لا يمكن اعتبار أي شيءٍ حقيقيًّا بشكل كامل إلا إذا كان كاملًا مكتملًا من جميع النواحي، وهو ما لا يتوافر في أيٍّ من الأشياء المادية. ويرى أفلوطين أن ليس كاملًا كمالًا مطلقًا إلا الواحد، فيقول: «هو غنيٌّ في سموه، قائم بذاته، أكبر من كل شيء، لا يشوبه نقص أو احتياج.» ولذلك فهو الحق المطلق. أما العقل فهو أقل في حقيقته من الواحد، وكذلك الرُّوح، أما نحن فلسنا في كامل الحقيقة على الإطلاق.
الرُّوح تَطَّلِعُ على مصدر الحياة ومصدر العقل وبداية الوجود ومنبع الخير وأصل الروح.
ويكتمل وجودنا هناك، فهذا هو النعيم … وهذا هو سلام الروح بعيدًا عن الشر، وهذا هو الملاذ حيث لا خطيئة.
إن رحلتنا إلى الواحد هي رحلة عودة كالمسافر يعود إلى موطنه ومأواه. فهي ليست رحلة نزور فيها مصدر وجودنا فحسب، بل هي رحلة تتضمن اكتشاف أنفسنا الحقيقية. ويقول أفلوطين إنه «عندما تصعد الروح مرة أخرى فهي لا تذهب إلى ما هو غريب عنها بل إلى ذاتها المطلقة.» ذلك أن هناك تشابهًا بين أسمى الأجزاء في أرواحنا وأعلى درجات الحقيقة. وقد اعتبر أفلوطين أن درجات الحقيقة العليا درجات عقلية وليست مادية، كما اعتقد أن الحقيقة تنبُع من الواحد مثلما تنبع الأفكار من العقل. أي إنه اعتقد أن قدرتنا على التفكير تعكس عملية «الفيض» الغامضة التي تُخرِج لنا العالم؛ وبذلك فنحن نشبه الإله الواحد. ويُذَكِّرُنَا هذا بالفكرة الأورفية التي تقول إن الروح داخلنا إنما هي انعكاس باهت للألوهية لا يزال فيه بعض الحياة، كما يُذَكِّرُنَا برأي أرسطو أن نشاط الجزء العاقل من الرُّوح هو نفسه نشاط الرب.
وثمة شيئان ضروريان للرُّقِيِّ إلى مرتبة الواحد، وهما الاجتهاد العقلي وفضائل الأخلاق. ويرى أفلوطين أن هذين الأمرين صورتان من الجهاد في سبيل الصعود من الشواغل الدنيوية إلى الاهتمامات الإلهية أو السامية. ولكن ليس واضحًا إلى أي مدًى يُفتَرَضُ بالمرء أن يزهد في الحياة الدنيا. وقد تخلَّى عضو في البرلمان الروماني عن اشتغاله بالسياسة من أجل الفلسفة حينما سمع ما قاله أفلوطين. ولكن أفلوطين بالطبع لم يَرَ أنه على الإنسان أن يكره العالم أو يتجاهل من يعيش فيه، بل يجب عليه أن يجاهد ليرى الجمال في العالم المرئي؛ لأن هذا العالم كما قال أفلوطين ليس إلا مرآة للواحد، فيجب التحلي بالأخلاق الحميدة مع الجميع؛ لأن كل رُوح تتبع الرب. ولا ينبغي للناس الاعتقاد أنهم سيتمكَّنون من الوصول إلى الواحد من دون فضائل الأخلاق. وقد عارض أفلوطين فكرة أن سُمُوَّ الروح وارتقاءها إلى مرتبة الواحد لا يعتمد إلا على معرفة أسرار العالم، فهذا وحده لا يكفي لأن الواحد هو الخير كذلك، ولا يمكن الاتحاد مع الخير دون أن يتحلى المرء نفسه بالخير.
وكأية فلسفة تركز على السلوك الأخلاقي والغيبيات يسير فكر أفلوطين في اتجاهين متضادَّيْن في آنٍ واحد. فما هو نطاق الحياة الفاضلة القويمة وما هو مداها إن عاش الإنسان «وهو يشعر بالخزي من وجوده الجسدي»؟ ألم يكن باستطاعة تلميذ أفلوطين السابق ذكره أن يقدم المزيد من الخير للعالم إن بقي في منصبه عضوًا في البرلمان؟ وثمة نقطة تعارض أخرى عند أفلوطين تكمن في الجاذبية المتعارضة للتصوف والمنطق؛ فهو متصوف وعقلاني في آنٍ واحد، فأفلوطين عادة ما يحاول إثبات آرائه ويعتمد في ذلك على معرفة الفلسفة القديمة بطريقة تضعه في دائرة أسلافه من أتباع المذهب العقلي. وقد يعبر أفلوطين عن حججه وبراهينه بشكل رديء (حتى إن تلميذه المتفاني فرفريوس أقر بأنه لم يكُن كاتبًا متمكنًا)، وقد تُعاد وتتكرر بشكل لا نهاية له (فحتى هيجل اكتشف أن قراءتها يمكن أن تكون مرهِقة)، كما أنها لا تُقنِع الكثيرين في يومنا هذا. ومع ذلك ففي داخل نثر أفلوطين المتشابك ثَمَّة شيء منطقي يجاهد ليتحرر من أَسره ويفك قيده، فهو مثلًا لا يكتفي بالتأكيد على أن المادة غير حقيقية، بل يحاول بيان أن هذا يُستَنتَج من معرفة أننا ننخدع بسهولة في خصائصها ومن بعض الحقائق الأخرى. وقد لا يكون هذا الاستنتاج مُقنِعًا في النهاية، ولكنه يُظهِر الجانب العقلاني لدى أفلوطين. ومن ناحية أخرى يُقِرُّ أفلوطين أنه يحاول أخذنا إلى ما وراء العقل والمنطق فيقول: «عندئذٍ يأخذنا الطريق إلى ما وراء المعرفة.»
قال أرسطو ذات مرة إن كل إنسان لديه رغبة طبيعية للمعرفة. أما أفلوطين فكان يصبو إلى شيء أكثر من المعرفة، وكان على استعداد للتخلِّي عن أساليب أرسطو الرزينة في سبيل الحصول على هذا الشيء. وقبل أن يستقر في روما ليشتغِل بالتدريس اشترك أفلوطين في حملة عسكرية إلى الشرق، أملًا في الحصول على المعرفة من حكماء فارس والهند. ولسوء الحظ أُلغِيَت الحملة قبل أن تقطع مسافة كبيرة، لكن أفلوطين نجح بطريقة ما أن يرسو على شواطئ الصوفية الشرقية على أية حال. وقال أفلوطين إنه من أجل الاتحاد مع الواحد يجب التخلي عن «البرهان … والدليل … وعملية الاستنتاج التي تخضع لتقاليد العقل»، وأضاف أن «هذا النوع من المنطق لا يُرَدُّ عليه من خلال ما نراه مناسبًا من أفعال؛ فليس العقل هو ما يرى بل ما هو أعظم من العقل.» وتحذو كتابات المتأمِّلين المسيحيين مثل مايستر إيكارت (١٢٦٠–١٣٢٧م) والقديس يوحنا (١٥٤٢–١٥٩١م) وكتابات بعض المتصوفين المسلمين والرهبان اليهود حذو أفلوطين. لقد تاقَ أفلوطين مثلهم للسماء وتطلع إلى «زمن الرؤيا غير المنقطعة؛ الروح غير المقيدة بقيود الجسد» عندما يتمكن من الهرب من الحياة وطرق التفكير التقليدية. فالتفكير العقلاني له مآربه، ولكنه وسيلة وليس غاية.
ولأن فلسفة أفلوطين تلوَّنت برغبة محمومة في وصف ما لا يوصف والوصول إلى ما يستحيل الوصول إليه؛ فهي من ناحية فلسفة دينية، ولكنها من الناحية الأخرى بعيدة تمامًا عن أيِّ دين. لم يهتم أفلوطين بالطقوس السحرية أو أية وسيلة تقليدية أخرى للتضرع للآلهة أو استرضائها. وكان يحترم المعتقدات والممارسات الوثنية، وآمن على الأرجح بفاعلية بعض التعاويذ السحرية، ولكنه رأى أن كل هذا لا يَمُتُّ للواحد بصلة. وقد اعتقد كذلك أن الاستعانة بالعبادة أو السحر أو الصلوات بوصفها طرقًا مختصرة لفهم الواحد إنما هي طرق مضللة لا طائل منها، كما أنه لم يهتم حتى بذكر المسيحية. ربما كانت فلسفة أفلوطين ذات نزعة دينية بطريقة غير عادية، ولكن من الصحيح أيضًا أن دينه كان ذا نزعة عقلية بطريقة غير عادية كذلك.
ولا ينطبق الأمر نفسه على تلاميذ أفلوطين وأتباعه، فبمجرد رحيل أفلوطين نفسه سرعان ما استسلموا لبعض الأفكار التي لا تَمُتُّ إلى العقل بصلة في ظِلِّ تطلعهم لنظرة إلى الواحد، فلم يتمكن فرفريوس من مقاومة فكرة أن الممارسات والتعاويذ السحرية قد تُمثِّل خطوات أولية مفيدة في الطريق إلى العوالم الأسمى؛ إذ كان ضعيفًا أمام الكهنة رغم علمه أنه بوصفه أحد أتباع مذهب أفلوطين كان عليه ألا يلتفِت إليهم كثيرًا. وفي كتابه «الفلسفة من منظور الكهنة» تمكَّن فرفريوس من أن يجِد مكانًا في مخطط أفلوطين للأشياء لجميع آلهة جبل أولمبوس بجانب أرواح الأبطال المقدَّسين ونصف المقدسين مثل أورفيوس وفيثاغورس. كما وصف فرفريوس المسيح بالمعلم الرُّوحاني المستنير، رغم أنه كان معارضًا شديدًا للمعتقدات الرئيسة للمسيحية وكتب مقالًا يهاجم فيه هذا الدين الجديد. وقد رأى في مذهبه أن الديانة المسيحية ارتكبت خطأ مكانيًّا بوضع المسيح عيسى موضع الواحد. وبوصفه أحد أتباع فيثاغورس دعا فرفريوس إلى الطعام النباتي لأنه طعام رخيص وسهل التحضير؛ وبذلك يشكل مصدر إلهاء أقل عن الأمور الرُّوحية. واقترح في بعض الأحيان أن الأفضل عدم تناوُل الطعام أصلًا. وكغيره من أتباع مذهب فيثاغورس آنذاك اهتم فرفريوس بالقوى الروحية للأرقام وكتب عدة رسائل عن الفيثاغورية. (كما أن له أعمالًا أكثر تقليدية تضمنت شروحًا لهوميروس وأفلاطون وبطليموس ومقدمة لجزء من المنطق الأرسطي، وستتضح أهمية هذا العمل الأخير فيما بعدُ.)
وذلك من خلال فعالية «الممارسات» التي لا توصف والتي تُؤَدَّى بشكل سليم، ممارسات تتجاوز حدود الفهم، ومن خلال فعالية الرموز التي لا توصف والتي لا يفهمها إلا الآلهة. وبدون بذل أي مجهود عقلي يُذكَر تؤدي الطقوس المهمة من تلقاء نفسها.
وقد كان إمبليكوس مهتمًّا بشدة بمجموعة من الكتابات الروحية عُرِفَت باسم «الكهنة الكلدانيون»، وكانت هذه الكتابات تتكوَّن من بعض النصوص المقدسة بجانب شروح مثيرة مكتوبة بتفعيلة سداسية. وقد كُتِبَت هذه الكتابات على يَدِ رجل يُدعَى يوليانوس عاش جزءًا من حياته في ظِلِّ حكم الإمبراطور ماركوس أوريليوس في النصف الأخير من القرن الثاني. وقد أصبحت هذه الكتابات نوعًا من الإرشادات للتضرُّع إلى الآلهة، وهو طقس يُسَمَّى «الثيورجي» عَرَّفَه فيما بعد أحد أتباع مذهب إمبليكوس بأنه «قوة تتجاوز الحكمة البشرية وتضم كل امتيازات الألوهية وقدرات الاستهلال والبدء المُطَهِّرَة.» ويبدو أن يوليانوس كان يعرف بعض التعاويذ لاستحضار أشباح للإله كرونوس والصواعق والحصول على خبرات من خارج النفس. ومن الواضح أن هذه الأشياء متوارَثة في عائلته لأن والده استحضر شبح أفلاطون ذات مرة.
كان إمبليكوس كذلك باحثًا ذا شأنٍ عظيمٍ عندما لم يكُن يؤدي «الطقوس التي لا توصَف». وبجانب شرحه ﻟ «الكهنة الكلدانيون» فقد كتب شروحًا للعديد من محاورات أفلاطون ورسائل أرسطو و«مقدمة علم الحساب» لنيكوماخوس (وهو أحد الفيثاغوريين، وقد ظل كتابه العمل الرئيس في هذا الموضوع لألف عامٍ). كما كتب إمبليكوس رسائل رياضيةً عن علم الصوت والفلك. وقد أعلن عن رغبته في «أن يمخُر عباب كل ما في الطبيعة بسيف الرياضيات.» ورغم أنه على الأرجح لم يكن سببًا في أية إنجازات بنفسه فقد كان مثل هذا الإيمان الفيثاغوري بأهمية الأرقام بمنزلة إلهام لعلماء مثل كبلر في القرن السادس عشر.
ويذكرنا هذا المزيج بين الساحر والعالِم البدائي الذي نراه في إمبليكوس بالرموز ذات الأعمال الباهرة مثل إمبيدوكليس فضلًا عن فيثاغورس نفسه. وقد تحدَّث بعض أتباع أفلاطون المتأخرين عن إمبليكوس بوصفه إلهًا، مثلما قدَّس بعض أتباع فيثاغورس أستاذهم. ولكن الأهمية الكبرى لإمبليكوس في تاريخ الفلسفة تكمُن في كونه عالِم لاهوت لا إلهًا. وقد حاول إمبليكوس كما حاول فرفريوس من قبله أن يحول المفاهيم الجافَّة في نظام أفلوطين إلى آلهة حية عن طريق مطابقة القِيَم المجرَّدَة مثل العقل والرُّوح بالآلهة من البانتيون الإغريقي والمصري. وقد ساعد بذلك على وضع لاهوتٍ فلسفي للوثنية كان له كبير الأثر في تطور الفكر المسيحي. وقد نتج عن هذا المشروع أعمال بروكليوس (٤١٠–٤٨٥م) الذي رَأَسَ مدرسة أفلوطين الفلسفية في أثينا، التي تعد أثرًا باقيًا لأكاديمية أفلاطون.
كان كتاب «أركان اللاهوت» لبروكليوس آخر محاولة في العصور القديمة لتوضيح النظام «الأفلاطوني» الذي ترعرع بعد وفاته. وينبع المنهج الذي اتَّبَعه هذا الكتاب غير التقليدي من هندسة إقليدس، حيث يبدأ إقليدس ببعض الافتراضات والتعريفات عن الخطوط والمستويات والزوايا وغيرها، ثم يستنبط بعدها سلسلة من الفرضيات حولها. وبأسلوب مشابه يهدف كتاب «أركان اللاهوت» لتوضيح ٢١١ افتراضًا بخصوص البناء الهرمي للحقيقة وطبيعة الزمن والرُّوح والوجود والواحد وجميع أنواع الآلهة الثانوية. ولا يزال عمل إقليدس (بعد تنقيحه) أساسًا لمدرسة الهندسة، أما كتاب «أركان اللاهوت» لبروكليوس فيبدو الآن عبثًا لا طائل منه؛ ذلك أن العالم بالنسبة له حديقة حيوان سرية تتقابل فيها الآلهة الوثنية مع مجموعة من المفاهيم المجرَّدة صعبة الإدراك. وفي محاولة لتنزيه الواحد المقدَّس والمتصف بالكمال عن دنس الموجودات الأدنى أضاف بروكليوس عدة مستويات بينية جديدة للحقيقة لصورة كانت معقدة بما فيه الكفاية. وقد جُمِعَ الكثير من ابتكاراته في ثلاثيات، وهو ما أعطى المسيحيين انطباعًا أنه كان يتحدث فعلًا عن الثالوث المقدس.
ورغم أن الصورة الهرمية التي رسمها بروكليوس عن العالم تعود إلى أفلوطين، كان مذهبه في الفلسفة يدين بقدر أكبر لإمبليكوس والطقوس الواردة في «الكهنة الكلدانيون». وقد استبدلت رؤى أفلوطين الرُّوحية السلبية للواحد بمحاولة إيجابية لاستغلال الروابط الخفية بين مستويات الحقيقة وكل ما فيها. باختصار كان بروكليوس ساحرًا، وكان يؤمن بجميع أنواع الطقوس التي تتضمَّن استخدام الأعشاب والأحجار والتعاويذ لاستحضار الآلهة، كما كان يؤمن بالتنانين وعرائس البحر، وبأن أوثان الآلهة قد تتحرك عند قول الكلمات المناسبة.
لقد تغيَّرت الميول الفلسفية الأولى في أثينا كثيرًا منذ العصور الأولى. فأين كان ورثة أناكساجوراس وبريكليس اللذَيْن حاربا المعتقدات الخرافية وبحَثَا بدلًا منها عن التفسيرات الطبيعية للمعجزات الإلهية؟ وأين كان ورثة بروتاجوراس الذي قال إنه لم يعرف شيئًا عن الآلهة لأن هذه الأمور كانت أشد غموضًا من أن يفهمها الإنسان؟ وأين كان ورثة سقراط الذي لم يكن ليتحدث إلى تمثال إلا إذا كان شارد الذهن؟ من الواضح أن بروكليوس كان مصابًا بجنون من نوعٍ آخر. ربما كان يَنْظِمُ أروع الأبيات في شرح أعمال أفلاطون وأرسطو، وربما كان مجتهدًا في العديد من فروع المعرفة؛ فقد كتب مؤلفات في الرياضيات والفلك والطبيعة والنقد الأدبي، ولكن العلم الذي كان أشد رغبة في تعلمه هو الخلاص. لقد كان هدفه الأسمى هو بناء جسر بين الآلهة الناظرة إلى العالم والأرواح الناظرة منه، وهي مهمة كانت تتحقَّق بشكل أفضل من خلال السحر والدين. ولم تَتَعَدَّ وظيفة الفلسفة حينئذٍ تفسير الحقائق الرُّوحية التي تَوَصَّلَ الناس إليها بالفعل عن طريق وسائل أخرى.
وقد تعامل بروكليوس مع الفرضيات الأساسية لنظريته في اللاهوت كما لو كانت مُسَلَّمَاتٍ لا تقبل المناقشة، مَثَلُهَا كمَثَلِ مُسَلَّمَات نظرية إقليدس. ولم يكُن هذا بسبب أنها بدَهية مثل مُسلَّمات إقليدس التي تقول إن «الكل أكبر من الجزء» بل لأنها جاءت بإيعاز من السلطة المقدسة أي سلطة أفلاطون وأفلوطين و«الكهنة الكلدانيون». لقد كانت أعمال بروكليوس الفلسفية محاولات لشرح ما جاء في النصوص المقدسة، وفي ذلك قال أحد الشارحين المعاصرين إن نظام بروكليوس «لم يكن لِيُولَد لو لم يكن هناك دِين يفسره.» ولاستكمال الاستنتاجات البحتة في كتابه «أركان اللاهوت» كتب بروكليوس أيضًا ترانيم تشبه الصلوات تلخص ما جاء فيها في صورة أكثر شعبية حيث التزم بالشعائر والصلوات الوثنية في وقت دانت فيه الإمبراطورية بالمسيحية، وهو ما أوقعه في المشكلات عدة مرات.
لقد حَوَّلَ إمبليكوس وبروكليوس فلسفة أفلوطين إلى عقيدة وثنية كما حَوَّلَهَا فرفريوس من قبل، فتحولت هذه العقيدة بالتبعية إلى عقيدة مسيحية. وقد لعبت تعاليم بروكليوس دورًا مهمًّا في تطور الفكر المسيحي بسبب عملية تزوير جريئة بالدرجة الأولى. فقد كتب كاتب مسيحي مجهول الهوية كان على علم بأعمال بروكليوس وربما كان أحد تلاميذه بضعة كتب ادَّعَى أنها لديونيسيوس المزيف وهو رجل ذُكِرَ في الإنجيل أنه تنصَّر على يد القديس بولس. وقد أكسب هذا الادِّعَاء هذه الكتب وزنًا كبيرًا لكنه غير شرعي. وكانت تلك عقيدةً يعود أصلها على ما يبدو إلى المسيح نفسه. وبعد ترجمة هذه الأعمال من اليونانية إلى اللاتينية في القرن التاسع على يد يوهانز سكوتس إريجيا، وهو عالم أيرلندي كان من بين القلائل في الغرب اللاتيني الذين لم يزالوا يعرفون اليونانية، وقد كتب عن هذه الأعمال أغلب مَن كانت لهم علاقة باللاهوت في العصور الوسطى. وقد اهتم القديس توماس الأكويني على وجه التحديد بهذه الأعمال اهتمامًا شديدًا. وتعود المراتب السماوية الهرمية الواردة في أشعار دانتي وميلتون أساسًا إلى «ديونيسيوس المزيف» الذي انكشف تزويرُه أخيرًا في القرن التاسع عشر، وكذلك حال العديد من الأفكار الرئيسة في اللاهوت المسيحي.
لقد كانت عقيدة بروكليوس الوثنية تنقصها بعض التغييرات قبل أن يمكن استخدامها في المسيحية. ورغم ذلك لم يكُن اعترافها بآلهة عديدة — بل إن شئت فقل بجميع الآلهة تقريبًا — مشكلة كبيرة؛ فقد كان من السهل اعتبار أن الواحد هو الإله الحقيقي، ولكن كانت هناك مصاعب أخرى. فالتسلسُل الهرمي الأفلاطوني الجديد للواحد والعقل والرُّوح على سبيل المثال يبدو أنه خصص جزءًا كبيرًا من العمل للعقل والرُّوح. وتبدو فكرة أن كل مستوًى بَينِيٍّ للحقيقة «يفيض» لينتج المستوى الذي يليه متعارضةً مع المعتقد المسيحي بأن الرب (أي الواحد) قد خلق كل الأشياء بنفسه؛ ولذلك يعطي ديونيسيوس المزيف الكائنات البينية أدوارًا أقل أهمية؛ فالآلهة الثانوية في العقيدة الأفلاطونية الجديدة على سبيل المثال أصبحت الآن ملائكة بقدرات محدودة بشكل أكبر، كما أنهم خُلِقُوا على يد الرب مباشرة ولا يقدرون على خلق أي شيء بأنفسهم. وقد واءم ديونيسيوس المزيف البناء الهرمي الثلاثي لبروكليوس لتحديد ترتيب المراتب التي تَلِي مرتبة الرب، وتتكون كل مرتبة منها من ثلاثِ مجموعات ثلاثية. وقد كان هناك ترتيب في السماء وآخر على الأرض. وتضمن التسلسل الهرمي السماوي سيرافيم وتشيروبيم وثرونز ومنطق النفوذ والقوى والسلطات والإمارات وكبار الملائكة والملائكة، أما الهرم الأرضي الذي يترأسه المسيح فيشمل مناصب الكنيسة.
لقد أدهش ما قاله ديونيسيوس المزيف عن معرفة الرب علماء اللاهوت المتأخرين على وجه الخصوص؛ إذ قدم حلًّا معقدًا لمشكلة وصف كائن من المفترض أنه يتجاوز حدود الفَهم والإدراك. وقد أكَّدت الأفلاطونية الوثنية الجديدة أن صفات مثل «الخَيِّر» و«الحكيم» لا يمكن استخدامُها لوصف الواحد الذي لا يوصف بل لوصف العناصر الأدنى منه في التسلسل الهرمي للحقيقة فقط. ومن الواضح أن هذا لم يتوافق مع العقيدة المسيحية التي تقول إن الرب نفسه خَيِّرٌ وحكيم. وكان رد ديونيسيوس المزيف أنه على الرغم من أن الرب لا يمكن وصفه بالخَيِّر أو الحكيم كما هو الحال مع البشر، فإنه يمكن إطلاق وصف خاص من الحكمة والخير عليه؛ انطلاقًا من أنه هو خالق هذه الصفات في البشر. وطبقًا لهذه النظرية فأية صفة إيجابية تتجسد في الخلق بأي شكل يمكن أن تنطبق على الخالق نفسه (شريطة أن تتفق مع طبيعته غير المادية، فلا يمكن وصفه بالبدانة أو أن نقول إن عينه زرقاء مثلًا). وبالطبع سيكون خير البشر وحكمتهم ناقصين معيبين ما دامت السموات والأرض، ونحن لا نعرف إلا هذه الصور الناقصة التي تُعطي معنًى للمصطلحات «خَيِّر» و«حكيم» التي نستخدمها. ولذلك للدلالة على أن كرم الرب وحكمته أكبر من نظيريهما لدى البشر يقترح ديونيسيوس المزيف أن نَصِفَ الرب ﺑ «الحكمة المطلقة» و«الخير المطلق» وهكذا.
وبتبنِّيه فكرة وضعها بروكليوس في الأساس فَرَّقَ ديوجين المزيف بين الطرق الإيجابية والسلبية لمعرفة الرب. فالطريقة المذكورة أعلاه والتي تقضي بالانطلاق من القيم المعروفة في الخلق وإثبات الصور الكاملة منها للرب هي الطريقة الإيجابية لتكوين صورة عنه. ولهذه الطريقة أغراضها، ولكن ثَمَّة طريقة أخرى وهي الطريقة السلبية (كما سمَّاها علماء اللاهوت اللاتينيون فيما بعدُ) والتي يمكن أن تقرب الإنسان من الرب بدرجة أكبر. وهي تعني استبعاد كل المفاهيم التقليدية من فكرتنا عن الرب، فلنستبعد مثلًا فكرة المحدودية التي تنطبق على كل المخلوقات فيتبقى انعدامها أو اللامحدودية والتي يمكننا عندها أن ننسبها إلى الرب. فصحيح أننا لا ندرك حقًّا معنى اللامحدودية، ولكننا نعرف عكسها تمام المعرفة، فنحن محاطون بصور المحدودية كالفناء والنقص وعدم الكمال. ونحن بذلك نتعلم شيئًا عن الرب من خلال معرفة أن لا صفة من هذه الصفات تنطبق عليه. ويقول ديونيسيوس المزيف إنه يمكننا معرفة الرب بشكل أفضل عن طريق «نفي كل الأشياء الكائنة أمامنا أو استبعادها»، والهدف من ذلك هو أن ننغمس في «ظلام كامل» نتجرد فيه من طرق تفكيرنا التقليدية ونحاول أن نتجاوزها إلى ما وراءها. وسيجعلنا هذا الحرمان الفكري في حالة أنسب لاستقبال النور الرُّوحي عن طبيعة الرب. وتتناول «سحابة المعرفة» — وهي إحدى الروائع الأدبية عن الرُّوحانيات المسيحية ظهرت في القرن الرابع عشر ولا يُعرَفُ لها مؤلف حتى الآن — وغيرها من الأعمال المشابهة هذه الطريقة السلبية للوصول إلى معرفة الرب.
بالعودة إلى الطريقة الإيجابية للمعرفة والتي يُوصَف فيها الرب ﺑ «الخير المطلق» و«الحكمة المطلقة» وغيرهما، قد يتساءل متسائِلٌ عن كيفية تجنُّب ديونيسيوس المزيف وصفه ﺑ «الشر المطلق» كذلك. فإن كان الرب يتصف بالخير المطلق لأنه خلق الأخيار، فَلِمَ لا يتصف بالشر المطلق لأنه خلق الأشرار؟ ولتجنُّب هذه المشكلة استخدم ديونيسيوس المزيف فكرة أفلوطين أن «الشر» لا يعني إلا البعد عن الواحد، فهو ليس موجودًا كصفة حقيقية في العالم وإنما هو انعدام الخير؛ ولذلك فمن الخطأ تمامًا أن نظن أن الشر جزء من الخلق؛ ومن ثَمَّ فما من سببٍ لوصف الخالق ﺑ «الشر المطلق». وقد اتفق العديد من المسيحيين بعد ذلك مع هذا المذهب، مثلما فعل القديس أوجستين وآخرون مثله ممن تأثروا بأفلوطين حتى قبل ظهور ديونيسيوس المزيف.
على الرغم من أن تناول ديونيسيوس المزيف لفكرة الشر كان إسهامًا لاقَى ترحابًا كبيرًا في اللاهوت المسيحي فقد نحا إلى الهرطقة أحيانًا، فقد كان يحاول على سبيل المثال البحث عن واحدٍ لا ينقسم فيما وراء الثالوث المقدَّس المكوَّن من الأب والابن والرُّوح القُدُس. وقد أفضى هذا العبث بالحسابات اللاهوتية إلى منطقة خطرة؛ إذ إن ثلاثة أشخاص في واحد هي الثالوث، أما ثلاثة أشخاص بجانب الواحد فهي هرطقة قطعًا. لقد كانت قضية الخلق الإلهي قضية أخرى قادت فيها روح الأفلاطونية الجديدة ديونيسيوس المزيف إلى طريق الضلال. فرغم أنه جرَّد العقل والروح من قدرتيهما على الخلق وجعلهما في يد الرب وحده، فلم يزل ديونيسيوس المزيف يجعل الأحداق الواردة في سفر التكوين تبدو وكأنها عملية «الفيض» التلقائية لدى الواحد الذي قال به أفلوطين. ويرى أفلوطين أن الخلق يحدُث لأن طبيعة الواحد شديدة العظمة لدرجة أنها تؤثِّر على ما يقع تحتها من مراتِبَ في سُلَّمِ الحقيقة. وهذا يجعل الأمر كله يبدو شديد التجرُّد ولا يعدو مجرد قطرة في بحر عميق. أما بالنسبة للعقيدة المسيحية الأرثوذوكسية فإن الخلق كان عملًا إراديًّا تطوُّعيًّا كان فيه الرب قادرًا على ألا يختار القيام به، لكنه اختار أن يُنجِزه لحسن الحظ.
كان ديونيسيوس المزيف دائم الاتفاق مع العقيدة المسيحية في مثل هذه الأمور؛ فليس هناك ما يدعو للشك في صدق إيمانه وقوته، ولكن لم يزَل جزء منه يعيش في العالم الأفلاطوني الجديد حيث وظَّف أحيانًا معتقدات الدين الجديد لتُلائم أفكاره الفلسفية السابقة رغم أنه على الأرجح لم يكُن على علمٍ بذلك، فبدون سلطة عمله الزائفة لم يكن ليكون له مثل هذا التأثير في المسيحية كما حدث.
أما القديس أوجستين فعلى النقيض لم يكن في حاجة إلى اسم مستعار ليسرب أفكاره إلى الشريعة المسيحية، فإخلاصه المطلَق للقضية المسيحية يتضح في كل ما كتبه بعد تحوُّله إلى المسيحية عام ٣٨٦م، فكتب يقول إن الفلاسفة «يقولون أشياءَ حقيقيةً لكنها في ذاتها ليست ذات قيمة في اعتقادي.» ورغم أن أوجستين قد أُعجِبَ بالكثير فيما اعتقد أنه فلسفة أفلاطون فهو لم يحاول أن يمزج بين مذهب أفلاطون والمسيحية كما فعل ديونيسيوس المزيف، فلم ينظُر أوجستين لمذهب أفلاطون على أنه مصدر للحكمة ينافس الدين الحقيقي ليوفِّقه معه، بل اعتبره نبوءةً جزئيةً غير كاملةٍ. وقد شكر أوجستين العناية الإلهية على هدايته ﻟ «الكتب الأفلاطونية» (التي كانت في الحقيقة أعمالًا لأفلوطين وفرفريوس) إذ قال إنها علَّمته «كيف يُفَرِّقُ بين من يعرفون الهدف لكن لا يعرفون الطريق إليه وبين من يعرفون السبيل المؤدي إلى جنات النعيم.»
عندما رأى أوجستين تعارُضًا بين أفلاطون والرب لم يكن لديه شَكٌّ إلى أيهما يكون ولاؤه. ومع ذلك فقد كتب: «ليس هناك من هم أقرب إلينا من الأفلاطونيين.» وأوضح أنه «لو عاد هؤلاء إلى الحياة مرة أخرى لأصبحوا مسيحيين مع اختلاف في بعض الكلمات والعبارات.» وقد كان تصنيف أوجستين — وهو أكبر المفكرين المسيحيين الأوائل — لأفلاطون وتلميذه أرسطو على أنهما أعظم الفلاسفة الإغريق أحد الأسباب في علو مكانتيهما في الغرب منذ ذلك الحين.
وُلِدَ أوجستين في شمال أفريقيا عام ٣٥٤م؛ أي قبل حوالي ستين عامًا من مولد بروكليوس، لأمٍّ مسيحية وأبٍ وثني. وقد وصف طريقه المتقلب من الغرور إلى الانحراف ثم إلى الأفلاطونية ومنها إلى المسيحية في كتابه «الاعترافات». ولكونه دارسًا للبلاغة ومعلِّمًا لها بعد ذلك قرأ أوجستين بعض التفسيرات القديمة للفلسفة الإغريقية في أعمال شيشرون الذي تأثَّر أوجستين مثله بمذهب الشكوكية الذي دَرَّسه أرسيسيلاس وكارنيادس اللذان قالَا إنه لا يمكن معرفة أيِّ شيء بشكل مؤكَّد. وبعد اعتناقه المسيحية وعندما تأكد من أن الرب قد ملأ عقله بالحكمة زعم أوجستين أنه قادر على دحض حجج المتشككين. أما التأثير الأكبر لاختلاطه بالفلسفة في شبابه فيتمثل في إثارة تطلُّعات لم يكُن ليتمكن من إشباعها، فها هو ذا يقول: «أيتها الحقيقة كم أتوق إليك من أعماق فؤادي!» وقد عمل كذلك بنصيحة شيشرون التي تقول: «لا تدرس اتجاهًا بعينه بل اسعَ إلى الحكمة وتمسك بها أينما وُجِدَت.» في البداية بحث أوجستين عن الحكمة في النصوص المقدَّسة لكنه لم يألفها؛ إذ بدت له «بلا قيمة مقارنةً بشيشرون، فقد نفر غروري الزائف من قيود الإنجيل فلم يدخل إلى قلبي»، واتَّبع بدلًا من ذلك مذهب «الرجال المعتزين بحديثهم المبتذل وانشغالهم بالدنيا وثرثرتهم الزائدة؛ ففي أفواههم تكمن مكائد الشيطان.» وكان هؤلاء من أتباع المانوية، وهي ديانة اعتنقها أوجستين لنحو عقد من الزمان.
عاش ماني — وهو حكيم فارسي اعتبر نفسه رسول الرب — في جنوب بابل في منتصف القرن الثالث الميلادي. وتتضمَّن ديانته التي أنشأها الكثير من عقائد ديانة الزرادشتية الفارسية القديمة التي تحدثت عن معركة أبدية بين الخير والشر، ومعتقدات من الديانات الإغريقية الغامضة مثل الديانة الأورفية بحديثها عن التطهير وتناسخ الأرواح. وكان جوهر العقيدة المانوية أن الخير والشر قوتان كبيرتان في صراع متكافئ تقريبًا. ومن الناحية العملية يمكن اعتبار كل شيء في الحياة تجسيدًا لهذه المعركة، فعوالم النور والرُّوح التي يمثلها إله الخير تشن حربًا على عوالم الظلام والمادة التي يمثلها إله الشر. وقد خلق إله الشر الأرض ودفن أرواحنا — التي هي بمثابة أشعة الضوء — في سجونٍ داخل أجسامنا. وبالنسبة لأوجستين أبرزت هذه الصورة وجود الشر بشكل أفضل من أية نظرية أخرى صادفها، فقد قدمت إجابة صريحة للُغز تَرْكِ الرب للشر كي ينتشر، وتقول هذه الإجابة إن الرب لا يملك الكثير ليفعله لأنه ليس بتلك القوة التي عادة ما يُظَن أنه عليها.
كنت في حالة تخبُّط بين الإغراء والفتنة وبين الخداع، وكان لدي العديد من الرغبات، فعلانيةً كنت مدرسًا للفنون التي يُسمُّونها فنونًا متحررةً (أي علوم النحو والبلاغة والمنطق والرياضيات والهندسة والموسيقى والفلك)، وسرًّا كنت أعتنق دينًا زائفًا تافهًا في كل أموره. من ناحية كنت أسعى إلى الشهرة ومجدها الأجوف توَّاقًا إلى تصفيق الجماهير، تلهيني الحماقات التي تتردد في أماكن الترفيه العامة، وكنت منغمسًا في الشهوات لا رقيب عليَّ، ومن ناحية أخرى كنت أسعى لتطهير نفسي من تلك البذاءة.
ونتيجة لغرقه فيما اعتبره لاحقًا تخبُّطًا في المانوية قَبِلَ أوجستين أن يُنزِلَ المسيح منزلة الابن لإله الخير في المانوية قبولًا فاترًا، وأدان أن يكون الرب المذكور في العهد القديم الرب الشرير في المانوية متخفيًا. وفي تلك الأيام العسيرة انخرط أوجستين في علم التنجيم وقراءة الطالع. وعندما آنَ الأوان لأوجستين أن يخرج على كل الخرافات والدين المزيف وَجَدَ في بعض نصوص المناظرات الشكوكية التي عَثَرَ عليها في الفلسفة اليونانية خيرَ عونٍ له، وبخاصة النصوص التي تتحدَّث عن الهجوم الذي كان شيشرون قد شنَّه على التنجيم من قبلُ. ولكن الفضل كل الفضل في تحرير عقل أوجستين يرجع إلى الرسالة الأفلاطونية التي قادته إلى ما هو أفضل.
على الرغم من كل المحاولات لإخراج دين مسيحي يجمع بين الرواقية والأفلاطونية والكتابات الجدلية، فنحن لا نريد أية مناظرات فضولية بعد الآن؛ لأننا نتبع المسيح عيسى، ولا نريد تحقيقات لأننا ننعم بنعمة الإنجيل! فبوجود إيماننا لا نرغب في مزيد من الاعتقادات.
ويبدو أن ترتليان قد نسي من أين استقى بعض أفكاره، إلا أنه كان يُرَحِّبُ بنسب الفضل متى كان نسب الفضل واجبًا. وقد أقر أن الفضل كل الفضل يرجع إلى الأفلاطونية التي جعلته يزهد في كل ملذات الحياة المادية بكل أشكالها.
في طريقهم لمعرفة الرب أدرك الأفلاطونيون السبب في نظام الكون، وتعرَّضوا للنور الذي يَرَوْنَ به الحقيقة، وعاشوا الربيع الذي فيه كأس السعادة. ويتفق جميع الفلاسفة الذين يحمِلون ذاك المفهوم عن الرب على أنهم في تناغم مع فكرتنا عنه.
شرع أوجستين في دراسة أعمال أفلوطين وفلاسفة المذهب الأفلاطوني الآخرين في أثناء تدريسه في ميلان وحضوره مواعظ القديس أمبروز. وعلى الرغم من أن بعضًا من الأفكار التي كان يحملها أوجستين حول مذهب أفلاطون كان مبنيًّا على سوء فهمٍ للمذهب؛ فقد رأى أن هناك أوجُه تشابه بارزة بين الرب (أو الواحد) لدى أفلاطون وبين رب القديس أمبروز؛ فكلاهما اتَّصف بالسمو والخير المطلق والبُعد المطلق عن المادية. وكان أوجستين على يقين أن هذا ليس من قبيل الصدفة، فاستنتج أن أفلاطون لا بد وأن يكون قد تناقلت إليه بعض آيات العهد القديم شفاهة. وعلى الرغم من ذلك أدرك أن مذهب أفلاطون لم يَحِد بعيدًا عن الدين المسيحي؛ لأنه كما قال أوجستين قد بَيَّنَ الغاية دون أن يرسم طريق الوصول إليها.
لم يتعرض المذهب الأفلاطوني للمسيح ولا لدوره في خلاص البشرية، ولم يدرك كذلك أهمية الإحسان والتواضع، والأهم من ذلك هو أن هذا المذهب قد افترض خطأً أن الإنسان يمكنه الحصول على أي شيء بمجهوده الفردي دون مساعدة. وبِغَضِّ النظر عن مدى التأمل الفلسفي أو التفكُّر الرُّوحي الذي يمكن للإنسان أن يذوب فيه فإنه عجز عن الوصول إلى الرب حتى اختار الرب أن يناديه فلبَّى. إن الخطأ الرئيس الذي وقع فيه سائر أصحاب الفكر اليوناني هو اعتقادهم أن الإنسان لا يحتاج إلى أية مساعدة خارجية حتى يرى الحقيقة أو يفعل الخير، بينما يرى أوجستين أن الرسالة الأساسية التي جاءت بها المسيحية هي أن الإنسان في حاجة ماسَّة إلى المساعدة.
وبعد أن وجد أوجستين نفسه يسقط في براثن الرذيلة والإثم كلما أُوكِلَ إلى نفسه واتَّبَعَ هواه؛ توصل إلى أن هذا الحال هو حال البشر كافة، فبدون مساعدة الرب لا قيمة للإنسان ولا وزن، ولا يستطيع فعل أي شيء ولا يعرف أي شيء. وقد خفَّف بعض المفكرين المسيحيين الأواخر من حِدَّةِ هذه النظرة المتطرِّفة بقولهم إن الإنسان يمكنه التوصُّل إلى معرفة بعض الأمور بمفرده. ففي القرن الثالث عشر باين القديس توماس الأكويني بين الحقائق التي يمكن لقوة الحدس الطبيعية لدى الإنسان أن تتوصل إليها والحقائق التي لا يمكن للإنسان معرفتها إلا عن طريق الوحي الإلهي. أما أوجستين فلم يكُن لديه هذا الاختلاف بين الحقائق؛ إذ إن جميع المعارف كانت نتيجة لنوع من التنوير الإلهي بَثَّ الرب فيه الحقيقة في عقول مخلوقاته.
وقد بحث أوجستين في عقله عمَّا أودعه الرب فيه من حقائق. وكانت أُولى الحقائق التي توصل إليها هي وجوده هو نفسه حيث كانت دربًا خاصًّا من دروب الحقائق؛ إذ لا يمكن لأي منطق تشكيكي أن يجعله في ريب منها. وإذا كان من المحتمل أن ينخدع أوجستين في كل الأمور كأن يعتقد على سبيل المثال أنه كان يقظًا في حين أنه كان يحلم، فمن المستحيل أن ينخدع في حقيقة وجوده هو نفسه. وأنى له أن يؤمن بوجود نفسه لو لم يكُن هو نفسه موجودًا؟ وقد قال أوجستين بصوت المنتصر: «إذا كنت مخدوعًا فأنا موجود.» (وقد عبر ديكارت بعد ذلك عن الفكرة نفسها بقولته المشهورة: «أنا أفكر إذن أنا موجود») لقد قاد الاستنباطُ أوجستينَ إلى أن ثمة عدة أمور لا يمكن أن يكون مخطئًا فيها مثل حقيقة وجود مشاعره، فكيف له أن يُخطئ على سبيل المثال في تصوُّره لحقيقة أنه يُحِبُّ بعض الأشياء؟ بالإضافة إلى ذلك كان هناك بعض الحقائق الخالدة المتعارَف عليها عالميًّا والتي لا يمكن الشك فيها مثل الحسابات الرياضية كأن تقول إن ٦ + ١ = ٧. وقد تساءل أوجستين من أين أتت كل هذه الحقائق، وانتهى إلى أنها لم تأتِ إلا من عند الرب. وهكذا بعدَ تمحيصه لما احتواه عقله وجد أوجستين عدة حقائق لم تُجَنِّبه شك المتشككين من الفلاسفة فحسب بل أوصلته إلى حقيقة وجود الرب.
وحالما ارتضى أوجستين بأن هناك حقائق أخطأ الشكوكيون في الشك فيها، انتهى إلى أن الشكوكية لم تكُن لتستحق منه كل هذا القلق على الإطلاق؛ ذلك أنه افترض ببساطة أن الرب مكَّننا بطريقة ما من معرفة العالم ومحتوياته. وقد كتب أوجستين كتابًا كاملًا حول موضوع الشكوكية، بيد أن هذا العمل المفكَّك لم يقدم أي إثبات سوى أن أوجستين قد فَقَدَ حماسته لحب الاستطلاع. كما كتب في عمل آخر له أن المُخَلِّصُ قد جاء الآن؛ وبذلك آن الأوان لكل الفلاسفة أن يتوقفوا عن الشك. ولم يَعُدْ أوجستين يميل إلى التحقُّق ممَّا تخبره به حواسُّه أو ما يخبره به الناس أو ما تمليه عليه الكنيسة على وجه الخصوص؛ لأنه توصل إلى الحقيقة بالفعل.
ويقول أوجستين عن أيام شكه القديمة: «لطالما أردت أن أتأكد من حقيقة أشياءَ لم أكُن أراها كتأكُّدي من حقيقة أن ٧ + ٣ = ١٠.» ولكن سرعان ما ذهبت هذه المعايير القاسية السامية أدراج الرياح حينما اعتنق أوجستين المسيحية. لقد انبهر بقوة ما تستحثُّه كلمة الرب من إيمانيات حتى أصبح على استعداد أن يتقبَّل الأمور كافة على أساس الإيمان فقط. ومن غير المعقول أن تتمتع مبادئ العقيدة المسيحية مثل الثالوث والخطيئة الأصلية وبعث المسيح والوصفة المسيحية للخلاص، بمثل ما تتمتع به حقائق علم الحساب التي لا تقبل الشك، إلا أن كل هذا لم يمنع أوجستين من الإيمان بها. ورغم أن أعماله تؤكِّد نظرته الفلسفية الثاقبة وفضوله الفكري فقد كان شغله الشاغل هو الدين كما يتبين من تلك الأعمال. وقد كانت مناقشاته الفلسفية تنشأ عن سؤال ديني أو ما شابه، فتحليله للزمن على سبيل المثال قد دفعه إليه التساؤل حول ما كان الرب يفعله قبل أن يخلق العالم، وكذلك مناقشته لقضية الإرادة الحرة تدفعه فيها رغبته في إخلاء الرب من المسئولية عمَّا يقترفه البشر من آثام. لكن للأسف، دائمًا ما تنتهي هذه المناقشات حالما يفرُغ أوجستين من معالجة القضايا اللاهوتية التي أثارتها. ومتى وجد أوجستين حلًّا يظن أنه سيتوافق مع العقيدة المسيحية فإنه يغلق أبواب تفكيره ونوافذ فضوله لينتقل إلى موضوع آخر.
لقد حقق أوجستين ما لم يحققه أحد من معاصريه حيث قدَّم إطارًا مميزًا من الدين المسيحي يجمع بين القيم الاجتماعية والسياسية، ولكن بعد اعتناقه المسيحية لم يخرج أوجستين أبدًا عن هذا الإطار الذي وضعه ليختبره بموضوعية، فلم يتحقَّق بجِدِّيَّة من أسس الدين المسيحي ولم يحاول تبريرها. وفي النهاية يبقى هناك العديد من القواسم المشتركة بين أوجستين وسارِدِي الأساطير أكثر مما يشترك فيه مع علماء الطبيعة (الفلاسفة الطبيعيين) الذين اعتبرهم كلٌّ من أفلاطون وأرسطو جديرين بتوجيه دفة الاهتمام إليهم. ومن ناحية حَرَّكَ أوجستين عقارب ساعة التاريخ الفكري إلى الوراء حيث ركن إلى إحدى النسخ المسلية من القصص الخارقة للطبيعة التي سعى معظم الفلاسفة الأوائل إلى الاستغناء عنها أو إيجاد تفسيرات منطقية لها. وبهذا لا يمكن اعتبار أي شخص مثل أوجستين يؤمن بعدم مواءمة العقل البشري وبحاجة الإنسان المُلِحَّة إلى دفقات الإيمان ملتزمًا بالفلسفة بمعناها الإغريقي الأصلي. إلا أن هذا الحكم لم يكن ليزعجه لأنه أول من يوافق على أنه مسيحي قبل كل شيء.
•••
وبحلول الوقت الذي تُوُفِّيَ فيه أوجستين عام ٤٣٠م كان نصف سكان الإمبراطورية الرومانية قد اعتنقوا المسيحية، ولم يكُن هذا العدد يزيد في بداية القرن السابق عن عشرة في المائة. وسرعان ما رجَح ميزان القوة لصالح المسيحية في حياة أوجستين، وفي نهايتها ربما أصبح شغل المسيحيين الشاغل قمع آراء النقاد أكثر من القمع الذي كانوا هم أنفسهم يتعرَّضون له. وفي عام ٤٤٨م تقريبًا أحرق المسيحيون على الملأ مجادلة مناهِضَة للمسيحية كتبها الفيلسوف فرفريوس. كما كتب العديد من الفلاسفة الوثنيين أعمالًا نقدية تتحدث عن أفكار مسيحية، إلا أن أيًّا منها لم ينجُ من محاولات تفنيدها بإحراقها. وقد لعِبت هيباتيا السكندرية دور الشهيدة لدى الفلاسفة الوثنيين المُرَاقَبِينَ في تلك المرحلة إثْر تعرُّضِها للتعذيب والقتل على أيدي مجموعة من الغوغاء المسيحيين في عام ٤١٥م. بَيْدَ أن المسيحيين في العصور الوسطى استكثروا أن تذهب حادثة هيباتيا المُرعِبَة هباءً منثورًا على شخصية وثنية؛ ولذلك بدَّلُوا عناصر هذه الحكاية المخزية بأسطورة القديسة كاترين السَّكندرية، فزعموا أن هذه السيدة قد استُشهِدَت بعد أن دحضت دعوى خمسين فيلسوفًا وثنيًّا كانوا قد أُرسِلوا إليها ليَصدُّوها عن دينها في نوع من أنواع المبارزات الجدلية. ويبدو أن حكاية هذه الشهيدة عمل من نسيج الخيال يجمع بين قصة هيباتيا ومسيحيين غير معروفين. وفي العصور الوسطى كانت القديسة كاترين تُعْرَفُ بأنها القديسة الراعية للفلاسفة، ولكن جُرِّدَتْ هذه القديسة المزعومة من هذا اللقب بدعوى عدم وجودها من الأساس.
وفي القرن السادس عشر بدأ نصف حقيقة هذا الخلط التاريخي يتَّضِح بعد أن بطلت أسطورة القديسة كاترين. وفي الوقت ذاته بدأت أسطورة هيباتيا في جذب المزيد من مؤلِّفِيها الذين ظَلُّوا في نشاط إلى يومنا هذا. وتناقلت عشرات المسرحيات وقصائد الشعر والروايات أسطورتها العاطفية، كما حملت صحيفتان أكاديميتان تتَّخذان من الدعوة النسائية سبيلًا لهما اسم هيباتيا. ومنذ أن حَظِيَتْ هذه الأسطورة بوصف تفصيلي على يد فولتير وفي كتاب «اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» لجيبون ظهرت هيباتيا بصورتها العلمانية المقدَّسة. وقد كانت هيباتيا مثل والدها عالمةَ رياضيات معروفة وفيلسوفة أفلاطونية رائدة في عصرها، كما حازت في الإسكندرية على مكانة معلِّم ومثل أعلى في الاستقامة بالإضافة إلى كونها مستشارة حكيمة في الشئون المدنية، ولكن لسوء حظها كان الأسقف المحلي الذي لُقِّبَ فيما بعدُ بالقديس كيرلس يكرهها، فقام رجاله بجَرِّها إلى إحدى الكنائس وسلخ جلدها من جسمها ثم قطَّعوها إرْبًا إرْبًا. ولأنها لم تكن مسيحية واستحوذت العلوم على جانب كبير من اهتماماتها ولأنها عاشت على أعتاب نهاية حضارة قديمة وُصِفَت هيباتيا بأنها المدافعة عن العلم في مواجهة الدين، وأنها تمثل الماضي البعيد قبل المسيحية، وأنها شمعة الاستقصاء الحر الأخيرة المكتوب لها أن تنطفئ قبل ليل طويل من المدرسية الكنسية. وقد كتب برتراند راسل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» عن «الإعدام الغوغائي لهيباتيا، تلك المرأة المتميزة التي ظلت مستمسكة بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة وكرست مواهبها لعلم الرياضيات في ظل عصر من التعصُّب الأعمى … وبعد هذه الحادثة لم يَعُدْ هناك من يسبب القلق من الفلاسفة في الإسكندرية.»
في الواقع لم ينتهِ أي شيء بنهاية هيباتيا، فقد استمرت مسيرة العلم والفلسفة في الإسكندرية قرنًا كاملًا من الزمان بعد موتها (وتمثَّلت هذه المسيرة تحديدًا في شخصية يوحنا النحوي — المعروف أيضًا بجون فيلوبونوس ويوحنا السكندري — الذي نحن بصدد الحديث عنه بعد قليل). ولا يبدو كذلك أن هيباتيا كانت شهيدة للوثنية، فرغم أنها لم تؤمن بالمسيحية إيمانًا قويًّا فإنها لم تكُن تتعبد في المعابد الوثنية ولم تنضم إلى هؤلاء الذين رفضوا تغيير دينهم. وقد كان بعض تلاميذها مسيحيين حتى إن اثنين منهم قد صارا أسقفين فيما بعد. ولذلك يبدو أن اغتيال هيباتيا كان لأسبابٍ سياسية حيث إنها تورطت في صراع على السلطة بين الأسقف كيرلس وأورستيس حاكم مدينة الإسكندرية الذي كانت على علاقة طيبة به. وقد خشي الأسقف كيرلس من أن يُقَوِّي تأييد هيباتيا لأورستيس شوكتَه ويجعل منه خَصمًا لا يُقهَر فعمل على نشر الشائعات التي تتهمها بممارسة السحر وإثارة القلاقل، فقامت عصابة من المجرمين — الذين وظَّفهم كيرلس على الأرجح — بأخذ زمام المبادرة وقررت إزاحة هيباتيا عن الطريق. باختصار، لقد عاشت هيباتيا في المكان غير المناسب وفي الوقت غير المناسب ومع الصحبة غير المناسبة.
ولكن هذا خطأ تمامًا، ووجهة نظرنا تؤكدها الملاحظة الفعلية أكثر من الجدال اللفظي. فإذا رميت جسمين يزيد أحدهما في الوزن عن الآخر بعِدَّةِ أضعاف من الارتفاع نفسه، فستجد أن نسبة الوقت الذي تحتاجه سرعة الحركة لا تعتمد على النسبة بين الوزنين، بل على فروق التوقيت الضئيلة بين سقوط الجسم الأول وسقوط الجسم الثاني.
ورغم أن نظرية يوحنا النحوي حول الأجسام الساقطة لم تكُن صحيحة تمامًا، فالتجربة التي وصفها فيها (التي على الأقل تدحض وجهة نظر أرسطو) قد ذاع صيتُها باعتبارها إنجازًا علميًّا مشهودًا عندما تكررت هذه التجربة في القرن السابع عشر. ويُنْسَبُ الفضل في هذه التجربة في وقتنا الراهن إلى العالم جاليليو الذي جاء بعد يوحنا النحوي بألف عام (والذي درس كل أعماله جيدًا). وإذا نسبنا الفضل إلى جاليليو فنحن أكثر دقَّةً لأنه لم يكن فيلسوفًا في حين أن يوحنا النحوي كان كذلك، ويُفْتَرَضُ أن هذه التجربة هي اكتشاف «علمي». وليست ظاهرة «فلسفية».
كان يوحنا النحوي آخر حبة في عقد جيله، وعلى حَدِّ ما نذكر لم يمارس أحد في أوروبا الغربية من بعده طريقة تحليله للطبيعة حتى القرن الرابع عشر حيث انتقلت روح الاستكشاف اليونانية إلى العالم العربي، وانتشرت تعاليم الإغريق الطبية والعلمية والرياضية والفلسفية في الأراضي العربية في أواسط القرن الثامن تقريبًا، وظلت هناك لمدة تتراوح بين ثلاثمائة وأربعمائة عام حينما تُرْجِمَتْ الأعمال المكتوبة بأيدي العرب إلى اللاتينية. ظلت للحضارة العربية الريادة بكل وضوح في كل هذه المجالات حتى نهايات القرن الثاني عشر، ولم يكن لدى الغرب من يُقَارَنُ بعظماء الباحثين الموسوعيين أمثال الكِندي (حوالي ٨١٢–٨٧٣م) والفارابي (حوالي ٨٧٠–٩٥٠م) وابن سينا (حوالي ٩٨٠–١٠٣٧م) أو بالعديد من الأطباء المتخصِّصين أو علماء الطبيعة، أو بخاصة علماء الرياضيات الذين كانت أعمالهم تُنْتَظَرُ في الغرب بفارغ الصبر لِتُدَرَّسَ فور توافرها. وقد كان الباحثون العرب على دراية تامَّة بكتابات أبيقور وجالين وإقليدس وبطليموس وأرشميدس بالإضافة إلى أعمال أفلاطون وأرسطو. كما أنهم قدموا أبحاثًا أصلية وقدموا ضمن العديد من الأشياء الأخرى نظرية البصريات المتطورة في القرن الحادي عشر. استعرضنا حتى الآن بعضًا من الأسباب التي أدَّت إلى سقوط رُوح البحث العلمي لدى الغرب في الهاوية، أما أسباب ازدهارها لفترة من الزمان في العالم العربي فهي موضوع طويل للغاية لا يمكن حصره في هذا العمل.
رغم أن يوحنا النحوي لم يَحْظَ بالاهتمام الذي يليق به لفترة طويلة فقد كان لأحد معاصريه كبير الأثر على مسار الفلسفة الغربية ألا وهو بوئثيوس. كان بوئثيوس (حوالي ٤٧٥–٥٢٤) فيلسوفًا ورجل دين مسيحيًّا من أسرة أرستقراطية رومانية، وقد شغل وظيفة الوزير الأول لدى ثيودوريك ملك القوط الشرقيين وحاكم إيطاليا في الفترة من ٤٩٣ إلى ٥٢٦م. وقد أُصِيبَ بوئثيوس بالإحباط من جراء الانحطاط المتسارع للفكر الغربي ومن حقيقة أنه لم يَعُدْ يقدر على قراءة روائع الأعمال الإغريقية إلا القليل؛ ولذلك عقد العزم على ترجمة جميع أعمال أفلاطون وأرسطو إلى اللاتينية حتى لا تضيع هذه الثروة على الأجيال القادمة. ولكن لسوء الحظ أُعْدِمَ بوئثيوس إثر اتهامه بالخيانة قبل تنفيذ هذا المشروع الطَّموح. وكانت الثمرة الوحيدة الناجية من هذا الحادث هي النسخ اللاتينية من أعمال أرسطو في المنطق والتي قد تساعد في تفسير ظاهرة شغَف الفلاسفة الأوائل في العصور الوسطى بالمنطق القديم؛ إذ لم يكن لديهم ما يدرسونه إلا القليل. ومن المثير أن نرى كيف أن العالم اللاتيني سيكون مستنيرًا إن لم تقتطع أعمال بوئثيوس سريعًا بهذه الطريقة القاسية. ومن جانب آخر لم يكُن لإدانته المبنية على اتهامات ملفَّقة على الأرجح سوى نتيجة سعيدة واحدة ولكن ليس لبوئثيوس، فبينما كان بوئثيوس في غياهب السجن محكومًا عليه بالإعدام ألَّف كتابه «عزاء الفلسفة» المشبوب بالعاطفة. كما أن موته الوشيك جعل من عقلِه آيةً في التركيز، فجاء هذا العمل في أعلى مراتب الروعة وظل من أوسع الكتب قراءة في العصور الوسطى. وكان من بين الذين ترجموا هذا الكتاب إلى الإنجليزية الملك ألفريد العظيم وتشوسر والملكة إليزابيث الأولى. ولم يكُن هذا العمل ليرى النور لو عاش بوئثيوس وصار شيخًا عجوزًا لا تحفل حياته الأكاديمية بكثير من الأحداث ولم يقَع ضحية للسياسة في إيطاليا.
ويأتي «عزاء الفلسفة» على هيئة محاورة بين بوئثيوس الذي يتحدَّث بلغة نثرية وصاحبة الجلالة «السيدة فلسفة» التي تَرُدُّ بالشِّعر في أغلب الأوقات. وتجيب «السيدة فلسفة» على تأمُّلات بوئثيوس القَنوطة التي تدور حول آلام الحياة وظلمها بإجابات تجمع بين الحكمة الرواقية والأفلاطونية. وتقول إن المِحَن بوجه عام والحكام الأشرار بوجه خاص لا يملكون القوة ليؤذوا رجلًا سويًّا؛ لأن النفس الطيبة ستظل بمنأًى عن «الثروة الفاسدة»، وتقول أيضًا إن عدالة السماء قد وسعت كل شيء. وتبتعد «السيدة فلسفة» ببوئثيوس عن الطرق الخاطئة للسعادة وتحاول أن تهديه إلى سبيل الرشاد؛ أي إلى الرب، مُنْشِدَة الأبيات التالية:
ولم يذكر الكتابُ المسيحيةَ صراحة، إلا أنه نجح في أن يعالج على نحو غير مباشر العديد من المشكلات الفلسفية التي تضل الإنسان المؤمن. على سبيل المثال، يتضمن هذا العمل إجابةً على سؤال كيف يمكن أن يكون للإنسان أي اختيار حقيقي في أفعاله إذا كان الرب العليم قد أحاط علمًا بما سيفعله قبل أن يفعله؟ وتنطلق إجابة بوئثيوس من فكرة أنه ليس ثمة اختلاف بين الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة للرب، فالأزل كله إنما هو حاضر بالنسبة له؛ ولذلك حينما يعلم الرب ما الذي سأفعله فإن ذلك لن يقيد حريتي على الإطلاق قدر ما يُقيِّدها شخص يراقب أفعالي في الوقت الذي أنفذها فيه. وقد تبنَّى هذا الحل القديس توماس الأكويني ورجال الدين الذين جاءوا في أواخر العصور الوسطى.
ويضع كتاب بوئثيوس «عزاء الفلسفة» الخطوط العريضة لأشهر طرق التفلسُف، ويبين الفلسفة على أنها نوع من أنواع المسكنات التي تعالج جروح الحياة، وأنها مصدر من مصادر الحكمة الخالدة التي يمكنها توضيح بعض القضايا الدينية. وقد ساهم هذا العمل في توصيل صورة العالم الأفلاطونية إلى حضارة لم تكن تعلم أي شيء عن كتابات «خادمي أفلاطون» كما كانت تناديه «السيدة فلسفة». وقد كان لعدة موضوعات وصور من أدب العصور الوسطى التي كانت مأخوذة عن أعمال أفلاطون أو أرسطو حضور قوي في هذا الكتاب.
ولم يقتصِر تأثير بوئثيوس بأي حال من الأحوال على الفلسفة والأدب بوجهٍ عام، فقد امتدَّ هذا التأثير ليصل إلى الفلسفة المتخصصة واللاهوت بالقدر نفسه الذي كان عليه في السابق؛ وذلك بفضل ابتكاره لألفاظ وتوليفه لمصطلحات لاتينية في شرحه لبعض المبادئ الأرسطية. وقد انتشرت لغته الاصطلاحية الجديدة كالنار في الهشيم حيث استخدمها الباحثون من رجال الدين في العصور الوسطى وفيما بعدُ المحاضرون في أولى الجامعات، حيث استعملوا هذه المصطلحات الفنية في تحليل مبدأ الثالوث والموضوعات الأخرى المعقدة. ولا شك أنهم استخدموا هذه المصطلحات بهدف توضيح الأمور في حين أنهم في بعض الأحيان لم يحققوا سوى العكس تمامًا.
لقد طرَح بوئثيوس أيضًا قضية منطقية شغلت عقول كثيرٍ من الفلاسفة لعدة قرون لاحقًا، وعُرِفَت هذه القضية باسم القضايا الكلية، وقد ورد ذكرها أول مرة في نص للفيلسوف فرفريوس حظي بدراسة واسعة بعد أن ترجمه بوئثيوس إلى اللاتينية. وتتعلق هذه القضية بالمصطلحات أو المفاهيم العامَّة التي يمكن أن تنطبق على العديد من الأشياء في آنٍ واحد مثل الألفاظ «أحمر» و«جميل» و«مربع». ويدور السؤال المطروح في هذه القضية حول ماهية الوجود الذي يمكن أن تكون عليه هذه الصفات العامة؛ أي الحمرة أو الجمال أو التربيع. هل هذه الصفات لا توجد إلا في العقل أو في اللغة، أم أن لها وجودًا خارجيًّا له مغزى مثل الأشياء المادية التي تنطبق هذه الصفات عليها؟ من الواضح أن الأجسام المربعة موجودة بالفعل، ولكن هل صِفَة التربيع نفسها لها وجود؟ لقد طرح فرفريوس هذا السؤال جانبًا نظرًا لصعوبته، إلا أن بوئثيوس ناقشه بشكل مفصل واعتبره أكبر المشكلات الفلسفية أمام المهتمِّين بالأسئلة المنطقية المجردة. وبحلول القرن الثاني عشر كان هناك ما يقدر بأكثر من ثلاثة عشر رأيًا مختلفًا في هذا الصدد.
وقد أظهر اهتمام بوئثيوس بالمنطق شغفه بما كانت عليه «الفنون المتحررة» السبع والتي أُطلِقَ عليها هذا الاسم لأن الرومانيين اعتبروها أنسب الدراسات للرجل الحر. وهذه الفنون السبعة هي النحو والبلاغة والمنطق والرياضيات والهندسة والفلك والموسيقى. وقد رأى بوئثيوس أن هناك مجالًا للتطوير في معظم أقسام هذا المنهج التعليمي النموذجي. وقد كان راضيًا تمام الرضا عما هو متاح من أعمال مكتوبة باللاتينية في مجالات النحو والبلاغة والمنطق البسيط، إلا أنه اقترح كتابة أعمال جديدة في المجالات الأربعة الأخرى ومعالجة الموضوعات المتقدمة في المنطق مثل مسألة القضايا الكلية بشكل أفضل. وليس معروفًا ما إذا كان بوئثيوس قد أَلَّفَ في الهندسة أو الفلك، وإن كان قد أَلَّفَ فيهما فإن أعماله لم يُكْتَبْ لها النجاة، في حين أن أعماله في الرياضيات والموسيقى والمنطق ظلَّت محل الاستفادة على نطاق واسع لعدة قرون. وبعد ذلك بنحو سبعة قرون عندما بدأ أول الطلاب الجامعيين دراساتهم في القرن الثالث عشر كانت الفنون المتحررة لا تزال تشكل المحتوى الأساسي لمنهجهم الدراسي، وظلت بعض أعمال بوئثيوس نصوصًا مقرَّرة عليهم آنذاك.
وليس من الغريب أن المواد التعليمية لم يطرأ عليها سوى تغيُّر طفيف في تلك الأعوام؛ ذلك أن التعليم لم يكُن التجارة الرابحة في تلك العصور المظلمة. وحتى بعد العصر الذي جاء فيه بوئثيوس بنحو ٣٠٠ عام ظل النشاط الدراسي مقتصرًا على الأديرة وانحصر بالكامل في الموضوعات اللاهوتية والأمور الكَنَسية. ولم يتغيَّر العالم الفكري آنذاك إلى الأفضل إلا بالإصلاحات التي أدخلها شارلمان في نهاية القرن الثاني عشر، ولكن كان ثمة العديد من التغييرات للأسوأ. فبعد وفاة بوئثيوس التي جاءت في العقد نفسه الذي مات فيه يوحنا النحوي وأُغلِقَت فيه المدارس الأثينية، لم يَعُدْ هناك ما يمكن وصفُه بالفلسفة في أوروبا إلى أن وصلت حقبة شارلمان.
•••
بدأ شارلمان فترة حكمه بتولِّيه مملكة الفرنجة وانتهى حاكمًا لمعظم أجزاء فرنسا وبلجيكا وهولندا وسويسرا وإيطاليا ومواقع حيوية في ألمانيا الحديثة والنمسا. وقد اتَّسعت إمبراطوريته المسيحية حتى ساوت الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية، وأراد لمن يعمل على إدارة شئون بلاده أن يكون متعلمًا؛ ولذلك أنشأ قصرًا مدرسيًّا لتعليم أفراد الأسرة الملكية ورجال الدين المُتَوَقَّعِ لهم أن يكونوا أساقفة في المستقبل والموظَّفين الحكوميين، ثم أقام مدارس وألحقها بالأديرة والكاتدرائيات في جميع أرجاء البلاد. وقد حقَّقت هذه الشبكة من المدارس الكنسية التي كانت تُدَرِّسُ الفنون المتحررة القديمة نجاحًا في نشر العلم أعظم ممَّا وصل إليه الغرب اللاتيني منذ أيام الإمبراطورية الرومانية. وقد اهتمت هذه المدارس في المقام الأول برجال الدين ولم تقدم أيَّة منح دراسية أو أبحاث عظيمة إلا أنها كانت على الأقل البداية نحو تحقيق هذا الهدف.
ومن بين الباحثين الذين ساهموا في هذه النهضة المحدودة في القرنين التاسع والعاشر كان يوهانز سكوتس إريجيا — وهو باحث أيرلندي قام بترجمة أعمال ديونيسيوس المزيف — هو الوحيد الذي أنتج أعمالًا فلسفية ذات وزن. التحق إريجيا بالمحكمة التي أنشأها الملك شارل الأصلع حفيد الملك شارلمان والذي كلفه بترجمة العديد من الكتب اللاهوتية المكتوبة باللاتينية. وقد وضع إريجيا نظرية معقدة نسبيًّا عن الطبيعة تقوم على المبادئ المسيحية حاول فيها التوفيق بين الأفلاطونية الجديدة واللاهوت الأرثوذكسي، كما ساهم في تطوير العديد من الفنون المتحرِّرة. وقد بلغت شهرته الآفاق باعتباره المفكِّر الرائد في عصره حيث ابتكر نوعًا من القصص انجذب إليه المشهورون من الفلاسفة. وقد جلبت مكانته المرموقة عليه وبال الشائعات والأقاويل، فقد أذيع عنه أن الملك ألفريد العظيم قد دعاه إلى إنجلترا حيث مات مطعونًا بأقلام تلاميذه.
تُوُفِّيَ إريجيا في أواخر عقد السبعينيات من القرن التاسع الميلادي (ولا يعلم أحد أين ولا كيف مات)، وفي ذلك الوقت وضعت حالة الفوضى السياسية وضعف الكنيسة الإصلاحات الحضارية التي عمِل شارلمان وخلفاؤه من بعده على إدخالها تحت ضغط هائل، فمن ناحية عَطَّلَ غزاة الفايكنج والمجريُّون والسلاجقة الحياة المدنية، وعَطَّلَتِ الكنائس نفسها بوقوعها فريسة للفساد الذي استشرى في كل جسدها حتى وصل إلى البابا، وانزوت مسيرة العلم إلى الأديرة مرة أخرى. وفي القرن العاشر أجرى بعض البندكتيين دراسات جادَّة في علم المنطق ودخلوا في مناظرات بخصوص مسألة القضايا الكلية التي كان بوئثيوس قد عرضها من قبلُ. ولم تبدأ الفلسفة في العصور الوسطى في إحراز أيِّ تقدم حتى قامت أوروبا نفسها بذلك، فمنذ حوالي منتصف القرن الحادي عشر بدأت الحضارة الأوروبية في جَنْيِ ثمار الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والتكنولوجية (وبخاصة في مجال الزراعة) والتحضُّر الذي وصلت إليه الشعوب.
وقد ازداد تعداد السكان في أوروبا حتى وصل على الأرجح إلى الضِّعف بل إلى أربعة أضعاف في الفترة بين عامي ١٠٠٠م و١٢٠٠م. ومع نمو التجارة والاقتصاد انتقل خَلْقٌ كثير للعيش في المدن والمناطق الحضرية. وقد صاحب هذه التغيُّرات الجديدة في تَرَكُّزِ الثروات زيادة الطلب على التعليم والتوجُّه نحو النشاط الفكري. ولم يتضاعف عدد المدارس الكَنَسِيَّة فحسب، بل انتشرت المدارس العلمانية خارج النظام الكَنَسِي لتُقدِّم خدمات تعليمية لكل شخص قادر على تحمُّل مصروفاتها. وكانت «المدارس» تنتقل أحيانًا من مكانٍ لآخر، حيث كان التلاميذ يصاحبون معلمهم الموهوب في رحلاته، كما كان الحال مع السفسطائيين اليونانيين المتجوِّلين في القرن الخامس قبل الميلاد. بالإضافة إلى المنهج التعليمي التقليدي المُكَوَّنِ من الفنون المتحررة والتدريب على الطقوس اللاهوتية أصبح الإعداد لمهنة المحاماة والطب متاحًا في ذلك الوقت. ونظرًا لحاجة الطلاب الجُدُد إلى دراسة موادَّ تعليمية فقد كانت هناك محاولات عازمة لاستعادة التمكُّن من الروائع اللاتينية حيث صارت أعمال الموسوعيين اللاتينيين والأجزاء المترجَمة من محاورة «طيمايوس» التي كتبها أفلاطون مراجع في علم الكونيات والفلسفة الطبيعية، كما أن بعض الترجمات للنصوص العربية في مجالات الرياضيات والطب قد انضمت إلى هذا المنهج بجانب ترجمات بوئثيوس لأعمال أرسطو في المنطق وتعليقاته عليها وشروحه لها والتي حفظها الدارسون عن ظهر قلب. ويُذْكَرُ أن أهم ما طرأ على الفلسفة من تطوير جاء في صورة محاولة بعض المغامِرِين من المفكرين تطبيق الوسائل العقلية في عِلمِ المنطق على القضايا الشائكة في اللاهوت. بَيْدَ أن الخلط بين الدين والمنطق قد يكون أمرًا مثيرًا للخلاف بل عملًا خطرًا، ولكنه كان في الطريق ليصبح أمرًا حتميًّا لا مفر منه.
وقد تمثَّلت أشهر محاولات ربط الدين بالمنطق في تلك العصور فيما يُسَمَّى بالدليل «الوجودي» المتعلق بوجود الرب والذي قدمه القديس أنسلم (١٠٣٣–١١٠٩م)، وهو رجل إيطالي انضم إلى نظام القديس بندكت في مقاطعة نورماندي وانتهى به المطاف رئيسًا لأساقفة كانتربري. لطالما أراد أنسلم أن يعثر على «حجة واحدة لا تحتاج إلى أي إثبات آخر» يمكنها أن تثبت وجود الرب وطبيعته. وبعد بحثٍ طويل فقدَ أنسلم الأمل في العثور على ضالته، ولكن جاءَه الإلهام على حين غفلة وهو يتلو صلواته في صبيحة أحد الأيام. ويقول أنسلم إننا نؤمن أن الرب هو «الكائن الذي يستحيل علينا أن نتصور ما هو أعظم منه.» ومن هذا التعريف المجرد ظن أنه يمكننا استحضار وجود الرب. ويقول أنسلم كذلك إنه لما كان هذا الكائن الأعظم على الإطلاق الذي يمكننا تصوره موجودًا على الأقل في عقولنا فإن السؤال المتبقي هو ما إذا كان الرب موجودًا في الواقع أم لا. ويُجيب على هذا السؤال قائلًا إن الرب موجود بالتأكيد لأنه إذا لم يكُن الرب موجودًا إلا في العقل فإنه لن يكون أعظم كائن يمكن تصوُّره في نهاية المطاف؛ ذلك أنه يمكن تصور شيء أعظم منه؛ أي الرب الموجود في الواقع. ولما كان تعريف الرَّبِّ هو «الكائن الذي يستحيل علينا أن نتصور ما هو أعظم منه» إذن فالرب موجود.
استتبع هذا الاستنتاج المنطقي العديد من الأشياء الأخرى، أو هكذا تبين لأنسلم، ولكن المرحلة الأولى من جداله المنطقي التي تسعَى لإثبات وجود الرب هي التي لفتَت انتباه مَن جاء بعده من المفكِّرين. وقد انهار هذا الإثبات العبقري بل المضلِّل ثم أُعِيدَ بناؤه عدة مرات على مَرِّ تاريخ الفلسفة. وقد ألمح أحدُ المعاصرين لأنسلم إلى أن هذا المنطق يتضمَّن أنه في بقعة ما من أحد المحيطات تقع جزيرة هي أعظم الجزر التي يمكننا تصوُّرها، الأمر الذي يُعَدُّ سخيفًا بالمرة. وقد رَدَّ أنسلم على هذا الناقد، إلا أن رده لم يكن مقنعًا بما فيه الكفاية. وفي القرن الثالث عشر رفض القديس توماس الأكويني الدليل الذي قدَّمه أنسلم، وبعد ذلك لم يُنَاقَشْ هذا الدليل طويلًا في العصور الوسطى. ولكن بعد أربعة قرون أحيَا ديكارت هذا الدليل بشكل مختلف اختلافًا طفيفًا، وكذلك فعل الفيلسوفان سبينوزا ولايبنتس. لقد هاجم كلٌّ من كانط وهيوم هذا الدليل في القرن الثامن عشر في حين حاول هيجل أن يعيده مرة أخرى. وفي بداية القرن العشرين دحض برتراند راسل هذا الدليل، إلا أن ذلك لم يَعْنِ نهاية الأمر؛ فقد عمِل منذ ذلك الحين الكثير من الناس على بَعثِه من جديد بمن في ذلك كيرت جودل وهو أحد أعظم علماء الرياضيات في القرن العشرين، والذي كانت آراؤه غريبة بعض الشيء. وقد استحسن العديد من علماء اللاهوت في القرن العشرين هذا الدليل.
لم يُقدِّم أنسلم دليله الوجودي ليحاول إقناع غير المؤمنين بل لِيُثَبِّتَ نفسه على ما هو عليه، فقد نظم هذه السلسلة من الحجج والبراهين (التي قدمها في صورة صلوات أو تأمُّلات) لأنه أراد أن يصل إلى فهم فكري أعمق للرب فنراه يرتل: «إلهي! ليست هيبتك هي ما أريد أن أدركه لأن عقلي ليس أهلًا لها، ولكنني أرغب في فَهم بعض الشيء عن حقيقتك.» لقد استعان أنسلم ببعض الأساليب المنطقية للتعاطي مع بعض التساؤلات الدينية متى رأى ذلك مجديًا. ولهذا السبب كان يُطلَق عليه في بعض الأحيان لقب «أبو الفلسفة المدرسية.» ولكن على الرغم من أن تأثير أنسلم انعكس على العلاقة بين الفكر واللغة والواقع فقد كان يخوض في تلك الموضوعات ما دامت هناك رؤية واضحة للمسيحية تدعو إلى الخوض فيها. وعلى غرار معظم الفلاسفة المعاصِرِين له كان اهتمام أنسلم بالموضوعات الفلسفية لذاتها محدودًا، وبالتأكيد لم تكُن لديه رغبة في التشديد على أيٍّ من المفاهيم العقائدية للاستفادة منها بشكل أفضل. وعلى عكس بيتر أبيلار (١٠٧٩–١١٤٢م) — وهو أوَّل الفلاسفة المهمِّين في العصور الوسطى ورجل من نوع مختلف تمامًا — لم يجلِب المنطق على أنسلم أية متاعب على الإطلاق.
لما كنت قد فضَّلت ارتداء درع المنطق سوى باقي تعاليم الفلسفة فإنني قد استغنيت به عن كل الدروع الأخرى، واخترت خوض المناظرات الكلامية مترفعًا عن غنائم الحرب. لقد كنت أتجول في مختلف البلدان ممارسًا المنطق أينما سمعت أن السعي وراء هذا الفن كان حيًّا بين الناس.
دائمًا ما يدفع النجاح الحمقى إلى الغرور وتدفع الراحة في الدنيا قوة العقل نحو الضعف والوهن، وتجعل أنسجته ترتخي بسرور استجابةً للإغراءات الجسدية. وفي الوقت الذي تأمَّلت فيه أنني كنت الفيلسوف الأوحد في العالم ولم يكُن هناك ما أخشاه من الآخرين، بدأت أطلق العنان لأحاسيسي الجياشة التي تسري في عروقي.
فها هو ذا اسمي على كل لسان، وأملك من مزايا الشباب وآيات الجمال ما لا أخشى معه أن ترفض امرأة أيًّا كان شأنها أن أتعطَّف عليها بحبي. شعرت أن هذه الفتاة ستكون أقرب ما يكون إليَّ نظرًا لعلمي بما كانت تحمله من معرفة أدبية وتعتز به.
أقنع أبيلار عم الفتاة أن يُؤوِيه في بيته ورتَّب ليكون معلمًا لها. ولم يصدق أبيلار حسن طالعه فيقول: «لقد وضع ابنة أخيه تحت تصرُّفي. ولقد ذهلت من سذاجة الرجل إزاء هذا الوضع، ولو أنه عهد بحمَل وديع إلى عناية ذئب مفترس لما كنت أشد من ذلك دهشة وذهولًا.»
وقد أفضى هذا الوضع إلى مولِد طفل أسمياه أسطرلاب. وترهبنت إلواز وصارت بعد ذلك رئيسة لدير من الراهبات كان أبيلار قد بناه في أحد المصليات. وظل أبيلار وإلواز مخلصَيْن لبعضهما وتبادلَا العديد من الرسائل والخطابات التي بسببها أصبحت قصتهما من أشهر قصص العصور الوسطى.
وتسببت موهبة أبيلار التي نضجت قبل الآوان في العديد من المشكلات له طوال حياته المهنية، فقد أهان معلِّمه الأول وأذله ثلاث مرات في مناظرات جمعت بينهما غالبًا حول مسألة القضايا الكلية. وقد كان أبيلار ميالًا لوصف وجهات نظر زملائه المتفوقين وَنَعْتِهَا ﺑ «المجنونة» عندما كان يتشاجر مع كل من حوله. وكلما زاد عدد الطلاب الذين يأخذهم أبيلار ممَّن هم أكبر منه سنًّا أو من رجال الكنيسة البارزين تعاظمت رُوح الحسد ضده وتزايدت نزعة المنافسة له. وفي إحدى المناسبات انْتُخِبَ أبيلار رئيسًا لأحد الأديرة بمنطقة بربرية في إقليم بريتاني، وكان رهبان هذا الدير يكيدون له على الدوام حتى إنهم حاولوا سَمَّهُ في إحدى المرات. وقد وجه إليه مجلس الكنيسة النقد اللاذع مرتين، وتآمر أعداؤه عليه ليجعلوا البابا يصدر عليه حكمًا يدينه بالابتداع ويُحَرِّمُ على تابعيه دخول الكنائس ويأمر بحرق كل مؤلفاته (وقد أُبْطِلَ هذا الحكم فيما بعدُ). قد نتعاطف أحيانًا مع مضطهدي أبيلار الذين عانوا من غطرسته وتعجرفه الدائمين إلا أنهم لم يكونوا أقل منه عجرفة، فقد كان عدوُّه اللدود القديس بيرنارد الكليرفوني واحدًا من أشد الناس قسوة وأوسعهم إثارة لسخط الجماهير وأكثرهم معاداة للسامية في عصره. وقد عارض بشدة الصورة المحترمة لليهود التي ظهرت في كتاب أبيلار المعنون «حوار بين فيلسوف ويهودي ومسيحي» بسبب عدم تسامُحه وضيق أفقه.
كانت أفضل أعمال أبيلار مخصصة لعلم المنطق، ولم تتضمَّن هذه الأعمال في تلك الأيام دراسة طرق التفكير فحسب، بل تناولت قضايا اللغة والمعاني مثل مسألة القضايا الكلية. وحتى هذه الموضوعات التي تبدو هادئة قد أثارت مجادلات حامية الوطيس في تلك الأيام ليس لأنها كانت أرضًا خصبة للمناظرات الفكرية فحسب، بل لأن نظريات المنطق قد تكون لها تبِعات دينية (كقضية الثالوث على سبيل المثال). وقد تجاوز فضول أبيلار الفكري وشجاعته الأدبية في مثل هذه الأمور حدود اللاهوتية وأخرج لنا عملًا من أشد الأعمال تأثيرًا بعنوان «مع وضد»، وقد حوى هذا العمل بين دفَّتيه ١٥٨ تناقضًا صارخًا من الكتاب المقدَّس ومن أعمال كهنة الكنائس، ثم وضع طرقًا لتقييم الحجج المستخدَمة في هذه التناقضات وصولًا إلى القول الفصل في الأخير. وكان الهدف من تلك الممارسات الجدلية أن تكون نموذجًا للإجراءات المدرسية المتبَعة في التعليم الجامعي.
وَتُصَوِّرُ بعض كتابات أبيلار الأخرى كاتبها على أنه أول فيلسوف أخلاقي حضَر بجِدِّيَّة في العصور الوسطى حيث جاوز أبيلار العادات المتعارَف عليها في الوعظ الديني والمنطوية في أغلب الأحيان على بعض الاقتباسات من الكتاب المقدس والسِّيَر الدينية المتواترة، كما حاول تطبيق التحليل المنطقي على طبيعة الخير الأخلاقي. ولاكتشاف ما تصبو إليه الخطيئة والفضيلة بدأ أبيلار في تمييز المعاني المختلفة التي يمكن أن يوصف أمر ما على أساسها بأنه خير أو شر، فهناك استخدامات لكلمة «خير» لا يُقْصَدُ بها أي معنى أخلاقي مثل عبارة «خير يوم للصيد» و«خير سكين للتقطيع»، وثمة استخدامات أخرى لكلمة «خير» تبدو أخلاقية ولكن أبيلار قال إنها ليست كما تبدو في ظاهرها مثل عبارة: «من الخير أن حدث كذا وكذا.» ويرى أبيلار أنه عندما نقول إنه من الخير أن حدثًا معينًا قد وقع فإننا نقول إن هذا الحدث لعِب دورًا بالفعل في الخطة الإلهية. ونحن لا نُصدِر أحكامًا أخلاقية عليه لأننا بذلك نصدر أحكامًا على الرب. ونُجْمِلُ القول في أن كل شيء عند الرب الحكيم بقدر؛ ولذلك فالأمر كله خير. ويستنتج أبيلار من ذلك أن الاختلاف بين الفعل الخَيِّرِ والفعل الشرير من الناحية الأخلاقية لا يمكن أن يكمن في عواقب الأمور لكلٍّ منهما؛ ذلك أن كل فعل في نهاية المطاف فيه خير من وجهة نظر الرب البصير الذي يتصف بالخير المطلق.
لقد استنتج أبيلار أن الخير الأخلاقي يجب أن يكون بالأحرى متعلقًا بمسألة النوايا الحسنة؛ فالنوايا هي الشيء الوحيد الذي سينظر إليه الرب حينما يضع الناس على الميزان يوم الحساب (ورغم ذلك علينا أن نكون على ظهر الأرض أشدَّ قسوة وأكثر استعدادًا في أحكامنا الأخلاقية ما دُمنَا لا نستطيع أن نَطَّلِعَ على ما في قلوب البشر أو أن نعرف نواياهم، كما أننا نحتاج إلى تشجيع بعض السلوكيات وردع أخرى). وفيما يتعلق بالسؤال عن كيفية تحديد النوايا سواء بالخير أو بالشر فقد أجَابَ عليه أبيلار إجابة لاهوتية خالصة قائلًا إن الاختلاف يكمن في اتباع أوامر الرب أو بالأحرى ما نؤمِن أنها أوامر الرَّبِّ؛ فالرجل يأثَم عندما يستهين بما يعتبره أوامِرَ الرب ويكون عبدًا شكورًا عندما يُعَظِّمُ هذه الأوامر. وهكذا نَجِدُ أن فلسفة أبيلار الأخلاقية مستقلَّة بالكلية عن دينه، فلا يستعين ببعض النصوص الدينية إلا قليلًا مثلما فعل مَن هو أقل منه شأنًا من الفلاسفة السابقين والمعاصرين له. وقد استغل أبيلار العديد من الفُرص لينقي الفكر الأخلاقي المسيحي من خلال لفت الانتباه إلى أن التبِعات الدينية ترتكز على النية باعتبارها المفتاح الذي يحدِّد معالِمِ ارتكاب الخطيئة. ويقول أبيلار على سبيل المِثَال إن اليهود الذين اضطهدوا المسيح لن يكونوا آثمين إن كانوا قد آمنوا أنهم يُنَفِّذُونَ مشيئَة الرَّبِّ، وهو ما كانوا يفعلونَه على الأرجح. وقد كان التعبيرُ عن مثل هذه الآراء والنظريات وبخاصة في القرن الثاني عشر في شمال أوروبا يُعَدُّ أمرًا شجاعًا وخطيرًا، إلا أنه خرج من أبيلار في إطار مقدِّماته المنطقية المدروسة جيدًا فلم يتردد في قوله.
وقد كان تحليل أبيلار للمبادئ الأخلاقية أقلَّ تعقيدًا من تحليل أرسطو، ولكن انتهاج مناهج التفلسف القديمة يُعَدُّ إنجازًا مدهشًا بما فيه الكفاية في تلك الأيام؛ حيث إننا لو نظرنا إلى ما تبقى من التراث العلمي على قِلَّتِهِ لوجدنا أن المفكرين في عصر أبيلار كانوا في كفاح من أجل إعادة اكتشاف ما تعلَّمه الآخرون منذ زمن بعيد. ومع ذلك كانت هذه المرحلة المؤسِفة في تاريخ الفكر الغربي على طريق الإصلاح، ولكن أبيلار مات بعد ذلك بقليل. ولو أنه عاش بعد ذلك الزمان بقرن واحد لوجد فيضًا غامرًا من علوم القدماء. وتقريبًا في الوقت الذي مات فيه أبيلار في منتصف القرن الثاني عشر بدأت تهب على أوروبا الشمالية رياح ترجمة الأعمال اليونانية والعربية واليهودية في علوم الأخلاق والمنطق والطب والفلك والكيمياء والرياضيات والعلوم الطبيعية. وقد قَوَّى ذلك معايير الجدال في العديد من الموضوعات. وعلى الرغم من أن الغرب اللاتيني كان متأخرًا ببضعة قرون عن المرحلة التي يمكنه فيها إعلان لحاقه بما توصَّل إليه القدماء من إنجازات؛ فإنه قد كان يشُقُّ طريقه إليهم في نهاية المطاف.
لقد انتعشت حركة الترجمة نتيجة لعدة أسباب كان من أهمها استعادة المسيحيين للأندلس من العرب، حيث استطاعوا أن يُطِلُّوا بسهولة على الثقافة الإسلامية والحضارة الإغريقية التي عمل المسلمون على حمايتها وحفظها. وقد سافر العديد من الباحثين المسيحيين إلى إسبانيا ليتعلموا اللغة العربية وليبحثوا عن كتب العلماء العرب ليترجموها إلى اللاتينية. وقد كان بعضُ هذه الكتب أصولًا عربية وأخرى ترجمات سريانية لنسخ عربية من الأعمال اليونانية. وكان جيرارد الكريموني من بين هؤلاء العلماء الذين سافروا حيث سافر إلى إسبانيا وترجم سبعة عشر عملًا في علمي الحساب والبصريات واثني عشر أو أكثر في علم الفلك وأربعة عشر في المنطق والطبيعة، كما ترجم أربعًا وعشرين رسالةً في الطب. وتُرْجِمَتْ بعض الكتب التي أُتِيَ بها من صقلية والقسطنطينية بوجه عامٍّ مباشرة من اليونانية على أيدي باحثين لاتينيين كانوا لا يزالون يُمسِكون بناصية اللغة. وقد أدَّى الازدياد المطَّرد في أعداد المدارس وأحجامها وإنشاء أول جامعات في باريس وأكسفورد في الربع الأول من القرن الثالث عشر إلى زيادة محفِّزات البحث عن هذه المؤلَّفات وترجمتها ونشرها.
في الوقت الذي أصدرت فيه جامعة باريس ميثاقها عام ١٢١٠م واجه مفكرو الغرب تحديًا جديدًا لم يكن مألوفًا لديهم، فبدلًا من سعيهم جاهدين لاستعادة بعض فُتات العلم أصبحت مهمتهم احتواء نهر غامرٍ منه. ولم يمثل معظم ما أُتِيحَ حديثًا من أعمال علمية مثل كتاب العناصر لإقليدس وكتاب المجسطي لبطليموس وكتاب قانون الطب لابن سينا وكتاب الجبر للخوارزمي أية مشكلات عقائدية، في حين برز العديد من هذه المشكلات في أعمال أرسطو. وكما رأينا كان لأرسطو بعض المعتقدات التي من الصعب التوفيق بينها وبين المسيحية. وقد أثارت كتابات ابن رشد (١١٢٦–١١٩٨م) وهو أعظم من شرح أعمال أرسطو من العرب مشكلات أكثر من سابقتها. وعلى الرغم من حظر أجزاء من أعمال أرسطو في بعض الأماكن في بادئ الأمر؛ فإن ذلك قد تصاعد حتى وصل إلى حد الانتحار الفكري، الأمر الذي لم يدُم طويلًا؛ فقد شرع مفكرون أمثال القديس توماس الأكويني في مشروعه الضروري وإن كان فيه ما يشوبه من تخويف ورعب، محاولًا الجمع بين الديانة المسيحية وآخر اكتشافات عصره؛ أي مذهب أرسطو. وقد وُجِّهَتْ أشد الانتقادات لذاعةً إلى هذه المجهودات التي تتميز بحسن النية وشدة التقوى في بعض الأوساط في بدايتها الأولى، بينما أَيَّدَ مجمع ليون الكنَسي تعاليم القديس توماس الأكويني عام ١٢٧٤م. وقد كانت التوماوية — وهو الاسم الذي اشتهرت به نظرية توماس الأكويني — هي الإنجاز الذي توَّج رأس الفلسفة المسيحية واعترف الجميع بها على هذا النحو ولو مؤخَّرًا عندما أصبحت هذه النسخة المعدلة من المذهب الأرسطي الفلسفة الأساسية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية بالتعيين البابوي عام ١٨٧٩م. (وكان هذا هو العام الذي وُلِدَ فيه أينشتاين؛ فالكنيسة لا تبت في القضايا الفلسفية وهي في عجلة من أمرها.)
كان معظم ما يُسَمَّى حاليًّا بالفلسفة يُدَرَّسُ في العصور الوسطى تحت مسميات المنطق أو اللاهوت أو «الفلسفة الطبيعية» (أي: العلوم). ونظرًا لقِلَّة فُرَص ممارسة الفلسفة خارج الحصار الذي فرضته المناهج الجامعية التي تتحكم فيها الكنيسة، كان أي باحث يَمِيلُ إلى فلسفة القُدَامَى أو يتبنَّى آراء الفلاسفة العرب في بعض القضايا الشائكة يجِد نفسه في موقف لا يُحْسَدُ عليه. ولم يكُن الحظ ليحالف كل شخص ويفوز بالتوافُق الذي قال به القديس توماس الأكويني إذا ما حاول التوفيق بين العقل والوحي. ولم يستطع ذَوُو العقول المستقلة من المفكِّرين أن يُدَرِّسُوا صراحةً أي شيء يتناقض مع الدين مباشرة؛ ولذلك كانوا يلجَئون إلى غامض الأمور والكلمات. لقد قدموا حججهم العقلانية بينما كانوا يُؤَكِّدُونَ على وجه السرعة أن جميع الاستنتاجات المُبتَدَعة المبنية على هذه الحجج قد دحضها الدين المسيحي، فالفلسفة توضِّح كذا وكذا، ولكنها لا تعبر بطبيعة الحال عن كل الحقيقة. هكذا كان يسير الجدال في خلق الكون على سبيل المثال. ويبين المذهب الأرسطي أن العالم كان بالتأكيد موجودًا على الدوام. أما الدين المسيحي فيقول إن العالم قد خُلِقَ من العدم في نقطة محددة من الزمان؛ ولذلك يجب أن نؤمِن أن العالم قد خُلِقَ حتى لو استطعنا أن نُثبت إثباتًا واضحًا أنه لم يُخْلَق. وكان هذا النوع من التقديم المزدوج يُعَدُّ أحيانًا حيلة من أجل إدخال المعتقَدات غير الأصولية على المناهج الدراسية، وأحيانًا أخرى كان بمنزلة تعبير صادق عن الحيرة والارتباك، ولكن دائمًا ما كان يحدث اللبس بينهما. وقد أدانت الكنيسة إدانة لا رجعة فيها كل محاولة لإثبات أن للحقيقة وجهين أحدهما ديني والآخر فلسفي، فالعالم إما أن يكون قد خُلِقَ أو لم يُخْلَقْ، ولا سبيل لحقيقتين في هذا الشأن أو أي شأن آخر.
وفي نهاية القرن الثالث عشر وَجَّهَ المحافظون من أهل الكنيسة رسالة تحذير إلى فلاسفة المذهب العقلي الذين يقتفون أثر الإغريق. لقد قال هؤلاء المحافظون إن استخدام الإنسان لمَلَكة عقله الفطرية أمر حسن إذا توصل إلى الاستنتاجات الصحيحة. وفي عام ١٢٧٧م رصد أسقف باريس ٢١٩ استنتاجًا غير مسموح التطرُّق إليها آملًا أن يكون في هذا الأمر حلٌّ للمشكلة. لكن فطرة العقل لم تكن لِتُقَيَّدَ في هذه الحدود المصطنعة. وقد رَدَّ بعض المفكرين الذين لم يَرْضَوْا سرًّا عن محاولات وضع قيود تعسُّفية على تفكيرهم بالتعبير عن أنفسهم بطريقة ساخرة. وبعد شرح الحجج والأدِلَّةِ والبراهين التي تثبت استحالة الخلق المذكور في الإنجيل أَقَرَّ أحد الفلاسفة الفرنسيين في القرن الرابع عشر على مضض بوجود الخلق في الماضي، ولكنه حاول تضييق الفجوة المنطقية الموجودة في نقاشه فكتب يقول: «فَلْنُضِفْ أن الخلق نادرًا ما يحدث وأنه لم يحدث إلا مرة واحدة منذ زمن بعيد.»
تجاوزت محاولة التوفيق الصعبة بين الإيمان والعقل حد المزاح حيث ساهمت الإدانات التي حدثت عام ١٢٧٧م في انهيار الصورة التي رسمتها النظرية الأرسطية الجديدة للعالم بشكل نهائي ومولد نهج جديد أقل تمسكًا بالكتب في دراسة الطبيعة. وقد كان هذا الأمر مُحْدِقًا منذ أَمَدٍ بعيد، ولكن فلسفة التمسُّك بالتعاليم التقليدية التي احتوتها الكتب كانت في أوج عظمتها، ولم تُخْرِجْ صورةً جديدة للعالم إلا بعد ثلاثة قرون، وقد كان ذلك من قبيل المصادفة؛ لأن المهاجمين كانوا يستهدفون البدع الدينية وبعض الأجزاء في المذهب الأرسطي التي كانت تؤدي إليها. ومع ذلك استحدث التعارض بين الإيمان والعقل في نهاية القرن الثالث عشر أفكارًا ساعدت على تقويض النهج المتبع في العصور الوسطى في العلوم والمعارف.
وقد انصبَّ جُلُّ هذه الإدانات على «ابن رشد» الذي لُقِّبَ بعد القرن الثاني عشر بالشارح الأكبر لأعمال أرسطو. وقد عَدَّ ابن رشد الفلسفةَ المصدرَ الوحيد للحقيقة بمعناها الحرفي واعتبر اللاهوتية مجموعة من الأقوال المجازية. وقد اعتمد مذهب ابن رشد على بحث كل موضوع في ضوء المنطق الطبيعي — كما فعل أرسطو من قبلُ — وعلى محاولة إيجاد دورٍ للرب في هذه الصورة. وقد اهتم بألَّا يبدأ بغير هذا الترتيب ويضع الدين في المقدمة، فيقول في ذلك إن ما تحتويه نصوص الوحي المزعومة لا يمكن أن يُسْمَحَ لها أن تطيح بما توصلنا إليه من استنباطات حول العالم وما تحمَّلنَاهُ من مثابرة في سبيل ذلك. بالإضافة إلى ذلك يشير افتراض ابن رشد السابع والأربعون بعد المائة الذي أدانه الأسقف إلى أنه إذا كانت مسألةٌ ما قد ثبت أنها في خلاف مع الطبيعة فلا يستطيع الرب نفسه أن يغير من ذلك شيئًا. أما المحافظون المسيحيون فقد أصروا على أن حرية الرب ليست لها حدود. وقد كان لهذا التأكيد على تمتع الرب بالقوة المطلقة عواقب عظيمة.
يقضي المفهوم الإغريقي القديم بأن الرب جزء من الطبيعة ومن ثَمَّ يخضع لقوانينها. ويزيد أفلاطون أن الصانع الأكبر لم تكُن يداه حرتين تمامًا عندما رَكَّبَ العالم؛ فقد كان عليه أن يستعمل موادَّ ثابتة خصائصها. وحتى هذا الرب لم يكُن باستطاعته أن يجعل النار باردة أو أن يخلق الأنهار من الهواء. وكذلك كان رَبُّ أرسطو ملتزمًا بمبادئ الطبيعة، إلا أن الرب في الإنجيل كتب مبادئ الطبيعة بنفسه ومن ثَمَّ فإنه قادر على فعل أي شيء أراده، فإذا أراد أن يجعل الصخور أخف من الهواء أو أن يخلق أَجِنَّةَ الدجاج فتنمو في أحشاء البقر أو أن يجعل القمر مركز الكون فلا رَادَّ لأمره. ويكمُن التأثير الأساسي لهذا التأكيد المُربِك والمتحرِّر على حرية الرب في أن يجعل الناس يتساءلون عن كَمِّ الصور التي من المُحتَمَل أن يرسمُوها للعالم. وقد يعتقد البعض أنَّ على الطبيعة أن تسير على وتيرة معينة، في حين أن الرب قد يكون لديه أفكار مختلفة. ويقول أرسطو إن كذا وكذا هو أبسط شرح لظاهرة ما، ولكن ماذا لو فَضَّلَ الرب أن يفعل الأشياء بطريقة معقَّدة؟ عندئذٍ يمكن أن تكون أكثر النظريات منطقيةً خاطئة. وقد بدأ بعض المفكرين في القرن الرابع عشر من جرَّاء هذه الفكرة في استكشاف الاحتمالات التي رفضها أرسطو بما في ذلك احتمالية أن تكون النجوم غير أزلية ولا تتغير وأن الأرض تدور وأنه قد يكون ثمة عوالم أخرى كعالمنا.
كان من أهم الفلاسفة الذين تأمَّلوا ما تتضمنه حرية الرب ويليام الأوكامي (١٢٨٥–١٣٤٩م) الذي ألقى محاضرات في اللاهوت في أكسفورد وكتب الكثير من المؤلفات في علم المنطق وحُرِمَ كنسيًّا عام ١٣٢٦م بسبب مشكلة متعلِّقة بسياسة الكنيسة. وقد قال ويليام الأوكامي إن الرب يمكنه فعل أي شيء لا ينطوي على تناقض (فلا يستطيع الرب أن يخلق أعزبَ متزوجًا لأن الأعزب بحكم طبيعته يجب ألَّا يكون متزوجًا، ولكن أوكام قال إن الضروريات اللفظية لا تُعَدُّ قيودًا على قدرات الرب). ويقول ويليام الأوكامي إن ذلك يستتبع أنه ما دام لا يوجد تضارب في افتراض وجود شيئين بشكل منفصل فالرب يمكنه فصلهما فعلًا، فيمكن للإله على سبيل المثال أن يسبب سببًا دون نتيجته، وباستطاعته أن يجعل الشمس تُشرق غدًا ولا تغرب أبدًا؛ لأن شروق الشمس دون غروبها هو ظاهرة غريبة ولكنها لا تُعَدُّ تناقضًا في المصطلحات. وقد توصل ويليام الأوكامي من ذلك إلى أن من تبعات ذلك أن العلم لا يمكنه إلا أن يصف ما يحدث بالفعل وليس ما يجب أن يحدُث، فليس ثمة ما يجب أن يحدث ما دام الرب قد يتدخل في أي وقت.
وقد قوَّضت هذه الفكرة إحدى ركائز المنهج المدرسي في العلم، حيث كان الرأي المُجْمَعُ عليه في العصور الوسطى في الحقل المعرفي أن العلم يعمل على اكتشاف «ضروريات الطبيعة» أو «جواهر الأمور»؛ فالبحث العلمي — بالنسبة للمعلِّمين في القرن الثالث عشر الذين شغلتهم قراءة الكتب القديمة — يوضح لنا الخصائص الأساسية للشيء، ومن خلال معرفة هذه الجواهر يمكن للإنسان أن يستنتج السبب وراء تصرُّفها بهذه الطريقة؛ فجوهر النجوم على سبيل المثال يقتضي أن تدور في دوائر تامَّة الاستدارة، وهكذا فإن النجم لا بد أن يدور في دائرة تامَّة الاستدارة. وهكذا كان العلم في ذلك الوقت، ولكن ويليام الأوكامي قال إن الحديث عن مثل هذه الجواهر حديث مفرط لأنه لا يضيف أي شيء إلى فَهمنا للظاهرة، بل يضلنا حيث يجعلنا نظن أنه بمقدورنا إثبات بعض الأمور التي لا يمكن إثباتها. ويبين ويليام الأوكامي أيضًا أنه لا تثريب على الرب إن لم يراعِ أيًّا من «ضروريات الطبيعة» عندما يحدد شكل الكون، إذن لماذا علينا أن نهتم نحن بها؟
وهذا النقد القاسي غير مستغرب من جانب ويليام الأوكامي؛ فقد اعتبر الفيزياء وكذلك الفلسفة بشكل عام مليئة بالأفكار المجرَّدة التي يمكن الاستغناء عنها، بل ويجب الاستغناء عنها، وقد كانت «ضروريات الطبيعة» مثالًا ضمن العديد من الأمثلة الأخرى على المفاهيم الزائفة. ولكي يتخلَّص من مثل هذه الأفكار استخدم ويليام الأوكامي ما يُعْرَفُ ﺑ «موس الأوكامي» وهو عبارة عن مبدأ ينص على أن «الكيانات لا يجب أن تتضاعف فوق ما هو ضروري.» لا وجود لهذا المبدأ الجدير في كتابات ويليام الأوكامي وإن كان بالتأكيد يعكس منهجه الاقتصادي القائم بدقة متناهية، فقد قال إن النظريات يجب أن تبسط قدر الإمكان وألا تثير من الأسئلة إلا القليل. فمن السهل أن تضلل التقلبات والتغيرات الغريبة في اللغة الإنسان فتدفعه إلى الاعتقاد أن العالم أكثر تعقيدًا ممَّا هو عليه في الحقيقة. فقد أخفق الفلاسفة على سبيل المثال في إدراك أن الأسماء المجردة لا توجد إلا «من أجل الإيجاز في الكلام أو لتنميق اللغة» ولا تشير إلى أي شيء في الواقع؛ ولذلك يجب أن نكون على استعداد دائم وأن نستعد لاستخدام الموسى إذا ما عَنَّ مصطلح مجرد هنا أو هناك. وبذلك نرى كيف سعى ويليام الأوكامي إلى توضيح أن كثيرًا من المفاهيم المستخدمة في الحجج المدرسية ليس في الحقيقة أكثر من محض تنميق لغوي بل إنه يفتقد حتى صفة الجاذبية.
وربما كان يجدر بويليام الأوكامي استخدام هذا الموسى على نفسه؛ لأن كتاباته ليست إلا سلسلة من التعبيرات الغامضة والأساليب غير الضرورية. ويتَّسم نقده لمن سبقوه بالقوة لا سيما في الأمور الدينية؛ فقد قام بكل دقة بدحض البراهين المعيارية الخمسة التي صاغها توماس الأكويني لإثبات وجود الرب، حيث انتهى إلى استحالة وجود كيان يتمتع بالخلود والكمال، فوجود الرب يمكن أن يُعْرَفَ بالإيمان ويمكن إثباته عن طريق العقل. كما هاجم الحجج التقليدية التي تقول بخلود الرُّوح حيث وضح أنه بما أن الرب حُرٌّ في أفعاله فباستطاعته اختيار أي مخلوق من خلقه ليمنحه الخلود، وليس مجبرًا على منحه لكل مسيحي صالح. وبشكل عامٍّ لم يكن ثمة الكثير ممَّا يمكن أن يثبته الإنسان عن شكل الرب أو أفعاله؛ ولذلك فإن التأكيد على حرية الرب التي أُشِيرَ إليها في إدانات عام ١٢٧٧م صار على يد ويليام الأوكامي يثير احتمالات مقلقة ليس في علم الطبيعة وحده وإنما في اللاهوت أيضًا.
وشملت إنجازات ويليام الأوكامي كذلك العديد من الإنجازات في علم المنطق الذي يُعَدُّ أحد أكثر فروع الفلسفة دراسة في القرن الرابع عشر؛ فقد درس هو وبعض خلفائه الكثير من طرق الاستدلال التي تجاهلها أرسطو، كما تناول بالبحث الكثير من المفارقات بطريقة جديدة أكثر تعقيدًا. ولكن هذا العمل لم يترُك أثرًا كبيرًا لأنه مع حلول النصف الثاني من هذا القرن كان المفكِّرون قد سئموا النقاش في هذا الموضوع؛ فقد كان المنطق بمنزلة العمود الفقري للتعليم العالي لمدة طويلة، حتى رأى المصلحون من أرباب الفكر أن الحديث فيه قد بلغ حد الكفاية. وبذلك لاقت أشكال القياس الخاصة بويليام الأوكامي البالغ عددها ١٣٦٨ المصير ذاته الذي لاقته أشكال القياس الأرسطي القديمة البالغ عددها ١٩٢.
ورغم أن المنطق في القرن الرابع عشر اتضح أن مآله طريق مسدود فإن الوضع كان مختلفًا مع علوم الطبيعة، فقد قام بعض المفكرين باستخدام القياس والحساب في مسائل الطبيعة وهو ما لم يكُن شائعًا آنذاك. وقد كان هذا مذهبًا جديدًا في فلسفة العصور الوسطى، وهو ما أرسى الأسس التي شيد عليها جاليليو أفكاره فيما بعدُ. وقد استغل مجموعة من الفلاسفة في كلية ميرتون بجامعة أكسفورد عُرِفُوا ﺑ «محاسبي أكسفورد» أحد التحليلات الرياضية للحركة ووضعوا مصطلح السرعة الحديث. وقد كان عملهم من الرَّوعة بمكانٍ دفعهم إلى استخدامه في قياس كثير من الأشياء التي لا يمكن وزنُها أو قياسها كالرذيلة والفضيلة (وقد أصبح أحدهم رئيس أساقفة كانتربري ولكن ليس بسبب هذا العمل الذي أخطأ الناس فهمه). وفي عملٍ آخر أقل غرابة من عملهم الأول فَرَّقَ المحاسبون بين مفهومي شدة الحرارة ومقدارها، سابِقين بذلك التفرِقة المعاصرة بين مفهومَي الحرارة ودرجات الحرارة، ولكنهم ما كانوا ليدركوا كيفية قياس أيٍّ من هذه الأشياء. لقد كانت جهودهم بصفة عامَّة تعاني من الاهتمام بشكل أكبر بالجدال المنطقي أكثر من البحث في الطبيعة؛ فقد تناولوا المشكلات المادية كما لو كانت مفارقات منطقية مجرَّدَة، كما كانوا مفتونين بالألغاز النظرية عن فكرة اللانهائية أكثر من التحدِّيات العملية للتنبؤ بالظواهر الطبيعية والتحكُّم فيها. ورغم ذلك فإنهم سارُوا على الطريق الصحيح بخطوات متعثِّرة حتى حَبِطَ عملُهم وبَارَ مسعاهم في نهاية المطاف.
وقد أردف ذلك الفيلسوف والأسقف الباريسي نيكولاس أوريسم (١٣٢٥–١٣٨٢م) ببحوث مشابهة بعقل أكثر فهمًا وأفق أرحب، فابتكر طريقة لتقديم أفكار المحاسبين في ديباجة هندسية، وهو ما مَكَّنَهُ من الوصول إلى أَدِلَّةٍ على الكثير من النظريات الرياضية الهامة عن السرعة والعجلة (وكانت الرسوم البيانية التي وضعها هي خير سلف لما هي عليه الآن). وقد قدم أوريسم كذلك تفسيراتٍ مؤيدة للرسائل الغريبة المعارضة للمذهب الأرسطي كفكرة دوران الأرض وفكرة وجود عوالم أخرى غير عالمنا هذا. وبذلك فقد كان التفكير العلمي لأوريسم سابقًا لعصره بطريقتين؛ إحداهما: أنه أَوْلَى الأساليب الرياضية اهتمامًا أكبر ممَّا كانت عليه في علم الطبيعة في العصور الوسطى، والأخرى: أنه بحث في بعض العقائد الرئيسة للصورة التي رسمها أرسطو للعالم، ولو نظريًّا على الأقل.
وبذلك ظلَّت أفكارُه تسبح في الفضاء النظري، فما توصل إليه أوريسم بشأن بدائل الحكمة القديمة قد تراجع عنه في آخر لحظة. ولم يكن نيكولاس أوريسم هو وحده من فعل ذلك؛ فقد استمر مفكرو القرن الرابع عشر بصفة عامَّة في الاعتقاد في أزلية النجوم وثبات الأرض وعدم وجود عوالِمَ أخرى، بالإضافة إلى معظم ما تبقى من الميراث الأرسطي. وقد كانوا ينظرون بعين العجب إلى الإمكانيات المتنافسة إلا أنهم لم يؤمِنوا بها أو يعتنقوا أيًّا منها. وربما قام أوريسم بتفنيد الحُجج التقليدية التي اسْتُخْدِمَتْ للتدليل على ثبات الأرض ولكن انتهى به الأمر إلى الدفاع عن النظرة التقليدية. ولكي يتمكَّن من تحديد الموضوع قام بالاستشهاد بالمزمور الثالث والتسعين الذي يقول: «أيضًا تثبتت المسكونة. لا تتزعزع.»
ولم يكُن الدين وحده الذي منع أوريسم ومَنْ على شاكلته؛ فقد كان باستطاعة المفكرين في القرن الرابع عشر استخدام نظريات أرسطو وكانوا يميلون لذلك، ولكن لم يكن لديهم نظام بديل يقاربها في الإحكام. لقد تناول أرسطو بالشرح جميع الأشياء تقريبًا، فلم نخلخل البناء المتناسق؟ لقد كان عبثًا بالنسبة لهم أن تُرْفَضَ الأفكار القديمة دون تقديم أى بديل شامل مناسب، لا سيما أن هذه الأفكار نالت رضا السلطات التعليمية (أي الكنيسة) بل وربما الكتاب المقدس أيضًا. ومع ذلك كان من المقبول التفكير في بدائلَ على سبيل المران العقلي المحض، وهذا تحديدًا ما كان يفعله رجال مثل نيكولاس أوريسم.
وقد ساعدت الإدانات التي وقعت عام ١٢٧٧م على تحفيز البحث في الطبيعة وإعاقته في الوقت نفسه؛ لأن تأكيدها على حرية الرب كان له تأثيرات معوقة في مجال العلم وتأثيرات أخرى محفزة. فمن جهة كان باستطاعة الرب أن يفعل كل ما يريد حال تنظيمه للعالم؛ وبذلك فإن الطريقة الوحيدة لمعرفة ما فعله هي فحص الحقائق، فكان هذا دافعًا للبحث العلمي المتفتِّح ومحفزًا له؛ لأن هذا يعني ضمنيًّا أن النظريات التي تبدو صحيحة بحاجة إلى التأكيد. ومن جهة أخرى يطالعنا سؤال يقول ما دام الرب قد صاغ الأشياء معقدة وغامضة فأي أمل كان موجودًا في الوصول إلى الحقيقة؟ وقد تشير بعض الأدلة إلى نتيجةٍ معينة مثل الاستنتاج القائل بدوران الأرض على سبيل المثال، ولكن على أي شيء يبرهن ذلك؟ لقد كان الرب قادرًا على أن يجعل الأرض ثابتة وأن تبدو لنا في الوقت ذاته متحرِّكة، فقد كان يتمتع بالحرية والقدرة المطلقة، وعليه فلن يؤكِّد لنا أي تأكيد واضح أننا قد فهمنا طرق الرب الغامضة؛ ولذلك أصبح العلم ضربًا من ضروب اللهو والعبث، فيمكن للإنسان أن يضع كافة أنواع النظريات موضع البحث والتمحيص، ويميط اللثام عن نتائجها ويقارنها بما يلاحظه، أما الوصول إلى حقيقة الرب فهو قصة مختلفة تمامًا. وقد جعلت هذه الفكرة البسيطة أناسًا مثل نيكولاس أوريسم يراجعون أنفسهم مرارًا قبل ادِّعاء الوصول إلى حقيقة الأشياء.
•••
لم يكُن لدى رواد الثورة العلمية في القرن السادس عشر مثل تلك الظنون، فعندما أعلن كوبرنيكوس في عام ١٥٤٣م نظريته حول دوران الأرض حول محورها وحول الشمس، كان أحد المظاهر الثورية في نظريته يكمن في ادِّعائه صحة ما توصل إليه، فقد قدم اكتشافه الجديد في علم الفلك لا على أنه محض حسابات كوكبية افتراضية وإنما على أنه وصف حقيقي لشكل النظام الشمسي كما كان عليه. وقد حاول بعض أصدقائه إخفاء هذه الحقيقة الصادمة، حيث خرج كتابه «عن ثورة الأجرام السماوية» إلى النور أوَّل مرة بمقدمة غامضة تحاول أن توضح أن كوبرنيكوس لم يقصد ما قاله تمامًا. فوفقًا لما ورد في هذه المقدمة التي أدخلها أحد أصدقاء كوبرنيكوس المتعصبين — والذي رأى عمل صديقه الذي يشارف على الموت على صفحات الجرائد والمجلات — لم يقصد كوبرنيكوس أن يُضَمِّنَ كتابه أيَّ شيء عن مواقع الأجرام السماوية وحركاتها الفعلية، إنما كان الكتاب يحاول توضيح كيف يقدم نموذجه البديل عن السموات أساسًا مفيدًا للحسابات.
ولم تنطلِ هذه المقدمة على أحد؛ فأفكار كوبرنيكوس ظلت متداوَلة لعدة أعوام قبل نشر كتابه «عن ثورة الأجرام السماوية» ولاقت هجومًا ضاريًا من المصلحين البروتستانتيين بوصفها انحرافًا عن تعاليم الكتاب المقدس، فقد نَعَتَ مارتن لوثر (١٤٨٣–١٥٤٦م) — الذي أصر على القراءة الحرفية للكتاب المقدس بوصفها عودة إلى المسيحية الأصلية — كوبرنيكوس بأنه مُنجِّم أحمق ومغرور. وأما الكنيسة الكاثوليكية فكانت أقل التزامًا بالأصولية الكتابية، وبذلك تأخرت إدانتها الرسمية. ولكن بنهاية القرن السادس عشر أدى تعاظُم التهديد البروتستانتي إلى أن أصبح التسلسل الكاثوليكي أكثر حساسيةً تجاه التحديات التي واجهت سلطته الفكرية، فقد مثلت أفكار كوبرنيكوس إحدى هذه التحديات ولذلك لزم القضاء عليها. وكانت النتيجة أن حُرِّمَ على الكاثوليكيين قراءة أعمال كوبرنيكوس عام ١٦١٠م (وفي الحقيقة رفضت الكنيسة الكاثوليكية طباعة أيٍّ من أعمال كوبرنيكوس حتى عام ١٨٢٢م، رغم أن هذا لم يكن ليَحُول دون الوصول لأفكار كوبرنيكوس). وبحلول ثلاثينيات القرن السابع عشر ذهب كثير من رجال العلم الثِّقَات إلى أن الأرض تدور حول الشمس، ولكن هذا الإجماع لم يَزِد الكنيسة الكاثوليكية إلا إصرارًا في التأكيد على حقِّها في تحديد ما يجب أن يؤمن به أتباعها. وفي عام ١٦٣٣م أجبرت محاكم التفتيش جاليليو في الحادثة المشهورة على التخلي عن دعمه لأفكار كوبرنيكوس، وهو ما فعله.
وترجع نجاة أفكار كوبرنيكوس من إدانة الكنيسة الكاثوليكية في بداية عهدها في أحد أسبابها إلى أن معانيها أخذت وقتًا طويلًا ليفهمها الناس ويؤمنوا بها. وما كان حجم المشكلات التي كان من الممكن أن تتولَّد جراء أفكار كوبرنيكوس لتتضح للعِيان إلا عندما تبنَّى علم الفلك الجديد مجموعةً من المفكرين الذين تحدَّثُوا بصراحة ووضوح. وربما كان أسوأ الأمثلة على ذلك هو ما حدث مع جوردانو برونو أحد الرهبان البارزين الذي تعرَّض للحرق على الخازوق عام ١٦٠٠م. لقد كانت آراؤه من الشناعة بمكانٍ حرمه فضل الموت شنقًا قبل إشعال النيران في جسده. وبذلك إذا خالج أي شخص الشك في أن النظريات الفلكية المجرَّدة يمكن لها أن تقضي على الأفكار الدينية فما عليه إلا أن ينظر في الهراء الغامض الذي آمن به برونو.
وبذلك نرى كيف شَبَّ مذهب كوبرنيكوس في بيئة فاسدة، فقد فُقِدَتْ أوراق محاكمة برونو؛ ومن ثَمَّ فلا يعرف أي شخص البدع التي اختارتها محكمة التفتيش أساسًا لمحاكمته. وكم في أعماله الكثيرة من أمثلة على الأفكار الغريبة غير التقليدية، فكان يُلقي محاضراتٍ في اللاهوت والفلسفة الطبيعية بالإضافة إلى فرع غريب من فروع المنطق وفن الحفظ والكثير من العلوم الأخرى، كما كتب رسائل تناولت السحر وخطبًا لاذعة ضد أرسطو ونقدًا للكتاب المقدس وقصائد تتحدث عن الكون، بالإضافة إلى بعض المحاورات الفلسفية التي شكَّك فيها صراحةً في العقائد المسيحية، وكان أحيانًا يعلن أنه من أتباع لوثر وأحيانًا من أتباع كالفن، ولكن مذهبه لم يكن مسيحيًّا خالصًا كما يبدو، وقد كان مهووسًا بالسحر ومولعًا بالأمور التي تدور حول الأوهام الغامضة، وكان يُولِي اهتمامًا خاصًّا بالدِّيانات المصرية القديمة، وقد قاده اهتمامُه بالديانات التي تعبد الشمس إلى تَبَنِّي آراء كوبرنيكوس.
ثَمَّةَ … مساحة ضخمة واسعة يمكننا أن نطلق عليها اسم الفراغ، وفيه ما لا يحصى من العوالم المشابهة للعالم الذي نحيا فيه، وأنا أُعلِن أن هذا الفضاء لانهائي؛ فلا سبب أو عيب فيما تهَبه لنا الطبيعة يجعلنا نُنكر وجود عوالم أخرى خلال الفضاء.
وكما رأينا فقد استغل بعضُ مفكري القرن الرابع عشر فكرةَ وجود عوالم أخرى دون أن يؤمنوا بها، بينما رأى برونو أن علم الفلك المليء بالحقائق يُمَثِّلُ اكتشافًا عظيمًا وأنه أحد الحقائق المدهشة التي كُشِفَ النقاب عنها في عصره، فقال إن كونًا يكتظُّ بمثل هذه الأشياء لَهُوَ أكبر تَجَلٍّ لعظمة الرب التي لا يمكن قياسُها أبدًا. وقد كتب يقول إن الرب يَظْهَرُ إجلاله وتعظيمُه «ليس في شمسٍ واحدة وإنما في شموس كثيرة وليس في أرض واحدة وإنما في أرضين كثيرة، بل إن شئت فقل في أرضين لا عَدَّ لها.»
ولكن ما أشدَّ ما سببته هذه الفكرة من إزعاج! فقد يعظم الرَبَّ كَوْنٌ فيه الكثير من العوالم، ولكن ما هو موضع الإنسان من كل ذلك؟ فلم يَعُدْ موطن الإنسان هو مركز الكون وإنما بقعة ضئيلة في الفراغ، فهل يمكن أن يكون إذن أعظم الموجودات والمخلوقات؟ وأين تقع السماء تحديدًا في هذه الصورة الجديدة للأشياء؟ لا يُعَدُّ برونو واحدًا من جيل العلماء الجديد الذي يَضُمُّ جاليليو، فقد كان كثير الاستشهاد بمخطوطات زائفة أو قصاصات من الأفلاطونية الحديثة، ولم يعتمد على أي نوع من التجارب أو الحسابات أو الملاحظات في سبيل دعم نظرياته. ولكن بعض أفكاره كانت شبيهة بأفكار جاليليو وأتباعه، إلا أنه عَبَّرَ عنها بطريقة أكثر اضطرابًا وغموضًا، فلم يكُن ثَمَّةَ تشابه كبير بين الكون الذي وصفه برونو وغيره من العلماء وبين الكون الذي كان الإنسان في العصور الوسطى متأكدًا أنه يحيا فيه.
وقد تحدَّث الشاعر دَن عن الإنسان العادي المتحير بالقدر نفسه الذي تحدَّث به عن رجال اللاهوت الذين يُعِدُّونَ للمعارك، عندما كتب عن الشكوك التي أظلت العالم في بدايات القرن السابع عشر فنجده يقول:
لا ريب أننا لم نفقد الشمس ولا الأرض بالفعل، فقد عُثِرَ عليهما على الأقل بفضل ذكاء كوبرنيكوس. وكما أخطأ الناس فهمَ حركة الشمس الظاهرة فظنُّوا أنها حركة حقيقية؛ فإن المتحفِّظين من أهل القرن السابع عشر الميلادي خلطوا بين شروق الشمس وغروبها. فكانت شمس التناغُم تُشرِق على العالم ببداية تشكيل صورة جديدة للكون. وربما يُعزَى عدم ظهور هذا الوجه المشرق بجلاءٍ آنذاك إلى أن التغيُّر العنيف الذي كان يعصِف بالعالم حينئذٍ جعل من الصعب أن يدرك كل إنسان حقيقة ما يحدث.
•••
أما الوقت الذي وُلِدَ فيه كوبرنيكوس في النصف الثاني من القرن الخامس عشر فقد كان أكثر هدوءًا، فالدراسة العِلمية لم تكن بَعْدُ ساحةَ قتال في الأروقة اللاهوتية. كان انتشار الكُتُب المطبوعة والتوالُد الرهيب للأفكار الذي نتَج عنه قد بدأ للتو، ولعل النقطة الأهم تتمثل في أن النزاعات التي كانت تدور في الوسط الثقافي لم تكُن علِقت في شَرَكِ الحروب الدامية التي دارت رَحاها بين البروتستانت والكاثوليك. ورغم ذلك فإن العديد من مجالات الحياة الثقافية كان يشهد حالةً من الغليان الإبداعي، فقد كان الأوروبيون في ذلك الوقت على مشارفِ سَبرِ أغوار عوالم جديدة لم تكُن كواكبَ جديدة أو كشوفات فلكية وإنما قارات جديدة ومهارات جديدة وطرق جديدة في التعامل مع الطبيعة وأساليب تعليمية جديدة، بالإضافة إلى عوالم المؤلِّفين الجُدُد، بل بالأحرى الذين طوَتهم غياهب النسيان.
وبدأت الحياة تعود رويدًا رويدًا إلى دراسة اللغة اليونانية مع عدد من اللغات القديمة التي أُهْمِلَتْ لوقت طويل، معيدة بذلك فتح نافذة للإطلال على الماضي ظلت موصَدة لما يُقارِب ألفَ عام. ولم يقف الأمر عند حَدِّ مطالبة الباحثين بنصوص وترجمات أفضل للأعمال القديمة التي كان يعرِفها أسلافهم جيدًا في العصور الوسطى (أو التي اعتقدوا أنهم كانوا يعرفونها) بل إنهم طالبوا باسترداد أجزاء من تراثهم الفكري الذي تجاهلته الموجة الكبيرة من الترجمات العلمية والفلسفية في القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر. كانت هناك أوبة إلى الكتب الأدبية والسياسية والأخلاقية والتاريخية وغيرها من الكتب القديمة التي لم يكُن لها من الاهتمام نصيب في المناهج الضيقة التي دُرِّسَت في العصور الوسطى؛ ففي إيطاليا ثم في شمال أوروبا أكد نموذج جديد من التميُّز الفكري على أهمية الدراسات الأدبية وفِقه اللغة التاريخي والخَطابة والشعر والتاريخ، وبذلك فإن دراسة ما يُعْرَفُ اليوم بعلم «الإنسانيات» تطوَّرت جزئيًّا من أجل إعداد الرجال للعمل في مجالس الأمراء ومكاتب محفوظات المُدُن والولايات، بالإضافة إلى المكاتب الباباوية. واهتمت هذه الطبقة الجديدة من الموظَّفين والباحثين العلمانيين بتطوير طريقة كتابتهم وتهذيبها بدلًا من الاهتمام بالدخول في نزاعات لاهوتية، وكانوا يبتغون من ذلك أن يتعلَّموا كيفية كتابة الخطابات والرسائل المُقنِعة بدلًا من حَلِّ الألغاز المنطقية. وقد كان لهذه التطوُّرات التي جرت خارج الجامعات كبيرُ الأثر على ما كان يدور داخل أروقتها.
«ليس كل إنسان حجرًا، وبعض الناس حيوانات؛ إذن بعض الحيوانات ليست حجارة.» لا أستطيع أن أتمالك نفسي عن الصراخ: هل سمعتم أحدًا من قبلُ يناقش بطريقةٍ كتلك يا أمة المجانين؟
وقد اهتمَّ لورنزو فالا وأتباع المذهب الإنسانوي بالمؤثرين من أهل الخطابة أكثر من اهتمامهم بأشكال القياس المجرَّدة والاصطناعية لدى أرسطو. وزاد الإقبال الشَّرِه على قراءة أعمال الكُتَّابِ اللاتينيين القدماء أمثال شيشرون من أجل اكتساب المهارات الأسلوبية التي غابت عن اللغة اللاتينية التي كُتِبَتْ بها الشروح المدرسية، وهي الحقيقة التي لم يكُن لدى شيشرون ما يقوله عنها إلا أنها كانت قليلة الأهمية، مهما قال ذلك بأسلوب جميلٍ ومنمق. وقد كان أتباع المذهب الإنسانوي ينظرون إلى خطبه بوصفها نموذجًا لكيفية طرح قضية، كما اهتموا بأعماله الفلسفية بوصفها مصادرَ سهلة القراءة تصِف الفلسفة الهيلينستية التي تتحدَّث عن حياةٍ ما كان ليعرفها المعلمون في جامعات العصور الوسطى أبدًا.
وكان إراسموس الروتردامي (١٤٦٩–١٥٣٦م) من أهم الباحثين أتباع المذهب الإنسانوي وأكثرهم تأثيرًا، ويذكرنا نقدُه لفلاسفة الجامعة في كتابه «في مدح الحماقة» بهجوم أفلاطون على السفسطائيين الذين انشغلوا بسفاسف الأمور في بريكلين بأثينا. وقد جعل إراسموس المدرسية تبدو سخيفة وحقيرة. وقد كانت مهمته بسيطة وسهلة في إقناع قرائه بأن علماء اللاهوت آنذاك لم يكونوا إلا مجموعةً من المهرِّجين الجهلة الفاسدين كما فعل فرانسوا رابليه الذي جعلهم أضحوكة في روايته «جارجانتوا» عام ١٥٣٤م. وربما كان إراسموس محقًّا عندما قال إن كثيرًا من علماء اللاهوت لم يكونوا يفهمون النصوص التي زعموا أنهم يُدَرِّسُونَهَا. وقد أدى الموت الأسود إلى تقليص المصادر التي استقت منها الكنيسة مهاراتها الفكرية إلى حَدٍّ بالغ. وقد مهَّد هجوم إراسموس على الكنيسة المترفة التي كانت تُعانِي من فقرٍ رُوحي الطريقَ للمُصلِحَيْن البروتستانتيَّيْن لوثر وكالفن. وقد اتضحت أهمية المهارات الأدبية بوصفها سلاحًا قويًّا في يد الخبير الإنسانوي في مثل تلك المعارك إذ قَدَّمَ عمل إراسموس الحصيف في الكتاب المقدس والكتابات المسيحية الأولى المساعدة له على إظهار إلى أي مدًى كانت الكنيسة المعاصرة بعيدة عن المسيحية الأصلية.
وقد قام نيكولا مكيافيلي (١٤٦٩–١٥٢٧م) (الذي كان معاصرًا لإراسموس) بتقويض سلطة علماء اللاهوت على نحو مُغايِر حيث قام بتطوير طريقة جديدة للكتابة عن السياسة كانت ببساطة تتحاشى القضايا الدينية. فبدلًا من تقديم مبرِّرات لاهوتية للمؤسسات والممارسات السياسية قَدَّمَ طرقًا واقعية تبرز كيفية اكتساب القوة وأساليب ممارستها. وقد اشتهر كتابه المختصر «الأمير» بتصويره للحاكم الناجح على أنه رجل يُدرِك متى يتغاضى عن القيود الأخلاقية ويشرع في فعل ما يريد. أما عمل مكيافيلي الرئيس وهو «الخطابات» فهو أقل فظاعة من كتابه الأول، ويتميز بكبر حجمه عنه بشكل كبير يفسر عدم شهرته وذيوعه. وبسبب كتابه «الأمير» اشتهر مكيافيلي بنصرته لفكرة استخدام القسوة. وبصفة عامة لا تُعَدُّ كتاباته ساخرةً بقدر ما هي كتابات اجتماعية، فهي توضح كيفية ممارسة السياسة في الواقع، فكانت النتيجة ميلاد نوع جديد من الدراسات الاجتماعية تنأَى عن المناهج الدراسية التي كانت تخضع لسلطان الكنيسة في العصور الوسطى.
إنه لأكثر أمانًا أن نلجأ مباشرة إلى الطبيعة بدلًا من الأعمال المقلَّدة من أصولها، التي أصابها الكثير من التدهور فنكتسب بذلك منهجًا فاسدًا، فمَنْ يستطيع أن ينهل من النبع ليس بحاجة إلى ورود البرك.
وقد قَدَّمَ لويس فيفيس (١٤٩٢–١٥٤٠م) — وهو أحد أتباع المذهب الإنسانوي وأحد كبار نُقَّاد التقاليد المدرسية في مجال العلم — نصيحة مشابهة ولكنه وجَّه هذه النصيحة إلى الفلاسفة بدلًا من الفنانين، فشدد على أهمية تعويل الإنسان على ملاحظاته الخاصة، وبَيَّنَ أن طريق التقدُّم في مجال الفلسفة الطبيعية يتمثل في دراسة الحِرَفِ اليدوية والأساليب العملية، ولم يكُن يعني أن يُلقِي الفلاسفة أقلامهم ويتحوَّلوا إلى آلاتٍ، ولكنه قصد أنه يمكن للفلاسفة أن يتعلموا الكثير من الأساليب التي يستخدمها الفنانون والمهندسون والمعماريون وصُنَّاعُ الآلات الذين كانوا يمدون الفلكيين والموسيقيين والملاحين بما يحتاجونه من آلات؛ أي أن يتعلموا من رجال عصر النهضة الذين انشغلوا بالملاحظة والتسجيل والتحليل ومعالجة الظواهر الطبيعية متى أمكن ذلك. وقد قال إن الأساليب العملية التي يستخدمها المتخصصون في المجالات اليومية تأتي بنتائجَ عن معرفة الطبيعة أكثر دِقَّةً من الأساليب التي كان يستخدمُها الباحثون التقليديون في الجامعات.
ومن الحقائِقِ المدهشة عن الطبيعة في عصر النهضة اتِّساعُ نطاق دراستها خلال هذا العصر. فقد شهد القرن الخامس عشر رحلات جريئة لسبر أغوار العالم، فانطلق العديد من الرحلات خاصة من إسبانيا والبرتغال ليرجع محمَّلًا بأخبار عن أنواع غير معروفة ومناظر غير مألوفة، ولم يكُن في كتابات الأقدمين ما يُفسِّر للمكتشفين ما يرَوْنه بأعينهم. وبعد زيارة القارة التي سُمِّيَتْ باسمه فيما بعدُ قال أمريجو فيسبوتشي إن كتاب «التاريخ الطبيعي» — الذي كتَبه بليني والذي لا يزال أحد الأعمال المعيارية حتى بعد مرور ١٤٠٠ عام — لم يَضُمَّ أقل القليل من الكائنات التي اكتشفها بالقارة الجديدة؛ وبهذا بدأ يتضح التنوع الهائل في الكائنات وهو «ما لم يكُن معروفًا لدى القدماء وأصبح معروفًا لدينا الآن.»
وكتب فيسبوتشي في رسالته الشهيرة «رسالة عن العالم الجديد» عام ١٥٠٣م يقول: «لقد رأيت أشياء في هذا الجزء من العالم تتضارب مع آراء الفلاسفة.» ولم تسحره أنواع النباتات والحيوانات الجديدة أو الظواهر الجوية والعجائب الطبيعية الأخرى فحسب، بل العادات والتقاليد الغريبة التي كان يمارسها السكان الأصليون، فبدت الطبيعة الإنسانية أيضًا مختلفة في العالم الجديد. وكتب فيسبوتشي واصفًا كيف لا يدين هؤلاء الناس بدين ويعيشون بلا قيود كما تعيش الحيوانات؛ فهم في أعلى مراتب السعادة غير عابِئِينَ بمفاتِن الحضارة وزخارفها؛ فهم أقرب ﻟ «الأبيقوريين» منهم إلى «الرواقيين» على حَدِّ قول فيسبوتشي، قاصدًا بذلك أنهم كانوا منشغلين بالملَذَّات والمُلهِيات عن الالتزام بالواجبات. ولا ريب أن فيسبوتشي أساء تفسير كثير ممَّا رآه وبالغ في وصفه؛ فقد زعم على سبيل المثال أن هذه الأرواح الحرة تعيش حتى سِنِّ ١٥٠ عامًا. ولكن ثمة حقيقة لا مِراء فيها وما ظهرت من خلال التفاصيل التي تحدَّثت عنها اكتشافاته واكتشافات غيره من المستكشفين؛ وهي أن ما كان يُنْظَرُ إليه في أوروبا في العصور الوسطى على أنه يمثل معرفة العالم لم يكُن كاملًا على أفضل الاحتمالات وكان خاطئًا على أسوئها. ومن هنا برزت أهمية التخلي عن الكثير من الأفكار القديمة وفتح صفحة جديدة بالعودة إلى النبع الصافي للطبيعة نفسها كما قال ليوناردو دافينشي وعدم الاعتماد على الماء الراكد في البرك القديمة.
وبهذه الرُّوح نظر كثير من مفكري القرن السادس عشر إلى رجال العلم القدماء بعين الاحتقار والامتهان، وكان ذلك أحيانًا بالطُّرُق المسرحية. وكان فيليبوس أوريولس ثيوفراستوس بومباستوس فون هونيم المشهور ﺑ «باراسيلسوس» (١٤٩٣–١٥٤١م) يبدأ محاضراته في الطب أحيانًا بحرق نسخ من أعمال جالين وابن سينا. ومن المفترض أن هذه الإشارة الجريئة قد آتت أُكُلَهَا، فيقال إن الفيلسوف الباريسي باتروس راموس (١٥١٥–١٥٧٢م) أيَّدَ علانية الرأي القائل إن «كل ما قاله أرسطو مزيف ومختلق.» وإن افترضنا أنه لم يقُل هذا بالفعل فإن كثيرين غيره كانوا يعتقدون في صحة هذا القول. (وقد قُبِضَ على راموس وقُتِلَ في مذبحة عيد القديس بارتولوميوس عام ١٥٧٢م، وهو الحدث الذي صوره كريستوفر مارلو بطريقة غريبة في إحدى مسرحياته التراجيدية حيث قال أحد الجنود في المسرحية لراموس: «هل أنت من هزأ بأرسطو؟» فأجاب راموس: «نعم.» فأمر بقتله.)
ولم يخضع باراسيلسوس الذي اشتهر بحرقه للكتب لأية سلطة عدا سلطة الكتاب المقدَّس على حَدِّ زعمه؛ ففضل الاعتماد على خبراته وتجاربه بدلًا من الاعتماد على حكمة الأقدمين البالية، ولكنه في الحقيقة اعتمد كثيرًا على مصادر قديمة دون أن يُقِرَّ بذلك، ولم تكُن هذه المصادر والتقاليد مألوفَةً آنذاك. ربما أنكر باراسيلسوس الكيمياء الإغريقية بعناصرها الأربعة والطب اليوناني بأخلاطه الأربعة، لكنه استقى كثيرًا من آرائه في الطب الكيميائي (الذي لعِبت فيه العناصر الثلاثة الضَّارَّة وهي الزئبق والكبريت والملح الدور الأبرز) من الخيميائيين العرب منذ أكثر من ٨٠٠ عام. كما اهتمَّ باراسيلسوس بجانب الخيمياء بعلم التنجيم والقبلانية اليهودية فضلًا عن العديد من الموضوعات الغريبة الأخرى. وقد كان هذا الاهتمام الانتقائي بكل ما هو خارق للطبيعة أمرًا طبيعيًّا ومألوفًا في هذه العصور. ولم يَرَ كثيرٌ من مفكري عصر النهضة اختلافًا كبيرًا بين ما نسميه اليوم العلم وما نُسَمِّيهِ السحر، وفي حقيقة الأمر يدين تطوُّر بدايات العلم الحديث بالكثير إلى السحر إبان عصر النهضة.
ولم ينتهِ الأمر بالدَّور الذي لعِبه الخيمياء والتنجيم في التمهيد لظهور الكيمياء والفلك من خلال تطوير الأساليب التي وجدت طريقها في عمل علمي أكثر تقدُّمًا، ولم تنتهِ القصة بتحمُّل التصوُّف المبني على علم الأعداد لدى فيثاغورس وأتباع القبلانية المسئولية عن إلهام أناس أمثال كبلر بتفسير الطبيعة بطرق رياضية، بل اشتدت العَلاقة بين العلم والسحر وصارت أكثر عمقًا ممَّا قد تصوره هذه الأمثلة، فالسحر في الحقيقة كان الحافز الرئيس لمن يتقصَّى الطبيعة ويستكشفها من باحثي عصر النهضة، فكان الساحر في تلك الأيام يعمَل على التحكُّم في القوى الخفية في الأشياء واستغلالها في صُنع العجائب، فكان يسعى وراء المعرِفة المُخَادِعَة التي ينتج عنها أثر عملي، وكان تَوَّاقًا إلى العُثُورِ عليها إلى الدرجة التي جعلته يبحث في الأماكن التي نعتبرها اليوم غير ذات نفع كتحضير الأرواح من خلال معاني الأعداد السحرية في القبلانية أو في عالم الأرواح المتهامس.
ولقد رأينا من قبلُ أن الفارق الأهم بين مذهب أرسطو تجاه المعرفة العلمية ومذهب رجل مثل فرانسيس بيكون — رسول العلم الحديث — يكمُن في تعلُّق آمالهم بالتطبيق العملي لهذه المعرفة؛ فأرسطو لم تكُن لديه تلك الآمال بالمرة في حين كان فرانسيس بيكون مفتونًا بها، فقد كتب يقول: «إن المعرفة والقوة الإنسانيتين تقودان كلاهما إلى الشيء نفسه، فمتى غاب السبب غابت النتيجة.» وفي عشرينيات القرن السابع عشر أيَّد بيكون إقامة نادٍ للباحثين يكون هدفه الرئيس «معرفة العلل وإلقاء الضوء على الحركة الخَفِيَّة للأشياء وتوسيع حدود المملكة الإنسانية وتفعيل جُلِّ ما يمكن تفعيله.» وبعد ذلك بأربعين عامًا أدَّى اقتراح بيكون إلى تأسيس الجمعية الملكية التي ضمت بين أعضائها روبرت بويل وإسحاق نيوتن، وقد كان أعضاء هذه الجمعية هم ورثة سحرة عصر النهضة الذين أرادوا تحويل الدراسة السلبية للطبيعة إلى إدارة إيجابية فعَّالة لقواها. وقد حَوَّلَ أعضاء الجمعية الملَكية أحلام السحرة إلى حقيقة أو على الأقل بَذَلُوا كل ما في وسعهم لتحقيق ذلك.
وقد كال بيكون النقد لبعض السحرة الهواة في عصر النهضة لكن لم تكن شكواه من عدم جدوى سحرهم، بل لأنه يؤتي أُكُلَه دون أن يبذلوا فيه أدنى جهد، فكان يرى أنه فن كسول وبليد لا نضج فيه وأنه في كل الأحوال يسير في الطريق الخاطئ. إلا أن هذه التحفُّظات التي سجَّلها بيكون على السحر لم تكُن لتَحُول دون تَبَنِّيه رؤية سحرية رُوحانية للعالم، فقد أَقَرَّ على سبيل المثال بفعالية التعويذات الصُّوفية حيث قال: «ثمة العديد من الأشياء … التي لها مفعولُها على حياة البشر بفعل الحب أو الكراهية الخفية … مثل فضائل الأحجار الكريمة … التي تنطوي على أرواح مرهفة صافية.» وبشكل عامٍّ أراد بيكون أن يبني على علوم التنجيم والسحر والكيمياء لا أن يقوض أساسها ويهدمها؛ حيث رأى أن هذا الهدف المعرفي لهذه العلوم إذا ما اقترن بالقوة فسيكون صيدًا ثمينًا وهدفًا جيدًا في حدِّ ذاته. (وكذلك كان نيوتن الذي يُعَدُّ وفقًا لمعاييرنا الحديثة مهووسًا بالقوى الخفية، فقد كتب في الخيمياء ما يقارب المليون كلمة في ثرثرة لا طائل من ورائها، ولكن في أواخر النصف الثاني من القرن السابع عشر حيث عاش نيوتن أولى العلماء ظهورهم لمثل هذه المسائل؛ وبذلك ظلت ثرثرة نيوتن حبيسة جدران هَوَسه.)
إن الطبيعة كالساحر الذي ينصب المصائد في كل مكان ويُزوِّدها بأنواع معينة من الطعام للإيقاع بأنواع معينة من المخلوقات؛ فالمُزارع يحرث أرضه ويضع فيها البذور وينتظر هِبَةً من السماء … كما أن الفيلسوف المتمرِّس في الأمور الطبيعية والفلكية والذي اعتدنا أن نسميه ساحرًا يغرس الأشياء السماوية في الأشياء الأرضية من خلال تعويذات معيَّنة جذابة تُسْتَخْدَمُ في وقتها المناسب والصحيح.
هذا ما كتبه مارسيليو فيتشينو (١٤٣٣–١٤٩٩م) وهو مفكِّر من فلورنسا كان مسئولًا عن الترجمات اللاتينية لِمَا أصبح بعد ذلك أكثر النصوص الغريبة تأثيرًا في عصر النهضة. وقد عُرِفَتْ هذه النصوص باسم الكتابات «الهرمسية»، وهي مجموعة من الكتب وضعها كُتَّابٌ يونانيون غير معروفين فيما بين عامي ١٠٠ و٣٠٠م والتي كان يُعْتَقَدُ في عهد فيتشينو أن كاتبها هو هرمس الهرامسة، وهو عراف صوفي مصري عاش بعد عهد النبي موسى بفترة قصيرة. وقد نجح السحر الطبيعي الذي دافع عنه فيتشينو وآخرون في أواخر القرن الخامس عشر في الجمع بين التقاليد الغريبة المتنوعة والتعاليم الدينية المألوفة. وفي الحقيقة كان ينظر إلى الإيمان بالقوى الخفية والمسيحية على أن كُلًّا منهما يكمل الآخر، فكتب جيوفاني بيكو ديللا ميراندولا — وهو أحد زملاء فيتشينو في عام ١٤٨٦م شاركه آراءه نفسها — يقول: «ليس ثمة نوع من المعرفة يمكن أن يهبنا اليقين بألوهية المسيح أكثر من السحر والقبلانية.»
وبحلول منتصف القرن السادس عشر بدأت تتحول الأفكار الغريبة عن السحر الطبيعي — والتي كانت قاصرة في السابق على فئة قليلة — إلى فلسفة جديدة متكاملة للطبيعة، فقام رجال من أمثال باراسيلسوس وبرونو بوصف عالم مسحور من التماثُلات الخَفِيَّة والتعاطف الرُّوحاني والذي يمكن التعاطي معه من خلال الوصفات السحرية الصحيحة، وبدا هذا عالمًا مثيرًا مفعمًا بالحيوية والنشاط أكثر من ذلك العالم المذكور في النصوص الأرسطية التي تُدَرَّسُ في الجامعة؛ لأنه كان مناسبًا لنشاطات هذا العصر. وهذه الرؤية السحرية رأت الطبيعة مليئة بالأشياء التي يمكن استغلالها، وهو ما أغرى رجال عصر النهضة أرباب الحيل وأصحاب الطموح. ورغم وجود بعض العلماء الذين لم يهتمُّوا بعلوم السحر والتنجيم فقد كانوا حالاتٍ استثنائية ولم تكُن كتبهم ذائعة الصيت كتلك التي كتبها السَّحَرَةُ ومَنْ على شاكلتهم، ففي الفلسفة الطبيعية في القرن السادس عشر «لم يكُن المرء ليميز متى تبدأ جلسات العلم ومتى تنتهي جلسات استحضار الأرواح» كما ذُكِرَ في أحد كتب التاريخ الحديث.
ومن أفضل الأمثلة على تضافُر العلم والسحر في حومة الارتباكات الإبداعية التي شهدها عصر النهضة هو جون دي (١٥٢٧–١٦٠٨م)، الذي ربما كان النموذج الذي أوحى لشكسبير بشخصية بروسبيرو في مسرحية «العاصفة». لقد كان جون دي أحد أكبر علماء الرياضيات في إنجلترا في العصر الإليزابيثي، حيث قام بعمل دراسات مسحٍ جغرافية وهيدروجرافية للأراضي المكتشفة حديثًا، كما قام بإنجازات تُذْكَرُ فَتُشْكَرُ في علم المثلثات والملاحة وإصلاح التقويم، ومع ذلك فقد كرَّس جزءًا كبيرًا من وقته لمناجاة الملائكة مستخدمًا في ذلك الصلوات والبلورات والمرايا والأرقام الغامضة فضلًا عن الأدوات السحرية الأخرى. وكثيرًا ما كانت محاولاته تحقق النجاح الذي كان يَنشُده، ولكن يبدو أن الملائكة أوحَتْ له بالكثير من أفكار كُتُبِه عبر اتصاله الرُّوحي بها كما يزعم. والحق نقول إن جون دي ما كان لينال ما ناله من سمعة بوصفه ساحرًا عظيمًا بما بذله من جهد للتواصل مع عالم الأرواح ولا بحرصه على الدخول في التنجيم والخيمياء والقبلانية، بل ببعض المؤثِّرات المسرحية التي قدمها خلال أحد العروض المسرحية لأحد الأعمال الهزلية اليونانية في كلية ترينيتي في جامعة كامبريدج عام ١٥٤٦م، فكانت الآلات الحديثة (وهي عبارة عن خنفساء صناعية ضخمة تطير في الجو) تُعَدُّ من الظواهر «الخارقة للطبيعة» لكونها غير مألوفة وأكثر غرابة من تعويذات حسن الحظ أو الحديث إلى الملائكة.
ربما كانت اختراعات السَّحَرة والمهندسين في عصر النهضة أمرًا جديدًا بالأساس على عكس حماسهم للسحر الذي كانت له جذور قديمة. فبينما كانت الكتابات الإغريقية أو الرومانية القديمة يُنْظَرُ إليها بعين الاحتقار إذا ما تطرَّقت للحديث عن التاريخ الطبيعي أو الفيزياء، فإن ثمة مجالات معرفية أخرى ضرب فيها الأقدمون مثالًا ليقتفي خَلَفُهُمْ أثرهم، وقد كانت علوم السحر والتنجيم إحدى هذه المجالات مثل علوم الإنسانيات. كان السحرة الطبيعيون في القرنين الخامس عشر والسادس عشر يرجعون إلى العلوم التي تهتم بكل ما هو خارق للطبيعة والتي كانت منتشرة آنذاك، إضافة إلى حالة تنوع أوجه الورع التي أصابت العالم اليوناني القديم. وكان العديد من ترجمات مارسيليو فيتشينو يحتوي على أعمال لبعض مَنْ يؤمنون بالقوى الخفية من أتباع الأفلاطونية الجديدة من أمثال يامبليكوس وفرفريوس وبركلوس، وكذلك الكهنة الكلدانيون والتي ألهمت هؤلاء الرجال ببعض أوهامهم التي تقتصر عليهم. ومن بين الخيوط المتشعِّبة لفكر فيتشينو كانت الأفلاطونية الصوفية لدى أفلوطين وأتباعه هي الأبرز، وكانت فكرة فيتشينو المؤثرة عن الحياة الدينية بوصفها طريقًا يأخذك تدريجيًّا نحو عالم رُوحاني طاهر تدين لهذا التقليد القديم أكثر من أي شيء آخر.
وقد عاد أفلاطون مرة أخرى إلى حلقات البحث بفضل فيتشينو الذي أنتج الترجَمَة الأولى الكاملة لأعماله في الغرب فجعلها في متناوَل أيدي جميع المتعلِّمين وليس فقط ذلك العدد القليل المتزايد ممَّن كانوا يعرفون اليونانية واللاتينية. ولأن اسم أفلاطون كان يتردَّد دائمًا على ألسنة الناس، فمن السهل أن ننسى أن قليلًا ممَّا قال لم يكُن معروفًا قبل ذلك الحين حتى أواخر القرن الخامس عشر، فما أقل الأوروبيين الذين لم يعرفوا عن أفلاطون منذ بداية العصور الوسطى إلا شيئًا يسيرًا! فكانوا عادة ما يعرفون قصة الخلق التي ذُكِرَتْ في محاورة «طيمايوس» بالإضافة إلى بعض الشائعات عن مستوى أعلى من الواقع يتميَّز بكونه مجردًا ورياضيًّا في كماله ويقبَع فوق العالم المادي. أما الآن فقد صارَت آراء أفلاطون واسمه يجريان من ابن آدم مجرَى الدَّمِ. ولقد لاقت طبعة فيتشينو نجاحًا كبيرًا بمجرد صُدُورِهَا حتى حققت أعلى مبيعات بين الكتب آنذاك، رغم أن بعض شروحه وَلَّدَتْ لدى القُرَّاء شعورًا أن فلسفة أفلاطون تتَّسم بالتناسق والتجانس والعقائدية أكثر ممَّا كانت عليه في الواقع. وبمعاوَنَة أحد أتباعه يُدعَى كوسيمو دي ميديتشيني أنشأ فيتشينو ما يشبه الأكاديمية الأفلاطونية في مدينة فلورنسا على أساس الأصل الأثيني لها، إلا أن الحقيقة الوحيدة المعروفة عنها هي أن نشاطاتها كانت تحتفل بأعياد ميلاد أفلاطون من خلال إقامة الولائم.
وقد رأى فيتشينو أن الأفلاطونية تنطوي على أمور حدسية مهمة تتعلَّق بالمسيحية كما قال القديس أوجستين، ولكن فيتشينو ذهب إلى أبعد من ذلك فرأى أن كتابات أفلاطون لا تقِل في سلطتها عن تعاليم الكتاب المقدس، فالفلسفة يمكن أن يوحي بها الرب كالكتاب المقدس تمامًا، والأمر نفسه ينطبِق على فلسفة أفلاطون أو كذلك اعتقد فيتشينو، فرأى أن ما سمَّاه أفلاطون اتصال العقل ﺑ «الخير نفسه» (أو صورة الخير) هو نفسه ما يسميه المسيحيون المعرفة بالرب. وبزواج الأفلاطونية بالمسيحية رفع فيتشينو الإيمان إلى المراتب العُلَى للفلسفة وهبط بالفلسفة إلى الأرض. كان أفلاطون يرى أن الاتِّحاد الرُّوحي مع فكرة «الوجود وراء الوجود» — وهي الفكرة التي تَحَدَّثَ عنها أتباع الأفلاطونية الجديدة — يُمكِن تحقيقه في الحياة الفانية إذا ما اتَّبَع الإنسان إنجيل الحب. وبالطبع يمكن العثور على هذا الإنجيل في الكتاب المقدس وكذلك في حديث ديوتيما في كتاب أفلاطون «المأدبة» بصورته الشهيرة عن صعود الرُّوح إلى عالم المُثُلِ السماوي. وقد كتب فيتشينو تعليقًا مؤثرًا على هذا الكتاب ساعد على انتشار فكرة «الحب الأفلاطوني»، فقال إن الحب الحقيقي لشخصٍ ما هو نوع من الاستعداد لحُبِّ الرب، فإذا ما كان هذا الشعور بالحب متبادَلًا بين الطرفين وإذا ما تعلَّم المُحِبُّ أن يسمو فوق رغباته المادية لِيَنْفُذَ إلى الرُّوح فهذا يرتقي إلى شكلٍ من أشكال الإخلاص الديني. وقد أصبحت فكرة الحب الأفلاطوني واحدة من الأفكار الأثيرة لدى الشعراء وكُتَّابِ المقالات وعَمَّرَتْ لفترات وعصور طويلة تجاوزت عصر النهضة الذي وُلِدَتْ فيه حتى إن بعض النقاد تتبَّع أثرها حتى وصلوا إلى شعراء القرن العشرين أمثال ييتس وريليك ووالاس ستيفنز. أما اليوم فقد أصبح المصطلح يشير ضمنًا إلى العزوبة لا أكثر.
وقد ظل عَلَمُ أفلاطون يرفرف على سارية العِلْمِ والشعر في عصر النهضة، فبينما كانت النظريات التي تُدَرَّسُ في الجامعات هي نظريات أرسطو ومن ثم لم تُعِر اهتمامًا كبيرًا لمسألة الكَمِّيَّات وطرق قياسها، كانت أعمال كثير من المنشغلين بالدراسة العملية للطبيعة والباحثين فيها غير المنتمين للجامعات تتميز بنزعة رياضية. ولم يتسبب ذلك في إعادة أفلاطون والفيثاغوريين إلى المشهد فحسب، بل كان غالبًا ما ينبع من كتاباتهم مباشرة. وقد كان الفنانون الذين درسوا قوانين المنظور وأصحاب الحِرَف الذين اشتغلوا بالحساب وحتى السحرة برموزهم ذات الأرقام التي لها دِلَالات رُوحية يسيرون على درب أفلاطون في استخدام الرياضيات لإماطة اللِّثَام عن أسرار الطبيعة. وكثيرًا ما حاول مَنْ كانوا يسعَوْن أن يصبحوا من أهل الرياضيات الجري والركض قبل تعلُّم المشي، فقد قال نيكولاس الكوزي (١٤٠١–١٤٦٤م) — وهو من أنصار استخدام الرياضيات على طريقة أفلاطون — إنه من الممكن توقُّع حجم المحصول من خلال وزن الماء وحَبَّات الذرة في شهر مارس. ولكن هذا الحماس المتعثِّر للأرقام وتطبيقاتها مهد الطريق أمام نجاح العلم الذي أتى به جاليليو، فكان لإعادة إحياء الأفلاطونية أَشَدُّ الأثر على جاليليو وكوبرنيكوس وكبلر حيث قال جاليليو: «ألم يكُن أفلاطون مصيبًا عندما قال إن تلاميذه يجِب أن يكونوا على دراية جيدة بالرياضيات في المقام الأول؟»
لا شيء يُظْهِرُ طبيعة الخير أكثر من ضوء (الشمس)، فالضوء أولًا هو أكثر الأشياء المحسوسة لمعانًا ووضوحًا، ثانيًا ليس ثمة شيء ينتشِر أسهل من الضوء وأوسع منه وأسرع، ثالثًا يخترق الضوء جميع الأشياء بلطف وسلاسة من دون ضرر يُسبِّبه وكأنه يعانقها، رابعًا تعمل الحرارة المصاحبة للضوء على إنعاش جميع الأشياء وتغذيتها فهي المُنشِئ والمحرك الأول للأشياء، فنظرة في السماء تُطْلِعُكَ على حقيقة الرب …
ولم يكُن لدى فيتشينو اهتمام بتطوير الفلك إلى علم مستقلٍّ، ولكن هذه الفكرة التي جعلت من الشمس شبيهًا بالرب جعلت من اللائق أن تكون الشمس مركز الوجود كله. واستعان كوبرنيكوس نفسه بهذه المقارنة الأفلاطونية بين الرب والشمس لتدعيم عقيدته الثورية فقال: «تجلس الشمس متوَّجة وسط جميع الأشياء. وهل ثمة موضع في هذا المعبد الرائع أفضل من هذا الموضع نضع فيه هذا النجم الساطع ليمد الأشياء جميعها بالضوء مرة واحدة؟ فالشمس تستوي على عرشها الملكي بين أطفالها من الكواكب السيارة حولها.» كما أن يوهانز كبلر الذي طور أفكار كوبرنيكوس في التنجيم من خلال عدة وسائل من بينها اكتشاف أن مدارات الكواكب ليست دائرية بل بيضاوية؛ استغل الفكرة القائلة بأن مركز الكون يُعَدُّ مكانًا مناسبًا لكائن إلهي.
•••
ولم يكن ما أبلاه فيتشينو من بلاءٍ حسن في ترجمة أعمال أفلاطون ليُحَقِّقَ الأثر الذي حققه لولا تزامن مهنته مع تطوُّر ملحوظ شهِده هذا الوقت، ففي الوقت الذي وُلِدَ فيه فيتشينو كان عدد الكتب المطبوعة في أوروبا لا يتجاوز بضعة آلاف وكان الوصول إليها صعبًا نسبيًّا، وكانت الكتب والمجلَّدات الكبيرة تُحْفَظُ في أرففها بالسلاسل. ولكن عندما تُوُفِّيَ فيتشينو عام ١٤٩٩م كانت الطباعة موجودةً في أوروبا في مواقِعَ يتراوح عددها بين ٢٠٠ و٣٠٠ موقع حتى وصل عدد الكتب المُتَدَاوَلَةِ إلى ١٠ ملايين كتاب، فكان بإمكان أَحَدِ جامعي الكتب أن يحصل على حوالي ألف عنوان مختلف. وأنتج جوتنبرج إنجيله الشهير لأول مرة في تاريخ الطباعة بحروفٍ يمكن تحريكُها وتغيير أماكنها عام ١٤٥٤م عندما كان فيتشينو لا يزال في ريعان شبابه. ولم يتوقَّف الأثر الذي حقَّقه استخدام هذه التقنية الجديدة على زيادة أعداد الكتب فحسب، بل زيادة انتشار القراءة والكتابة بين الجميع؛ وبهذا استطاع جوتنبرج ورفاقه أن يحرروا الكتاب من أغلاله.
وفي بداية القرن السادس عشر لم تكُن الجماهير القارئة في زيادة عددية فحسب، بل كانت تتميز كذلك بتنوع قراءاتها أكثر ممَّا كانت عليه عندما كانت الحياة الثقافية رهن ما تمليه الكنيسة. وقد أدَّى اتساع الآفاق في عصر النهضة إلى جانب رعاية رجال الأعمال ورجال الدولة والأُسَر الغنية الحاكمة إلى تشكيل نخبة مثقفة من العلمانيين. وانتشرت مجموعة متنوِّعة من الكتابات والمنشورات لتشبع كل الأذواق الأدبية بداية من الأعمال البسيطة مثل خرافات إيسوب مرورًا بقصص بوكاتشو الإغرائية وانتهاءً بالطبعات المدرسية للأعمال الإغريقية في الرياضيات. أما الآداب العملية والفلسفية فقد ظلت بمنأًى عن الأساليب التي كانت تخدم مصالح الرُّهبان والمعلِّمين في العصور الوسطى وأنشأت نماذِجَ وطرقًا جديدة لتلبي احتياجات طبقة أوسع من القُرَّاء. وقد كُتِبَ الكثيرُ من الأعمال الجديدة باللغات العامية بدلًا من اللاتينية، وفي نهاية القرن السادس عشر طفقت الرسائل والمقالات تحل محل الأسلوب الأكاديمي الرسمي للشروح والتعليقات. أما الأدب الفلسفي المعاصر (ككتابات ديكارت وهوبز المعروفة لدينا اليوم على سبيل المثال) فلم تكُ تَلقى أي اهتمام في ذلك الوقت.
وقد استفاد أرسطو وشارحوه كذلك من الثورة التي أحدثها جوتنبرج، فأعيدت طباعة أعمال أرسطو بغزارة في بدايات القرن السادس عشر حتى وصلت إلى قاعدة أوسع من الجمهور ما كانت لِتَصِلَ إليها من قبلُ، ولكن فات الأوان، فرغم أن الأرسطية كانت لا تزال تُدَرَّسُ بشكل كبير في الجامعات والمعاهد الدينية فإن التاريخ قد بدأ يُولِي ظهره لها، وكان الدافع الرئيس لما عُرِفَ بعد ذلك ﺑ «الفلسفة الحديثة» ينبع بشكل كبير من مذهبَي الشكوكية والأبيقورية اللذين كانا من قُدامَى المنافسين للفكر الأرسطي وهما اللذان دُفِنَا تحت التراب لأكثر من ألف عام حيث لم ينتسب لأيٍّ من هذين المذهبين سوى عددٍ ضئيل من مفكِّري القرنين السادس عشر والسابع عشر، إلا أن هذه المذاهب الفلسفية الإغريقية بعد أن صارت متاحة على نطاق واسع هي ما وَجَّهَ هؤلاء المفكرين إلى وجهات جديدة.
لعلها كانت ستصبح أمرًا فكاهيًّا إذا أفرط فيها، ولكن الشكوكية القديمة بدأت تثير حالة من التعاطف في القرن السادس عشر؛ فقد حفلت هذه العصور بتساؤلات شتى تعلو أهميتها أمورًا أخرى آنذاك كالرغبة في الزواج، وكان الإحجام عن اتِّخَاذِ مواقف بشأن هذه التساؤلات بدافع من الشك فيها يبدو إجابة مناسبة على هذه التساؤلات. وَأُلْقِيَتْ ظلال الشك على كافة الحقائق القديمة جراء ظهور اكتشافات عديدة في التنجيم والجغرافيا والتشريح وبعض فروع العلم الأخرى لِتُوَلِّدَ هذه الشكوك مزيدًا من الشكوك. ومع هذا الهجوم العنيف على كثير من الأفكار القديمة كان على الإنسان الذكي أن يستفسر عن مدى صحة الأفكار الجديدة. فكما يقول الكاتب مونتين (١٥٣٣–١٥٩٢م): «أليس من الحماقة أن نثق في آراء المفكِّرين المعاصرين بعدما ثبت أن بطليموس كان مخطئًا في آرائه؟»
وفي وجه سيل من النظريات زعم بعض الانهزاميين أنهم يرفضون جميع المحاولات لفَهم العالم، بل ذهبت إحدى الخُطب اللاذعة المعادية للفكر والمنشورة في عام ١٥٢٦م إلى حَدِّ القول إن المعرفة «هي الطاعون ذاته الذي يسعى إلى تدمير البشر أجمعين فقد جعلتنا عرضة للوقوع في كثير من الخطايا.» كما استرسل الكاتب قائلًا: «إنه من الأفضل أن يكون الناس حمقى لا يعرفون شيئًا» بدلًا من حشو عقولهم بالأفكار الضارة. ورغم أن الشكوكية الخالصة كانت رد فعل مفهومًا للكم الهائل من «المعرفة» التي كانت مطروحةً آنذاك فقد كانت فلسفة يصعُب الالتزام بها، ولم يلتزم بها أحد بالفعل. (حتى إن كاتب تلك الخطبة السابقة وَجَدَ فيما بعدُ جميع أنواع العقائد التي يمكن أن يؤمن بها.) وكان من الطبيعي حينئذٍ توظيف الأسلحة الشكوكية بصورة محدودة جدًّا، فالحجج الشكوكية كانت تُستخدم من أجل تقويضِ أسس الادعاءات المعرِفية التي عفى عليها الزمن، وكذلك الادِّعاءات المعرفية جامحة الطموح وليس لمهاجمة النشاط الفكري برمته.
وقد قام إراسموس على سبيل المثال بالاستشهاد بالشكوكيين القدماء لتقويض ادِّعاءات علماء اللاهوت الدوجمائيين، ومن أجل الدفاع عن منهج أكثر حذرًا في التعامل مع النزاعات الدائرة في ذلك الوقت، وقد حذَّر قائلًا: «إن الشئون الإنسانية معقدة وغامضة ولا يوجد شيء يقيني بشأنها كما قال الأكاديميون التابعون لي وهم الشكوكيون الذين وصفهم شيشرون.» وكتب إراسموس يقول: «إن عقل الإنسان مُشَكَّلٌ بطريقة معقدة حتى إنه أكثر عرضة إلى الزيف منه إلى الحقيقة.» ولذلك فإنه من الحكمة أن يعترف الإنسان أن ليس بإمكانه التوصل إلى نتيجة إلا بأن يضحك على نفسه. وقد كان الجدال الذي دار بين علماء اللاهوت حول حرية الإرادة في الإنسان ضمن المسائل المطروحة، وخالج الشك صدر إراسموس تجاه بعض المحاولات التي قام بها لوثر مؤخَّرًا لحل هذه المشكلة المتأصِّلة مع الوضع في الاعتبار أنها كانت من القضايا شديدة التعقيد التي اختلف بشأنها المتعلمون من علماء اللاهوت لقرونٍ طويلة، فهل من الممكن حقًّا أن نقول إن لوثر عثر على الحقيقة التي غابت عمَّن سبقوه طَوال هذه المدة؟ وقد قال إراسموس إنه من المعقول أن يقتفي الإنسان أثر الشكوكيين القدماء ويُحجِم عن إصدار أحكام بخصوص هذه القضية، إلا أن هذا الموقف الذي اكتنفه الغموض أثار غضب لوثر فحذَّر إراسموس من أن رُوح القُدُسِ ليس شكوكيًّا وأنه لن يرضى عن هذا الموقف الضعيف يوم القيامة.
أَصَرَّ لوثر على أن المسيحيين لا يُمكن أن يقبلوا الرفاهية الفاسدة للشكوكية، فكان عليهم أن يلتزموا بمسئوليات محدَّدة وألا يتَّخِذوا موقفًا محايدًا حيال ذلك، وفي ذلك يقول: «ليس هناك شيء يميز المسيحيين أكثر من اليقين، فإذا ما أَضَعْتَ اليقين فأنت تقضي على المسيحية.» ورغم ذلك فإن من سخرية القدر أن نجد لوثر نفسه والمصلحين البروتستانتيين هم من أطلقوا شبح الشكوكية من عقاله أكثر ممَّن عداهم؛ لأنهم هم مَنْ تحدَّوا السلطة الدينية وعارضوها بشدة طارحين السؤال التالي: «أنَّى لك أن تعرف؟»، وهو السؤال الأكثر استخدامًا في هذا العصر. لقد رفض لوثر فكرة أن تكون سلطة الكنيسة على حق دائمًا فقال: «إنني لا أثق في سلطة البابا أو مجالس (الكنيسة) التي لا يدعمها أي دليل؛ لأن حجم أخطائهم وتناقضهم مع أنفسهم لا يخفى على أحد.» وإنما وثق لوثر بالضمير الإنساني بوصفه حكمًا في المسائل الدينية فقال إن المسيحي المخلص يجب أن ينظر في الكتاب المقدس ويفسره في ضوء ما يمليه عليه ضميره وخبراته وتجاربه الدينية الشخصية لكي يَجِدَ ما يؤمن به، هذا هو جوهر البروتستانتية. ولكن تحدي لوثر للكنيسة أثار سؤالًا لا مفرَّ منه، ألا وهو: أي ضمير يجب أن يُتَّبَعَ في ظل ما في العالم من اختلافات عنيفة؟ بمن تَثِقُ إذا كنت لا تَثِقُ في البابا؟
وسرعان ما قلب المدافعون عن المعتقدات الكاثوليكية سحر لوثر عليه، فإذا كان بإمكانه أن يطرح أسئلة حول «السلطة التي لا دعم لها» فإن بإمكانهم أن يفعلوا الشيء ذاته. وقد ذهبوا أنه لا ضير أن تهاجم سلطة البابا ومجلسه ورجاله، ولكن إذا كنت تنوي مخالفة التقاليد والأعراف فلا بد من إيجاد بديل لها، ومهما كان هذا البديل فإنه لن يسلم من أسئلة مماثلة. فإذا كان حكم البابا يُمكِنُ التشكيك فيه فإن حكمك يمكن التشكيك فيه بالمثل؛ ومن ثَمَّ فإن التقليديين وجدوا أنه عندما يُؤتي الهجوم على السلطة أُكُلَه فإن هذا الهجوم يمكن استغلالُه لدعم التقليدية وتدعيمها. ومن خلال وضع العراقيل في وجه لوثر يمكن تقويض ادِّعاءات الخارجين على الكنيسة لتئوب الأرواح التي أصابتها الحيرة إلى أحضان الكنيسة حيث تشعر باليقين، فالشكوكية يمكن أن تجعل الناس «يشعرون بالظلام الذي يعيشون فيه فيطلبون العَوْنَ من السماء ويُذعِنون لسلطة الإيمان.»
بطبيعة الحال لم يستسلم المصلحون البروتستانتيون بهذه السهولة، وكان رَدُّهُم أنه حتى لو لم يكن لنا خيار سِوَى الإذعان للسلطة فكيف لنا أن نعرف أن سلطة الكنيسة المعاصرة هي السلطة الصحيحة للخضوع لها؟ وكيف لنا أن نُدرِك مَنْ هو البابا الأصح؟ فقد كان هناك الكثير من مُدَّعِي الباباوية في الماضي، بل إنه في عام ١٤٠٩م لم يكن ثَمَّةَ أقل من ثلاثة يسعَوْن لمنصب البابا في وقت واحد. وبهذا نَجِدُ أن كِلَا الفريقين البروتستانتيين والكاثوليك استخدموا الشكوكية ضد بعضهم البعض، إلا أن هذا الصراع لم يُسفِر عن حل، فبمجرد أن شك لوثر في أسس المعرفة الدينية لم تكن ثمة إجابة بسيطة على اللغز يمكن تحويلها لدعم أيٍّ من الفريقين.
ولكن التقليديين كان بمقدورهم على الأقل أن يزعموا أنهم يسيرون على خُطَى الشكوكيين القدماء أكثر من البروتستانتيين، فقد قال كلٌّ من بيرو وسيكستوس إن الإنسان يجب أن يسير وَفقًا للمعتقدات والأعراف السائدة في زمانه، فقد كانوا يرضَوْن بالأفكار المحافظة على أساس أنه لا سبيل إلى وُجُودِ تغيير مُقنِعٍ تمام الإقناع، وهو ما كان في مصلحة الكاثوليك في معركتهم الإيمانية؛ إذ لم يكن ثمة شك في أن البابا — حتى وإن لم يكن هو البابا «الأصح» — هو الشخص الذي يحظى بالإجماع. ولأن الشكوكية القديمة كانت ترضى بشكل ما بالوضع الحالي؛ كان المفكرون الكاثوليكيون هم أفضل من استغل أفكارها في الحروب اللاهوتية التي اندلعت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وسرى السؤال الذي لا مناص منه ولا إجابة له: «أنَّى لك أن تعرف؟» إلى خارج مجال اللاهوت دون جواب. وعندما نُشِرَتْ أعمال سيكستوس في ستينيات القرن السادس عشر باللغة اللاتينية كانت الذخيرة القوية من الحجج الشكوكية المصممة لإظهار ما في العقل البشري من ضعف وعدم التعويل على الفَهم والإدراك إلى جانب الطبيعة النسبية للقيم والأفكار الإنسانية قد وُضِعَتْ تحت تصرف الفلاسفة. وبعد ذلك العهد بقليل لفتت مقالات مونتين (التي كُتِبَتْ بالفرنسية) نظر كثير من الجماهير إلى هذه الحجج، وركز عمل مونتين على الطبيعة المحدودة والمنحازة للخبرة الإنسانية وجميع الأفكار اللايقينية التي نَسَفَتْ جميع المحاولات الساعية للوصول إلى الحقيقة. وقد كان بيكون وديكارت من هؤلاء الذين قرءوا أعماله وقرَّروا خوض التجربة من خلال وضع المعرفة الإنسانية على قدم أكثر رسوخًا.
درس فرانسيسكو سانشيز (١٥٥٢–١٦٢٣م)، وهو أحد أبناء عمومة مونتين، الفلسفة والطب في جامعة تولوز، ولعب دورًا كبيرًا في تقديم الشكوكية إلى مجال الفلسفة. وعندما كان مونتين لا يسعى إلا إلى توضيح أن الإنسان يجب عليه ألَّا يُصدِر أحكامًا على بعض الأمور وأن العقل يجب أن يستند إلى الإيمان، قدم فرانسيسكو سانشيز درسًا أكثر إيجابية وذا دلالة أعظم؛ يهدف من ورائه إلى إظهار أن هناك حدودًا واضحة للمعرفة الإنسانية، وأن طبيعة هذه الحدود كانت تتطلب تغييرًا شاملًا في منظور العلم. وقد قال فرانسيسكو سانشيز في رسالته «لماذا لا يمكن معرفة أي شيء؟» عام ١٥٨١م إن أفضل طريقة يمكن أن يدرك بها الإنسان العالم الطبيعي تكون من خلال إصدار ادِّعاءات اعتمادًا على الملاحظة والتجريب. وقد سمَّى هذا المنهج التجريبي الذي يقوم على توخِّي الحذر باسم «المنهج العلمي»، وهو الاستخدام الأوَّل لهذا المصطلح الذي أصبح شائعًا هذه الأيام. وأشار إلى أن الطبيعة الجوهرية للأشياء لم تكُن متاحة إلا للرَّبِّ ولم تكُن متاحة بالتأكيد لأرسطو الذي كان وقتئذٍ حديثَ الساعة في التعليم العلمي في مختلف الجامعات.
وإذا كانت شكوكية سانشيز تعني أن المعرفة التامة الكاملة ليسَتْ بالأمر المتاح للإنسان؛ فإن لها وجهًا مشرقًا كذلك، فالفكرة القائلة إن الدراسات العلمية من شأنها أن تُقدِّم تفسيرًا مؤقتًا للأشياء يساعد على فهم الحياة العادية كانت تتناسب مع المذهب العملي التجريبي تجاه الطبيعة، والذي امتدحه بعض علماء عصر النهضة واتبعه جاليليو وآخرون في ذلك الوقت. وقد قدَّم مصطلح «المنهج العلمي» ذا الصبغة الشكوكية يَدَ العون للعلم الحديث بطريقتين: أولاهما أن الحجج الشكوكية كانت أداة جيدة في تفنيد الأفكار القديمة وإفساح المجال للأفكار الجديدة حيث قام سانشيز نفسه بشن هجوم حادٍّ على مذهب أرسطو ومسائل السحر والتنجيم، والأخرى أن الشكوكية بدت بشكلٍ ما تُسانِد الفيزياء الحديثة (التي كانت تسمى في ذلك الوقت «الفلسفة الجديدة») عند جاليليو. ولكي نعرف كيف حدث ذلك علينا أولًا أن ننظر بعين ثاقبة إلى الصورة التي رسمها جاليليو للعالم وهي صورة العالم المعاصر.
في أيامنا هذه نَتَذَكَّرُ جاليليو دائمًا بما قاله من بدع فلكية أدخلته في صراعات مع محاكم التفتيش، وبالتحديد اعتناقه لآراء كوبرنيكوس التي تقول بدوران الأرض حول الشمس، واعتقاده فيما يخالف المذهب الأرسطي في أن السماء تخضع للقوانين الفيزيائية نفسها التي تخضع لها الأرض، وهي الحقائق الصادمة التي أكَّدها منظار جاليليو المكبِّر والتي جعلت بعض المتحفِّظين يرفضون على الملأ النَّظَر في هذه الآلة الشيطانية. ولكن ثَمَّةَ شيئًا آخر في كتابات جاليليو كان سببًا مهمًّا في إدانته، وهو دعمه للفلسفة الذَّرية لدى ديموقريطس وأبيقور ولوكريتيوس التي تقول إن الكون كله يمكن فَهمُه في إطار التفاعلات الميكانيكية الحادثة بين الجزيئات الصغيرة، وهذه الذَّرَّات كان يُعْتَقَدُ أن لها خصائص يمكن قياسُها مثل الحجم والموضع والوزن، ولكن ليس لها أيٌّ من الخصائص الحسية أو «الثانوية» مثل اللون أو النسيج أو المذاق؛ إذ يرى ديموقريطس وجاليليو أن هذه الصفات الثانوية ذاتية وليست إلا تأثير الذَّرَّات على أعضاء الحس لدينا. وبهذا فإن «الفلسفة الطبيعية» كان من شأنها الاهتمام بالجوانب الميكانيكية والرياضية للطبيعة. وكان من رواد هذا المجال كلٌّ من جاليليو وديكارت وبويل، وكذلك نيوتن الذي ساعد على تطوير هذا الفرع المعرِفي بشكل أو بآخر.
بَيْدَ أن هذا لم يَلْقَ رضا الكنيسة وقبولها، فالنظرية الذَّرية تنبت في أرض يحيط بها الشك من كل جانب، فلم يعترف ديموقريطس كثيرًا بالرَّبِّ الذي لم يكُن له مكان بالمرة في عالم لوكريتيوس، بالإضافة إلى اشتهار أبيقور بفجوره وانحرافه، أضف إلى ذلك ما قاله رجال اللاهوت من أن النظرية الذَّرية للمادة لا تتماشى مع عقيدة القربان المقدس، وهو ما لم يكن بالأمر الهين.
وتقول هذه العقيدة إنه عندما يُقدَّس الخبز والخمر على يد القس في الطقوس المناسبة الصحيحة فإنهما «يتغيران» ويأخذان المادة التي خُلِقَ منها جسد المسيح ودَمُه، ورغم أنهما يحتفظان بمظهر الخبز والخمر (وذلك مثلًا من خلال الاحتفاظ بنسيج هذه الأشياء ولونها ومذاقها وهي الأشياء التي سمَّاها الذَّرِّيُّون الخصائص الذاتية «الثانوية») فيُعْتَقَدُ أنهما افتقدا الطبيعة الأساسية للخبز والخمر؛ أي إنهما لم يعودَا خبزًا وخمرًا بأي حال من الأحوال، وهو ما يراه الذَّرِّيُّون أمرًا مستحيلًا، فهم يرون من وجهة نظرهم أن مظهر الشيء المادي لا يمكن فصله عن جوهره بهذه الطريقة، فالمادة التي صُنِعَ منها الخبز — أي طبيعته الأصلية — تتوقف على نوع الذَّرَّات الداخلة في تركيبها وطريقة تنظيمها، ومظهرها هو ببساطة انعكاس تأثير هذه الموادِّ على حواسنا، إذن كيف للخبز أن يغير المادة التي صُنِعَ منها دون أن يتغيَّر ظاهره؟ فإذا كان الخبز بالفعل يحتوي على ذَرَّات من جسد المسيح فيجب أن تأخذ شكل جسد المسيح، وإذا كان له شكل الخبز — وهو الأمر الواقع فعلًا — فليس ذلك لسببٍ إلا أنه يتكوَّن من جزيئات الخبز. وبذلك انتهى علماء اللاهوت إلى أنه وفقًا لنظريات جاليليو «فإن ثَمَّةَ أجزاء جوهرية من الخبز أو الخمر في القربان المقدس وهو الخطأ الذي أدانه المجلس المقدس، الجلسة ١٣، القانون ٢».
ولم يكُن لفيزياء جاليليو الذَّرية آثار لاهوتية سيئة فحسب، بل إنها رفضت الفلسفة الطبيعية التقليدية رفضًا شاملًا. وقد ورثت العلوم في العصور الوسطى نموذجًا عضويًّا للعالم ربما لولع أرسطو بالأحياء، فأرسطو كان يرى الجزء من منظور الكل ويرى الكل كما لو كان يمثل كائنًا حيًّا، وحتى سلوك الأجسام غير الحية كان يصوره أرسطو كما لو كان سلوك مخلوقات حية، فعلى سبيل المثال رغم أن أرسطو لم يعتقِد أن الحجر الساقط «يريد» الوصول إلى الأرض عند اندفاعِه نحوها، فقد وصف هذه الحركة على أنها أوبة الحجر إلى «مكانه الطبيعي» أو إلى بيته، تمامًا كما لو كان أرنبًا يرجع إلى جحره. وقد اسْتُبْدِلَ بهذه التفسيرات التي تشبه علم الأحياء تفسيرات ميكانيكية خالصة؛ ومن ثم وصف بويل العالم على أنه «إنسان آلي كبير» وشبَّهه بالساعة الضخمة سيرًا على خُطى جاليليو والذَّرِّيِّين اليونانيين.
ولكن العالم لا يبدو على السطح كما لو كان ساعة، فالأجزاء الداخلة في تكوين هذه الآلة — ونعني بها الجزيئات أو الذَّرَّات التي كانت محلَّ اهتمام علم جاليليو — لا يمكن ملاحظتها مباشرة لأن حجمها صغير جدًّا لدرجة يستحيل معها رؤيتها. وقد كان علم جاليليو يتعامل مع المادة بطريقة مجرَّدة ورياضية بدت بعيدة كل البعد عن الفطرة والسليقة؛ وبذلك فقد اختار علم جاليليو أن يتجاهَل بعض ما تراه عيوننا أو تسمعه آذاننا عن الأشياء الموجودة في حياتنا اليومية، وهو ما يحاكي الشكوكية إلى حَدٍّ كبير. كان الشكوكيون اليونانيون يصرون على أن الإدراك الحسي في الإنسان أمر ذاتي لا يُعَوَّلُ عليه، وهو ما صَدَّقَ العلم الذَّرِّي الحديث على صحته، فما تدركه حواسُّنا ليس الحقيقة الكاملة عن العالم؛ وبذلك فإن النظرية الذَّرية لدى جاليليو استبدلت بفكرة الفارق الكبير بين السماء والأرض التي كانت تُمَيِّزُ العلم الأرسطي فارقًا آخر بينهما يختلف تمام الاختلاف عن سابقه حيث يفصل بين العالم اليومي ذي الألوان والمذاقات والروائح وبين العالم الهندسي الذي يتكون من جزيئات لا يمكن رؤيتها والذي يجب على الباحثين الجادِّين في الطبيعة الاهتمام به.
كان تفسير الكيفية التي تقع بها تلك الصورة المُحَدَّثَةَ للنظرية الذَّرية الأبيقورية في قلب «المنهج العلمي» العملي هو العمل الرئيس لبيير جاسندي (١٥٢٩–١٦٥٥م)، وهو أستاذ فرنسي في الرياضيات والفلسفة وباحث نشط في مجال الفلك والتشريح وفيزياء الحركة. كان بيير جاسيندي كذلك قسًّا كاثوليكيًّا مهمته الرئيسة هي أن يُفسح مجالًا للرب وللأرواح الخالدة في العالم الميكانيكي في النظرية الذَّرية القديمة، فقد حاول أن يُنَصِّرَ أبيقور تمامًا كما حاول توماس الأكويني أن يُنَصِّرَ أرسطو. ولم يحقق بيير جاسيندي الشهرة التي حقَّقها توماس الأكويني نظرًا للطُّول المبالغ فيه في أعماله، ولكن بفضل بيير جاسيندي تبدَّد شك الإلحاد الذي كان مُلقًى على «الفلسفة الميكانيكية» في نهاية القرن السابع عشر حتى قبِلها كل رجال العلم آنذاك. وقد كان بيير جاسيندي وصديقه مارين ميرسين (١٥٨٨–١٦٤٨م) — الذي كان أيضًا قسًّا — الأبرز من بين مجموعة من علماء الرياضيات والمفكِّرين الطليعيين تضم جاليليو وكبلر وديكارت وهوبز، الذين قاموا بتطوير أفكار العلوم الميكانيكية الحديثة وشرحها.
ووَفقًا للنظرية الذَّرية المعدَّلة لدى بيير جاسيندي فإن الذَّرَّات التي يتكوَّن منها العالم غير خالدة وفانيةٌ وهي من خلق الرب، وليست عشوائية الحركة بشكل تامٍّ كما زعم أبيقور وديموقريطس، بل إن الرب هو من ابتدأ حركتها ويقوم بتوجيهها في بعض الأحيان. ويمكن تفسير جميع الأشياء المادية من خلال الذَّرَّات التي يُحَرِّكُهَا الرب، وحتى التفكير الإنساني نفسه يمكن تفسيره أيضًا في ضوء التشوُّهَات المادية الحادثة في مادة المخ، أو هكذا زعم بيير جاسيندي. ولكن بالإضافة إلى العالم المادي فقد كان ثمة عالم روحي يضم الرب والأرواح الإنسانية الخالدة؛ وبذلك فإن بيير جاسيندي قد نقح صورة الكون التي رسمها أبيقور لكي تتواءم بشكل أكبر مع أفكار الكتاب المقدس. وقد شكلت هذه النظرية الذَّرية المسيحية الإطار الذي تبنَّاه كلٌّ من نيوتن وبويل فيما بعدُ.
ولم يأخذ جاسيندي من أبيقور آراءه الفيزيائية فحسب، بل إنه تبنَّى فكرته القائلة إن سكينة الروح هي الفضيلة المثالية، كما حاول أن يصبغها بصبغة مسيحية، (ويبدو أن هوبز الذي تأثَّر ببيير جاسيندي كثيرًا قد استمد الأهمية الكبرى التي أَوْلَاها للسلام من أفكار بيير جاسيندي الأبيقورية). وقد قام بيير جاسيندي بمحاكاة النظرية التجريبية لدى أبيقور حيث يقول: «إن التجربة هي الميزان الذي تُقاس به حقيقة الأشياء.» ورأى أن العلم الحقيقي يجب أن يُولِيَ اهتمامًا كبيرًا بالملاحظة لا بالنواحي النظرية، وقد أبلى علم جاليليو في هذا الصدد بلاءً أفضل بكثير من بلاءِ أسلافه الأرسطيين. ومع ذلك فقد كان بيير جاسيندي يؤمِن أن مجال المعرفة الإنسانية محدود للغاية، فالملاحظة والتجربة يمكن أن تَمُدَّانَا بكل المعلومات الصحيحة عن العالم المادي، ولكن الأمر ليس كما يقول تمامًا؛ فما يستطيع العلم أن يمدنا به هو بعض المعرفة المؤقتة عن الظواهر السطحية وليس عن حقيقة الأشياء وجواهرها، وفي ذلك يقول: «لا يمكن تأكيد أية آراء تؤكد طبيعة الأشياء بالاعتماد على نفسها فحسب.»
وقد عَظُمَ أمر شكوكية بيرو على بيير جاسيندي وميرسين ولم يَدْرِ أيٌّ منهما كيف يجيب على قضاياها مباشرة. وعلى الجانب الآخر كانا مقتنعين بصحة علم جاليليو، فلا شك أنهما رأياها «منهجًا علميًّا» في التنبؤ بالظواهر ومعالجتها؛ ولذلك فقد اعتنقا ما سمَّياه نوعًا مخفَّفًا أو بَنَّاءً من الشكوكية تُعَامَلُ الشكوكية وفقًا له على أنها نوع من الافتراض أو النموذج الذي يؤتي أكله. وبهذا كان العلم الحديث أداةً مفيدة بل أفضل الأدوات المتطورة التي يمكن أن يستعين بها الباحثون العمليون في الطبيعة، ولكنها لم تَتَعَدَّ ذلك الحد بالضرورة. وبسبب ضعف العقل الإنساني الذي كشَفه البحث الجادُّ لدى الشكوكيين لم يَعُدْ هناك مَنْ يدرك على وجه اليقين ما إذا كانت النظرية الذَّرية الميكانيكية صحيحة أم لا سوى الرب.
وقد خاض جميع المفكرين الكبار في القرن السابع عشر معارِكَ مع الأسئلة التي أثارها العلم الحديث مثل: كيف يمكن تحليل النشاط العقلي في إطار جزيئات المادة؟ وما هو مكان الإنسان والرب في العالم الميكانيكي؟ وما نوع المعلومات التي تمدنا بها الفيزياء والرياضيات؟ وإذا كانت النظرية الذَّرية صحيحة في قولها إن العديد من إدراكاتنا الحِسِّيَّة ذاتي فما هو حجم الحقيقة التي يمكن استنتاجها من خلال حواسِّنا؟ وكيف يمكن للإنسان أن يمنع المذهب الحذِر الذي يتميَّز باتباعه «منهجًا علميًّا» من الرسوب إلى قاع الشكوكية المتطرِّفة؟ لقد كانت هذه القضايا هي الوقود الذي أشعل نار الفلسفة منذ ذلك الحين، فاختلفت الفلسفة المعاصرة عن نظيرتها القديمة في اهتمامها بالقضايا التي يثيرها العلم الحديث.
كان توماس هوبز (١٥٨٨–١٦٧٩م) هو أول مَنْ سعى إلى وضع نظرية شاملة عن الإنسان والكون في ضوء العلم الحديث، وحدثت له صحوة مفاجئة في أوائل الأربعينيات من عمره انتقل على إثرها من دراسة الأدب إلى الرياضيات والفيزياء ومنها إلى الفلسفة العامة. وبدأ يُولِي الهندسة اهتمامًا خاصًّا فانضم إلى صاحب عمله حاكم نيوكاسل في إجراء تجارب في مجال البصريات، كما قام برحلة طويلة من أجل زيارة جاليليو. ولسوء الحظ لم تكن براعتُه في العلوم على قدر حماسه، فلم يَكُفَّ عن إجراء محاولات من أجل تربيع الدائرة على سبيل المثال حتى وإن تبيَّن له استحالة ذلك من الناحية الهندسية. ولكنه ترك بصمته بمحاولة تطبيق المنهج الميكانيكي والرياضي الخاص بالطبيعة والذي تعلمه من كبلر وجاليليو على الإنسان. وكما رأينا من قبلُ فإن هوبز صاغ النظرية الثورية التي تقول إن التفكير هو نوع من أنواع الحساب؛ أي إنه عملية ميكانيكية مثل تلك العمليات التي كان علماء الطبيعة يحاولون وصفها في الظاهرة الطبيعية. وهكذا اعتنق هوبز الرؤية الميكانيكية للعالم وعمَّمها بكل شوق وولع حتى أُدِينَتْ فلسفته بشدة بادِّعاء أنها تبتعد عن الدين وتعاليمه ابتعادًا شديدًا، وهو ما حَدَا ببعض الأساقفة إلى اعتبار آرائه أحد أسباب الحريق العظيم في لندن عام ١٦٦٦م.
وفي الكتابات السياسية التي تُخَلِّدُ اسمه حتى هذه الأيام، لا سيما كتابه «اللوياثان» (١٦٥١م)، قدم هوبز نظرة للمجتمع لا يلهمها العلم الميكانيكي فحسب، بل تحدي الشكوكية ومناهضتها، فقد كانت تحاكي النظرية الميكانيكية في أنها قَدَّمت علم النفس الإنساني على أنه مجموعة من الرغبات ومشاعر الكراهية التي تدفع الإنسان وتُوَجِّهُه. وقد سعت هذه الرؤية إلى إرضاء الشكوكيين بتقديم مبادئ عملية يمكن حتى لمن يشك في اكتشاف الحقيقة أن يتبنَّاها ويعيش وفقًا لها. يرى هوبز أن الدافع الأساسي للنشاط الإنساني هو حفظ النفس، وبما أنه ليس من الممكن أن يحفظ كل إنسان نفسه في معزل لأن هذا سيجعل الحياة كما يقول هوبز: «فقيرة وقاسية وقصيرة.» فإن الإنسان يسعى إلى العيش في مجتمعات مع أقرانه من البشر، وهذا ما يُعَرِّضُهُ إلى مخاطر الصدام الناجم عن محاولة الآخرين حماية أنفسهم والتي قد تتعارض مع محاولاته هو نفسه في هذا الشأن؛ ومن ثَمَّ فإنه يرى أن مصلحة الجميع تقتضي الخضوع لسلطان مَلِكٍ قوي تكفل قوته المطلقة حماية كل إنسان من أذَى جاره. وقال هوبز إنه يجِب على الكنيسة كذلك أن تتلقى تعاليمها من الملك الذي يملك من القدرة ما يُمَكِّنُهُ من حل المشكلات والنزاعات اللاهوتية من خلال إصدار مرسوم ملكي، وبذلك يحدد ما ينبغي للناس أن يؤمنوا به. وقد رأى هوبز أيضًا أن الرب ذاته عبارة عن كِيان مادي كأي شيء آخر وإن اعترف هوبز رغم ذلك أنه غير مرئي. كما أَقَرَّ هوبز أن الرب نفسه كان كائنا ماديًّا كسائر الأشياء الأخرى رغم أن هوبز نفسه أذعن على الأقل إلى أن الرب كان غير مرئي. ولا عجب من أن يصدع الأساقفة بذلك.
لقد قال هوبز إن ما توصَّل إليه من نتائج سياسية ولاهوتية غير معتادة إنما هي نتائج حتمية «للفلسفة الجديدة» التي نشأت على يَدِ جاليليو. ولم يدرك كيف يمكن لعلم يكون موضوعه الإنسان أن يتطور على شيء آخر غير المبادئ الميكانيكية الصُّلبة كتلك التي توجد في علم الحركة. لقد أراد أن تخضع الدولة لنظام حكم رياضي تكون فيه الديكتاتورية المطلقة هي الضامن الأساسي للتوزيع الصحيح للواجبات والأدوار. كما تُوَفِّرُ هذه الفكرة بعض الحلول لبعض الأمور غير المؤكَّدة التي كانت تأكُل عليها الشكوكية المعاصرة وتشرب إذا لم تعُد هناك حاجة للإجابة على العديد من المسائل الصعبة من خلال تقديمها إلى الملك للبَتِّ فيها بإصدار مرسوم يُنهِي الخلاف حولها. وثمة جوانب أخرى ذات أهمية أكبر في فلسفة هوبز، فقد كان هوبز حلقة في سلسلة «التجريبيين» البريطانيين التي تبدأ بويليام الأوكامي مرورًا بلوك وهيوم وراسل إلى يومنا هذا، ولكن طموح هوبز الرئيس كان تقديم فلسفة عامة تحظَى بالقبول على مستوًى واسع وتتسق مع العلم الحديث، وهو ما فشل في تحقيقه.
ولكن رينيه ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠م) كان أكثر منه نجاحًا، فإجاباته على الأسئلة التي أثارتها صورة العالم الجديدة صادفت قَبولًا لدى أبناء عصره على الأقل لحينٍ من الدهر، كما كان ديكارت أعظم شأنًا من هوبز بين المفكرين؛ لأن ديكارت — الذي كان بعيدًا كل البعد عن كونه هاويًا غريب الأطوار مثل هوبز — كان عالمًا رياضيًّا ورجل علم كان من الأهمية بمكانٍ وضعُه في المرتبة الثانية بعد جاليليو، كما أنه كان متمسكًا بدينه أكثر من هوبز وأدار أذنًا صماء للأمور السياسية المشتعلة حينذاك.
لقد استشعر ديكارت أهمية السؤال الذي طرحه مونتين والذي يقول: إذا كان العديد من الآراء القديمة غير صحيح فكيف لنا أن نتأكد بدورنا من صحة الآراء الجديدة؟ واعتقد ديكارت مثل فرانسيس بيكون من قبلُ ضرورةَ القيام بفحص شامل لمبادئ التحقق والاستقصاء القديمة ليتأكد من صحة طرق التفكير الحديثة. وقد كان إسهام بيكون الرئيس — مجموعة القواعد التي أرساها لجمع النتائج التجريبية وفحصها ومقارنتها — يتميز بكثير من الصحة ولكنه لم يُقَدِّمْ ما فيه الكفاية، فمن ناحية لم يعالج قضية الشكوكية المتطرِّفة، فكيف يمكن للإنسان أن يدافع عن العلم الحديث أو عن أي شيء آخر على الإطلاق في وجه ناقد يُشَكِّكُ في كل شيء؟ فقد اعتقد ديكارت أنه إذا استطعنا أن نَجِدَ طريقة نُرضي بها هذا الخصم يمكن حينئذٍ تأسيس العلم الحديث على أرضية ثابتة راسخة. لقد كان نظام جاليليو هيكلًا رائعًا وبناءً جذابًا حتى لم يُراوِد ديكارت أي شك في صحته ولكنه ارتأى أن «بناء «جاليليو» ينقصه الأساس» وأمِل أن ينشئ هو أساس هذا البناء.
وقد كتب بيكون ذات مرة أن «المرء إذا ما بدأ باليقينيات فسينتهي إلى الشك، ولكنه إذا رضي أن يبدأ بالشك فسينتهي إلى اليقين.» ورسم ديكارت سبيلًا لتحقيق هذه المقولة — أو هكذا ظن — فقد حاول من خلال مواجهة أكثر أنواع الشكوكية تطرفًا وكذلك استغلال بعض الجوانب الجيدة فيها تشييد بِنَاءِ الحقيقة في العلم الحديث للأبد. وقد حاول كذلك أن يبين أن العلم الحديث لا يتعارض مع الدين ولا يصطدم به، بل على العكس يعتمد العلم الحديث في حقيقة الأمر على الدين. وتلتَحِم في كتابات ديكارت الفاتنة عناصر الفلسفتين الإغريقيتين وهما شكوكية بيرو وميكانيكية أبيقور لتقديم توضيح جديد للصورة العلمية للعالم. وبهذا استعاد الفكر الغربي قوته وعافيته التي فقدها في نهاية العصور القديمة عندما آوَت الفلسفة إلى أحضان التقوى والورع.