الرجل الذي بحث عن نفسه: هرقليطس
«الموت هو كلُّ ما يتراءى لنا في يقظتنا، بينما ما نراه خلال نومنا فهو النوم.»
«إن الحياة تشبه طفلًا يلعب، ويحرك دماه أثناء لعبه. والملَكيَّة تنتمي إلى الطفل.»
وليست أقوال هرقليطس محيِّرة ومربكة بهذه الدرجة، بَيْدَ أن ثمة شكلًا من أشكال التناقض تقريبًا في الأجزاء المائة والثلاثين التي قُدِّرَ لها البقاء من كتابه. وقد قال أحد المعلقين على كتابات هرقليطس عن أحد تلك الأجزاء الذي جاء مباشرًا لا غموض فيه ولا التباس: «إنَّ خُلُوَّ هذا النص من أي شكل من أشكال الإبهام يُلقِي بظلال الشك على مدى صحته.»
ولا يعني هذا أن هرقليطس كان يتعمد أن يَحِيكَ ألغازًا لا مغزى لها ولا هدف من ورائها، فكتاباته على مجملها لا تسبب لنا الضيق أو التبرُّم بقدر ما تصيبنا بشيء من الإثارة والتشوُّق؛ لأن هناك غالبًا شيئًا جديدًا يسعى إلى الإفصاح عنه. كما أن ثمة مغزًى وهدفًا من وراء أسلوبه الغامض، فقد قال: «إن الطبيعة تُؤْثِرُ الخفاء وتحبه.» وهو ما يعني أن الأمور ليست في باطنها كما يبدو ظاهرها، بل إن حقيقة الأمور في رأي هرقليطس تكون دائمًا على عكس ما تتبدَّى لنا. ولا تمثل بعض ألغازه التي يبدو فيها التناقض واضحًا للعِيان إلا طريقته الخاصَّة في التعبير عن هذه الحقيقة. وقد صوب أرسطو في رسالته عن البلاغة سهامَ النقد إلى التراكيب اللغوية الغامضة التي يستخدمها هرقليطس، ولو قُدِّرَ لهرقليطس أن يرد عليه لأجابه أن العالم نفسه هو الذي يعتريه الغموض. وبذلك نجد ترابطًا شديدًا بين الشكل والمضمون عند هرقليطس؛ فالطبيعة ذاتها هي منبع الألغاز، وهي حقيقة استخدمها فيما حاكه من ألغاز بهدف الشرح والتوضيح.
•••
ولم يكن هرقليطس كأيٍّ من سابقيه، فالاهتمامات التي شغلته والمواقف التي تبناها جعلته بمنأًى عن أهل ملطية وأتباع فيثاغورس؛ فعلى عكس فيثاغورس، الذي سماه «أمير الدجالين»، لم يُنشئ هرقليطس مدرسة من أي نوع طيلة فترة حياته، بل إنه لم يتبع أيًّا من المدارس التي كانت قائمة آنذاك. والحقيقة التي لا خلاف عليها أنه كان متكبرًا ومزدريًا لمن حوله، وهو ما قد يساعدنا على فهم السر وراء غموض أسلوبه. وربما أحب أن يظن أنه يُعبِّر عن حكمته كما كان يفعل الوسطاء الرُّوحيون في دلفي كانوا كما قال: «لا يفصحون ولا يبهمون ولكن يعطون إشارة.» ويقال إنه وضع النسخة الوحيدة من كتابه في أحد المعابد لتكون بمنأًى عن أيدي العامة والرعاع، وقد حدث ذلك في وقتٍ ما في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد بعد وفاة فيثاغورس بفترة قصيرة في مدينة أفسس (التي تقع على بعد بضع وثلاثين ميلًا شمال مدينة ملطية) حيث كان هرقليطس أحد أعضاء الأسرة المالكة الممتدة.
وعلى الرغم من قربه من موطن علماء الطبيعة الأوائل كانت دوافع هرقليطس تختلف عن دوافع طاليس وأناكسيماندر وأناكسيمينس اختلافًا كبيرًا. ولا يسعنا أن ننكر أنه اتَّبع طريقتهم في الحديث عن العناصر المادية التي أَقَرَّ أنها تتغير وتتبدل بفعل العمليات اليومية. وهو في هذا كان أقرب إلى منهج الملطيين منه إلى منهج الفيثاغوريين؛ حيث يبدو أنه لم تَرُقه فكرة الاعتماد على الأرقام ودورها في تفسير الطبيعة، كما أن قواعد الفيزياء والفلك المتخبِّطة التي اعتمد عليها الملطيون لم تكن ليُكتفى بها، فلم يساهم في هذه المواضيع أو غيرها من العلوم بشيء يُذكَر. ويبدو أيضًا أنه لم يؤمِن بما قاله الملطيون عن أن الكون نشأ كله من مادة واحدة وخُلِقَ في لحظة واحدة، بل كان يؤمن بأزلية وجود الكون؛ وبذلك فهو لم يبحث قط عن أصل الأشياء إذ لم يعتقد يومًا أن ثمَّة أصلًا لها، واستعاض عن ذلك بقوله: «أنا خرجت للبحث عن نفسي.»
لم يقُل أحد من الملطيين بذلك الكلام من قبل؛ فقد كان البحث في العالم الخارجي شُغلَهم الشاغل حتى لم يجدوا متسعًا من الوقت والجهد والاهتمام للنظر فيما في داخل أنفسهم. أما هرقليطس فقد شغل نفسه بالبحث في العالَمَيْن، وحيث إنه كان يؤمن أن المبادئ التي تحكم العالَمَيْن تنبع من مشكاة واحدة فقد رأى أن البحث عن سر العالم الأول لا يكون إلا عن طريق البحث في العالم الآخر، وهذا ما دعا البعض إلى اعتبار هرقليطس عَالِمَ النفس الأول في البشرية، فربما كان المفكِّر الأول الذي بحث في النفس البشرية ليس من المنظور التقليدي للنفس على أنها نفحة سماوية بَثَّت الحياة في الجسد فحسب، بل على أنها تلعب دورًا في عملية التفكير والإدراك لدى الإنسان. وقد كان هرقليطس على دراية فائقة بمدى غموض هذه النفس المفكرة فقال: «لن تتمكن من اكتشاف حدود هذه النفس مهما أمعنت في البحث.» ولذلك شرع في رحلته الاستكشافية داخل النفس البشرية مستخدمًا أسلوب الاستبطان لوصف بعض ما يعتلج في أعماق النفس الداخلية، فنجده يتحدث عن الأحلام والمشاعر والشخصية (وقد قال في شأن الشخصية: «إن شخصية المرء هي قدره»).
ولا يعني هذا التحوُّل إلى النموذج الاستبطاني أنه تخلَّى عن طريقته الموضوعية في البحث التي تَمَيَّزَ بها علماء الطبيعة عن علماء اللاهوت صُنَّاع الأساطير. فهو لم يهتم بالنفس الداخلية دون الظواهر الخارجية؛ حيث شدد على أهمية الدلائل التي نتلقاها عن طريق الحواس (فقال: إن كل ما نستقبله من البصر أو السمع أو ما نتعلمه من خلال التجارب يندرج في قائمة اهتماماتي). وكل ما يسوقه من أمثلة وأوصاف توضيحية تدعم كلامه تجعلنا نضعه في معسكر المفكرين العقلانيين بدلًا من إدراجه مع زمرة الشعراء المبدعين، بل إنه يحذر صراحة من الثقة في شهادة الشعراء لا سيما عند الحديث عن «الأشياء المجهولة».
ولم يكن البحث الدقيق في العوالم الداخلية والخارجية هو كل ما في الأمر بالنسبة لهرقليطس؛ فهو يرى أننا لا يمكننا أن نُعَوِّل على ما ندركه عن طريق الحواس أو بأي شكل آخر ما لم يكن لدى المرء فهم صحيح للمبادئ التي تحكم الطبيعة والتي يشير إليها هرقليطس ﺑ «المبادئ» أو «النظريات» أو «الصيغ» التي تحكم الأشياء. وقد وصل ما قدمه فيثاغورس من علم إلى طريقٍ مسدود لأنه لم يُحِطه ﺑ «المبادئ» الصحيحة فقد كان علمه «علمًا غزيرًا، ولكنه كان كالسراب الخادع.» ويبدو أن الجميع عدا هرقليطس قد ضلوا ضلالًا بعيدًا حيث قال هرقليطس: «إن الناس قد خُدِعُوا في التعرُّف على كل ما يظهر لهم، تمامًا مثل هوميروس الذي كان أكثر اليونانيين حكمة.» وفي بعض كتاباته يُشَبِّه هرقليطس الناس بالبهائم والسُّكارى والنائمين والأطفال (موضحًا أن أفكارهم تشبه دُمَاهُم)؛ ذلك أنهم جميعًا لا يطبقون «المبادئ» الحقيقية التي يقول عنها: «إن الناس يفشلون دائمًا في فهمها سواء قبل سماعها أو حتى حال نفاذها إلى آذانهم.»
إذن ما هو هذا الذي استطاع هرقليطس رؤيته وإدراكه وعجز الجميع عن الوصول إليه؟ للأسف بعد كل هذه الضجة وهذا اللغط من المحبِط أن نتوصل إلى أن هرقليطس لم يكن لديه سِرٌّ واحد أو أمر عظيم يمكن تلخيصه بسهولة في عبارة موجزة، وبدلًا من ذلك خلط مجموعة من الأسرار ذات الصلة والتي يمكن تلخيصها في شعارين اثنين. أول هذين الشعارين هو فكرة الصراع والكفاح التي يدور كل شيء في الكون في فلكها، وهذا يتضح في قوله: «إن الأشياء جميعها تنشأ بفعل الصراع بينها.» وهذا يعني أن خلف حالة الانسجام والتناغُم التي تظهر عليها الأشياء يتغير كل شيء بشكل مستمر ولا يثبت على حال أبدًا؛ إذ توجد حالة من الصراع بين الأضداد وحرب ضروس تدور بينها جميعًا، إلا أن هذه الأضداد هي الشيء نفسه في الوقت ذاته، وهذا هو الشعار الثاني لديه، فكما يقول: «إن الأشياء كلها واحدة.» وهذه الحقيقة المزدوجة هي ثمرة رحلة البحث عن نفسه التي قادها بنفسه. ولا عجب إذن في أنه وجد التعبير عن هذه الحقيقة بشكل مبسَّطٍ يُعَدُّ ضربًا من المستحيل.
ويرى هرقليطس أن هذه الأفكار عن الصراع والتغيير ووحدة الأشياء ليست سوى جزء من صورة واحدة، وأن هذه الأفكار مستقاة جزئيًّا مما صادفه في رحلته الاستبطانية ومن خلال ملاحظاته للطبيعة كذلك. ولكي نتمكن من فهم المشهد الذي يرسمه من الأفضل لنا أن نُقَسِّم هذه الصورة إلى أجزاء عدة ونتناول كُلًّا منها على حدة. ولنبدأ بفكرته حول «التغيُّر المستمر» ثم بعد ذلك فكرة الصراع (والدور المحوري الذي تلعبه النار فيها)، ثم ما يقوله بشأن الأضداد وكيف أنها تعتبر الشيء نفسه، ثم نحاول في النهاية تركيب الصورة ووضع هذه الأجزاء جنبًا إلى جنب.
وقد شرح هرقليطس جانبًا من نظريته عن «التغير المستمر» بمثال تشبيهي قد يستعصي فهمه لأول وهلة فقال: «حتى الجرعة يمكن أن تنفصل ما لم تُقَلَّب.» وتتكون الجرعة التي يشير إليها هرقليطس من الشعير والجبن المبشور حيث يُقَلَّبان في دورق من الخمر. وعملية التقليب هذه هي بيت القصيد في هذا المثال، فإذا لم يكن الشعير والجبن في حالة دوران مستمر أثناء تناولها لترسَّبَا في قاع الدورق ووجدت نفسك تحتسي خمرًا عاديَّة. إذن فالجرعة تعتمد على الحركة. ويجسد هذا المثال ما يعتبره هرقليطس حقيقة مبهمة عن الطبيعة ككل، بمعنى أن خصائص الطبيعة تعتمد على الحركة أو التغيير. ثم يضرب مثالًا آخر بالأنهار قائلًا: «إذا نزل الإنسان في النهر ذاته مرتين فسيجد ماءً جديدًا في كل مرة.» ويلفت هرقليطس أنظارنا في هذا المثال إلى حقيقة أن كل نهر يتكون من مياه تتغير باستمرار، فإذا ما نزلتَ اليوم في مكان معين من نهر التيمز مثلًا ثم نزلت غدًا في المكان نفسه فأنت في الحقيقة تنزل في ماء جديد كل مرة. ويرى هرقليطس أن ما يحدث مع الأنهار ينطبق بشكل أو بآخر على كل شيء حولنا بما في ذلك النفس البشرية، فالأمر كما ذُكِرَ في أحد الشعارات القديمة: «كل شيء يطفو.»
كان هوميروس مخطئًا عندما قال: «هل سيأتي يوم وتضع الصراعات والحروب بين الآلهة والبشر أوزارها؟» ذلك أنه لا يمكن أن يصدر نغم دون أصوات عالية وأخرى منخفضة، وكذلك لا يمكن أن توجد حيوانات دون الذكور والإناث، وكلها تمثل أضدادًا.
ويمثل الضد عند هرقليطس الغريم أو الخصم؛ وبذلك فإن الموسيقى تنطوي على صراع داخلها لأنها تستخدم كلًّا من الأصوات العالية والمنخفضة التي تقع على نهايات مختلفة في السلم الموسيقي. وفي الواقع إن انتقال هرقليطس من مصطلح «الضد» إلى «الخصم» ثم إلى «الصراع» ومنه إلى «الحرب» كما لو كان الأمر جليًّا أن كل ضد مستغرق بشكل ما في حالة من الحرب، قد يعكس صورة المعركة الأبدية بين العناصر المادية كما يصفها أناكسيماندر حين يتحدَّث عن مفاهيم العقاب والقصاص والعدالة. وبينما كان أهل ملطية يرون أن الحرب متمثلة في التفاعُل بين العناصر، وهو شكل التغيير الذي اهتموا به أكثر من غيره؛ فإن هرقليطس قد وسَّع فكرة التغيير أو الاختلاف وخرج بها إلى رحاب أوسع، واقتبس صورة النزاع التي رسموها في كتاباته وأعماله؛ ففي مثال الأنهار التي لا تخلو من جموح أو عنف بأي حال من الأحوال نجد أنه ليس من الحكمة أن نبحث عن دليل وجود الصراع في الشيء الواحد؛ لأن هذا سيُفقِدُنا تركيزنا ويجعلنا لا نرى الأمور على حقيقتها. ويرى هرقليطس أن الأنهار المتدفِّقة تمثل جزءًا من صورة الصراع الدائر بين العناصر فيقول: «يولد الهواء حال موت النار، وتولد المياه بموت الهواء.»
وقد وضع هرقليطس أَحَدَ هذه العناصر في منزلة تعلو سائر العناصر الأخرى؛ فقد كان أحد هؤلاء المفكِّرين الذين هوستهم النار؛ فالكون عنده «نار أبدية لا تنطفئ، بل تشتعل بمقدار وتخبو بمقدار.» بل قال: «إن جميع الأشياء تُعَدُّ مُعَادِلة للنار، تمامًا كما نحصل على البضائع عن طريق الذهب ونحصل على الذهب عن طريق بيع البضائع.» وهنا يُشَبِّه هرقليطس الدور الذي يلعبه الذهب في عملية التبادُل التجاري بالنار ودورها في إحداث التغيير المادي، ولكن هذا ينطوي على شيء من المبالغة، فالنار (على الأقل بمعناها المتداوَل) لا تدخل في كل عملية للتغيير المادي، إذن ما الذي يجعلها فريدة بين العناصر الأخرى؟ ربما كان هرقليطس يتبنَّى نظرية التغيُّر الدوري للكون، والتي تقول إن كل شيء يتحوَّل بصفة دورية إلى نار في سلسلة متعاقبة من الحرائق الكونية. وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا يُعَدُّ مؤشرًا على أن النار تدخل في تكوين جميع الأشياء من حولنا. وإذا ما سلَّمْنَا بصحة هذه الفكرة فإننا نجد أن النار تتلاءم بشكل كبير مع مفهومه عن الطبيعة على أنها في حالة من الهياج والاضطراب الدائمَيْن، حتى وإن لم نرَ مواقد كونية بأعيُننا؛ لأن ألسنة اللهب تجسِّد صورة الصراع الدائر في قلب الأشياء؛ وبهذا فإن لهبًا مشتعلًا بشكل منتظم (كلهب شمعة على سبيل المثال) يُعَدُّ أحد تجليات هذا التغيير المستمر الذي يحدث في الخفاء تحت قناع الاستقرار الظاهري؛ حيث إنه يستطيع أن يظهر في حالة من الاستقرار أو الثبات الظاهري لأنه يتغذى على بعض الوقود بشكل دائم، تمامًا مثل النهر الذي يحتاج إلى تدفُّق دائم من المواد الجديدة. هذا بالإضافة إلى أن النار هي العنصر الوحيد الذي يمكن ملاحظة كيف يقوم بتحويل شيء ما إلى شيء آخر (كتحويل الخشب إلى رماد مثلًا)؛ وبهذا فهو يلعب الدور الحيوي في إحداث التغيير. وكل هذا يتلاءم مع الصورة والمفهوم العَامَّيْن لدى هرقليطس عن الهياج والاضطراب الدائمَيْن.
وكذلك ربط هرقليطس أيضًا بين النار والروح والرب و«المبادئ» التي تحكم العالم، إلا أنه لا يبدو ثمة أي رابط بين هذه العناصر من الوهلة الأولى. وهنا يفرِّق هرقليطس بين نوعين من النار؛ فالنار الإلهية أو النار الرُّوحية تختلف عن ذلك اللهب العادي الذي نراه يُحرِقُ الأشياء على الموقد، فهي «أثير» السماء؛ ذلك الهواء المخلخل الساخن الجاف الذي يهبط من الممالك العليا، وهي التي اعتبرها المفكِّرون الأوائل الينبوع الذي خرجت منه كافَّة الأرواح. وكما نرى، لقد اعتبر هرقليطس الروح كيانًا عاقلًا يفكر؛ ولذلك فهو يرى أن ثمة تشابهًا قويًّا بين الينبوع الذي خرجت منه كافة الأرواح والمبادئ المُسَيِّرة للطبيعة، فكما يُنظَر للروح على أنها الدافع وراء أفعال الإنسان والقوة المحركة لها؛ فإن الروح التي تهيمن على العالم أيضًا هي المبدأ الحاكم له ومصدر كل ما نراه فيه من أحداث وظواهر. وليس من الغريب أن يصف الإغريق هذه الرُّوح المهيمِنة على العالم والتي تتصف ﺑ «السرمدية». وقد اعتدنا أن ننظر للنار كآلة للدمار العشوائي، ولكن هرقليطس يعتبرها القوة المنظمة التي تحفظ التوازن بين العناصر. وكانت النار تدخل بشكل جوهري في عمليات التناوُب بين الساخن والبارد والرطب والجاف. وقد اهتم الملطيون بذلك الأمر كثيرًا (فقالوا: «إن البارد يسخن، والساخن يبرد، والرطب يجف، والجاف يترطب»).
وأشار هرقليطس في أكثر من موضع إلى مسألة تعاقُب النوم واليقظة والحياة والموت، وكان يعزو هذه التغيُّرات التي تصيب العالم إلى ظاهرة المدِّ والجزر التي تحدث بين العناصر المادية؛ فيقول على سبيل المثال إن الموت يحدث عندما تصبح الروح رطبة للغاية، ولكن هذه الرطوبة تتحول إلى حياة في النهاية فقال: «إن الأرواح يصيبها الموت عندما تتحول إلى مياه، وتموت المياه عندما تتحول إلى تراب، ومن هذا التراب تنبع المياه مرة أخرى لتخرج منها روح جديدة.» وهذه العملية الدورية التي تقود فيها المياه إلى الحياة وإلى الموت أيضًا تبعًا لمكانها في الدورة تُبيِّن إلى أي مدى يمكن للأضداد أن تتضافر.
-
إن الطريقين الصاعد والهابط ليسا سوى طريق واحد.
-
إن الحي والميت والنائم واليقِظ والصغير والكبير … كلها أشكال لشيء واحد.
-
إن المرض هو الذي يجعل الصحة أمرًا جميلًا فيه من الخير الكثير، والجوع هو ما يسبب التخمة، والتعب يمهد طريقًا للراحة.
-
إن البحر هو أكثر منابع الماء نقاءً وأكثرها تلوثًا؛ فهو للأسماك صالح للشرب وحافظ للحياة، بينما لدى الناس غير مستساغ الشرب ويُورِدُهم المهالك.
وهذه أمثلة أربع تجسِّد علاقة الوحدة بين الأشياء المتضادة ظاهريًّا لدى هرقليطس. أما المثال الأول فهو مثال واضح وصريح؛ فالطريق المؤدِّيَة إلى أعلى التل هي نفسها طريق النزول منه، تمامًا كالمدخل يخرج الإنسان منه. أما المثال الثاني فيعتريه بعض الغموض حيث إن مَن على قيد الحياة ليس بالطبع ميتًا، والفتاة الصغيرة ليست فتاة كبيرة في الوقت ذاته، وكذلك الإنسان النائم ليس يقظان، ولكن كما يرى هرقليطس ووفقًا لرؤيته ومفهومه حول عملية إعادة تدوير الكون؛ فإن هذه الأضداد تنتهي إلى الشيء ذاته، فالنائم لا بُدَّ وأن يستيقظ، واليقظ لا بُدَّ وأن ينام، وكذلك الحي لا محيص له من الموت، والأموات يُبعثون إلى الحياة مرة أخرى (وكذلك فكل قديم سيصبح جديدًا). أما المثال الثالث الذي يتحدث عن الصحة والمرض والأزواج الأخرى فيبدو أن هرقليطس يقصد أن الإرهاق هو ما يعطي للراحة معنى والمرض هو ما يعطي للصحة معنًى والعكس صحيح. أما المثال الرابع فيعرض شكلًا جديدًا من أشكال الترابُط بين الأضداد، فيقول فيه إن المادة الواحدة قد تكون لها تأثيرات متناقضة على الكائنات المختلفة.
ونستخلص من هذه الأمثلة أن هرقليطس يرى أن كل ضدَّين ليسَا شيئين في حقيقتيهما بل شيء واحدٌ كما هو الحال مع الليل والنهار؛ فهما شيء واحد لا شيئين. ولكننا نرى أن هذا يُعَدُّ من قبيل التعميم المبالَغ فيه ولا نجد فيه من الأهمية إلا قليلًا. ويمكننا على سبيل المثال توضيح المظاهر التي يكون النوم فيها مختلفًا عن اليقظة على الرغم من وجود رابط بينهما، ويمكننا أن نسرد العديد من الفوارق بين ما تعنيه كلمة «الضد» وكلمة «الشيء نفسه»، وهو ما يجعل حديث هرقليطس يعجز عن إقناعنا بالحكم على الأضداد بالتشابه. ولكن كما نعتقد أن سرد هذه الفوارق من الأهمية بمكان، فقد بدا لهرقليطس أن تسليط الضوء على العلاقات القائمة بين الشباب والشيخوخة والصحة والمرض وطرق الصعود وطرق النزول وغيرها شيء ذو أهمية بالغة، حيث اعتقد أن ذلك سيساعده على فهم هذه الأشياء. وكما كان فيثاغورس مفتونًا بالعلاقة بين الإيقاع الموسيقي والأرقام — وهو ما جعله يقول إن جميع الظواهر يمكن تفسيرها عن طريق الأرقام بطريقة أو بأخرى — فإن هرقليطس كان مولعًا بفكرة العلاقة بين الأضداد ممَّا حدا به إلى القول في النهاية: «إن كل الأشياء شيء واحد.»
•••
ومن بين الأشياء العديدة التي لا تبدو من النظرة الأولى أنها تنطبق عليها فكرة «أن كل الأشياء شيء واحد» هو فكر هرقليطس نفسه؛ إذ يبدو مناقضًا لنفسه كما سيتضح لنا الآن. فمن جانبٍ يرى هرقليطس التغيُّر الدائم والصراع أينما ولَّى وجهه، ومن جانب آخر يبدو هذا الصراع وكأنه معركَة تُثِير الضحِك حيث إن الأضداد المتناحرة — مثل العناصر أو الليل والنهار أو الشباب والشيخوخة — ينتهي بها الحال إلى طريق واحد. ويبقى السؤال إذن: هل ثَمَّةَ تغير مستمر وصراع كما يقول هرقليطس أم لا؟ والإجابة هي نعم، توجد هذه الأشياء ولكن التغيُّر المستمر والاستقرار والوحدة والتنوُّع وجهان لعملة واحدة كالليل والنهار. ولْنُمْعِنِ النظر في مثال النهر مرة أخرى، فهو نهر واحد، لكنه يتكوَّن من مياه عدة، ورغم أنه يتكون من مياه عدة فهو يبقى نهرًا واحدًا. ومن هنا يمكننا أن نجمع جُلَّ أفكار هرقليطس عن الصراع والوحدة في إطار واحد، ورغم أنه لم يصرِّح بهذه الفكرة أبدًا فهذا التفسير المزدوج للتغيُّر المستمر في الشيء الواحد أو لوحدة الأشياء المتغيرة يبدو هو المبدأ الذي اعتقد أن المفكرين الأوائل لم يدركوه.
•••
وقد عجز بعض المفكِّرين اللاحقين عن إدراك ما كان يحدُث حتى بعد محاولات هرقليطس لشرحه وتفسيره؛ فقد أساء أفلاطون مثلًا لهرقليطس حينما قام بنشرِ أفكاره بشكل يشوبُه التحريف والتشويه، فقد اعتمد أفلاطون على فيلسوف يدعى قراطيلوس أَلَمَّ بجانبٍ واحد من فكر هرقليطس ثم هَبَّ يتحدث به دون مراعاة لباقي الجوانب. وقد ردَّد أفلاطون ومن بعده تلميذه أرسطو آراء قراطيلوس، ثم فسَّر غالبية من تلاهم من المفكرين أفكار قراطيلوس من وجهة نظرهم الشخصية فحسب.
في سعيهم للوقوف على حقيقة طبيعة الأشياء، دائمًا ما يصاب كثير من الفلاسفة المعاصرين بحالة من الدوار نتيجة سعيهم المستمر في كل اتِّجاه، ولكن يُخَيَّل لهم أن العالم هو الذي يدور من حولهم ويتحرك في جميع الاتجاهات. ويعتقدون أن هذه هي طبيعة الطبيعة على الرُّغم من أنها تنبع من داخلهم؛ فهم يظنون أنه ليس ثمة شيء ثابت أو مستقر ولا يوجد إلا التغير المستمر والحركة.
لا سبيل لمناقشة مبادئ هرقليطس … فحتى عندما تتحدث مع أهل مدينة أفسس الذين يزعُمون أنهم على علاقة حميمة بأتباع هرقليطس، قد تشعر أنك تتحدث مع شخص مجنون؛ فهم في حالة من الحركة السرمدية تمامًا مثل أطروحاتهم … وعندما تطرح سؤالًا تجدهم في الإجابة يتصيَّدون من منهجهم المضطرب حكمة أو مثلًا تنبُّئيًّا ليشنوا به هجومهم عليك، وإذا ما حاولت أن تصل إلى أي معنى لحديثهم فسيباغتونك بمثل آخر ويُطَعِّمُونه باستعارة جديدة زائفة؛ ولذلك فلن تصل إلى أية إجابة شافية عند الحديث إلى أيٍّ منهم؛ إذ إنهم ببساطة لا يتفقون حول رأي واحد، ولكنهم يَصُبُّون جُلَّ تركيزهم على عدَم ترك أية أرض صلبة يمكنك الوقوف عليها سواء في خطابهم أو في عقولهم.
ومن أشهر ما قال هرقليطس والذي يبدو أنه يدعم التفسير المتطرِّف الذي قدَّمه أفلاطون وأرسطو هو مقولته الشهيرة: «لا يستطيع الإنسان أن ينزل في النهر نفسه مرتين.» والفكرة وراء هذا المثال واضحة وضوح الشمس في كبِد السماء، فبما أن المياه التي تشكِّل النهر في حالة تغير مستمر فمن ثَمَّ ينزل الإنسان نهرًا جديدًا في كل مرة، ولكن السؤال: إلى أي مدى ينبغي لنا أن نأخذ هذا المثال على محمل الجِدِّ؟ وفقًا لرأي قراطيلوس المتطرف علينا أن نأخذه على معناه الحرفي، فالأنهار كما نعرفها ليست موجودة؛ إذ لو افترضنا وجود نهر التيمز فهو لا يوجد إلا في لحظة عابرة لا يلبث حتى يتحوَّل إلى نهر آخر. وتشير بعض الاعتبارات الأخرى المتعلِّقة بتفسير قراطيلوس إلى صحة هذه النتيجة فيما يتعلق بكافة الأشياء، فالأشياء كلها تتكون من مواد دائمة التغيُّر، وهو ما لخَّصه سقراط في عبارة قال فيها: «ليس ثمة شيء ثابت أو مستقر فلا يوجد إلا التغير المستمر والحركة.»
ولكن إذا أمعنت النظر في هذا الكلام فستجده على طرفَيْ نقيض مع ما قاله هرقليطس سابقًا بشأن النهر؛ إذ يقول: «إذا نزل الإنسان في النهر ذاته مرتين فسيجد ماءً جديدًا في كل مرة.» وهو في هذا المثال يتحدث بوضوح عن مياه مختلفة تتدفَّق في النهر نفسه؛ أي إن وجود مياه جديدة لا يقتضي بالضرورة خلق أنهار جديدة؛ ومن ثَمَّ فيمكنك أن تخوض النهر نفسه مرتين. ويبدو أن ما فعله قراطيلوس وأفلاطون وأرسطو هو أنهم أخذوا شطرًا واحدًا من فلسفة هرقليطس ذات الحَدَّيْنِ وتجاهلوا الشطر الآخر تمامًا. ومن المستحيل أن تفهم هرقليطس إذا زعمت كما زعموا أنه كان يقصد ما يُفهَم حرفيًّا من كلامه أنك «لا تستطيع أن تخوض النهر نفسه مرتين.»
وممَّا زاد هرقليطس فخرًا وتيهًا أنه اكتشف حقيقة أن الأنهار وسائر الأشياء الأخرى هي في حالة من التغيُّر المستمر حتى وإن ظهرت لنا على خلاف ذلك، وهي الحقيقة التي حاول أن يلفت إليها أنظارنا، ولكنه لم يفكر أن هذه الأنهار وتلك الأشياء في حالة شديدة من الفوضى لدرجة أنك لا تستطيع أن تناقشها، ولا قيمة لها على الإطلاق كما قال قراطيلوس. وفي النهاية لم تؤدِّ هذه المبالغة الفَجَّة إلا إلى إدحاض ما كان يحاول أن يقوله وتفنيده، فلو افترضنا عدم وجود الأنهار فلن تكون إذن محمومة بهذا التغيُّر المستمر بل لن يكون بها أي شيء.
كان مقتنعًا بحقيقة عقيدة هرقليطس وفلسفته التي تقول إن كل ما ندركه بالحواس فانٍ وهالك؛ ولذلك إذا كان للمعرفة أو التفكير هدف فلا محيص من أن تكون ثمة أشياء ثابتة لا تتغير غير تلك التي ندركها بالحواس إذ ليس هناك معرفة عن شيء لا يلبث أن يتغير.
وبذلك نجِد أن مبالغة أفلاطون فيما قاله عن هرقليطس أدت إلى إثارة تساؤل جوهرِيٍّ: كيف لنا أن نصل إلى معرفة يقينية عن عالم متغير؟
وقد أدَّى التركيز على هذا السؤال إلى إغفال ما هو أكثر خداعًا وتضليلًا فيما قاله هرقليطس، فأفكاره لم تتطور على يَدِ أي شخص آخر؛ ذلك أنها ربما لم تكُن لتصل إلى نتائج مختلفة إذا ما حاول شخص آخر أن يتناولها بالدراسة. لكن شخصًا آخر عاش في زمانه تناول أحد موضوعاته بشكل مستقل فَشَكَّل المرحلة التالية والأهم في الفلسفة، فما قام به بارمنيدس — والذي سننتقل للحديث عنه في الفصل التالي — يعتبر تطوُّرًا لفكرة ترابط الأشياء عند هرقليطس. فكلاهما انتقد التفسيرات الأولى وما تلاها من تفسيرات لتطوُّر الكون وما يقع فيه من ظواهر، وكلاهما عمِل على تبديل هذا الاعتقاد بفكرة وحدة الأشياء، ولكن شتان الفارق بين هاتين الرؤيتين، فبارمنيدس يرى أن لا شيء يتغير على الإطلاق، بينما يرى هرقليطس أن الأشياء جميعها في تغيُّر مستمر (وإن لم يكُن على النحو المبالغ فيه كما عند قراطيلوس)، ولكن أفكار بارمنيدس كان لها الأثر الأكبر، في الوقت الذي لم يتبقَّ فيه من أفكار هرقليطس إلا ما اختلسه أفلاطون منها.
ولذلك يرجع الفضل إلى أفلاطون في مَحْوِ الوجه الحقيقي لفلسفة هرقليطس من ذاكرة تاريخ الفلسفة؛ إذ قَدَّمَ سوء الفهم والتبسيط المبالَغ فيه يد العون لهرقليطس ليبقى غامضًا مبهمًا لا يُدرَك كنهه، بل قيل إنه أراد أن تظَل عقيدته في طيِّ الخفاء، وهو ما حدث بالفعل كما أراد.