الأماكن الطيبة والفاسدة
(١) تقليدا اليوتوبيا
بدايةً، كان السلام مكفولًا للجميع كماء الشرب. لم تُنبت الأرض خوفًا ولا مرضًا؛ فكل ما احتاجوه ظَهَرَ تلقائيًّا، فكان النبيذ ينساب بالجداول، وكعكات الشعير تزاحم أرغفة الخبز أمام أفواه الناس، متوسلة إليهم كي يتناولوا أكثرها بياضًا، إن سمحوا بذلك.
لم يتزوجوا من زوجات، بل كانت نساؤهم مشتركة بينهم، والأطفال الناتجون عن هذا الوضع تربوا على نحو مشترك فيما بينهم، وعاملهم الجميع بالقدر نفسه من الحب. وعندما كانوا أطفالًا رُضَّعًا، كانت النساء اللائي يُرضعْنَهم عادةً ما يتبادلن إرضاعهم؛ بحيث لا تستطيع الأمهات التعرف على أطفالهن؛ ومن ثم لم تكن هناك غيرة بينهن، وعاشوا دائمًا دون أي مشاحنات، معتبرين الوفاق رأس كل النعم.
أُطلِقَ على النسخة الأولى «يوتوبيا الهروب» أو «يوتوبيا الجسد»، ولا توجد ثقافة لا تضم مثل هذه اليوتوبيات. في التراث الذي يشكل تاريخها في الغرب، توجد في جنة عدن، والقصص الإغريقية والرومانية عن جنة الأرض، وفكرة الجنس أو العصر الذهبي الذي كان موجودًا في الماضي، و«رؤية ماكونجلين» الأيرلندية. وتنتقل إلى تراث «العالم المقلوب رأسًا على عقب» لتظهر في عيد الإله الروماني ساتورن، وعيد البلهاء، وأرض كوكين، والصور المبكرة من الكرنفال (وهو موسم الاحتفالات المسيحي السابق على «الصوم الكبير»)؛ جميعها تضع الفقراء والمقهورين على نحو مؤقت في مراكز قوة، في حين تضع سادتهم المفترضين في مراكز أدنى منهم ليوم أو أسبوع. وعادةً ما يُعاد ابتداع تلك النسخة من جديد، وتعاود الظهور في المجموعات المقهورة، وفي أوقات الأزمات الاقتصادية.
(٢) الأساطير الكلاسيكية
على الرغم من وجود اختلافات بين هذه الأساطير، فإنها اشتركت في الكثير؛ فبعض الأجزاء كانت مقدمة على نحو إيجابي، فكان الناس والآلهة قريبين بعضهم من بعض، وكانت الأرض تُنتج تلقائيًّا وفرةً من الطعام وأي شيء آخر كان يحتاجه الناس. لكن أغلب الأجزاء عُرض على نحو سلبي، وكان معنيًّا بحل مشكلات الحاضر؛ فلم يكن هناك خوف من الحيوانات البرية، ولم يكن هناك صراع بين البشر، ولم تكن هناك حاجة للعمل، ولم تكن هناك تجارة أو حكومة؛ لأنه لم تكن هناك حاجة لهما. كانت بداية الحياة ونهايتها سَلِسَتَين؛ كانت النساء يضعن أطفالهن دون ألم، أو لا يضعن على الإطلاق؛ فلم تكن هناك وفيات؛ ومن ثم لم تكن هناك حاجة للمواليد، ولا لموت مريح. فسر بعضها أيضًا كيف أننا انتقلنا من الحياة الطيبة إلى الحياة الصعبة التي نعيشها في الوقت الراهن. على سبيل المثال، معصية الرب في جنة عدن أفضت إلى الخوف والعناء والموت وآلام الوضع بالنسبة للنساء.
كان الجنس البشري الذي أُنعم عليه بالكلام، والذي أوجده الخالدون — أولئك الذين يسكنون في قصور على جبل الأوليمب — جنسًا ذهبيًّا. عاش هؤلاء في زمن كرونوس عندما كان ملك السماء؛ وتمامًا مثل الآلهة، أمضوا حياتهم، بروح تخلو من الهم، بعيدًا عن التعب والبلاء. لم تطلهم يد الشيخوخة العقيمة، وكانوا دومًا متساوين في كل شيء، وتمتعوا بالأعياد والاحتفالات، وسلموا من كافة الشرور، وماتوا كما لو كان غلبهم النعاس. كانت لهم كل الأشياء الطيبة؛ فحقول الحبوب كانت تنبت محاصيل من تلقاء نفسها، كانت تنبت الكثير منها وبوفرة. أما هم، فتشاركوا ثمار العمل معًا — طواعية، وبنبل كبير — إضافة إلى أشياء طيبة أخرى كثيرة، وكان لهم من الغنم الكثير، وكانوا مقربين من الآلهة.
في الماضي، كان الناس يعيشون في عصر ذهبي، حين كان الناس يتصرفون وفق إرادتهم، دون خوف من عقاب، دون قوانين، وكانوا يتمتعون بإيمان سليم، ويُقْدمون على فعل كل ما هو صحيح. لم تكن هناك عقوبات يخشونها، ولم تكن هناك لوحات برونزية منصوبة محفور عليها القوانين تحمل تهديدات باتخاذ إجراء قانوني، ولم تكن هناك حشود من المذنبين المتطلعين للرحمة، والمرتعشين أمام قاضيهم. في الواقع لم يكن هناك قضاة؛ إذ عاش الناس في أمان دونهم. وإذ لم تكن هناك أشجار صنوبر يتم قطعها من موطنها على الجبال لصنع سفن تسير عبر أمواج المحيطات ليبحروا إلى أراضٍ أجنبية، فلم يعرفوا سوى شواطئهم، ولم تكن مدنهم محاطة بعدُ بخنادق مائية عميقة، ولم تكن لديهم أبواق نحاسية طويلة، أو خوذ نحاسية ملتفة، أو سيوف. تمتعت شعوب العالم، التي لم يعكر صفوها أيُّ مخاوف، بحياة الدعة والسلام، ولم تكن هناك حاجة لجنود.
تُبدي التغييرات التي أدخلها أوفيد كيف أن تلك الروايات عكست قضايا معاصرة في الوقت الذي بدت فيه خارج إطار الزمان تمامًا.
خلال الأسبوع غير مسموح بأي أمر جاد، غير مسموح بالقيام بأي عمل. الشرب والسُّكر، والصخب والألعاب والنرد، وتعيين الملوك، وإقامة احتفالات العبيد، والغناء عريانًا، والتصفيق الشديد، وغمر الوجوه الثملة في الماء المثلج من آنٍ لآخر: هذه هي المهام التي أقوم بها.
كان احتفال الرومان بِعيد الإله ساتورن مهرجانًا فعليًّا يستعيدون فيه العصر الذهبي لفترة وجيزة؛ حيث كان يعمل السادة على خدمة الخدم، ويطعم الأغنياءُ الفقراءَ. وفي بعض النسخ من المهرجان، كانوا يَعفُون عن ديونهم. بالنسبة للجميع، كان هناك إسراف شديد في الطعام والشراب ودرجة من الحرية الجنسية. وبدون الإسراف في المأكل والمشرب والحرية الجنسية، فإن فكرةَ وجود فترة يتم فيها الإعفاء من الديون، ومن ثم منْح المدين فرصة جديدة، مذكورةٌ في العهد القديم: «يبرئ كل صاحب دين يده مما أقرض صاحبه. لا يطالب صاحبه ولا أخاه؛ لأنه قد نودي بإبراء للرب» (سفر التثنية، ١٥ : ٢).
في العصور الوسطى، تسببت الاحتفالات التي انحدرت من عيد الإله ساتورن — مثل الكرنفال السابقة الإشارة إليه حين كان الفقراء يحكمون لبعض الوقت، وعيد البلهاء، والذي كان فيه يجري عكس التراتب الكنسي لفترة وجيزة، وكان له شعبية على نحو خاص في فرنسا — في مشاكل خطيرة؛ فمن وقت لآخر، كان احتفال الكرنفال يخرج عن السيطرة، على الأقل من وجهة نظر المتقلدين للسلطة؛ لأن المغلوبين على أمرهم ظنوا أن قلب الأوضاع يجب أن يستمر لفترة أطول من بضعة أيام. أما عيد البلهاء، فقد وقفت ضده الكنيسة بقوة حتى ألغته. لا يزال احتفال الكرنفال يُقام ببعض الأماكن، مثل نيو أورليانز وريو دي جانيرو، لكنه لم يعد يُعتبر تهديدًا.
في العصور الوسطى، كان يجري إسقاط الآلهة الإغريقية والرومانية، ونشأت قصة مشابهة معروفة باسم «أرض كوكين»، التي أُطلق عليها «جنة الفقير»، في عدد من البلدان الأوروبية. وجاء بإحدى نسخ تلك القصة التي ترجع للقرون الوسطى ما يلي:
تتكرر تلك الصورة الخيالية مرارًا تحت أسماء مختلفة عبر التاريخ؛ فعندما يُفقد الأمل في كل شيء، تكتسب الفانتازيا قوة خاصة.
أدخل الكاتب الروماني فرجيل (٧٠–١٩ قبل الميلاد) تغييرات كبيرة على تلك الأساطير؛ أولًا، وفوق كل شيء: في أنشودته الرابعة الشهيرة، المعروفة بأنشودة المُخلِّص التي تبشر بقدوم المسيح، من عمله «أناشيد الرعاة»، انتقل بالعصر الذهبي من الماضي إلى المستقبل. ثانيًا: أصبح العالم الأفضل قائمًا على النشاط البشري لا على مجرد أن يكون هبة من الآلهة؛ فالناس يعملون، لا سيما في الزراعة، ويستمر هذا باعتباره أسطورة الفلاح أو المزارع السعيد؛ لتصبح نسخة أكثر واقعية، وإن كانت لا تزال مثالية. لم تمت الأسطورة أبدًا، وهي توجد اليوم باعتبارها جزءًا جوهريًّا من اليوتوبية الحديثة.
الصور التي ساقها فرجيل للحياة البسيطة في «أركاديا» تمثِّل نقلة بين فانتازيا التقليد الأول لليوتوبيا، ويوتوبيا التقليد الثاني التي صنعها الإنسان. إن المجتمعات التي صنعها البشر وصوَّرها الكتَّاب الإغريق والرومان هي الأكثر شبهًا ﺑ «يوتوبيا» توماس مور والأعمال التي تلتها. وهذا الفرع من التقليد اليوتوبي يمنح الناس الأمل؛ لأنه أكثر واقعية، ولأنه يركز على بشر يحلون مشاكل البشر، مثل كفاية الطعام والمسكن والملبس والأمن، لا الاعتماد على الطبيعة أو الآلهة.
كان مقتنعًا أن إدخال تغيير جزئي في القوانين لن يكون له أي فائدة تذكر، بل ينبغي له أن يمضي كالطبيب الذي يعالج مريضًا أعياه المرض وهو مصاب بكافة أنواع الأسقام؛ فيجب أن يغير وضع الحالة التي أمامه باستخدام العقاقير والمطهرات، ويوصي له بنظام علاج جديد ومختلف.
كان المجتمع الذي أسسه ليكرجوس في أسبرطة قائمًا على أعلى درجات المساواة بين المواطنين، لكن بين المواطنين فحسب (كان هناك عبيد، ولم تكن النساء من المواطنين). كان نظام الحكم في أسبرطة عسكريًّا. وفي أسبرطة، في ظل حكم ليكرجوس، كان على كل شخص أن يَهَبَ نفسه تمامًا لخدمة البلد. كان عليهم أن يفقدوا ذواتهم من أجل الكل؛ «فقد عوَّد مواطنيه على ألا تكون لديهم الرغبة أو القدرة على العيش من أجل أنفسهم.»
يربط كثير من المعلقين بين أسبرطة و«الجمهورية»، يوتوبيا الفيلسوف الإغريقي أفلاطون (٤٢٨ / ٤٢٧–٣٤٨ / ٣٤٧ قبل الميلاد) الذائعة الصيت، والتي تُعتبر مَعين اليوتوبية الغربية. وجمهورية أفلاطون معنية في المقام الأول بالوصول لفَهْمٍ لمفهوم العدالة، وهي حوار أفلاطوني نموذجي يمتد من بداية إلى منتصف الفترة التي يطرح فيها سقراط (٤٦٩–٣٩٩ قبل الميلاد) سؤالًا، وتستمر عملية السؤال والجواب حتى يتم الوصول لعدد من المواقف، التي يرفضها سقراط كلها، ثم يقدم إجابته، وبالتدريج يهيمن على النقاش محوِّلًا إياه إلى حوار أحادي، ولا يصدر عن الآخرين المشاركين في الحوار سوى تعليقات روتينية تُعْوِزها الحماسة.
إن المجتمع الذي يصفه أفلاطون في «الجمهورية» هو الأقرب إلى المجتمع المثالي. يضم هذا المجتمع ثلاث طبقات، تقابل العناصر الأساسية الثلاثة للروح أو الذات. والطبقات الثلاث هي طبقة الملوك الفلاسفة (أو العقل)، وطبقة الحراس (الذين يمثلون عنصر العاطفة)، وطبقة الحرفيين والتجار (الذين يمثلون ضبط النفس والاعتدال). يُعنى أغلب الحوار في عمل «الجمهورية» بأول طبقتين، وهما المعروفتان إجمالًا باسم ولاة الأمر. ولا يتحدث أفلاطون كثيرًا عن الأغلبية العظمى من أهل الجمهورية، باستثناء التلميح إلى أن كل فرد في تلك الدولة المدينة المنظمة بشدة، سيعمل في المكان الذي يناسبه تمامًا؛ ونتيجة لذلك، سيغدو الجميع سعداء.
إلا أن أي مجتمع من صنع البشر لا يمكن أن يعدو كونه انعكاسًا ضعيفًا للمجتمع المثالي، ويجب أن يفشل. يتناول أفلاطون عملية الفشل بإسهاب كبير. وفي إسهابه، يضع نظرية للفساد ويطبقها على الأفراد والمجتمعات. والمهم هنا ليس النظرية، بل النقطة الأساسية المتمثلة في أنه لا يمكن أن يوجد مجتمع أو إنسان مثالي على هذه الأرض. وأفضل ما يمكننا تحقيقه هو الاقترابُ من هذه الصورة المثالية، وهذا التقريب سينهار حتمًا في نهاية الأمر.
بينما تتطابق المقومات الأساسية (التناغم، والمعرفة، والحياة الطيبة للشخص الصالح) في يوتوبيا أفلاطون الكبيرة الأخرى، محاورة «القوانين»، مع المقومات الأساسية لتلك الخاصة بمحاورة «الجمهورية»، فإن الطريقة التي تتحقق بها هذه المقومات مختلفة؛ فهناك الاختلاف الواضح المتمثل في أن الدولة في محاورة «القوانين» تقوم على القانون، في حين أن الدولة في محاورة «الجمهورية» تقوم على حكمة البشر المتجسدة في الملوك الفلاسفة. ويبدو أن أفلاطون إذ فقد الأمل في إيجاد أو خلق الظروف المثالية لتنشئة الملوك الفلاسفة، كان عازمًا على تقديم أفضل ثاني خيار: النظام القانوني الذي سيفرضه الملوك الفلاسفة للدولة، التي لا ترقى إلى الوصول لمستوى الدولة في «الجمهورية»، بل وقدَّم بديلًا للملوك الفلاسفة في مجلس ليلي بإمكانه إسقاط القوانين إن اختار ذلك.
كان اليوتوبيون الإغريق، بمن فيهم أفلاطون، يعتبرون ما نطلق عليه المجتمع الصغير أو المتفاعل افتراضًا أساسيًّا. لم يمكنهم تصور أن مجتمعًا طيبًا يمكن أن يكون كبيرًا بحيث يعجز فيه جميع المواطنين عن الالتقاء والتحاور بانتظام، ولم تظهر فكرة إمكانية وجود شيء أكبر إلا مع سقوط الدولة الإغريقية وصعود الدولة الرومانية.
كان أولُ مناهض عظيم لليوتوبيا، المؤلِّفُ المسرحيُّ الكوميدي الإغريقي أرسطوفانيس (٤٤٨–٣٨٠ قبل الميلاد)، يكتب وفي الوقت نفسه يناقش الكثير من الموضوعات التي كان يناقشها الكُتَّاب المؤمنون باليوتوبية. من المنظور اليوتوبي، كانت أهم مسرحياته «برلمان النساء»، وفيها نجحت مجموعة من النساء في الاستحواذ على المجلس التشريعي وسنِّ شكل من أشكال الشيوعية، وفشلت تشريعاتهن ليس لأنها كانت سيئة، ولكن لأن الجنس البشري لم يكن قادرًا على قدر الإيثار المطلوب. وهذا سبب نموذجي يُساق لرفض اليوتوبيات. ساق أرسطوفانيس نقطة مماثلة في مسرحيته «بلوتوس»، وفيها يُردُّ البصر إلى إله الثروة الكفيف، وعندئذ يعيد توزيع الثروة على مستحقيها، ثم ما يلبث الجشع البشري أن يعيد توزيعها مرة أخرى على نحو غير عادل.
ولما كان الفيلسوف الإغريقي أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ قبل الميلاد) قد رفض يوتوبيا أفلاطون، وتهكَّم بشدة على الدول المثالية الأخرى التي ناقشها، فعادةً لا يُعتبر من المؤمنين باليوتوبية، لكنه في الباب السابع من كتابه «السياسة» عرض بنوع من التفصيل للخصائص الأساسية للدولة المثالية.
رأى أرسطو أن أفضل دولة هي دولة تكون قريبة من الاكتفاء الذاتي قدر الإمكان في إطار الحدود التي يفرضها عدد قليل من السكان وإقليم صغير المساحة، وقامت اليوتوبيا التي تصورها على إمكانية معرفة المواطنين بعضهم لبعض. كما وفرت يوتوبيا أرسطو أفضل حياة لمواطنيها: حياة العقل، أو الحياة التأملية، التي ليست حياة انعزالية متقوقعة، بل حياة التواصل الفكري. رأى أرسطو أن من شأن هذا أن يستلزم وجود فئة من الناس لا تتمتع بحق المواطنة لتقوم بالعمل الحقير؛ مما يحرر المواطنين ويجعلهم يعيشون حياة كاملة ورائعة. وناقش في مواضع أخرى — بعبارات أعم — خصائص ما قد يُطلق عليه أفضل دولة ممكنة.
(٣) الأساطير والأدب بعد توماس مور
بعد أن كتب مور كتابه «يوتوبيا»، فقدت معظم الأساطير قوتها تدريجيًّا، لكن استمر جوهرها في القصص الأمريكية الأفريقية التي على غرار قصة أرض كوكين، التي وجدت بالتوازي مع الأناشيد الدينية الزنجية التي تحدثت عن مباهج الحياة الآخرة، والأغاني المرتبطة بحالة الكساد التي سادت في ثلاثينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة، مثل «ذا سويت بوتيتو ماونتينز» و«ذا بيج روك كاندي ماونتينز».
في أركانساس ترقد الخنازير حولنا مطهية، والشوك والسكاكين مغروسة بها تدعوك لتناولها، والفطير في كل مكان يُقلى في برك من الدهن، والأشجار تثمر بالمال، وكل ما كان عليك فعله هو التقاط المال من عليها كما تلتقط القطن من منبته …
أوه، تنمو السجائر على النباتات المعرشة، وينبت البيض ولحم الخنزير على الأشجار، والأرض تثمر الخبز، وتنضح الينابيع بالخمر حتى ركبتيك، والخير حولك كثير ووفير.
يمكن إيجاد صورة مختلفة من الأسطورة اليوتوبية التقليدية في رواية «الأفق المفقود» (١٩٣٣)، التي أنتجت في فيلم من إخراج فرانك كابرا (١٩٣٧)، المستندة في جوانب منها إلى أسطورة شامبالا، الأسطورة البوذية التبتية التي تدور حول مملكة أسطورية مخفية في مكانٍ ما داخل قارة آسيا حيث يعيش بعض من البوذاسفيين؛ وهم أكثر البوذيين استنارة. تتحول المملكة في الرواية إلى شانجري-لا؛ وهو مجتمع مفقود في هضبة التبت يعيش الناس فيه لأعمار مديدة للغاية.
ليس هذا الموضعَ الملائمَ لسردِ تاريخِ الأدب اليوتوبي، لكن من الضروري ذكر نبذة عنه وعن كيفية استخدامه. غالبًا ما اتسمت اليوتوبيات التي ظهرت بعد يوتوبيا مور بالتركيز على المدينة. زعم — على وجه الخصوص — المؤرخ والناقد المعماري لويس مامفورد (١٨٩٥–١٩٩٠) أن المدينة واليوتوبيا مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا، والاقتباسات التالية من يوتوبيات تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين تصوِّر رؤًى للعمارة اليوتوبية.
تحت أقدامي تقبع مدينة عظيمة. أميال من الشوارع العريضة، تظلها الأشجار، وتصطف على جانبيها مبانٍ أنيقة، ولم تكن المباني في أغلبها في مربعات سكنية متصلة، بل تكوَّنت من مناطق مُسيَّجة أكبر أو أصغر حجمًا تمتد في كل اتجاه. ضم كلُّ حيٍّ ميادينَ مفتوحة كبيرة تعجُّ بالأشجار، تتلألأ بينها التماثيل وتلمع النافورات في ضوء شمس الأصيل. والمباني العمومية ذات الحجم الضخم والأبهة المعمارية التي لا مثيل لها في أيامي تقف شامخة على كل جانب.
رأت … نهرًا ومباني ضئيلة غير ذات أهمية، وهياكل غريبة تشبه الطيور الطويلة السيقان التي لها أشرعة تتحرك مع حركة الريح، وبضعة مبانٍ كبيرة ذات لونين أصفر وبُنِّي مُحْمَرٍّ، وقبة واحدة زرقاء غير ذات شكل منتظم، لا تزيد في حجمها عن حجم السوبر ماركت في أيامها؛ أي سوبر ماركت عادي في أي مركز تسوُّق كبير. كانت الأشياء التي على شكل طيور هي الأطول في الأنحاء، وكانت بالكاد أطول من بعض أشجار الصنوبر التي أمكنها رؤيتها. كما شاهدت بضع هيئات لا شكل محدد لها عليها بعض النباتات المعرشة الخضراء.
على النقيض من كثير من التعليقات التي نزعت للنظر لليوتوبيا حتى منتصف القرن العشرين باعتبارها شكلًا من أشكال الملكية المشتركة، فقد كُتب عن اليوتوبيا من كل مشرب يمكن تخيُّله؛ فهناك يوتوبيات اشتراكية ورأسمالية وملكية وديمقراطية ولا سلطوية وبيئية ونسوية وأبوية ومساواتية وتراتبية وعرقية ويسارية ويمينية وإصلاحية، وثمة يوتوبيات تركز على الحرية الجنسية، والأسرة النووية، والأسرة الكبيرة، والمثليين والمثليات، وغيرها الكثير من اليوتوبيات. ونُشرت كل هذه الأنواع فيما بين عام ١٥١٦ ومنتصف القرن العشرين، قبل أن يهيمن التنوع فعليًّا وتكون له الغلبة. ونتيجة لوجود تقليد قوي مناهض لليوتوبية، يمكن مضاعفة العدد بمجرد وضع كلمة «مناهض» قبل أيٍّ من الأنواع السابقة. وبعد بداية القرن العشرين، كُتبت ديستوبيات تعبِّر عن هذه المواقف كافة.
كانت كل هذه الأعمال المختلفة استجابة لقضايا رأى أصحاب تلك الأعمال أنها مهمة للوصول لمجتمع أفضل. وأغلب هذه القضايا قضايا دائمة الحضور؛ مثل: القانون والنظام، والدين اعتقادًا وممارسةً، والعلاقات الاقتصادية، ونظام الحكم، وتربية الأطفال والتعليم. لكن تتغير أهمية القضايا تبعًا للزمن الذي كُتبت فيه اليوتوبيا؛ فاليوتوبيات تأملات في القضايا التي كانت مهمة بالنسبة للفترة التي عاش فيها أصحاب تلك الأعمال.
والحلول المقترحة تكون أكثر محدودية من القضايا من حيث النوع، إن لم يكن من حيث التفصيل؛ فمن بين الحلول الأكثر شيوعًا صورة إصلاحية من الدين يتَّبعها معتنقوه فعليًّا، وقوانين ونظم قانونية جديدة مطبقة بإنصاف، وأنظمة اقتصادية أفضل، وأنظمة سياسية مُحسَّنة، وتعليم متطور، والاستخدام الذكي للعلم والتكنولوجيا. والكثير من اليوتوبيات تحنُّ إلى الماضي؛ إذ تنظر إلى الخلف، إلى ماضٍ مثالي، ثم تنقله إلى المستقبل. وتكون اليوتوبيا في العيش في النسخة المُنقَّحة لا على الطريقة التي كان يعيش بها الناس في الماضي بالفعل. ومن بين الموضوعات النموذجية الأخرى عيش حياة أبسط، وتحقيق توازن أفضل بين المدينة والريف. لكن هذه الموضوعات كافة قُدمت أيضًا بوصفها نُفذت على نحو سيئ، أو أنها كانت في مصلحة أفراد أو مجموعات بعينها (سواء اقتصادية أو جنسية أو سياسية أو غير ذلك)، ويتمخَّض عنها ديستوبيات. بالنسبة للمؤيدين لليوتوبية، لا توجد حدود للذكاء والإبداع الإنساني. أما بالنسبة للمناهضين لليوتوبية، فلا حدود للغباء والجشع الإنساني. ويبدو أن كليهما على حق.
وكما هو الحال مع أي فرع من فروع الأدب، يوجد كُتاب أو نصوص معينة ذائعة الصيت يبدو أنها تحدد ملامح الأدب اليوتوبي. وبينما قد تكون النصوص الأقل شهرة أكثر تمثيلًا في الواقع لفترتها، فإن الأعمال الأشهر هي التي تدفع بقاطرة هذا الفرع من فروع الأدب للأمام.
(٤) «يوتوبيا» مور
لذا، لو لم أكن قد فعلت شيئًا سوى إطلاق الأسماء على الحاكم والنهر والمدينة والجزيرة التي توحي للمثقفين أن الجزيرة لا توجد في أي مكان، والمدينة عبارة عن سراب، والنهر لا يجري به ماء، والحاكم لا يحكم شعبًا؛ لكان ذلك سيصبح أكثر ذكاءً مما فعلت في واقع الأمر. وإذا لم تُكبِّلني أمانة المؤرخ، فأنا لست من الغباء كي أفضِّل استخدام أسماء فظة عديمة المعنى؛ مثل: يوتوبيا، وأنيدروس، وأموروتوم، وأديموس.
لكن يوتوبيا تعني الجزيرة الواقعة في لامَكان، وأموروتوم تعني مدينة السراب، وأنيدروس تعني النهر الذي لا يجري به ماء، وأديموس تعني الحاكم الذي لا يحكم شعبًا.
ثمة مشكلة أخرى تكمن في أن كتاب «يوتوبيا» ضم أعرافًا قدَّمها مور على نحو إيجابي، وهي التي كانت مناهضة لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، مثل القتل الرحيم الاختياري، أو نبَذَها مور بعد ذلك في مرحلة متقدمة من حياته، مثل التسامح الديني. بالنسبة لبعض الشرَّاح، يجب إيجاد طريقة لاستبعاد هذه الأعراف. بالتأكيد لم يفكر قَطُّ القديسُ توماس مور، الذي مات بسبب تمسكه بمبادئه، على نحو مختلف عن الطريقة التي ظن شرَّاح عمله أنه ينبغي أن يكون قد فكَّر بها، أو — مثل صديقه المقرب إرازموس (١٤٦٦ / ١٤٦٩–١٥٣٦) صاحب التوجه الإنساني وعالم اللاهوت الهولندي — يجرِّب على نحو هزلي أفكارًا ثم ينبذها فيما بعدُ.
يرى المعاصرون أن المجتمع الموصوف في كتاب «يوتوبيا» ليس جذابًا للغاية، بل هو مجتمع سلطوي، تراتبي، أبوي، ويطبق عقوبة العبودية على مرتكبي المخالفات البسيطة نسبيًّا. لكن القارئ في بداية القرن السادس عشر كان سيرى أن تلك الأشياء كانت هي العرف السائد، وأن العبودية في «يوتوبيا» كانت عقابًا أكثر إنسانية من صور كثيرة للعقاب كان يمكن تطبيقها آنذاك، حين كانت بعض المخالفات البسيطة تُعاقب بالموت. وفوق كل ذلك، لم يكن هناك أحد في «يوتوبيا» غنيًّا أو فقيرًا. وقد تحقق ذلك من خلال تخفيض الطلب، وعمل الجميع، والمشاركة في كل شيء بالتساوي، والحياة البسيطة؛ وعليه، ستبدو «يوتوبيا» لكثيرين في القرن السادس عشر مثل الجنة.
(٥) السخرية
إن السخرية التي تحفل بها «يوتوبيا» مور جوهرية في تقليدَي اليوتوبيا؛ لأن أحد أهداف أغلب اليوتوبيات هو السخرية من الحاضر، وبقيامها بذلك، تستخدم الكثير من اليوتوبيات أداة نموذجية من أدوات السخرية وهي المبالغة. في بعض اليوتوبيات، مثل رواية الروائي الإنجليزي صامويل بتلر (١٨٣٥–١٩٠٢) «إيروان أو اللامكان» (١٨٧٢)، من المستحيل التأكُّد من الموقف الإيجابي، إن وُجد، الذي تؤيده؛ ففي تلك الرواية، على سبيل المثال، يُعامَل المجرمون على أنهم مرضى ويُرسَلون إلى الأطباء، أما المرضى، فيُزَجُّ بهم في السجون. ونشأ ضرب أدبي فرعي عن تلك الرواية يمكن أن نطلق عليه الأدب «الإيرواني».
والأكثر تمثيلًا للسخرية هو رواية «رحلات إلى العديد من أمم العالم البعيدة» (١٧٢٦)، المعروفة الآن بِاسم «رحلات جاليفر»، لصاحبها الروائي الساخر الأيرلندي جوناثان سويفت (١٦٦٧–١٧٤٥). والجزء الرابع في «رحلات جاليفر» يصور المكان الطيب بالرواية، لكن غالبية قاطنيه من الخيول وليس البشر؛ فالبشر — أو الياهو — همجيون، أما الخيول — الهوينم — فعقلانية، فما الذي يقوله سويفت عن الإنسان والعقل؟ تمخض عن رواية «رحلات جاليفر» ضرب فرعي مهم من الأدب يُعرف باسم الأدب «الجاليفري»، القليل منه ببراعة الأصل، في حين أن أكثره يمنح ببساطة بعض الحيوانات صفات بشرية. ومؤخرًا، كُتب الكثير عن زوجة جاليفر التي كان يهجرها كثيرًا.
في غضون الفترة نفسها تقريبًا التي كان سويفت يكتب فيها، نشر الكاتب الإنجليزي دانيال ديفو (١٦٦٠–١٧٣١) رواية «الحياة والمغامرات الغريبة المثيرة لروبنسون كروزو، البحار القادم من يورك» (١٧١٩)، المعروفة الآن باسم «روبنسون كروزو»، المستندة إلى أحداث واقعية، وفيها غرقت سفينة رجل، البحَّار الاسكتلندي ألكسندر سيلكيرك، وحط وحيدًا على جزيرة منعزلة لمدة أربع سنوات. ولما كان كروزو وحيدًا وغير قانع بالوضع أغلب الرواية، فمن الصعب تحديد إن كان إيجابيًّا أم سلبيًّا، ولا يتغير ذلك عندما ينضم فرايداي إلى كروزو، وهو أحد سكان إحدى الجزر القريبة الذي ينقذه كروزو من آكلي لحوم البشر. لكن تمخَّض عن رواية «روبنسون كروزو» ضرب فرعي كبير من ضروب الأدب، يطلق عليه الأدب الروبنسوني، اليوتوبي غالبًا، والمشتمل عادةً على مجموعة من البشر تتحطم سفينتهم، وأشهر أعماله «عائلة روبنسون السويسرية» (١٨١٢ / ١٨١٣)، للكاتب السويسري يوهان ديفيد فيس (١٧٤٣–١٨١٨)، التي تحولت إلى فيلم شهير.
(٦) تأثير بيلامي
كانت اليوتوبيات العظيمة التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي أعمال الكاتب الأمريكي إدوارد بيلامي (١٨٥٠–١٨٩٨)، والكاتبَين الإنجليزيَّين ويليام موريس (١٨٣٤–١٨٩٦) وإتش جي ويلز (١٨٦٦–١٩٤٦). حققت رواية بيلامي «نظرة إلى الماضي: ٢٠٠٠–١٨٨٧» (١٨٨٨) مبيعات مرتفعة حول العالم، ونتج عنها زيادة كبيرة ومفاجئة في إنتاج اليوتوبيات التي امتدت حتى نشوب الحرب العالمية الأولى. وقعت أحداث يوتوبيا بيلامي في بوسطن، ماساتشوستس، في المستقبل، والتي تطورت إلى مجتمع تم التغلب فيه على العداء بين الرأسماليين والعمال. وعندما أخذت الشركات تكبر وتكبر عن ذي قبل وتحولت إلى شركات احتكارية تتحكم في معظم الاقتصاد تم تأميمها، أو ببساطة استحوذت عليها الدولة، وتحوَّل العمال بها إلى موظفين لدى الدولة، وتنوعت ساعات العمل على أساس ثقل العمل والخطر الذي يكتنفه، وتقاعد الجميع في سن الخامسة والأربعين.
كتب ويليام موريس نقدًا لتلك الرواية استنكر فيه «الحياة الآلية» التي تقدمها، وتأكيدَ الرواية على جعل العمال يطيقون العمل بتخفيض مقدار العمل بدلًا من تخفيض «ألم العمل إلى الحد الأدنى». كتب موريس بعدها رواية «أخبار من لامَكان، أو زمن للراحة» (١٨٩٠)؛ لتصوير مجتمع يؤكد على الحِرف والمجتمع المحلي. وبينما استخدم بيلامي نظامًا سياسيًّا معقدًا، استخدم موريس مقرات المجالس النيابية لتخزين السماد وقال: «لم يعد لدينا ما يمكن أن نطلق عليه سياسة.» كتب بيلامي نقدًا مؤيدًا بشكل عام لرواية موريس، مع أنه قال إنها تحتاج إلى مزيد من التفصيل.
إلا أن أغزر كُتَّاب اليوتوبيا إنتاجًا كان إتش جي ويلز، الذي كتب يوتوبيات إيجابية، وكذلك ديستوبيات. وعلى تنوعها الكبير، كانت لها موضوعات أساسية، أحدها كان الصراع بين الرأسماليين والعمال، وماذا يمكن أن يحدث إن لم يجرِ حل هذا الصراع، وكيف يمكن حلُّه. وأحد الموضوعات الأخرى كان مدى مرغوبية فكرة الحكومة العالمية.
أفضل وصف أُطلق على ويلز أنه يوتوبي متشائم؛ أي رجل يؤمن بإمكانية تحسين حياة البشر على نحو جذري، لكنه يشك في وجود الإرادة اللازمة للقيام بذلك. لم ييأس ويلز قط، لكنه لم يتوقف قط عن الشك أيضًا. تدور أحداث رواية «آلة الزمن» (١٨٩٥)، إحدى روايات ويلز الأولى وأكثرها نجاحًا، في زمن بعيد بالمستقبل؛ حيث لا يزال الصراع دائرًا بين أحفاد الرأسماليين والعمال. وتقع أحداث أغلب ما كتبه من يوتوبيات وديستوبيات في المستقبل الأقرب، وبعضها — لا سيما الديستوبيات — يمكن قراءته بوصفه مراحل نحو المستقبل المصوَّر في «آلة الزمن»، ومع تصاعد الانقسام بين الرأسماليين والعمال أكثر فأكثر. تشير اليوتوبيات التي كتبها ويلز وكثير من كتاباته السياسية غير المتصلة باليوتوبيا إلى طرق يمكن بها تجنب احتمالات المستقبل المظلم. رأى ويلز أن الحل يكمن في استخدام الذكاء، لا سيما الذكاء العلمي، لمعالجة المشاكل الاجتماعية. وفي عمله «يوتوبيا حديثة» (١٩٠٥) يصوِّر جماعة من الرجال والنساء تُعرف بالساموراي، يعيشون وفق ميثاق سلوكي صارم، ومُكرَّسون للخدمة، وقد أسسوا مجتمعًا أفضل كثيرًا وصانوه، وهو المجتمع الذي كان يراه ويلز ممكنًا.
دعا ويلز إلى تكوين مثل هذه الجماعة، التي كثيرًا ما أطلق عليها «المؤامرة المفتوحة»، في كثير من أعماله، وأيد الكثير من صور الإصلاح، بدايةً من تحديد النسل إلى إنشاء موسوعة عالمية؛ لتكون خطوات صغيرة في الاتجاه الصحيح. كان واضحًا إصابة ويلز بالإحباط بسبب عدم تبنِّي أفكاره على نحو واسع، وعمل بجدية لاستمالة الناس لأفكاره ولتطوير التعليم، لا سيما التعليم العلمي، على أمل ظهور مجتمع أفضل تعليميًّا يكون أكثر تقبُّلًا لمقترحاته. إلا أن ويلز معروف أكثر بأعمال الخيال العلمي غير اليوتوبية التي قدمها، وكذلك ديستوبياته وبعض رواياته الهزلية، لا بيوتوبياته وكتاباته السياسية.
(٧) صعود الديستوبيا
مع نشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وظهور وباء الأنفلونزا، وحدوث الكساد العظيم، ونشوب الحرب الكورية، والحرب في فيتنام، وغيرها من أحداث القرن العشرين؛ أصبحت الديستوبيا هي الشكل الغالب من الأدب اليوتوبي. ومع أن كلمة «ديستوبيا» استُخدمت أول مرة في منتصف القرن الثامن عشر، واستخدمها الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل (١٨٠٦–١٨٧٣) في خطاب أمام البرلمان في عام ١٨٦٨، لم يَشِعِ الشكل الأدبي واستخدام الكلمة لوصفه حتى وقت لاحق في القرن العشرين.
في عام ١٨٨٣، صك فرانسيس جالتون (١٨٢٢–١٩١١) مصطلح «تحسين النسل» للإشارة إلى القدرة على إنتاج نسل أفضل، مع التركيز أكثر على البشر لا الحيوانات. نشأت حركةٌ حَمَلَت فكرة تحسين الجنس البشري من خلال الانتخاب الوراثي من أجل اختيار سمات معينة (تحسين النسل الإيجابي)، أو الانتخاب الوراثي من أجل تجنب سمات محددة (تحسين النسل السلبي). كُتب كثير من اليوتوبيات، بما فيها اثنتان لم تُنشرا لجالتون («لا أعرف أين» و«آل دونوهيو من دانو فير»)، تعبر عن تلك الحركة. وكثير من اليوتوبيات، بما فيها عَمَلَا جالتون، التي كانت تؤمن بأن الانتخاب الوراثي وحده لن يكفي لتحقيق الغاية المنشودة؛ كانت معنية بالظروف الاجتماعية التي يُولد الأطفال فيها، وكيفية تربيتهم بالقدر نفسه الذي كانت به معنية بالسمات البدنية والأخلاقية للآباء. أما الأعمال الأخرى، فكان شاغلها الأساسي الانتخاب الوراثي، مع التركيز على تنحية السمات غير المرغوبة؛ بمنع مَن ظهرت عليهم السمات من إنجاب أطفال، أو بإلزام حاملي السمات المرغوبة بالزواج وإنجاب أطفال. نتج عن كلا النَّهجين ديستوبيات؛ إما بسبب الخلافات على السمات المختارة، أو القلق من احتمال إساءة استخدام إمكانية انتقاء السمات.
شاعت دعوات الانتخاب الوراثي على أساس عرقي وعنصري، وطُبقت حيث وجدت القدرة على القيام بذلك. كان أكثر البرامج شهرة هو برنامج ألمانيا تحت حكم النازيين، عندما لم يتم منع حاملي السمات المنشود إقصاؤها من الإنجاب وحسب، بل قتلهم أيضًا. إلا أن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن ألمانيا طبقت أيضًا تحسين النسل الإيجابي؛ إذ خططت لإنتاج أشخاص من حاملي الصفات المرغوبة. نُشرت يوتوبيات في ألمانيا وغيرها من البلاد وصوَّرت المجتمع الأفضل المزمع تكوينه باستخدام هذه البرامج.
نُشر عدد من اليوتوبيات النازية، مثل عمل إرنست بيرجمان «ألمانيا الأرض الثقافية للإنسان الجديد» (١٩٣٣)، لكن كان هناك أيضًا عدد ضخم من الديستوبيات المناهضة لألمانيا وللنازية، من بين أهمها تأثيرًا «ليلة الصليب المعقوف» (١٩٣٧)، للكاتبة كاثرين بوردكين (١٨٩٦–١٩٦٣)، التي كانت تُكتب تحت اسم موراي قسطنطين.
الفترة نفسها التي أفرزت الكثير من الديستوبيات المناهضة لألمانيا والمناهضة للاتحاد السوفييتي، شهدت أيضًا نشر ثلاثة أعمال بارزة؛ وهي: رواية «نحن»، للكاتب الروسي يفجيني زامياتين (١٨٨٤–١٩٣٧)، المكتوبة بالروسية في عام ١٩٢٠، لكنها نُشرت بالإنجليزية لأول مرة في عام ١٩٢٤، ورواية «عالم جديد رائع» (١٩٣٢)، للكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي (١٨٩٤–١٩٦٣)، ورواية الكاتب الإنجليزي جورج أورويل (١٩٠٣–١٩٥٠) — الذي وُلد حاملًا اسم إريك بلير — «ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون» (١٩٤٩)، والتي أصر أورويل على كتابة عنوانها بالحروف لا بالأرقام. ومع أن الأعمال الثلاثة كانت تتحدث عن إساءة استخدام السلطة، فإن كلًّا منها عمَلٌ معقد، متعدد الجوانب، ذو شواغل متنوعة، وجميعها يهاجم الرأسمالية بالقدر الذي يهاجم به الشيوعية. وهي تصور المحاولات الفاشلة جزئيًّا للتحكم في قوة الرغبة الجنسية؛ فرواية «نحن» تسمح بالعلاقات الجنسية على نحوٍ المقصود منه الوفاء بالاحتياجات الفردية، ورواية «عالم جديد رائع» تبيح العلاقات الجنسية دون قيود، أما رواية «ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون» فتفرض قيودًا صارمة على الجنس. وتتضمن الأعمال الثلاثة الإشارة إلى أن تلك المسألة قد لا يتمكن حتى أي نظام شمولي من التحكم بها.
كتب هكسلي في رواية «إعادة زيارة عالم جديد رائع» (١٩٥٨) أنه ببساطة تخيل أشياء مستقبلية كان قد لاحظها في وقت كتابة الرواية، وأنها أثارت قلقه، وأنه بعد مضي ٢٥ عامًا بدا أن المستقبل الذي صوَّره في رواية «عالم جديد رائع» كان يقترب أسرع كثيرًا مما توقَّع في ثلاثينيات القرن العشرين، كما كتب أنه لو قُدر له إعادة كتابة «عالم جديد رائع»، لكان سيقدم بديلًا أكثر إيجابية. وقد قام بذلك بالفعل في اليوتوبيا التي كتبها تحت عنوان «الجزيرة» (١٩٦٢) التي تصوِّر مجتمعًا صالحًا تتحول فيه الإباحية الجنسية إلى حرية جنسية، مع التأكيد على فكرة الحب، مع الاستعاضة عن عقار «سوما» المستخدم في رواية «عالم جديد رائع» للهروب من المشاكل، ﺑ «دواء موكشا» (الشبيه بنبات البيوط المستخرج منه مادة الميسكالين المهلوسة، أو عقار الهلوسة) المفضي إلى التنوير، كما تحولت السلبيات الأخرى في رواية «عالم جديد رائع» إلى إيجابيات، على الأقل جزئيًّا من خلال قوة الدين. لكن في النهاية يدمِّر العالم الخارجي اليوتوبيا؛ لأنها تمتلك نفطًا.
أصبح تصور هكسلي للاتجاهات المستقبلية التي رآها في زمانه أو استقراؤه لها المعيارَ للديستوبيات. ومع أن الديستوبيات تختلف عادةً عن اليوتوبيات في عدم وصفها من قِبل زائر خارجي، بل يتم وصفها من الداخل، فهي مرتبطة بوضوح بالحاضر الذي كُتبت فيه. وهكذا، فإنها تقدم رسالة إيجابية على نحو واضح إلى جانب رسالتها السلبية. فهي تقول، كما كان يقول إتش جي ويلز على الدوام، إن هذا ما سيحدث إن لم نتخذ الإجراءات اللازمة، لكن إن اتخذنا الإجراءات اللازمة، يمكننا تجنب هذا المستقبل. توقَّفَ أغلبُ كاتبي الديستوبيات عند هذه النقطة، وهي تقديم جرس إنذار، لكن ويلز بذل مجهودًا أكبر في توضيح ما رأى أنه من الضروري عمله وكيفية القيام به.
رغم أن الديستوبيا أصبحت الشكل الأدبي المهيمن في القرن العشرين، فإنها لم تزحزح اليوتوبيا من موقعها، وفي الوقت الذي كانت تُنشر فيه ديستوبيات النصف الأول من القرن العشرين العظيمة، كانت هناك يوتوبيات كثيرة منشورة، وازدهرت الحركات اليوتوبية لا سيما إبان كساد ثلاثينيات القرن العشرين. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، جمع الروائي أبتون سنكلير (١٨٧٨–١٩٦٨) بين الاثنين فكتب عددًا من اليوتوبيات، مثل «نحن، شعب أمريكا وكيف أنهينا الفقر» (١٩٣٥)، وتَرشَّح لمنصب حاكم كاليفورنيا ببرنامج اسمه «إنهاء الفقر في كاليفورنيا». كما أن حركة التكنوقراط التي اقترحت إحلال المهندسين والعلماء محل الساسة تمخض عنها عدد من اليوتوبيات، لا سيما «الحياة في ظل تكنوقراط» (١٩٣٣)، لصاحبها هارولد لوب (١٨٩١–١٩٧٤). نشأت حركات مشابهة أخرى في أغلب البلدان التي كانت تواجهها المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بذلك الوقت. ومع تنامي الخوف من إمكانية نشوب حرب أكثر وأكثر، هيمنت الديستوبيا على المشهد حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وفي بريطانيا، إبان الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة، تنبَّأت أعمال مثل مسرحية «نزلوا مدينة» (١٩٤٤)، للكاتب جيه بي بريستلي (١٨٩٤–١٩٨٤)، و«مغامرات الجندي الشاب بحثًا عن العالم الأفضل» (١٩٤٣)، لسي إي إم جود (١٨٩١–١٩٥٣)، بالمجتمع الأفضل الذي يمكن خلقه بعد تحقيق النصر. وبعد فوز حزب العمال بانتخابات عام ١٩٤٥، هاجمت كتبٌ مثل «ما رآه فارر» (١٩٤٦)، لجيمس هانلي (١٩٠١–١٩٨٥)، و«دولة الممتنعين عن الشراب» (١٩٤٧)، لسومرست دي تشير (١٩١١–١٩٩٥)، سياساتِ حزب العمال.
(٨) حقبة «الستينيات»
رغم أن هناك يوتوبيات نُشرت خلال الفترة التي هيمنت فيها الديستوبيات، فلم يلاحظها أحد حتى الصعود المفاجئ لليوتوبية فيما يعرف بحقبة «الستينيات» (تتنوع التواريخ الفعلية من بلد لبلد). انتقل جانب كبير من الدافع اليوتوبي في تلك الفترة إلى الشوارع، وأدى — على سبيل المثال — إلى انتفاضة عام ١٩٦٨ في تشيكوسلوفاكيا، واحتجاجات عام ١٩٦٨ في باريس، التي حملت رسالة يوتوبية واضحة؛ وهي «كن واقعيًّا واطلب المستحيل»، وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، تأسس الكثير من المجتمعات المقصودة المعروفة آنذاك عالميًّا باسم الكوميونات، ولا يزال الكثير منها موجودًا بعد مضي أكثر من ٤٠ عامًا. ازدهر الأدب اليوتوبي، لكنه كان أدبًا مختلفًا؛ أدبًا أدرك أن إقامة مجتمع أفضل لن تكون مهمة سهلة. والمجتمعات التي ظهرت في هذا الأدب سكنها رجال ونساء لديهم نقاط قوة وضعف بشرية حقيقية، بل إن المجتمعات الأفضل كثيرًا كانت تعاني من مشاكل، بل ومشاكل خطيرة. وحملت رواية «المسلوب» (١٩٧٤)، لأورسولا كيه لي جوين (المولودة في عام ١٩٢٩)، العنوان الفرعي «يوتوبيا غامضة»؛ وهذا العنوان الفرعي يتناسب مع الكثير من الأعمال الأخرى المنشورة في تلك الفترة. أطلق الباحث الأدبي توم مويلان (المولود عام ١٩٤٣) على هذه الأعمال «اليوتوبيات النقدية»، وأطلقت عليها المنظِّرة السياسية لوسي سارجيسون (المولودة في عام ١٩٦٤)، مُركِّزةً على اليوتوبية النسوية، «اليوتوبيات المتجاوزة»، وأنا أطلق على بعضها «اليوتوبيات المعيبة» لتوضيح الطريقة التي يعرض بها بعض المؤلفين، مثل أورسولا كيه لي جوين في روايتها «الخارجون من أوميلاس» (١٩٧٣)، ما يبدو أنه يوتوبيا، لكنه في الحقيقة قد يكون ديستوبيا.
كانت اليوتوبيا النسوية أهم الروافد التي خرجت من يوتوبية حقبة الستينيات، وتمخض عنها أغلب روايات تلك الحقبة التي لا تزال تُقرأ حتى الآن. وفي عام ١٩٧٢، نشرت جوانا روس (المولودة ١٩٣٧) مقالة بعنوان «ماذا بوسع البطلة أن تفعل؟ أو لِمَ لا تستطيع النساء الكتابة؟» تقول فيها إن المجتمعات المعاصرة تميِّز على أساس النوع لدرجة أنه لن يمكن إنتاج شخصيات نسائية ناضجة بالكامل إلا بخلق عوالم جديدة. وكانت اليوتوبية النسوية جزءًا مهمًّا من الحركة النسوية. ضمَّت أشهَر اليوتوبيات النسوية رواية «الرجل الأنثوي» (١٩٧٥) لجوانا روس، ورواية «امرأة على هامش الزمن» (١٩٧٦) لمارج بيرسي (المولودة عام ١٩٣٦)، وعددًا من القصص القصيرة لأليس برادلي شيلدون (١٩١٥–١٩٨٧)، التي كانت تكتب تحت اسم جيمس تيبتري الابن، مثل «هيوستن هيوستن، هل تتلقون بثي؟» (١٩٧٦).
(٩) اليوتوبيا اليوم
كانت سمات اليوتوبية في حقبة الستينيات جزءًا من التغييرات الطويلة الأمد التي حدثت في المجتمعات الغربية، لكن كانت هناك حركة رجعية ضد هذه التغييرات. ومع استمرار نشر اليوتوبيات، عاد الأدب اليوتوبي في الأغلب إلى الديستوبيات. وباستثناء يوتوبيات المثليات، اختفت اليوتوبيات النسوية تقريبًا في تسعينيات القرن العشرين، رغم أنه حدث إحياء لها من جديد منذ عام ٢٠٠٠. كان الاستثناء الكبير للعودة إلى الديستوبيا هو ظهور اليوتوبيات البيئية، فبالتأكيد صوَّر عدد كبير من الديستوبيات مخاوف حدوث انهيار بيئي بالمستقبل، إلا أن كيم ستانلي روبنسون (المولود عام ١٩٥٢) وآخرين نشروا يوتوبيات بيئية مهمة؛ فقد نشر روبنسون ثلاثيتين تدوران حول موضوعات بيئية: ثلاثية «المريخ» (التي ظهرت أجزاؤها في أعوام ١٩٩٢، و١٩٩٣، و١٩٩٦) وثلاثية تدور حول التغير المناخي/الاحترار العالمي يصوِّر الكتاب الأول منها، «علامات المطر الأربعون» (٢٠٠٤)، ديستوبيا نتجت عن فشل الساسة في التعامل مع مشكلة الاحترار العالمي، في حين يصور الكتابان الآخران، «خمسون درجة أقل» (٢٠٠٥) و«ستون يومًا ويزيد» (٢٠٠٧)، حدوث تغيير في السياسة والنتائج الإيجابية التي ترتبت عليه في النهاية. واليوم، يُعَد النوع الأدبي الفرعي المسمى الإيكوتوبيا أو اليوتوبيا البيئية — والذي سُمي بهذا الاسم على اسم رواية إرنست كالينباخ (المولود عام ١٩٢٨)، الصادرة عام ١٩٧٥ — أقوى تيار يوتوبي، والكثير من اليوتوبيات البيئية نسوية أيضًا؛ ومن ثمَّ فإن أقوى تيارين في الخمسين عامًا الأخيرة كثيرًا ما يجتمعان معًا الآن. على سبيل المثال، روايات سالي ميلر جيرهارت (المولودة عام ١٩٣١) مثل «أرض الطواف: قصص نساء الجبل» (١٩٧٨) و«القائدة» (٢٠٠٣) تجمع بين المنظورين النسوي والبيئي.
إن الأدب اليوتوبي يتغير باستمرار مُكْتَسِبًا أشكالًا جديدة. واليوم أغلبه معقد أو مبهم، يقدم مجتمعات أفضل لكنها معيبة، أو مجتمعات أسوأ لا تزال تحتفظ بشيء طيب فيها. هناك تغير حديث يتمثل في انتقال اليوتوبيات إلى الإنترنت والناشرين الذين يستخدمون أسلوب النشر عند الطلب (ظهر هذا التغير في الشكل السابق لطريقة النشر هذه، والمتمثل في نشر الأعمال على نفقة المؤلف). وأغلب الأعمال المنشورة على الإنترنت أو التي يتم الحصول عليها باستخدام أسلوب النشر عند الطلب يزيد احتمال قراءتها، مثل بعض اليوتوبيات القديمة، والتي تحمل إجابات موحدة بسيطة تناسب جميع الأسئلة المعقدة، لكن بعضها، مثل «الوعي باليوتوبيا» (٢٠٠٢) لميريت أبراش (المولود عام ١٩٣٠)، معقد مثل الأعمال المعاصرة الأخرى. وقد أدت هذه الأشكال من النشر إلى نمو الأدب اليوتوبي في الوقت الحاضر، لكن كما هو الحال مع الكثير من اليوتوبيات في الماضي، فإن الكثير منها لا يُقرأ مما يصيب كاتبيها بالإحباط.