اليوتوبية في الثقافات الأخرى
القاطنون بالجزيرة الشمالية «… لا يقومون بالزراعة أو أي فن أو حرفة أخرى. تنمو شجرة اسمها باديسا في تلك الجزيرة الغنية ولا تتدلى منها ثمار، بل أقمشة فاخرة من شتى الألوان يأخذ منها أهل الجزيرة ما يشاءون. وبالمثل، لا حاجة لهم لزراعة الأرض أو حرثها أو جني ثمارها، ولا يصطادون السمك أو الحيوانات؛ لأن الشجرة نفسها تثمر لهم على نحو تلقائي نوعًا فاخرًا من الأرز لا تغلفه قشرة. ومتى يشتهوا الغذاء، فما عليهم سوى وضع الأرز على حجر معين كبير، ومنه يتقد لهب في الحال يطهو لهم طعامهم ثم ينطفئ من تلقاء نفسه. وبينما يتناولون أرزهم تتدلى من أوراق بعض الأشجار مختلف أنواع اللحوم المنتقاة المطهية لهم، فيأخذون منها كما يشاءون، وما يتفضل من طعامهم يختفي على الفور.»
في بلد صغير يسكنه عدد قليل من الناس، بإمكان الحكيم أن يكون السبب في عزوف الناس عن استخدام الأدوات التي تسهِّل لهم العمل على نحو كبير. بإمكانه أن يجعل الناس مستعدين للموت فداءً لوطنهم بدلًا من الهجرة منها. قد تكون المراكب راسية والعربات الحربية منتظرة، لكن لن يعتليها أحد. ربما تكون أسلحة الحرب موجودة، لكن لن يتمرن أحد على استخدامها. بإمكانه أن يتسبب في «عودة الناس (من الكتابة) إلى عُقد الحبال وقناعتهم بطعامهم، وسرورهم بملبسهم، ورضاهم عن منازلهم، وسعادتهم بعملهم وعاداتهم. سيكون البلد المجاور قريبًا لدرجةِ أن تسمع صياح الديوك ونباح الكلاب هناك، لكن سيكبر الناس ويموتون دون أن يفكروا ولو مرة واحدة في الذهاب إلى هذا البلد.»
يذهب كريشان كومار، صاحب كتاب «اليوتوبيا والديستوبيا في العصر الحديث» (١٩٨٧)، إلى أن اليوتوبيا ظاهرة وجدت في الغرب، وأنها نشأت من المسيحية، وأن أي يوتوبيات غير غربية ظهرت كانت نتيجة الاتصال باليوتوبيات الغربية. واليوم يختلف أغلب الباحثين مع ذلك ويذهبون إلى أن اليوتوبيات ظهرت في أغلب الثقافات، مشيرين إلى الصين البوذية والكونفوشيوسية والطاوية، والهند البوذية والهندوسية، والبلدان الإسلامية بالشرق الأوسط، ودول جنوب شرق آسيا البوذية، واليابان البوذية والشنتوية.
ابتكر توماس مور ضربًا من ضروب الأدب، لكن ثمة نصوصًا عديدة ظهرت في الغرب وخارجه تسبق «يوتوبيا» مور تصف مجتمعًا غير موجود يتفوق في جوانب محددة على المجتمع المعاصر. ويتضح أن التقاليد اليوتوبية التي تسبق عمل مور كانت موجودة خارج الغرب. وعقب الاتصال باليوتوبية الغربية، بدأت كل هذه التقاليد، إضافة إلى ثقافات أفريقيا، تفرز يوتوبيات باستخدام النموذج الذي وضعه مور بعد تعديله ليتوافق مع ظروفها؛ نتيجة لذلك، تتناول يوتوبياتها قضاياها الخاصة التي غالبًا ما تختلف اختلافًا جمًّا من حيث الشكل والمحتوى عن اليوتوبيات التي كُتبت في الغرب بعد عام ١٥١٦.
وكما يتضح من الاقتباسَين الموجودَين في صدر الفصل، ورغم وجود اختلافات مهمة بين الثقافات، فثمة أوجه تشابه بين الأساطير الخاصة بها. ثمة شكلان شائعان لليوتوبيا لهما نظير في الغرب وموجودان بأغلب الثقافات: مجتمع نموذجي في الماضي، وصورة ما من الجنة. على وجه الخصوص، شاعت فكرة وجود حقبة يوتوبية في الماضي وكانت محورية في الاتجاه اليوتوبي بأغلب الثقافات؛ ففي بورما، قبل أن تصبح ميانمار، احتوى الدستور والنظام القانوني على مقدمات تربط بوضوح القوانين الحديثة باليوتوبيا التي يُعتقد أنها كانت موجودة في الماضي. وهكذا، ظل الماضي اليوتوبي في بورما معيارًا للحياة حتى نهاية القرن العشرين.
أكبر فارق بين الماضي اليوتوبي المسيحي المتمثل في جنة عدن وغيرها من الأساطير هو عدم وجود خروج من الجنة. دائمًا هناك تفسيرٌ ما لانتهاء الماضي اليوتوبي، لكن ليس الانفصال التام عنه الذي يمثله الخروج من الجنة؛ ونتيجة لذلك، فاليوتوبية ليست هرطقة. كما تختلف الأساطير الأخرى عن أسطورة العصر الذهبي الإغريقية في أن الأسطورة الإغريقية يوجد بها سلسلة من عمليات الخلق المنفصلة التي أدت إلى تكوين حاضر غير يوتوبي، في حين أنه لا توجد عمليات خلق منفصلة في الثقافات الأخرى أو انفصال تام؛ وهذا يعني أن الماضي اليوتوبي لم يُفقد بالضرورة، ويمكن استخدامه نموذجًا للمستقبل. وهذا مهم — بوجه خاص — في الصين؛ بسبب الاعتقاد بأن كلًّا من اليوتوبيا الكونفوشيوسية واليوتوبيا الطاوية كانتا موجودتين بالفعل في الماضي، وأنهما من ثَمَّ يمكن أن توجدا مجددًا إذا فُهمت — على نحو صحيح — المبادئ التي قامتا عليها، وطُبقت على أرض الواقع.
(١) الصين
إن اليوتوبية الصينية هي الأشهر من بين التقاليد اليوتوبية التي ظهرت خارج الغرب، ولها جذور في الكونفوشيوسية والطاوية والبوذية، والكونفوشيوسية الجديدة، ومجموعات منشقة شتى، وذلك في شكلٍ أكثر قبولًا. ذاع صيت الأدب اليوتوبي الصيني في القرنين التاسع عشر والعشرين رغم ظهوره قبل ذلك، في حين ازدهر الأدب الديستوبي الصيني في القرن العشرين. وكان هناك عنصر يوتوبي قوي في شيوعية ماو تسي تونج، رغم أن نتيجة سياسات ماو كانت ديستوبية بالنسبة لكثيرين.
واختلفت اليوتوبية الكونفوشيوسية والطاوية والبوذية المبكرة في أن اليوتوبيا الطاوية، التي غالبًا ما يُطلق عليها «السلام العظيم»، كانت معارضة في البداية للحكومة بأشكالها كافة، ويمكن أن نَصِفَها بأنها لا سلطوية، واليوم، كثيرًا ما توصف الطاوية بأنها لا سلطوية. التقاليد الثلاثة جميعها تستلهم فترةً ما في الماضي عندما لم تكن وظيفة الحاكم ضرورية وعاش الناس ببساطة في تناغم مع الطبيعة. وتغيرت هذه اليوتوبيا تدريجيًّا لتركِّز على الحاجة إلى رجال حكماء لتقديم النصح والتوجيه. والكونفوشيوسيون خاصةً دائمًا ما ينظرون لتلك الفترة من الماضي بوصفها مثلًا أعلى ينبغي خلقه مجددًا في الحاضر. ومن أهم عناصر اليوتوبيا الكونفوشيوسية وجود تركيز على التطوير الذاتي، وهذا التركيز والاهتمام بالرجال الحكماء كانا أساسين للدور الذي لعبه التعليم في المجتمع الصيني باعتباره وسيلة أساسية للارتقاء المجتمعي (رغم أن الاهتمام بالحكمة حل محله القدرة على اجتياز الاختبارات).
ثمة طرح يوتوبي مبكر آخر تمثل في نظام زراعي طرح فكرة التقسيم المتساوي للأرض، وقد قُدِّم على أنه كان موجودًا في الماضي، وأنه يمكن تطبيقه مجددًا. والفكرة تكمن في أنه إذا كان كل شخص يمتلك قطعة أرض، فهو قادر على إعالة نفسه. ربما لم يوجد هذا النظام في الماضي، إلا أنه طُرح على نحو جدي باعتباره أسلوبًا يمكن تطبيقه فيما بين نهاية فترةِ ما قبل الميلاد وبداية فترةِ ما بعد الميلاد.
يضم «كتاب الشعر» — وهو أول سجل للأدب الصيني — قصيدةً، يُطلق عليها بوجه عام «الفأر الكبير»، تشير إلى أن الناس سيتمكنون من إيجاد مكان أفضل يعيشون فيه بدلًا من المكان الذي يعيشون به الآن، إلا أن اليوتوبيا الصينية الكلاسيكية هي «أرض أزهار الخوخ» لصاحبها تاو يوان مينج (٣٦٥–٤٢٧). وفي أحداث هذه القصة، يقصد صيادُ سمك ذات يوم جدولًا لم يقصده من قبل، ويصادف بستان خوخ مثمرًا على ضفتَي الجدول. وإذ أعجبه بشدةٍ جمالُ البستان، أخذ يخوض الجدول حتى وصل إلى كهف صغير ينبع منه الجدول. دلف إلى الكهف بصعوبة عبر فتحة صغيرة ليجد نفسه في سهل واسع تتناثر فيه منازل بسيطة وحقول وبرك بديعة، وكانت السعادة باديةً بوضوح على جميع السكان الذين شاهدهم، فأنزلوه منازلهم وأطعموه وأخبروه أنهم هربوا من الاضطرابات التي سادت في عهد أسرة تشين القديمة، قبل أحداث القصة بنحو ٦٠٠ عام، وأن أجدادهم استقروا بهذا المكان المنعزل وقطعوا كل صلة لهم بالعالم الخارجي. بعد مكوثه معهم لبضعة أيام، اختار الصياد المغادرة، وطلبوا منه حينها ألَّا يُطلع أحدًا بالخارج على أمر هذا المكان. وعندما عاد لوطنه، أبلغ السلطات عن المكان، لكن لم يتمكن أحد قط من العثور عليه.
كان للقصة تأثير على الأدب الصيني الذي ظهر بعدها، وأُعيد إنتاجها في اليابان، وكانت الكلمة اليابانية المقابلة ﻟ «أرض أزهار الخوخ» هي «شانجري-لا». وفي الصين، استخدم كتابٌ صدر في القرن الثامن، بعنوان «كوانج-إي تشي»، نهجًا مماثلًا لوصف زيارات لأرض يسكنها الخالدون من الطاويين، ومجموعة من النساء اللائي هربن من العمل القسري المضني في بناء سور الصين العظيم، واللائي أسسن مجتمعًا يوتوبيًّا في وادٍ معزول حيث أَمْسَيْنَ خالدات.
تطور الأدب اليوتوبي الصيني في القرن الثامن عشر، وكان أشهر أعماله «أزهار بالمرآة» (١٨٢٨)، لصاحبه لي جو-تشين (١٧٦٠؟–١٨٣٠؟). ويشبه هذا الكتاب إلى حدٍّ ما رواية «رحلات جاليفر»؛ لأنه عرض لرحلات لعدد من البلاد، مثل «تشان-تسو كو»، أو بلد النبلاء، و«تا-جين كو»، أو بلد العظماء، لكن الرحلة التي حظيتْ بأكبر اهتمام هي الرحلة إلى «نو-إير كو»، أو بلد النساء؛ حيث تتقلد النساء مقاليد السلطة كلها، ويتلقين القدر من التعليم الذي يحظى به الرجال في أي مكان آخر. وفي حين يمكن اعتبار «بلد النساء» إقرارًا مبكرًا بحقوق المرأة، فلم تُنشر يوتوبيات نسوية في الصين حتى القرن العشرين.
في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ركزت اليوتوبيات الصينية في معظمها على ضرورة تبنِّي التكنولوجيا الغربية، مع الإبقاء على المنظومة الأخلاقية الصينية للتخفيف من وطأة تلك التكنولوجيا، وفي القرن العشرين تم إنتاج ديستوبيات ترفض التكنولوجيا الغربية. وكتب الفيلسوف الاجتماعي كانج يو-واي (١٨٥٨–١٩٢٧) عددًا من الأعمال اليوتوبية يقبل فيها التكنولوجيا الغربية ويعرض لدولة عالمية ديمقراطية تقوم على مساواة واسعة النطاق. وهذه الدولة لها برلمان عالمي يقوم، من بين مهامه التشريعية المعتادة، باستحداث لغة عالمية، والإشراف على الخفض التدريجي في حجم الجيوش في جميع أنحاء العالم. وستُلغى الرأسمالية، وجميع الملكيات الخاصة. وأكدت يوتوبيا كانج على ضرورة تغيير وضع المرأة؛ الأمر الذي سيقتضي، من بين جملة أشياء أخرى، السماح بالطلاق وابتكار عقود زواج محددة الأجل بين الرجال والنساء.
في القرن العشرين، قدم عدد من الكتَّاب دساتير نموذجية لصين تقوم في المستقبل، مثل «مستقبل الصين الجديدة» (١٩٠٢) لصاحبه ليانج تشي-تشاو (١٨٧٣–١٩٢٩)، و«زئير الأسود» (١٩٠٥-١٩٠٦) لصاحبه تشين تيان-وا؛ والكتَاب المجهول الصاحب «روح الدستور» (١٩٠٧). وفي صين القرن العشرين، كان ماو تسي تونج يوتوبيًّا بجلاء في رغبته في تحويل المجتمع الصيني على غرار رؤيته له، ويمكن القول بأن شيوعية ماو كانت ماركسية ولها أصول في الكونفوشيوسية.
(٢) الهند
تشير النصوص الأساسية للديانات الهندية التقليدية إلى عصر ذهبي في الماضي، وتتتبع التغيرات والسقطات التدريجية في السلوك الإنساني التي تؤدي إلى نمو الخلافات الاجتماعية وضرورة وجود الحاكم. وتلك الأوصاف لحقب ساد فيها السلام والازدهار في الماضي، رغم اشتمالها على عناصر فانتازيا مثل المحاصيل الدائمة التجدد، أساسية في الحركات الدينية والاجتماعية والسياسية اليوم.
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، نُشرت أعمال يوتوبية لكاتبين هنديين، وهما الكاتب الهندوسي هارا براساد شاستري (١٨٥٣–١٩٣١)، والكاتبة المسلمة رقية شوكت حسين (١٨٨٠–١٩٣٢). على الأرجح، نُشر عمل شاستري «انتصار فالميكي» في نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر أو بداية ثمانينيات القرن نفسه، ونُشر بالإنجليزية في عام ١٩٠٩، ويصور الجنة الهندوسية على الأرض بوصفها يوتوبيا حديثة. وكَتبت رقية عملها «حلم السلطانة» (١٩٠٥) ونشرته باللغة الإنجليزية. أما عملها «الياقوت» (١٩٢٤)، فكتبته ونشرته باللغة البنغالية. وكِلا العملين يوتوبيا نسوية. ويصف «حلم السلطانة» أرض النساء، وهي بلد تقطنه النساء، وأما «الياقوت»، الذي يركِّز على نحو أساسي على الأوضاع الفظيعة للمرأة الهندية في ذاك الوقت، فيصف مجتمعًا من النساء يقدِّم مدرسة للبنات، ومأوًى للنساء اللاتي تمت إساءة معاملتهن، ومشفًى للمرضى من النساء. وأسست رقية مدرسة للبنات عام ١٩١٠ لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.
كان موهانداس كيه غاندي (١٨٦٩–١٩٤٨) يوتوبيًّا، واستخدم مفهوم «راماراجا» الهندوسي، أو حكم راما، أو العصر الذهبي باعتباره وسيلة لإيصال أفكاره. حدد غاندي ما كان يؤمن أنه هيكل الحضارة الهندية القديمة ليكون أساس اليوتوبيا التي أمل في تحقيقها في الهند الحديثة.
فاضَل غاندي على نحو مباشر بين رؤيته للماضي/المستقبل وبين الديستوبيا، الرأسمالية والاشتراكية، التي شاهدها في الغرب المادي التنافسي؛ لأنه، بالنسبة لغاندي، يجب أن يتم تأسيس اليوتوبيا على الروحانية. كان المزمع أن تقوم يوتوبيا غاندي على مجتمعات صغيرة سيؤدي فيها كلٌّ من المجموعات أو الطبقات الرئيسية بالمجتمع الهندي دورها المحدد بالتعاون مع جميع المجموعات الأخرى. وسيحكم هذا المجتمع الصغير كبار القرى، البنتشايت، ويمثلون المجتمع بأسره. وتمثلت أكثر مراجعات غاندي الجذرية لهذا الهيكل التعاوني في أنه سيضم الداليت، أو طبقة المنبوذين، ولن يستثنيها، وسيحظى هؤلاء بمقاعد في البرلمان بحسب الدستور، وستكون الحياة بسيطة، وسيتعاون الكل في إنتاجِ ما يحتاجونه. واشتُهر عن غاندي نفسه أنه كان ينسج القماش.
أول المبادئ التي قامت عليها يوتوبيا غاندي هو «سواراج»، أو ضبط النفس/الانضباط الفردي، وتُحقِّقه الأمة بالقدر الذي يحققه مواطنوها. والمبدأ الثاني هو «أهيمسا»، أو احترام الحياة، والثالث «ساتيا جراها»، أو قوة الحقيقة، والتي كان يعني بها غاندي الممارسة الإيجابية للَّاعنف. ورابعها اشتراكية دون اختلافات طبقية. وفي ذلك كان غاندي سبَّاقًا على المنظرين الاشتراكيين مثل ليوبولد سيدار سنجور (١٩٠٦–٢٠٠١) من السنغال، وجوليوس كيه نيريري (١٩٢٢–١٩٩٩) من تنزانيا، وأو نو (١٩٠٧–١٩٩٥) من بورما. وقد كان فينوبا بهافي (١٨٩٥–١٩٨٢)، تابع غاندي، صاحب النسخة الهندية منها.
واليوم، توجد بالهند حركة يوتوبية قريبة من مراكز السلطة السياسية. وترغب حركة هندوتفا في القضاء على التعددية الدينية بالهند، وإقامة الهند — أو بحسب تعبير الحركة: إعادة إقامتها — لتكون أمة هندوسية بالكامل. والمستهدفون من تلك الحركة هم المسلمون والمسيحيون، وقد استخدمت السلطة القانونية والسياسية إضافة إلى العنف ضد هذين الهدفين.
(٣) اليابان
ثمة خلاف حقيقي حول وجود يوتوبية يابانية أصلية. والأساطير اليابانية إما تضم يوتوبيات وإما لا. وإن كانت تضمها، كانت اليوتوبيا إما مستعارة من الصين وإما لا. والجدل مستمر حتى يومنا هذا حول إن كانت اليوتوبيات اليابانية مقلدة على نحو كبير أو أصلية مبتكرة.
والإجابة على هذه الإشكالية، كما هو الحال في كثير من الأحيان، موجودة بين طرفي النقيض. ثمة تقليد يوتوبي ياباني قوي، بعضه تأثر تأثرًا عميقًا بالصين وفيما بعدُ بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن قدرًا كبيرًا منه قد دخلت عليه تعديلات جذرية كي يتناسب والوضع الياباني. على سبيل المثال، لم تكن أول ترجمة يابانية ﻟ «يوتوبيا» توماس مور تحت اسم «عن الحكم الرشيد» (١٨٩٢) — في الواقع — ترجمةً، بل مواءمة لتناسب اليابان، الهدف منها حث اليابانيين على إحداث تغيير اجتماعي.
وكلمة يوتوبيا في اليابانية هي ريسو-كيو، المشتقة من كلمة طوكويو؛ أي عالم موجود للأبد. واستخدمت كلمة طوكويو قديمًا في القرن الثامن لوصف العالم الطاوي المكوَّن من خالدين، والذي يُعدُّ في التقليدَين الصيني والياباني كيوتوبيا. وتشير «طوكويو نو كوني» (البلد الخالد) إلى الجزء الخامس من كون الشنتو الذي يقع بين البحار، وهو مكان يوتوبي. وثمة تقليد ياباني يقوم على التطلع إلى الماضي بحثًا عن يوتوبيا على أمل خلقها مجددًا في المستقبل.
تأثرت اليابان تأثرًا عميقًا بالبوذية وكذلك الطاوية، لكن دخلت تعديلات على كلتيهما باليابان؛ فقد أُدمجت مظاهر معينة من الطاوية في عقيدة الشنتو، واستحدثت اليابان نسختها من البوذية؛ بوذية الزن، التي كان لها تأثير كبير على الغرب في وقت لاحق؛ حيث تُعتبر أكثر أشكال البوذية تطورًا. وغالبًا ما يجري تمثيل روح الزن في الغرب بالتقشف والبساطة اللذين تتمتع بهما حديقة حجرية. وتقول سوزان جيه نابير، الباحثة في الأدب الياباني بجامعة تافتس إنه توجد يوتوبيا جمالية يابانية تقليدية، وهي التي يمكن العثور عليها في ذاك العمل الكلاسيكي من الأدب الياباني «قصة جنجي» (القرن الحادي عشر). بينما ذهب آخرون إلى أن فن اليوكيو الياباني يمكن اعتباره يوتوبيا جمالية تصوِّر المتع العابرة والجمال الزائل.
وفي الوقت نفسه، يمكن إيجاد بوذية أكثر تقليدية في الجنات البوذية اليابانية، التي تضم مدنًا غاية في التعقيد. ويقوم قاسم من البوذية اليابانية، مثل قاسم من البوذية الهندية والصينية، على ترقب ميروكو أو مايتريا؛ بوذا المستقبلي الذي سيأتي في زمن معين بالمستقبل ليحيي البوذية من جديد.
ثمة قصة شهيرة، بعنوان «قصة قاطع البامبو»، تعود إلى نهاية القرن التاسع أو بداية القرن العاشر، وفيها يأتي زائر من القمر ويكافئ أحد البشر على مساعدته له، وهي تُعتبر يوتوبيا يابانية مبكرة. إلا أن أشهر اليوتوبيات اليابانية المبكرة هي أعمال تأثرت ﺑ «أرض أزهار الخوخ»، التي جرت ملاءمتها قليلًا لتتناسب مع اليابان. على سبيل المثال، في «قصة أوراشيما تارو»، ينقذ ابنُ صيادِ سمكٍ سلحفاةً من الأولاد الآخرين ويُكافأ برحلة إلى عالم شبيه بالفردوس. وبعد عودته، يكتشف أنه غاب لوقت طويل للغاية وليس لبضعة أيام، وتلك سمة معتادة في مثل تلك القصص بأغلب الثقافات.
ثمة أساطير يابانية تقليدية ذات محتوًى يوتوبي، وعلى الأقل بضع قصص يابانية قديمة احتوت على بعض المحتوى اليوتوبي، وكلتاهما مستمدتان من مصادر صينية ولكن جرى تعديلها باليابان. لكن أغلب اليوتوبيات اليابانية جرى نشرها بعد الاتصال بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ولم يظهر الأدب الياباني اليوتوبي سريعًا. وفي القرن السابع عشر، كان هناك عمل قصير لإيهارا سايكاكو (١٦٤٢–١٦٩٣) اسمه «حياة رجل عاشق» (١٦٨٢) يصوِّر في أغلبه مجموعة من الرجال يعيشون من أجل المتعة فقط، لكن ينتهي بهم الحال وهم يبحثون عن «جزيرة نيوجو»، وهي جزيرة منعزلة تقطنها النساء القويات فقط. في القرن الثامن عشر، كانت هناك فانتازيات شتى عن السفر والرحلات، بما فيها واحدة على الأقل تقوم على رواية «رحلات جاليفر» لسويفت. وضمَّن أندو شويكي (١٧٠١–١٧٥٨) جزءًا في عمله «شيزن شينايدو» (١٧٧٥) يوتوبيا بسيطة، وطبيعية، وذات اكتفاء ذاتي.
في نهاية القرن التاسع عشر، وبفعل تأثير الروايات الشهيرة لجول فيرن (١٨٢٨–١٩٠٥) وبعده إتش جي ويلز، بدأ أدب الخيال العلمي الياباني يتطور؛ في البداية في صورة روايات سياسية تتنبأ بالمستقبل، ثم في صورة روايات مستقبلية تكنولوجية. كانت في البداية يوتوبية في المقام الأول، ثم تحولت إلى ديستوبية مثل أي مكان آخر، مع الهجوم، في بعض الحالات، على الغرب بوصفه قمة الديستوبيا. وحديثًا، تُصوِّر القصص المصورة اليابانية المسماة «المانجا» مستقبلًا ديستوبيًّا أو، في حالات أكثر ندرة، مستقبلًا يوتوبيًّا إيجابيًّا.
(٤) الإسلام
تاريخيًّا، للإسلام تقليد يوتوبي محدود، لكنه يضم يوتوبيَّتَين أساسيتين: الجنة، والمجتمع المسلم المبكر بالمدينة المنورة؛ ففترة السلام بالمدينة المنورة قبل العودة إلى مكة وضرورة القتال من أجل الدفاع عن الدين تُمثِّل العصر الذهبي للإسلام. وفي الواقع، يذهب بعض الباحثين المسلمين، مثل محمود محمد طه (١٩٠٩–١٩٨٥)، السياسي وعالم الدين السوداني، إلى أنه ينبغي قراءة القرآن باعتباره يعكس حقبتين مختلفتين تمامًا، حقبة المدينة المنورة وحقبة مكة، مع اعتبار الآيات التي نزلت في المدينة هي الأكثر أهمية. وفي حين أن هذه بالتأكيد هي وجهة نظر الأقلية؛ فإن حقبة المدينة، قبل الحروب والانقسامات التي خلَّفت طائفتي السنة والشيعة الرئيسيتين إلى جانب عدد من الفرق الأقل حجمًا، تلعب دورًا خاصًّا في الخيال الإسلامي.
وُصفت «رباعيات» عمر الخيام (١٠٤٨–١١٣١) بأنها أول يوتوبيا فارسية، ويذكر إدوارد فيتزجيرالد؛ صاحب الترجمة الإنجليزية الشهيرة لهذا العمل، أن هذا وصْف صحيح لها. وتوحي لنا مقاطع ذائعة الصيت، مثل «زجاجة الخمر ونصف الرغيف، وما حوى ديوان شعر طريف، أحب لي إن كنت لي مؤنسًا، في بلقع من كل ملك منيف»، بِيوتوبيا أساسها المتعة، إلا أن فيتزجيرالد قام بملاءمة لا بترجمة، وأن المقاطع كالمقتبسة لا تعكس العمل كله، وهي أقرب إلى «سفر الجامعة» بتأكيده على حقيقة الموت باعتباره نهاية كافة متعنا. وفي حين أن هناك مقاطع في هذا العمل تركز على المتعة والرغبة الجنسية، كان التأكيد على إيجاد السلوى في الخمر؛ وهو تأكيد غير إسلامي على الإطلاق.
يعكس عملان من الزمن نفسه تقريبًا على نحو أكثر دقة المعتقدات الإسلامية؛ فعمل «حي بن يقظان: قصة فلسفية» الذي ظهر عام ١١٥٠ تقريبًا، وعمل «الرسالة الكاملية في السيرة النبوية» الذي ظهر بعد العمل السابق بحوالي ١٠٠ عام، يصوران طفلًا وحيدًا على جزيرة معزولة للإشارة إلى أن العقل البشري يمكنه بنفسه استنتاج الحقائق الدينية؛ تلك الحقائق التي تعدد أسس الإسلام.
وفي حين يرى مَن لا ينتسبون للإسلام أنه منظومة عقائدية واحدة ومتماسكة، فإنه في الحقيقة اليوم منقسم انقسامًا كبيرًا؛ فيوجد على أحد طرفَي النقيض الليبراليون والنسويون وحتى بعض المثليين الذين يحاولون تفسير القرآن على النحو الذي يؤيد موقفهم، في حين يوجد على الطرف الآخر الإسلاميون الأصوليون الذين يدفعون بصحة تفسيرهم له. والغالبية العظمى من المسلمين في الوسط فيما بينهما. وعلى اختلاف الإسلاميين فيما بينهم، فإنهم جميعًا يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية معتبرين إياها أساسًا للنظام الاجتماعي، وهم أكثر المسلمين يوتوبية اليوم. ورؤية الجمهورية الإسلامية التي وضعها الخميني (١٩٠٠–١٩٨٩) ورؤية طالبان لأفغانستان كانتا يوتوبيتين بجلاء، وبعض منشورات الخميني، مثل «كشف الأسرار» (١٩٤٤) و«الحكومة الإسلامية» (١٩٧١)، رغم أنها أطروحات، فإنها تقدم وصفًا مفصلًا للمجتمع الإسلامي المثالي كما رآه، وقد تقلد فيما بعدُ السلطة التي مكنته من محاولة تطبيق معتقداته على أرض الواقع.
ثمة أمثلة قليلة على التناول الأدبي لليوتوبيا من وجهة نظر الحركة الإسلامية، لكن يوجد عملان — على الأقل — مهمان في هذا الشأن؛ يتمثل العمل الأول في «البعد الخامس»، وهي مسرحية مكتوبة بسجن مصري؛ حيث أودع المؤلفُ السجنَ لانضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين. ويبدو أن اليوتوبيا تقوم على تعاليم سيد قطب (١٩٠٦–١٩٦٦)؛ وهو أحد منظري حركة الإسلام السياسي. أما العمل الآخر، وهو «البرنامج الثوري لفدائيان إسلام» (١٩٥٠)، للإيراني سيد مجتبى نواب صفوي (المولود عام ١٩٢٤، والمُعدم عام ١٩٥٥)، فيرسم الخطوط العريضة لنظام اجتماعي إسلامي مثالي. وهو مزيج غاية في البساطة، بل مفرط في البساطة، من الدين الإسلامي والقواعد الأخلاقية.
(٥) أفريقيا
يقول الناقد الأدبي الكيني سايمون جيكاندي إن محور الرواية الأفريقية هو «إشكالية السلطة». ويُقرأ الكثير من اليوتوبيات الأفريقية كما لو كانت روايات واقعية حول الديستوبيات الموجودة في أوطانها في ظل حكم نظم ديكتاتورية مدنية أو عسكرية. وتتميز هذه اليوتوبيات في الأساس بأنها تدور أحداثها في بلاد خيالية أو في المستقبل القريب. ولكن الكثير من الروائيين الأفارقة كتبوا يوتوبيات إيجابية؛ فرواية الكاتبة بيسي هيد (١٩٣٧–١٩٨٦) «عندما تتجمع سحب المطر» (١٩٦٩) هي أكثر أعمالها يوتوبية، وتَعرِض محاولة خلق قرية يوتوبية، لكن تَعرِض روايتاها «مارو» (١٩٧١) و«مسألة قوة» (١٩٧٤) حياة القرية الأفريقية الحالية من منطلق إيجابي في عمومه. كَتَبَ آيي كواي آرما (المولود ١٩٣٩) يوتوبيا وديستوبيا، وروايته «ألفا موسم» (١٩٧٣) تُقدِّم ماضي أفريقيا بتصور جديد في صورة يوتوبيا تقوم على المساواة، لكن روايته «لم يولد الفاتنون بعد» (١٩٦٨) تشبه الديستوبيات الأفريقية الأخرى في عرض الوضع المعاصر في أحد البلاد، وهو الكونغو في هذه الحالة، في صورة ديستوبيا. ويقدم وولي سوينكا (المولود عام ١٩٣٤) يوتوبيا وديستوبيا في رواية واحدة؛ فأول فصلين من روايته «موسم الفوضى» (١٩٧٣) يقدمان يوتوبيا كوميونية، لكن معظم الجزء المتبقي من الكتاب يعرض الواقع الحالي في صورة ديستوبيا. إلا أن بلد أييرو اليوتوبي يوفر الفرصة لشيء أفضل. ومن مالي، تأتي القصيدة الملحمية «سوندياتا: ملحمة من مالي القديمة» (١٩٦٠) لجبريل تامسير نيان (المولود عام ١٩٣٢)، التي تَعرِض التاريخ الشفاهي لأحد ملوك مالي، وتنتهي باليوتوبيا التي نتجت عن نجاحه عندما ساد السلام والازدهار.
وعلاوة على اليوتوبيات المذكورة أعلاه، تضم اليوتوبيات الأفريقية؛ من كينيا، رواية «محاكمة كريستوفر أوكيجبو» (١٩٧١) لعلي إيه مزروعي (المولود عام ١٩٣٣)، وروايات «بتلات الدم» (١٩٧٧) و«الشيطان مصلوبًا» (١٩٨٠) و«ساحر الغربان» (٢٠٠٤) للكاتب نجوجي وا ذيونجو (المولود عام ١٩٣٨)؛ ومن نيجيريا، أعمال «اغتصاب شافي» (١٩٨٣) لبوتشي إميكتا (المولودة عام ١٩٤٤) و«كثبان السافانا» للكاتب تشينوا أتشيبي (المولود عام ١٩٣٠)، و«إدهاش الآلهة» (١٩٩٥) و«في أركاديا» (٢٠٠٢) للكاتب بن أوكري (المولود عام ١٩٥٩)؛ ومن غانا، أعمال «سيدة الطائرات» (١٩٨٨) و«الميجور جنتل وحروب أشيموتا» (١٩٩٢) للكاتب كوجو لينج (المولود عام ١٩٤٦)، و«ثورة السود» (١٩٩٥) للكاتب كودو أبايدو؛ ومن السنغال، العمل «نهاية الإمبراطورية: رواية سنغالية» (١٩٨٠) للكاتب سيمبين عثمان (١٩٢٣–٢٠٠٧).
(٦) المجتمعات المقصودة
ازدهرت الأديرة البوذية في الهند والصين واليابان وجنوب شرق آسيا في وقت مبكر منذ عام ٥٠٠ قبل الميلاد، وكان للأشرام تاريخ أطول؛ إذ يعود إلى نحو عام ١٥٠٠ قبل الميلاد. والأشرام أماكن للسكنى لمن يعيشون في نوعٍ من الالتزام الروحاني في الهند. وهي نشأت عن الهندوسية؛ ومن ثمَّ مثلما تُعتبر الرهبانية المسيحية الآن جزءًا من التاريخ الطويل للمجتمعات المقصودة في الغرب والمبشرة بالمجتمعات المقصودة الحديثة، لا تزال التقاليد اليوتوبية في تلك المناطق مزدهرة، وتظل جزءًا لا يتجزأ من الثقافة المحلية مع انتشارها إلى بقاع أخرى من خلال الهجرة.
ومؤخرًا، شيدت الهند أشرامًا مسيحية لتجذب الهنود المسيحيين إلى الكوميونية بالتوازي مع الأشرام الهندوسية التقليدية، إلا أن تلك الأشرام المسيحية معرضة للخطر من حركة هندوتفا.
شهدت الهند واليابان — على وجه الخصوص — في العصور الحديثة إنشاء عدد كبير من المجتمعات المقصودة الدينية والعلمانية، وبعضها، مثل أوروفيل في الهند، كان له بالغ التأثير على حركة المجتمعات المقصودة بأسرها. تَأسَّس مجتمع أوروفيل في عام ١٩٦٨، ويقطنه حاليًّا حوالي ألفي شخص؛ ما يجعله — على الأرجح — أكبر مجتمع مقصود في العالم. وهو يوظف حوالي أربعة آلاف شخص.
واليوم، خارج إطار المنضمين إلى حركة المجتمعات المقصودة، على الأرجح ترتبط الكوميونية الهندية بالحركات الهندية التي انتقلت إلى خارج الهند، والتي يُطلِق عليها كثيرون طوائف، مثل أتباع بهاجوان شري راجنيش (١٩٣١–١٩٩٠)، الذي أسس مجتمعات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما في أوريجون؛ حيث أوقفت أنشطتها وطُرد قائدها من البلد، وذلك بعد صراع مع الحكومات المحلية في المنطقة. لكن لعل أشهر مجموعة اليوم هي الجمعية الدولية للوعي بكريشنا، أو حركة «هاري كريشنا»، التي يمكن رؤية أعضائها يرقصون وينظمون مواكب ويغنون مرتدِين أروابهم الملونة في أغلب المدن الكبرى.
ولليابان تاريخ كوميوني ثري على وجه الخصوص؛ فإضافة إلى الأديرة البوذية، لا سيما أديرة زن التي جذبت كثيرًا من الغربيين وانتشرت في جميع أرجاء العالم، هناك حركة تعاونية قوية. وقد تأثرت تلك الحركة بكتابات روبرت أوين، وتوجد جمعية روبرت أوين باليابان منذ فترة طويلة. وكان باليابان أيضًا ما يصل إلى ٣٠٠ قرية تعاونية في سبعينيات القرن العشرين. وشاعت فكرة المدينة الحدائقية في يابان ما قبل الحرب، لكنه أُسيء فهم الفكرة بوجه عام؛ ومن ثم، ما بُني وأُطلق عليه مدن حدائقية كان في الواقع قرًى توجد في ضواحي المدن، ولم تعكس المفهوم كما وضعه إبنزر هاوارد.
كما أنشأت اليابان مجتمعاتها الأصلية هي الأخرى، بما فيها طوائف ديستوبية مثل «أوم شنريكيو»، التي قامت بمحاولة قتل الركاب في عدد من محطات مترو أنفاق طوكيو في عام ١٩٩٥، وذلك بنشر غاز السارين السام فيها. وقد تأسس أقدم كوميونات اليابان، «حديقة النور»، في عام ١٩١١، وانتقل إلى موقعه الحالي في عام ١٩٢٨. وتأسس مجتمع «القرية الجديدة» في عام ١٩١٨، وتأسست مجتمعات أخرى على نحو منتظم حتى يومنا هذا، مع زيادة كبيرة في تأسيسها في سبعينيات القرن العشرين بالتوازي مع الزيادة الكبيرة في إنشاء تلك المجتمعات التي شهدها الكثير من البلدان الأخرى. وقامت معظم المجتمعات اليابانية على قائد ذي شخصية كاريزمية، إلا أن بعضها استمر بعد وفاة هذا القائد.
للصين تقليد طويل من الرهبانية البوذية، ودخلت الأديرةُ المسيحية البلادَ مع المسيحية، لكن صراعات القرن العشرين أدت إلى تعرُّض جميع المؤسسات الدينية للهجوم على يد الحكومة الشيوعية، وتدمير كثيرٍ منها قسرًا أو إغلاقها، ولم يُعَد فتح بعضها إلا هذه الأيام.
غير أن الكوميونية الصينية في القرن العشرين ارتبطت عادة بالكوميونية القسرية الخاصة بستينيات وسبعينيات هذا القرن؛ إذ نَقلت الحكومة إبان تلك الفترة أعدادًا كبيرة من الناس من قراهم إلى مستوطنات كوميونية. وهي مجتمعات مقصودة من منطلق أن الحكومة هي التي أقامتها، ولم تكن مجتمعات مقصودة من منطلق أن الأشخاص الذين كانوا فيها لم يكونوا هناك بملء إرادتهم. على نحو مؤقت، بدا أن تلك المجتمعات تُحقِّق مقاصد الحكومة المتمثلة في تحقيق كفاءة أكبر في إنتاج الغذاء، وتوزيع السكان، واستغلال العمال (عن طريق إعطاء النساء حرية العمل بقيامهن بالطهي ورعاية الأطفال على نحو مشترك)، والقدرة على الاستفادة من العمالة من أجل تنفيذ مشروعات البنية التحتية، وتوفير إسكان ومرافق صرف صحي أفضل وما إلى ذلك، إلا أنه سريعًا ما ثبت أنها أقل كفاءة بكثير من المأمول، وأقل تخطيطًا بكثير مما كان ينبغي أن تكون عليه؛ ومن ثم في حين أن المجتمعات المقصودة الدينية التقليدية بدأت تظهر من جديد، فإن ذلك لم يحدث بالنسبة ﻟ «الكوميونات الصينية».
رغم بعض الاستثناءات القليلة، كانت كل المجتمعات المقصودة الأفريقية تقريبًا نتاجًا لعملية الاستعمار؛ إذ كان الكوميونيون الأوروبيون يؤمنون بأن أفريقيا تُعدُّ المكان المناسب لتطبيق أفكارهم على أرض الواقع، متجاهلين إلى حدٍّ ما حقيقةَ أن تلك الأرض محتلة. بدأت أولى محاولات إنشاء تلك المجتمعات بمقترَح لاستيطان سيراليون قُدِّمَ في «خطة ١٧٨٩ لإقامة مجتمع حر على ساحل أفريقيا، تحت حماية بريطانيا العظمى؛ لكنه مستقل تمامًا عن كل القوانين والحكومات الأوروبية.» لم يتحقق شيء من ذلك، لكن كانت هناك محاولات شتى لاستيطان العبيد السابقين من بريطانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية لسيراليون، ولم تحقق سوى نجاح محدود. ومنذ حوالي قرن مضى، اقترح تيودور هرتزكا إنشاء مجتمعه الذي أطلق عليه فريلاند في أفريقيا، وحاز على تأييد كبير في البداية. لم ينجح أيٌّ من تلك المقترحات، لكن كانت هناك تجربة ناجحة نوعًا ما وضمت مقترحات يوتوبية، بوجه عام، وبعض المجتمعات المقصودة، التي تمثلت في مستوطنة ليبيريا التي كوَّنها العبيد الأمريكيون المحرَّرون تحت رعاية مختلف الكنائس الأمريكية، وفي بعض الأحيان، بتأييد رسمي. وقد كُتبت الرواية اليوتوبية «ليبيريا، أو تجارب السيد بايتون» (١٨٥٣) لدعم هذا المشروع.
لا يوجد أي تقليد كوميوني إسلامي، لكن تأسست في سبعينيات القرن العشرين بضعة مجتمعات مقصودة حضرية وريفية في الولايات المتحدة الأمريكية على يد أمريكيين من أصول أفريقية متحولين إلى الإسلام.
(٧) المنظور العالمي
يتضح مما سبق أن اليوتوبية ليست ظاهرة خاصة بالغرب المسيحي فقط، لكنها موجودة بصور شتى في أغلب الثقافات، إن لم يكن كلها. وشاع في هذا الإطار وجود أساطير تتحدث عن عصر يوتوبي قديم، مع وجود اختلافات حول الجوانب التي حدث إخفاق فيها، وإن كان يمكن استعادة تلك اليوتوبيا أو إعادة إنشائها أم لا. كذلك شاعت الرؤى حول الحياة الطيبة التي ينبغي تحقيقها بالجهد البشري، وكانت معتمدة على الثقافة ذات الصلة. وعقب شهرة «يوتوبيا» مور، صدرت يوتوبيات أدبية تستخدم نموذجه عبر أنحاء العالم، لكنها مجددًا تعكس الأماكن عينها التي كُتبت فيها. وفي الوقت نفسه، غالبًا ما كانت تواجِه بلدانٌ وثقافاتٌ مختلفةٌ مشاكلَ متشابهةً، وأحيانًا ما قُدِّمت حلول متشابهة. وأثارت الحركات الاجتماعية، مثل النسوية والمحافظة على البيئة، أسئلةً تَمَّت الإجابة عليها بطرق متشابهة في أماكن مختلفة. ولكن أيضًا قَدَّمَت أماكنُ مختلفة إجاباتٍ غير متشابهة على المسائل المثارة، وعكست الإجاباتُ بوضوحٍ الظروفَ المحلية.
يبدو أن المجتمعات المقصودة الدينية نشأت على نحو مستقل في أماكن عدة، وأنها عكست الظروف المحلية. نشأت المجتمعات العلمانية بعدها بفترة طويلة. واختلف بعضها حسب الظروف والعادات المحلية، في حين بدا بعضها قريب الشبه بالمجتمعات في أي مكان آخر، وتوقف ذلك على السبب وراء إقامة المجتمع.