اليوتوبية في التقليد المسيحي
لأغلب الأديان روايةٌ ما عن حياةٍ أفضل كثيرًا، حتى وإن كانت بعد الموت فقط، لكن اليهودية والمسيحية مشبعتان بالصور اليوتوبية. تُعد المسيحية نبع اليوتوبية الغربية، واليوتوبية شاغل جوهري، إيجابيًّا وسلبيًّا، في المعتقد المسيحي الحديث. وترتبط صور الماضي اليوتوبي (جنة عدن) والمستقبل اليوتوبي (النعيم والجحيم، والمجيء الثاني للمسيح، وحكم المسيح للأرض لمدة ألف سنة بعد مجيئه الثاني) بهذا العالم والآخرة، لا بمجرد ماضٍ يتعذر بلوغه أو مستقبل مشكوك فيه. أصبحت تلك الصور صورًا لحياة أفضل (أو أسوأ)، غالبًا في صورة فانتازيا، لكنها في نفس الوقت كثيرًا ما تَطرح أسئلة حول الأسباب التي لا تجعل هذه الحياةَ حياةً أفضل. في العصور الوسطى، كان يبدو أن رجال الدين، لا سيما الرهبان، يعيشون حياة أفضل ممن يرعونهم، وتساءل بعض الناس عن سبب عدم إتاحة تلك الحياة الأفضل لهم. وكثيرًا ما تساءل الناس عن السبب وراء أن الكنائس تبدو لهم أنها تساند الأغنياء وأصحاب السلطة في مواجهة أغلبية المؤمنين. ولمَّا كان الأغنياء وأصحاب السلطة يتمتعون بحياة أفضل في الوقت الراهن، فلِمَ لا يمكن لبقيتنا التمتع بها؟
(١) الإنجيل
يضم العهدان القديم والجديد صورًا ورسائل كثيرة غذَّت نشوء وتطور اليوتوبية الغربية؛ فمن العهد القديم استفاد اليوتوبيون اللاحقون من تصوير جنة عدن والرؤى الكونية للأنبياء ومقترحات البعض منهم، ومن العهد الجديد كان لرسالة المسيح، ووصف نهاية العالم، ومعركة أرمجدون، وحكم المسيح للعالم لمدة ألف سنة في سفر رؤيا يوحنا؛ أبلغُ التأثير. علاوة على ذلك، تضم الأسفار الأبوكريفية (وهي الأسفار غير المضمنة في الإنجيل) أوصافًا لنهاية العالم، ومعركة أرمجدون، والحكم الألفي للمسيح التي كان لها تأثير على المفكرين المسيحيين اللاحقين.
(١-١) العهد القديم
ضاعت الجنة ولا سبيل لاستعادتها. وبعد خروج آدم وحواء منها، أصبحت غير مأهولة ومحظورة على الجنس البشري حتى المجيء الثاني للمسيح، لكن جنة عدن قدَّمت صورة للتوحد مع الرب؛ للخلود والبراءة والأمان من الحيوانات البرية، والسلامة من تقلبات المناخ، والوفرة دون كدٍّ.
سريعًا ما أصبحت أوصاف جنة عدن أكثر تفصيلًا مما كانت عليه في سفر التكوين، ومثالًا على ذلك وَصَفَ الشاعر اللاتيني بلوسيوس أميليوس دراكونتيوس القرطاجي (٤٥٥ تقريبًا–٥٠٥ تقريبًا) الذي عاش بالقرن الخامس بشمال أفريقيا:
اليوتوبيا سبيل لرفض مفهوم «الخطيئة الأصلية» الذي اعتَبر الفضيلة والعقل البشريين على طبيعتهما مَلَكتين ضعيفتين أو فاسدتين على نحوٍ يصعب إصلاحه. وبغض النظر عما تقوله اليوتوبيات الكلاسيكية أو لا تقوله، فهي كلها تهاجم النظرية الراديكالية للخطيئة الأصلية.
كانت هناك بعثات — حقيقية وخيالية — لاستكشاف جنة عدن، ونُشرت تقارير حول موقعها؛ ففي القرن الثامن عشر ظهرت عدن على الخرائط وكان موقعها في أرمينيا؛ لأن نهرَي دجلة والفرات ينبعان من أرمينيا؛ ونتيجة لذلك، أصبحت عدن جنة أرضية من الممكن اكتشافها، بل جنة سكنتها قبيلة اختفت أو حكمها أمير مسيحي عادل. وقد اعتقد المستكشفان كريستوفر كولومبوس (١٤٥١–١٥٠٦) وأمريجو فسبوتشي (١٤٥٤–١٥١٢) أنهما ربما عثرا على جنة الأرض في العالم الجديد.
(١-٢) الرؤية الكونية للأنبياء
فيأتون ويرنِّمون في مرتفع صهيون، ويجرون إلى جود الرب على الحنطة وعلى الخمر وعلى الزيت، وعلى أبناء الغنم والبقر، وتكون نفسهم كجنة ريا، ولا يعودون يذوبون بعد؛ حينئذٍ تفرح العذراء بالرقص، والشبان والشيوخ معًا، وأُحوِّل نوحهم إلى طرب، وأعزِّيهم وأفرحهم من حزنهم.
فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسمن معًا، وصبي صغير يسوقها. والبقرة والدبة ترعيان. تربض أولادهما معًا، والأسد كالبقر يأكل تبنًا. ويلعب الرضيع على سرب الصل، ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان.
يؤكد إشعياء على نحو خاص على غياب البغضاء بين بني البشر والحيوانات، وفيما بين الحيوانات، والتي كانت سمة مميزة لأغلب العصور الذهبية وجنات الأرض، فسيختفي خوف شائع، وسيأمن الطفل بين الحيوانات التي كانت خطرة في السابق.
إلا أن رؤية الأنبياء الإيجابية كانت غامضة وبالغة التعميم. وأقرب إشارة إلى يوتوبيا كلاسيكية في العهد القديم موجودة في سفر حزقيال (٤٠–٤٨)، وفيه وصف تفصيلي للمعبد المعاد تشييده، والشعائر التي ستقام هناك، لكن هناك أيضًا ذكرًا للطريقة التي ينبغي توزيع الأرض بها بين المعبد والأمير والقبائل المختلفة. ويشير إلى أن إعادة تشييد المعبد ينبغي أن تُنتهز باعتبارها فرصة لتحسين حياة الجميع.
ثمة تقليد في مختلف أجزاء العهد القديم، اعتبره الكثيرون أساسًا لإقامة اليوتوبيا؛ هو عام اليوبيل الموصوف في سفر اللاويين، الإصحاح ٢٥، وسفر نحميا، الإصحاح ١٠ الآية ٣١، وسفر الخروج، الإصحاح ٣ الآيات ١٠–١٢، وعلى نحو أكثر راديكالية في سفر التثنية، الإصحاح ١٥ الآيات ١–١٨. والمبدأ الأساسي هو أنه كل سبعة أعوام تراح الأرض. ويقدِّم سفر التثنية المزيد من التفاصيل بذكره أنه في كل عام سابع يجب العفو عن الديون كافة، عدا الديون إلى أجانب. وتؤكد كل الفقرات على مساعدة الفقراء والأمانة في المعاملات التجارية. وقد استمدت حركة «يوبيل ٢٠٠٠» التي تدعو لإسقاط ديون العالم الثالث اسمها من هذا التقليد.
فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد.
يتمُّون حياتهم في السلام والفرح. ولن يكون شيطان أو مدمِّر شرِّير، بل تكون كل أيامهم أيام بركة وشفاء.
ستُخرِج الأرضُ الأُمُّ إلى الفانِينَ أشهى ثمارها في صورة ذُرة وخمر وزيت لا يحصى. ومن السماء سينزل تيار من عسل مصفًّى، وستعتلي الأشجارَ ثمارُها، وستملأ الأرضَ قطعانُ الماشية والغنم وجديان الماعز. ستتفجر ينابيع اللبن الأبيض الحلو، وستحفل المدن بأطيب الأشياء، وستطيب الحقول بثمارها، ولن تندلع حرب أو يحدث اضطراب، ولن تعاني الأرض أنَّات المعذبين، ولن تندلع حرب على الأرض، ولن تكون هناك مجاعة أو قحط، ولن تنال من المحاصيل ريح أو زوبعة، بل سيسود السلام في شتى بقاع الأرض، وسيعم الإخاء بين الملوك حتى نهاية العصر، وسيطبق قانون موحد على الجميع من مختلف بقاع الأرض، في جنة الفردوس، يقتص من كافة الأشياء التي أقدم عليها الفانون البائسون.
لفت قراء العهد القديم اللاحقون الانتباهَ إلى كلٍّ من الرسائل الإيجابية التي قدمها الأنبياء، والتأكيد على القوانين المصممة لتشجيع الناس على أن يعيشوا الحياة التي أرادها الرب لهم. وكتب كثيرون يوتوبيات بناءً على تلك القوانين التي كان هدفها تحقيق الغرض نفسه، وكثيرًا ما عكست المناهج النبوية وأكدت على العواقب التي ستنزل جرَّاء عدم الامتثال لتلك القوانين.
(١-٣) العهد الجديد
يصوِّر العهد الجديد مجيء المسيح لإنقاذ الجنس البشري، ويتحدث عن رب المحبة لا العقاب. لا توجد بالعهد الجديد يوتوبيا على غرار الموجودة في العهد القديم، لكن رسالة المساواة والصفح ومحبة الغرباء والجيران شكلت أساسَ جانبٍ كبير من اليوتوبية الغربية والكثير من اليوتوبيات الأدبية. كان أحد الموضوعات الأساسية يتمثل في أنه من الممكن إقامة مجتمع صالح إن امتثل الناس لرسالة المسيح. وأوضحت «عظة الجبل» (متى، الإصحاح ٥، الآيات ٣–١١) الثواب العظيم للسلوك القويم، فتقول:
وكذلك ورد بإنجيل متى (الإصحاح ٥، الآية ٤٨): «فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل.»
(٢) نهاية العالم والحكم الألفي للمسيح
ثم رأيت سماءً جديدة وأرضًا جديدة؛ لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فيما بعد. وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيَّأة كعروس مزينة لرجلها، وسمعت صوتًا عظيمًا من السماء قائلًا: «هو ذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم. وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد، ولا يكون حزنٌ ولا صراخٌ ولا وجعٌ فيما بعد؛ لأن الأمور الأولى قد مضت.»
ثم يتبع ذلك وصف لأورشليم الجديدة، مع التأكيد على أنها مشيدة من المعادن والأحجار النفيسة؛ على سبيل المثال: «وكان بناء سورها من يَشْبٍ، والمدينة ذهب نقي شبه زجاج نقي» (الإصحاح ٢١، الآية ١٨).
سينزل الشفاء من السماء مع الندى، وسيختفي المرض، ويذهب الجزع والكرب والنواح من بين بني البشر، وسيعم السرور الأرض كلها. ولن يموت أحد ثانية في غير أوانه، ولن تقع أي نائبة فجأة … ولن تتألم النساء ثانية من حملهن، ولن يتوجعن وهُن يضعن ما في أرحامهن. وستحل أيام لن يتعب فيها الحاصدون، ولن يصيب النصبُ البناةَ؛ إذ ستجري الأمور بسرعة من تلقاء نفسها بالنسبة لمن يؤدونها، وذلك في هدوء شديد.
ستفتح الأرض باطنها وتُخرج وافر ثمارها، وسينزل العسل من الجبال الصخرية، وستجري جداول من الخمر، ويجري اللبن بالأنهار؛ باختصار، سيبتهج العالم، وستتهلل الطبيعة بأسرها؛ إذ ستتحرر من سيطرة الشر وغياب التقوى، ومن الإثم والخطيئة.
وهكذا، في حين قد لا يتوفر سبيل لدخول جنة عدن، فثمة جنات بديلة ربما تكون متاحة.
رغم أن توقعات نهاية العالم والحكم الألفي للمسيح قد أُسكتت بسبب مضامينها الراديكالية، فقد كانت ذات تأثير عظيم، ويمكن تتبع آثارها بطول العصور الوسطى، عندما أصبح محور تركيزها الأمل على قدوم آخر إمبراطور عادل يحكم العالم الذي كان من المفترض أن يقيم فترة من الإصلاح على الأرض قبل مجيء المسيح الدجال. ويمكن ملاحظة هذه التوقعات في الحركات السياسية في إنجلترا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وفي معتقدات البيوريتانيين الأمريكيين، والثورة الأمريكية في مرحلة لاحقة. ومؤخرًا، ظهرت سلسلة الروايات الأمريكية «المخلَّفون» التي تضم ١٣ رواية، إضافة إلى قصص مصورة وأفلام وألعاب فيديو وكتب للأطفال، وغيرها من الأعمال ذات الصلة، وكلها تصف المتبقين على الأرض بعد الاختطاف؛ وهو معتقد يقوم على الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي، وفيه ينتقل كافة المؤمنين الناجين من الأرض للسماء للقاء المسيح في وقت واحد، خلال الصراع بين الخير والشر وحتى المجيء الثاني للمسيح.
(٣) جزيرة القديس برندان وأرض برستر جون
أُضيفت صورتان بالغتا التأثير إلى اليوتوبية المسيحية في العصور الوسطى؛ وهما: جزيرة القديس برندان، وأرض برستر جون التي تعود لأواخر القرن الثاني عشر. ظهرت جزيرة القديس برندان في الخرائط في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وعندما أبحر المستكشف فاسكو دا جاما (١٤٦٠ / ١٤٦٩ تقريبًا–١٥٣٤)، حمل رسائل إلى برستر جون؛ لذا ظل القديس برندان وبرستر جون حاضرين في الخيال المسيحي لقرون.
لن يشقى من يسكنها، ولن تهب عليها رياح عاصفة، ولن يكون بها حر ولا زمهرير، لا نصب ولا جوع، لا عطش ولا عوز. ستكون هناك وفرة من كل ما يشتهيه المرء، وسيطمئن الجميع أنهم لن يفقدوا أكثر ما يريدونه ويحتاجون إليه؛ فسيكون حاضرًا لهم دائمًا وفي كل الأوقات.
أصبحت القصة العظيمة الأخرى، أرض برستر جون، من الأساطير المهمة التي تعود لأواخر العصور الوسطى. ومن المفترض أن جون ماندفيل زارها ووصفها في عمله «رحلات السير جون ماندفيل» (١٤٩٩)، إلى جانب الكثير من الأماكن الحقيقية والخيالية، مثل مجتمع الأمازونيين وأحد الوحوش. أبحر كثيرٌ من المستكشفين لإيجاد تلك الأرض؛ وقال كثيرون عند عودتهم إنهم عثروا عليها. وسواء اكتُشفت تلك الأرض أم لا، فقد ظلت السمات الأساسية لها كما هي تقريبًا. كان برستر جون هو نموذج الحاكم المسيحي المقدس، والأرض التي كان يحكمها يمكن للمسيحي الحق أن يعيش عليها حياة مسيحية كاملة؛ وهو أمر لا يمكن تحقيقه في أي مكان آخر. ويجب أن تكون تلك الحياة المسيحية الكاملة يوتوبية. لا يمكن أن تكون حياة مثالية لأن الكمال يجب أن يرتقب الحكم الألفي للمسيح، ولكنها يمكن أن تكون أفضل بكثير في ظل حكم أمير مسيحي صالح لا في ظل أي نظام حكم آخر. أُطلق على أحد أشكال الأدب في تلك الحقبة «دروس للأمراء»، وكان يخبر الأمراء بكيفية التصرف كي يكونوا أمراء مسيحيين صالحين؛ ومن ثَمَّ يحققوا حياة أفضل لكل رعاياهم.
كافة هذه الأوصاف للأماكن اليوتوبية هي استجابات تفصيلية لِلَعْنة خروج آدم وحواء من الجنة، لكن لا يمكن للجنس البشري الوصول لأيٍّ من تلك الأماكن دون تدخُّل الرب. حتى الصالحون لا يختارون أنفسهم ببساطة، بل يختارهم الرب. وهذا حقيقي أيضًا بشأن اليوتوبيا الأخيرة؛ الفردوس.
(٤) الفردوس والجحيم
لا توصف الأحوال الحقيقية للجنَّة أو الفردوس على النحو الذي وُصفت به جنان الأرض، إلا أن الفردوس شبيهة على نحو كبير بعصرٍ من العصور الذهبية، باستثناء أنه ليس همها الأساسي هو المتعة مثلها. وبطبيعة الحال، لا يوجد هناك موت لأنه قد وقع بالفعل. وعادة لا يحتاج الوجود الروحي إلى الطعام أو المأوى أو الجنس أو العمل؛ فالتوحد مع الرب يوفر كل ما هو مطلوب للأبد.
ونظرت في أرجاء تلك الأرض، ورأيت نهرًا يتدفق فيه اللبن والعسل، وكانت هناك أشجار مزروعة على ضفة هذا النهر، مزدانة بالثمار؛ كل شجرة تثمر اثني عشر نوعًا من الفاكهة في العام، فترى الواحدة تحمل ثمارًا شتى ومتنوعة. وشاهدتُ المخلوقات الموجودة في هذا المكان وكل صنع الرب، وشاهدت هناك نخلًا يبلغ طوله عشرين ذراعًا، وشاهدت آخر يرتفع لعشر أذرع، وكانت الأرض تلمع ببريق يفوق الفضة سبع مرات. وكانت هناك أشجار حافلة بالثمار من جذورها حتى أعلى فروعها، وعشرة آلاف نخلة مثمرة تحمل فوقها عشرة آلاف ثمرة. وعدد كرمات العنب تبلغ عشرة آلاف، وفي كل كرمة عشرة آلاف عنقود، ويحمل كل عنقود ألف حبة عنب، وكل شجرة تحمل ألف ثمرة.
ورأيت هناك نهرًا يغلي ماؤه وتتصاعد منه ألسنة اللهب، مغموسًا فيه حشدٌ من الرجال والنساء حتى ركبهم، وزمرة من الرجال حتى سراتهم، وآخرون حتى شفاههم، وآخرون حتى شعورهم … ورأيت صوب الشمال مكانًا تُنزل فيه شتى صنوف العذاب على الرجال والنساء، ونهرًا من النار يجري فيه.
وكانت نسخة القديس أوغسطين (٣٥٤–٤٣٠) المنقحة الخاصة بتصوير الفردوس والجحيم بوصفهما «مدينة الرب ومدينة الأرض» بالغة التأثير أيضًا. قسَّم أوغسطين الأرواح، الحية منها أو الميتة، إلى الملعونين — وهم الأغلبية العظمى — والمختارين أو المنقَذين. وبين الأحياء، يعلم الرب وحده إن كان أحدهم ينتمي لمدينة الرب أو مدينة الأرض، ويستحيل على الفرد أو أي شخص آخر أن يعرف ذلك؛ ومن ثم في حين يمكن أن توجد ديستوبيا في هذا العالم، فإنه لا يمكن أن توجد يوتوبيا.
إلا أن نسخة الجحيم التي تغلغلت في خيال الناس كانت النسخة التي صورها دانتي (١٢٦٥–١٣٢١) في «الجحيم»، وهو الجزء الأول من عمله «الكوميديا الإلهية»، بما ضمته من تسلسل درجات المذنبين المُنزل بهم شتى صنوف العذاب. وأكثر الصور شيوعًا هي صورة النار، المصورة في عمل دانتي، رغم أن الدائرة الداخلية التي يعلوها الشيطان الموجودة في وسط الجحيم الأعمق مجمدة في الواقع.
ورغم أنه في المسيحية يمكن أن يحدث المجيء الثاني للمسيح في أي وقت، فمن المستحيل معرفة توقيت حدوث ذلك، ولا يستطيع أي شخص التأكد إن كان من بين الناجين أم لا. أجريت حسابات كثيرة حول التاريخ الذي سيحدث فيه ذلك، وكانت هناك مقترحات بشأن كيفية تحقيقه، لكن بمرور الوقت خبا ترقب غالبية المسيحيين، وليس كلهم، لهذا الأمر. وكان هذا الموقف غير مقبول، فلم يَسَع البشرَ الإيمانُ بأن الحياة لا يمكن تحسينها، وتساءلوا عن الشكل الذي ستكون عليه الحياة الأفضل وكيفية بلوغها.
اجتمعت الكتابات عن نهاية العالم والحكم الألفي للمسيح لدى يواكيم الفلوري (١١٣٥ تقريبًا–١٢٠٢)، الذي أثَّر — على نحو مباشر أو غير مباشر — على أجيال من الكُتَّاب اللاحقين عليه. تنبأ يواكيم أنه سيأتي عصر ثالث لم يَحِنْ بعدُ، وفيه ستقوم حالة روحية جديدة من الوجود بتغيير المؤسسات الاجتماعية والسياسية القائمة، بما فيها الكنيسة، وسيكون الأمر أشبه باليوتوبيا.
إن العناصر اليوتوبية في كتابات يواكيم وفي فكر أغلب أتباعه — على اختلافهم — كانت صورة غامضة بوجه عام لفكرة الحكم الألفي للمسيح، رغم أنه كان هناك الكثير من الطوائف المنشقة في الحقبة ذاتها تقريبًا، التي كانت لها مفاهيم مختلفة عما ستكون عليه الحياة في ظل هذا الحكم، لكن لم تتضح معالم الحياة في ظل هذا الحكم إلا في عهد حركة الإصلاح الراديكالية؛ إذ قدم — على سبيل المثال — عمل ماري كاري «سقوط وهلاك القرن الصغير» (١٦٥١) وصفًا تفصيليًّا لليوتوبيا التي ستسود في تلك الفترة. ثم تطورت وازدهرت العناصر الراديكالية الكامنة في المسيحية، وداعبت الكثير من اليوتوبيات المخيلات وجرى تطبيقها على أرض الواقع.
(٥) علم اللاهوت المسيحي الحديث
ذهب كريشان كومار في عمله «الدين واليوتوبيا» إلى وجود تناقض عميق بين الدين المسيحي واليوتوبيا؛ فاليوتوبيا تنتمي لهذا العالم، والدين بالنسبة لكثيرين معنيٌّ في الأساس بالحياة الآخرة؛ ومن ثم فاليوتوبيا ضرب من الهرطقة. فعلى سبيل المثال، كتب توماس مولنار، الفيلسوف المجري-الأمريكي الكاثوليكي (المولود عام ١٩٢١) يقول: «الفكر اليوتوبي في حد ذاته شر.»
الحجة الدينية المناهضة لليوتوبية أبسط كثيرًا من الحجة المؤيدة لها؛ لأنها مبنية على الافتراض الشائع بأن اليوتوبية تقوم في الأساس على رفض الخطيئة الأصلية. اعتاد عالِم اللاهوت رينهولد نيبور (١٨٩٢–١٩٧١) مهاجمة ما أطلق عليه «الأوهام اليوتوبية والضلالات العاطفية للثقافة الليبرالية الحديثة المستمدة كلها في الواقع من الخطأ الأساسي المتمثل في إنكار الخطيئة الأصلية.» خالف آدم وحواء أمر الرب وعُوقبا بالطرد من جنة عدن إلى حياة من النَّصَب والألم والخوف والموت. وأي اعتقاد بأن تلك العقوبات يمكن أن يُتغلب عليها من خلال فعل الإنسان من المؤكد أنه ضرب من الهرطقة.
والحجة المؤيدة لليوتوبية تقوم على رسالة المسيح وخدمته، التي تُعتبر يوتوبية من منطلق أنها كانت موجهة غالبًا نحو مشاكل البشر التي يمكن لفعل الإنسان أن يحلها. ذهب علماء لاهوت مثل بول تيليخ (١٨٨٦–١٩٦٥) إلى أن العناصر اليوتوبية في المسيحية، لا سيما طبيعتها الأخروية منها، مصدر جوهري من مصادر قوتها. علاوة على ذلك، أدمج كتاب ماركسيون من أمثال إرنست بلوخ العناصر المسيحية الأخروية في مذهبهم الماركسي، وتمخض عن ذلك «لاهوت» لا ديني من الأمل. أصبح هذا الخلاف مهمًّا على نحو خاص في القرن العشرين مع نشوء حركة الإنجيل الاجتماعي، والاشتراكية المسيحية، والمنافسة الجادة التي شكلتها أنظمة عقائدية أخرى كالشيوعية للمسيحية.
يُعتبر تيليخ من أبرز مؤيدي اليوتوبيا من بين علماء اللاهوت المسيحي الحديث، والذي كتب يقول: «أعتقد أنه يمكن إثبات أن لليوتوبيا أساسًا في وجود الإنسان.» فبالنسبة لتيليخ، نحن يوتوبيون لأننا بشر، واليوتوبيا هي في المقام الأول رفض أو «إنكار لما هو سلبي في الوجود الإنساني»؛ فكافة اليوتوبيات هي وسائل تمثِّل تغلُّب الإنسان على تناهيه. وتتمتع اليوتوبيا بقسمات من الحقيقة «لأنها تعبر عن جوهر الإنسان، الهدف الداخلي من وجوده، وتبدي ما يكنُّه الإنسان كهدف، وما يجب أن يحققه في المستقبل كشخص.» إلا أن اليوتوبيا تتمتع أيضًا بقسمات من الباطل؛ لأنها «تنسى تناهي الإنسان وعزلته، وتنسى أن الإنسان بوصفه متناهيًا يجمع بين الوجود واللاوجود، وأن الإنسان بموجب مقتضيات الوجود منفصل دائمًا عن وجوده الحقيقي.» إضافة لذلك، اليوتوبيا مفيدة ومضرة في نفس الوقت؛ لأنها تفتح الباب أمام أشياء جديدة يمكن للبشرية القيام بها، ولكنها في الوقت نفسه توحي بأن الأشياء المستحيلة هي في الواقع ممكنة. اليوتوبيا مهمة لأنها «قادرة على تغيير المسلَّم به»، وهي غير مجدية لأنها «تؤدي حتمًا إلى التحرر من الوهم.» ويختتم كلامه بالإشارة إلى أمل مقيد، زاعمًا بأن اليوتوبيا دائمًا ما تكون معلقة بالضرورة بين «الإمكانية والاستحالة».
علاوة على ذلك، دفع الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر (١٨٧٨–١٩٦٥)، صاحب كتاب «مسارات في اليوتوبيا» (المنشور بالعبرية في عام ١٩٤٦، وبالإنجليزية عام ١٩٤٩)، بأهمية اليوتوبية لكلٍّ من اليهودية والمسيحية، معتبرًا أن اليوتوبيا هي التطبيق العملي للإيمان بفكرة المخلِّص الذي سينقذ العالم في كلتا الديانتين. لكنه حذَّر من خطر تحويل اليوتوبيا إلى مخطط يجب اتِّباع خطواته.
بتقديم اليوتوبيا صورًا بديلة للمستقبل، فإنها تتحدى الحاضر لتبرير نفسها بقيم تسمو فوق مسائل السلطة الراهنة. وتؤكد اليوتوبيا على أن الحياة للبشر، وأنه ينبغي تصميم المجتمع بحيث يلبي احتياجات جميع أعضائه.
لوحظت مؤخرًا وظيفة المعارضة التي تقوم بها اليوتوبيا في حركة «لاهوت التحرير»، والتي كانت لها على نحو واضح رؤية يوتوبية في «اختيارها التمييزي للفقراء» وتضمنت شكلًا من أشكال المجتمعات المقصودة عُرف ﺑ «جماعات الأساس»، بوصفه جزءًا جوهريًّا من إحداث التغيير الاجتماعي. كانت الحركة صريحة في معارضة دعم الكنيسة للأغنياء والأقوياء في أمريكا الجنوبية. وبقيامها بذلك، فقد احتكمت إلى المساواة التي دعا لها المسيح والقديس فرانسيس على وجه الخصوص. ويشير جوستافو جوتيريز (المولود عام ١٩٢٨) — وهو عالم لاهوت بيروفي وأحد مؤسسي الحركة — صراحة إلى الوظيفة اليوتوبية في حركته اللاهوتية. ومع تجاوز الحركة لحدود الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، التي قمعتها، إلى المذهب البروتستانتي، وإلى لاهوت السود على وجه الخصوص، أضافت عنصر العرق ثم النوع إلى الطبقة.
واليوم، ثمة مجتمعات مقصودة مسيحية كثيرة، بعضها مغالٍ في التحفظ، وبعضها مبالغ في الراديكالية، محاولين أن يعيشوا الحياة التي يعتقدون أن المسيحية تقتضيها منهم. ويميل المحافظون منهم إلى الانعزال عن المجتمع الأكبر، في حين يتجه الراديكاليون منهم إلى الانخراط مباشرة في المجتمع الأكبر.
ومن ثم تستمر العلاقة الوثيقة بين المسيحية واليوتوبية حتى في الوقت الذي يؤمن فيه كثير من المسيحيين أنها ضرب من الهرطقة.