اليوتوبيا والأيديولوجية
صك المفكر الفرنسي أنطوان دستوت دي تراسي (١٧٥٤–١٨٣٦) كلمة «أيديولوجية» في عام ١٧٩٤ تقريبًا؛ لتصف ما كان يأمل أن يكون علمًا جديدًا للأفكار. لم ينتشر قط هذا الاستخدام، إلا أن الكلمة استخدمها آخرون، غالبًا، كتوصيف سلبي للطرق التي يضلل بها الناس أنفسهم وغيرهم من خلال معتقداتهم. بالتأكيد صُكت كلمة «يوتوبيا» قبلها بوقت طويل، لكن آل الأمر بالكلمتين إلى أن أصبحتا مرتبطتين رغم أن هذا يمكن أن يكون مربكًا بعدة طرق. وقد أُطلق على القرن العشرين «عصر الأيديولوجية»، واستُخدمت اليوتوبيا استخدامين: باعتبارها مقابلًا للأيديولوجية، وفي نفس الوقت باعتبارها مرادفًا لها. فعلى سبيل المثال، عندما بدأت الشيوعية — إحدى أهم أيديولوجيات القرن العشرين — في الانهيار، كان كثيرًا ما يطلق على ذلك نهاية اليوتوبيا.
كان كارل مانهايم أول من ربط بين اليوتوبيا والأيديولوجية في كتابه الصادر باللغة الألمانية، المنشور في عام ١٩٢٩، «الأيديولوجية واليوتوبيا»، والذي أعاد كتابته باللغة الإنجليزية تحت عنوان «الأيديولوجية واليوتوبيا: مقدمة إلى علم اجتماع المعرفة»، وظهر في عام ١٩٣٦، لكنه كان مختلفًا تمامًا عن الكتاب الأصلي. كانت الأيديولوجية واليوتوبيا عند مانهايم أساسيتين في فهمه لكيفية وسبب تفكير الناس بالطريقة التي يفكرون بها، وكان يبحث عن مفاهيم غير تقييمية تتيح له دراسة المسألة بموضوعية.
قال مانهايم إن الأفكار التي نحملها، والطريقة التي نفكر بها، والمعتقدات المترتبة تتأثر جميعها بموقفنا الاجتماعي. وعلى وجه الخصوص، أطلق على معتقدات متقلدي السلطة أيديولوجية، ومعتقدات من أملوا في الإطاحة بالنظام يوتوبيا. وفي كلتا الحالتين، أخفت معتقداتهم أو حجبت واقع مواقفهم. منعت الأيديولوجية متقلدي السلطة من أن يعوا أي نقاط ضعف في موقفهم، ومنعت اليوتوبيا مَن خارج السلطة مِن أن يعوا صعوبات تغيير النظام، وكلتاهما منعت أتباعها من رؤية مواطن القوة في موقف الآخر.
كان من عادة مانهايم أن يضم معًا مقالات قد كتبها في فترات مختلفة دون مراجعة منهجية؛ ما أدى إلى تناقضات في المفاهيم الرئيسية، لكن الطبعة الألمانية من عمله «الأيديولوجية واليوتوبيا» استُقبلت باعتبارها حدثًا فكريًّا كبيرًا عندما نُشرت في عام ١٩٢٩، وصاحبتها مراجعات نقدية متحمسة وبالغة السلبية على حد سواء. وفي إعادة كتابته للكتاب باللغة الإنجليزية، الذي صدر في عام ١٩٣٦، والذي كان موجهًا للجمهور الأكاديمي المتحدث باللغة الإنجليزية، حذف مانهايم التوطئة وقائمة المحتويات المفصلة جدًّا، وأضاف مقالات ومقدمة إلى علم اجتماع المعرفة. لم تحمل الطبعة الألمانية عنوانًا فرعيًّا. أما الطبعة الإنجليزية، فحملت عنوانًا فرعيًّا هو: «مقدمة إلى علم اجتماع المعرفة»، وكان جزء كبير من المادة المضافة مخصصًا لشرح علم اجتماع المعرفة، ووضع المادة المراجعة من الطبعة الألمانية في ذلك السياق.
يعكس مفهوم «الأيديولوجية» اكتشافًا نبع من الصراع السياسي، وهو أن المجموعات الحاكمة يمكن أن تصبح في تفكيرها شديدة الاهتمام بمصلحتها في أحد المواقف، لدرجة أنها لم تَعد تستطيع رؤية حقائق معينة من شأنها أن تقوِّض إحساسها بالسيطرة … ويعكس مفهوم التفكير اليوتوبي الاكتشاف المقابل النابع من الصراع السياسي، وهو أن مجموعات مقهورة معينة مهتمة، بقوة، فكريًّا بتغيير وضع معني بالمجتمع، حتى إنهم عن جهل منهم لا يرون في هذا الوضع سوى العناصر السلبية فقط، فلا يقدر تفكيرهم على التشخيص السليم للوضع الحالي للمجتمع. إنهم غير معنيين على الإطلاق بما يوجد فعليًّا على أرض الواقع، بل يسعون بالفعل في تفكيرهم إلى تغيير الوضع الحالي.
ولكن كما قال عالم اللاهوت بول تيليخ في مراجعة نقدية للطبعة الألمانية من كتاب مانهايم الذي صدر في عام ١٩٢٩: «يدرك المؤمن باليوتوبية أن أفكاره ليست واقعية، لكنه يؤمن أنها ستصبح أمرًا واقعًا. أما الشخص الذي لديه أيديولوجية، فعادة ما لا يدرك ذلك.»
في حين أن انحسار الأيديولوجية لا يمثل كارثة إلا لطبقات معينة، ودائمًا ما تتخذ الموضوعية المستمدة من نزع الأقنعة عن الأيديولوجيات شكل إيضاح الذات بالنسبة للمجتمع ككلٍّ؛ فالاختفاء التام للعنصر اليوتوبي من الفكر والفعل الإنسانيين سيعني أن الطبيعة الإنسانية والتطور البشري سيكون لهما طابع جديد تمامًا. واختفاء اليوتوبيا يؤدي إلى جمود الأوضاع التي في ظلها لا يعدو الإنسان نفسه كونه أحد الأشياء.
ورغم تناول بعض الباحثين لكلٍّ من الأيديولوجية واليوتوبيا معًا، وتقديم بعضهم مساهمات كبيرة في فهمنا لإحداهما أو الأخرى، فإنه بعد مانهايم، استُخدمت الكلمتان غالبًا على نحو منفصل. لكن الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في محاضراته، التي ألقاها عام ١٩٧٥ حول الموضوع، أعاد الربط بينهما. قال ريكور إن الأيديولوجية واليوتوبيا لهما سمات إيجابية وسلبية على حد سواء؛ فالشكل السلبي من الأيديولوجية تشويه الواقع، ومن اليوتوبيا فانتازيا. والجانبان الإيجابيان للأيديولوجية هما: «تبرير الأوضاع القائمة» و«إدماج الأفراد في هوية الجماعة.» أما الجانبان الإيجابيان الموازيان لليوتوبيا، فهما «تقديم شكل بديل للسلطة» و«استكشاف الممكن».
فالأيديولوجيا تحكي قصة؛ قصة تبرر أو تشرعن وجود ومعتقدات جماعة ما، وهي بذلك تعطي هوية لتلك الجماعة، لكن القصص هي تشويهات لما حدث فعليًّا، ومن المهم «كشف النقاب» عن هذا التشويه.
المشكلة الرئيسية عند ريكور، كما كانت عند مانهايم، هي التأثير المتغلغل للأيديولوجية وكيف يمكن التعرف عليها من داخلها. وكما يقول ريكور: «نحن نفكر من منظورها بدلًا من أن نفكر فيها.»
رأى مانهايم أن الانتقال بين الطبقات الاجتماعية، لا سيما لمَنْ أَطلَق عليهم «المفكرين المتحررين»، أتاح لهم فهْم الموقف من الخارج، وقال إن اليوتوبيا يمكن أن تكون مصححة للأيديولوجية. أما ريكور، فرأى أن إحدى وظائف اليوتوبيا هي تقويض الأيديولوجية.
من «اللامكان» ينشأ أصعب الأسئلة عن الماهية؛ ومن ثم تبدو اليوتوبيا في جوهرها المقابلَ الدقيق لمفهومنا الأساسي عن الأيديولوجية المتمثل في الإدماج الاجتماعي؛ فمهمة اليوتوبيا في المقابل هي الهدم الاجتماعي.
إليكم قناعتي: السبيل الوحيد للخروج من الحلقة المفرغة التي تدخلنا فيها الأيديولوجيات هو تبنِّي فكر يوتوبي، وإعلانه، والحكم على إحدى الأيديولوجيات على هذا الأساس. ولأن المراقب المطلق [«المفكر المتحرر» عند مانهايم] مستحيل الوجود، يتولى شخص من داخل العملية نفسها مسئولية الحكم.
يزعم ريكور أنه من اللامكان الخاص باليوتوبيا يبدو واقعنا غريبًا، فيقول: «أليست فانتازيا المجتمع البديل و«لامَكان» منظوره الخارجي إحدى نقاط الخلاف العويصة فيما يتعلق بالماهية؟» إن قدرة اليوتوبيا على كشف النقاب عن الأيديولوجية عن طريق إيضاح وجود بدائل لها لَهِيَ بوضوح أحد جوانبها الإيجابية. ويرى ريكور أن قدرة اليوتوبيا على تحدي الأيديولوجية متجددة.
ويركز ريكور على نحو خاص على كيف أن اليوتوبيا تمثل طرقًا بديلة لتوزيع السلطة، وأحيانًا يبدو أنه يرى أن اليوتوبيات معنية في المقام الأول بالسلطة، بل وجعل ذلك أحد الجانبين الإيجابيين لليوتوبيا. وهذا منطقي فيما يتعلق بعلاقتها بالأيديولوجية؛ فدور الأيديولوجية هو تعزيز توزيع السلطة الحالي. أما دور اليوتوبيا، فهو هدم هذا التوزيع.
ورغم أن ريكور أمضى وقتًا أطول في تناول الأيديولوجية مقارنة باليوتوبيا، فيبدو أن اليوتوبيا، في نهاية الأمر، أهم من الأيديولوجية، لكن كلًّا منهما تؤثر في الأخرى وتُغيِّر منها.
واليوم، لا يزال مصطلح الأيديولوجية يُستخدم على نحو سلبي للإشارة إلى الطريقة التي تشوه بها معتقداتُ الآخرين الوضعَ الحقيقي، لكن يستخدمها أيضًا علماء الاجتماع للإشارة إلى الأنظمة العقائدية، عادةً العقائد السياسية هي التي تنظم نظرة الشخص إلى العالم. وهكذا أصبحت الأيديولوجية — غالبًا دون الإشارة لليوتوبيا — نقطة نقاش محورية على الصعيد السياسي الدولي والمحلي، وتجري دراستها باعتبارها جزءًا من الطريقة التي يفكر بها الناس سياسيًّا.
الأيديولوجية واليوتوبيا مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا؛ فثمة يوتوبيا في صميم كل أيديولوجية. صورة إيجابية — بعضها غامض، وبعضها مسهب التفاصيل — عما سيكون عليه العالم إذا ما تحققت آمال الأيديولوجية. ومن الممكن أن تتحول يوتوبيا إلى أيديولوجية. ولا تتضح تمامًا العملية التي يمكن بموجبها أن تصبح اليوتوبيا أيديولوجية، وهي بلا شك تختلف من حالة لأخرى، لكن من المحتمل إن كانت اليوتوبيا جذابة وقوية على نحو كافٍ، فيمكنها أن تحوِّل الأمل والرغبة إلى معتقد وفعل لتحقيق اليوتوبيا على أرض الواقع من خلال حركة سياسية أو اجتماعية. لا تمرُّ أغلب اليوتوبيات بتلك العملية، وأغلب التي تمرُّ بها تفشل، لكن إذا تحولت اليوتوبيا إلى منظومة عقائدية تنجح في الوصول إلى السلطة في مجتمع، أو بلد صغير، أو حتى عدد من البلدان، فأغلب الظن أنها ستتحول إلى أيديولوجية. وعند تلك المرحلة، ستتحداها يوتوبيا أو أكثر قد تنجح — لكنها في الغالب لن تنجح — في الإطاحة بالأيديولوجية، ولكن، بحسب زعم مانهايم وريكور، اليوتوبيا هي السبيل الذي من خلاله يمكن تحدي الأيديولوجيات.