مقدمة
نحن البشر ضعاف السمع مقارنة بأنسبائنا في شجرة
الحياة.
1 فدون الحد الأدنى من نطاق السمع البشري
توجد الموجات تحت الصوتية العميقة، ذلك الحيز الذي يضم
أصوات الرعد والأعاصير والأفيال والحيتان. كثير من
الكائنات لديها القدرة على الإحساس بالموجات تحت
السمعية والتواصل بها، تلك الموجات التي تقطع مسافات
طويلة بسلاسة، وتنتقل عبر الهواء والماء والتربة
والحجر. في أحد أشهر طقوس التزاوج في مملكة الحيوانات،
تبث ذكور الطاوس موجات تحت صوتية قوية بواسطة أذنابها
المرفوعة؛ فما يراه البشر مجرد استعراض مرئي هو في
حقيقته نداءات صوتية.
2
إن أعمق الموجات تحت الصوتية هي تلك التي تَصدُر عن
كوكبنا نفسه. لو استطعت أن تُصغي إلى الموجات تحت
الصوتية لكوكب الأرض، فقد تسمع هدير انفصال كتل جليدية،
أو أجيج بركان، أو هجيج إعصار في النصف الآخر من
العالم.
3 أما أعمق تلك الموجات فهي النبضات تحت
السمعية الدورية التي تتردد تحت أقدامنا وخلال الهواء.
حينما تتلاطم موجات المحيط فوق الرفوف القارية، ترسل
ذبذبات منتظمة عبر قشرة الأرض؛ ذلك هو نبض
كوكبنا.
4 وحين ترجُّ الزلازل سطح الكوكب، تخلق
اهتزازات فوق سمعية تنتقل عبر الهواء، يدوي قرعها في
الغلاف الجوي كأجراس صامتة.
5
تلك الجوقة تحت السمعية لكوكبنا تصدح من حولك طوال
الوقت. وكثير من الحيوانات — مثل حمام الصخور والثعابين
والنمور والقنادس الجبلية — قادرة على سماع تلك الأصوات
ذات التردد المنخفض، على عكس البشر.
6 فسمعنا ينحصر عادة في نطاق ضيق من الترددات
يتراوح بين ٢٠ هرتز و٢٠ كيلوهرتز، وهو نطاق يضيق
تدريجيًّا مع تقدمنا في العمر. وفي أفضل الحالات،
يمكننا أحيانًا أن نحس بالترددات تحت الصوتية في شكل
اختلاج أو قرع منتظم في الصدر، أو شعور مزعج بعدم
الارتياح.
7
على الجانب الآخر، فوق العتبة القصوى لنطاق السمع
البشري، توجد الأصوات فوق السمعية؛ وهي أصوات ذات
ترددات عالية تهتز بسرعة تفوق قدرتنا على سماعها. وتوجد
مجموعة مدهشة التنوع من الأنواع — كالفئران والعث
والخفافيش والخنافس والذُّرة والمراجين — تبث أصواتًا
فوق سمعية لا يقدر البشر على سماعها.
8 ربما كان أسلافنا في وقت ما قادرين على
سماع تلك الأصوات ذات النغمات العالية، ولا يزال بعض
أنسبائنا من الرئيسيات الأصغر حجمًا — كالرسغيات
الصغيرة والليمورات القزمة — يتواصلون بالأصوات فوق
السمعية.
9 لكن البشر المعاصرين فقدوا تلك
القدرة.
10
ولكن بعض الأنواع الأخرى تستعين بالأصوات فوق السمعية
لتَصوُّر عالَمها؛ من أجل التنقل، والعثور على شركاء
تزاوج، وتتبُّع الفرائس. فباستخدام ما يُعرف باسم تحديد
الموقع بالصدى، ترسم الخفافيش والحيتان المسننة صورًا
لمحيطها عن طريق بث شعاع من الموجات فوق الصوتية ثم
تحليل رَجْع صداها. يعمل السونار الحيوي (وهي لفظة
مرادفة لتحديد الموقع بالصدى) مثل كشَّاف صوتي، صقله
التطور حتى جعله يضاهي في دقته أدق أجهزتنا الطبية.
تستخدم سمامات الكهوف الصغيرة، وطيور الزيت الكاريبية،
والزبابيات الليلية، والفئران، أشكالًا أبسط من تحديد
الموقع بالصدى؛ فهي أيضًا ترى العالم من خلال
الصوت.
11 ورغم أن تلك النداءات هي من أعلى الأصوات
التي سُجلت في مملكة الحيوانات على الإطلاق، فإننا لا
نسمعها.
12 بعض البشر ممن لديهم حساسية لهذه الأصوات
يمكنهم أحيانًا سماع الطقطقات الخافتة في العتبة الأدنى
من موجات تحديد الموقع بالصدى الحيوانية؛ وفي حالات
نادرة، تتطور لدى بعض فاقدي البصر القدرة على تحديد
موقعهم بالصدى أيضًا. لكن السواد الأعظم منَّا نحن
البشرَ لن يشعر بأعلى الأصوات فوق السمعية الموجهة إلى
آذاننا مباشرة إلا كنسمة هواء خفيفة خاوية من أي
أصوات.
كما يقول ليروي ليتل بير، وهو فيلسوف من قبيلة
بلاكفوت: «الدماغ البشري مثل المذياع إذا ضبطت مؤشره
على محطة إذاعية محددة، لا يقدر على التقاط ما سواها من
محطات … والحيوانات والصخور والأشجار تبث تردداتها عبر
كامل نطاق الإحساسية في آنٍ واحد.»
13 يحد تكويننا الفسيولوجي، وربما النفسي، من
قدرتنا على سماع أنسبائنا من غير البشر. لكن البشر
بدءُوا يعززون قدرتهم السمعية. فالتقنيات الرقمية التي
غالبًا ما يُعزى إليها اغترابنا عن الطبيعة، باتت تقدم
لنا أساليب فعالة تتيح أمامنا فرصة للإصغاء إلى غير
البشر، لتعيد لنا بذلك اتصالنا مع العالم
الطبيعي.
في الأعوام الأخيرة، بدأ العلماء يضعون أجهزة استماع
رقمية في جميع الأنظمة البيئية تقريبًا على كوكب الأرض،
بداية من القطب الجنوبي وحتى نهر الأمازون. تلك
الميكروفونات محوسبة ومؤتمتة ومتصلة بمستشعرات رقمية
وطائرات مسيَّرة وأقمار صناعية فائقة القدرة إلى حد
أنها تستطيع التقاط صوت همس أنثى حوت لوليدها في أعماق
المحيط. ثبَّت الباحثون أيضًا ميكروفونات دقيقة في نحل
العسل والسلاحف، ووضعوا مراكز تنصت في الشعاب المرجانية
والأشجار. حين تتصل شبكات الاستماع تلك بعضها ببعض، قد
تمتد لتغطي قارَّات وأحواض محيطات كاملة.
14 يصغي الهواة كذلك إلى أصوات الطبيعة
باستخدام أجهزة استماع منخفضة التكلفة مثل جهاز
«أوديوموث» (وهو جهاز مفتوح المصدر في حجم الهاتف
الذكي.) الذي تتكلف أرخص نسخة منه يمكنك تجميعها بنفسك
أقل من ١٠٠ دولار.
15 تلك الأجهزة الرقمية مجتمعة تعمل بمنزلة
جهاز مقوٍّ للسمع يعمل على نطاق الكوكب بأكمله؛ فيتيح
للبشر رصد ودراسة أصوات الطبيعة التي تقع خارج نطاق
قدراتنا الحسية.
يحكي هذا الكتاب قصص علماء يستخدمون تلك التقنيات
الرقمية للكشف عن عالم الأصوات غير البشرية الغامض،
وقصص الأصوات المدهشة التي يسمعونها. فقد كشفت آخر
الاكتشافات العلمية أن مجموعة هائلة من الأنواع تصدر
مجموعة من الأصوات متنوعة إلى حد مذهل، أغلبها يقع خارج
حيز السمع البشري؛ ومن ثَم ظلت غير مكتشفة وغير مفهومة
حتى وقت قريب. (أثناء تأليفي هذا الكتاب، اطلعت على
أبحاث شملت أكثر من ألف نوع، تمثل جزءًا ضئيلًا من
الاكتشافات العلمية في الصوتيات الحيوية؛ وهو المصطلح
الذي يُطلَق على العلم الذي يدرس أصوات الكائنات غير
البشرية.) تستخدم أفراد الدلافين والحيتان البيضاء
والفئران وكلاب المروج أصواتًا منطوقة فريدة (مثل صفير
مميز) ليشير أحدها إلى الآخر، تمامًا مثلما نستخدم نحن
البشر أسماءنا.
16 وتَنغي صغارُ الخفافيش لأمهاتها التي
تناغيها كما تفعل الأمهات البشريات. وتنسق صغار
السلاحف، التي كان يُعتقَد فيما قبلُ أنها خرساء، لحظة
فقس بيضها بمناداة بعضها من خلال بيضاتها. إن الحيوانات
تستخدم الصوت لتحذير وحماية وتسلية واجتذاب وتعليم
وتسلية وتسمية بعضها.
إن الإصغاء بعناية إلى العالم غير البشري يكشف لنا
الستار عن عمليات تواصل معقدة لدى مجموعة واسعة من
الأنواع، ويشكك في صحة الادعاء القائل إن البشر ينفردون
بالقدرة على التواصل باللغة. قد تبدو هذه الادعاءات
معقولة حين نناقش الرئيسيات أو الطيور. لكن التقنيات
الرقمية تكشف لنا النطاق الضخم من عمليات التواصل
الصوتي التي تحدث في عالم الطبيعة. فبالاستعانة بتقنيات
الصوتيات الحيوية الرقمية، تمكن العلماء من توثيق قدرة
الأنواع التي لا تمتلك آذانًا، أو وسيلة ظاهرة للسمع،
على تفسير المعلومات المعقدة التي تتناقلها فيما بينها
عن طريق الأصوات واستجاباتها لتلك المعلومات. حين تنتشر
الأسماك ويرقات الشعاب المرجانية (وهي كائنات لا يتعدى
حجمها بضعة مليمترات، ولا تملك جهازًا عصبيًّا) في
عُرْض المحيط، فإنها تميِّز أصوات شعابها التي تنتمي
إليها من بين صخب المحيط وأصواته المتضاربة، فتسبح
عائدة إليها لتستقر في موطنها. والنباتات تبث ضوضاء فوق
سمعية مميزة حين تعاني الجفاف أو تواجه تهديدًا.
واستجابة لطنين النحل، تفيض الأزهار برحيق سكري، كما لو
أنها تترقب قدومه. إن الأرض تخوض حوارًا مستمرًّا.
والآن، باتت التقنيات الرقمية توفر للبشرية وسيلة جديدة
للإصغاء إلى كل المشاهد الصوتية العامرة التي يزخر بها
العالم من حولنا، فتفتح آذاننا على وسعها لنكتشف غموض
الأصوات غير البشرية المفعمة بالحياة.
عالم رنان
تقع الاكتشافات العلمية الموضحة في هذا الكتاب في
نطاق مجالَين بحثيَّين: الصوتيات الحيوية،
والصوتيات البيئية. هذان التخصصان العلميان مجتمعان
يمكِّنان البشر من الإصغاء إلى الأحاديث الخفية
الدائرة في العالم الطبيعي، حتى في المناطق الأكثر
عُزلةً على كوكب الأرض، وذلك عبر وسائط رقمية.
وسنستكشف في الفصول التالية كيف أن هذا يُعزِّز
بصورة جذرية من قدرتنا على رصد الكائنات والأنظمة
البيئية واكتشاف التغيرات البيئية. كذلك يُجري
العلماء تجاربَ لترميم الأنظمة البيئية باستخدام
تقنيات الصوتيات الحيوية والصوتيات البيئية؛ فأصوات
الطبيعة التي تعرَّفوا إليها يمكن استخدامها لجعل
النباتات والحيوانات تستعيد عافيتها، وهذا ينطبق
أيضًا علينا نحن البشرَ. وكشفت أبحاثهم أيضًا عن أن
الضوضاء البيئية هي اعتداء على العالم الطبيعي في
تزايد مطَّرِد، وأنها شكل أساسي من أشكال التلوث؛
ومن ثَم فإن خفض الضوضاء الناتجة عن البشر لهو أحد
التحديات الأساسية الكبيرة التي تواجه الحفاظ على
البيئة في عصرنا الحالي.
17
ما علم الصوتيات الحيوية على وجه التحديد؟
ببساطة، الصوتيات الحيوية هو علم دراسة الأصوات
التي تُصدرها الكائنات الحية.
18 وهو مجال يجمع الباحثون فيه بين الخبرة
العلمية والفنية في الإصغاء للأصوات. تخيَّلْ عالِم
أحياء ميدانيًّا يمتلك تدريب عالِم صوتيات، ومهارات
عالِم بيانات، والحس المُرهَف لملحن موسيقي؛ وستكون
قد تصورت نحو نصف الخبرات التي يمتلكها علماء
الصوتيات الحيوية المعاصرون.
19 يفيد الصوتيات الحيوية جدًّا في دراسة
المناطق البرية؛ فمن خلاله اكتشف العلماء أنواعًا
جديدة تمامًا، وأعادوا اكتشاف أنواع كان يُعتقد
أنها انقرضت. إن الكاميرات تلتقط فقط صورًا
للحيوانات وهي تسلك مسارًا ما في الغابة، أما
المسجلات الرَّقْمية فتستطيع التقاط أصواتها وهي
مختبئة في الشجيرات.
أما علم الصوتيات البيئية، الذي يسمى أيضًا علم
البيئة الصوتي أو دراسة المشهد الصوتي، فيتضمن
الاستماع إلى الأصوات البيئية الصادرة عن مشهد
طبيعي كامل.
20 تخيَّلْ نفسَك واقفًا في منتصف غابة
استوائية؛ قد تسمع حفيف أوراق الأشجار، وصيحات
الطيور، وهدير شلال. تلك الأصوات مجتمعة تشكل ما
نسميه المشهد الصوتي.
21 والمشاهد الصوتية من شأنها أن تكشف
الكثير عن الحالة الوظيفية للنُّظُم البيئية.
فأصوات الأنظمة البيئية العليلة تختلف كثيرًا عن
تلك الصحيحة. ومثل سمَّاعة الطبيب التي يتبين بها
صوت النفخات القلبية، نستطيع بواسطة علم الصوتيات
البيئية أن نتبين وجود الأصوات التي تدل على صحة
البيئة أو غيابها. فكل مشهد طبيعي له مشهد صوتي
فريد، وهو بمنزلة بطاقة تعريف صوتية تجمع أصوات
الحيوانات (وفيها البشر)، والنباتات، وحتى الأصوات
الجيولوجية الموجودة فيها.
22 فمن مجرد الإصغاء إلى تلك الأصوات،
يستطيع عالم الصوتيات البيئية أن يميز الفرق بين
مزرعة أشجار وغابة، أو يكتشف مؤشرات مبكرة على
تدهور أنظمة بيئية تبدو سليمة ظاهريًّا، وبفضل
الصوتيات البيئية، صار بإمكاننا رسم خرائط للمناطق
البرية حتى دون أن تطأها أقدامنا.
23 فعالم الصوتيات البيئية يُصغي إلى
المشاهد الطبيعية مثل اختصاصي أشعة ينظر إلى أشعة
رنين مغناطيسي، كلاهما يستطيع أن يتبين أدق
العلامات التي تدل على الصحة والاعتلال.
أحدثَ جيل جديد من تقنيات التسجيل الصوتي
تحوُّلًا جذريًّا في الصوتيات الحيوية؛ إذ سمح
للبشر بالاستماع عن بُعد بطريقة مؤتمتة.
24 حينما بدأ العلماء يسجلون أصوات
الطبيعة باستخدام التقنيات التناظرية، كانت الأجهزة
ضخمة ومعقدة وباهظة. أما اليوم فقد استُبدِلَت
ببكرات الأشرطة المغناطيسية الثقيلة المسجلاتُ
الرقمية التي تتميز بإمكانية حملها وخفة وزنها وطول
عمرها ورخص ثمنها. منذ عقد مضى، كانت المعدات
اللازمة للتسجيلات الميدانية تملأ صندوق شاحنة
صغيرة؛ أما اليوم فصارت المسجلات الرقمية صغيرة إلى
حد أنه يسعك وضعها في حقيبة ظهر أو حتى في جيبك
الخلفي. يمكن تركيب أجهزة الاستماع الصوتي الرقمية
تلك في أي مكان تقريبًا وتستطيع أن تعمل دون توقف،
وتستطيع التقاط الأصوات على نطاق أوسع مما تستطيع
الكاميرات التقاط الصور فيه. وقد مكَّن ذلك العلماء
من الإصغاء إلى شتى الكائنات في شجرة الحياة، في
أقاصي الكرة الأرضية. ففي كل بقعة من العالم، يُصغي
الهواة والمتخصصون إلى أصوات الطبيعة.
يؤدي التحوُّل الرقمي في أي مجال إلى تراكم سيل
عارم من البيانات. للتعامل مع ذلك الفيض من
البيانات، استعمل العلماء تقنيات جديدة مستمدة من
الذكاء الاصطناعي لتحليل تسجيلاتهم الصوتية
الرقمية.
25 تعدل الخوارزميات التي طُورَت
للاستخدامات البشرية (مثل خوارزميات تحويل الكلام
إلى نصوص الموجودة في الهواتف الذكية) لتحليل
وتفسير أصوات أنواع أخرى من الكائنات.
26 خلال السنوات القليلة الأخيرة، تضاعفت
كفاءة تلك الخوارزميات؛ فصارت قادرة على التعرف على
النوع، بل حتى على حيوانات مفردة، على غرار برامج
التعرف على الصوت.
27 لكن من المهم عدم المبالغة في تقدير
القدرات الحالية لتلك الخوارزميات، التي لا تزال
غير قادرة على التعميم بكفاءة وغالبًا ما تتطلب
درجة من التدقيق اليدوي البشري.
28 وهناك أيضًا تحديات جسيمة تنطوي عليها
المعدات المستخدمة في ذلك المجال، مثل القيود
المتعلقة بالطاقة في المستشعرات.
لكن لو استطعنا مواجهة تلك التحديات، فقد تكون
البشرية على أعتاب اختراع نسخة حيوانية من «ترجمة
جوجل».
29 فمن خلال الدمج بين أجهزة الاستماع
الرقمية والذكاء الاصطناعي، بدأ العلماء يفكُّون
شفرة الأصوات غير البشرية ويسجلونها. يستخدم بعض
العلماء الذكاء الاصطناعي لوضع قواميس لأصوات الفيل
الأفريقي الشرقي، والدولفين الأسترالي الجنوبي وحوت
العنبر الأطلنطي. بل إن بعض العلماء نجحوا في إجراء
عمليات تواصل متبادل مع كائنات غير بشرية، بواسطة
الروبوتات والذكاء الاصطناعي. تتيح التكنولوجيا
الرقمية الآن للعلماء تقدير نمط التواصل الفريد
لكائن حي ما؛ فرغم أن أحبالنا الصوتية لا تستطيع
إصدار طقطقة مثل التي تصدرها الدلافين أو طنين
كالذي يصدره النحل، فحواسيبنا قادرة على ذلك. ويجري
الآن تطوير التقنيات المستخدمة في «إنترنت الأشياء»
للتواصل مع الأنواع الأخرى بطرق جديدة
كليًّا.
أدت تلك التقنيات إلى اكتشافات علمية أحدثت ثورة
في فهمنا للعالم الطبيعي. وفي معرض سردي لقصص تلك
الاكتشافات في الفصول التالية إنما أؤكد ثلاث نقاط؛
أولًا: عدد الكائنات غير البشرية التي لديها القدرة
على إصدار الأصوات والإحساس بها أكبر بكثير مما كان
يعتقد العلماء من قبل؛ ثانيًا: كثير من الأنواع
لديها أنماط سلوك تواصلية واجتماعية أعقد وأكثر
ثراءً مما كان يُعتقَد من قبل، وثالثًا: تلك
الاكتشافات تخلق احتمالات جديدة للحفاظ على البيئة
والتواصل بين الأنواع المختلفة. قوبل بعض هذه
الاكتشافات العلمية في البداية بالتشكيك. فقد رفض
كثير من الباحثين في البداية فكرة أن الكائنات غير
البشرية لديها القدرة على إصدار أصوات تقع خارج
نطاق السمع البشري (مع أننا نعلم الآن أنه توجد
أنواع كثيرة لديها القدرة على إصدار مثل تلك
الأصوات، وأنواع أكثر لديها القدرة على سماعها).
كما استهزأ كثير من الباحثين بفكرة أن الكائنات غير
البشرية يمكنها إصدار أصوات دقيقة تحمل معلومات
معقدة؛ فقد كان يُعتقَد أن هذه صفة ينفرد بها البشر
دون غيرهم (وإن كنا نعرف الآن أن هذا مخالف
للحقيقة). والعلماء الذين أستعرض أبحاثهم في صفحات
هذا الكتاب غالبًا ما لاقَوا اعتراضات من زملائهم
لكنهم تغلبوا عليها بأبحاثهم المضنية. واكتشافاتهم
إنما هي اكتشاف جمعي للأهمية المحورية التي تحظى
بها الأصوات في عالم الكائنات غير البشرية، استغرق
الوصول إليه عقودًا.
وفي عرضي لهذه الرؤى، من المهم الإقرار بأهمية
الطرق التقليدية للإصغاء للطبيعة. فالإصغاء العميق
أو الإنصات هو فن تقليدي عريق ومقدس، ما يزال
يمارَس باعتباره وسيلة فعَّالة لكشف حقائق الطبيعة.
وكثير من «الاكتشافات» التي يسردها هذا الكتاب هي
في الواقع مجرد إعادة اكتشاف لأشكال أقدم من
المعرفة البيئية. تقول روبن وال كيميرير عالمة
البيئة النباتية من قبيلة البوتاواتومي: «أبتسم
عندما يقول أحد زملائي «اكتشفت كذا.» فذلك يشبه إلى
حد ما ادعاء كولومبوس بأنه اكتشف أمريكا. إن
التجارب العلمية لا تتعلق بالاكتشاف، وإنما
بالإصغاء إلى معارف الكائنات الأخرى
وترجمتها.»
30 تذكرنا كيميرير بأنه إذا طرحنا أسئلة
واضحة بذهن متفتح، وأصغينا بإمعان وصبر، فستجيبنا
عنها الطبيعة. يمكن تعلُّم الكثير بهذه الطريقة،
ولدينا الكثير لنتعلمه من المعارف البيئية
التقليدية في هذا الصدد. يوفر لنا الإنصات أيضًا
علامات استرشادية ضرورية نهتدي بها في رحلتنا داخل
هذا العالم الجديد، عالم الصوتيات الحيوية الرقمية؛
إذ يرسم إطارًا أخلاقيًّا راسخًا للمسئولية وحس
العناية، لولاه لأمكن للبشر استخدام تلك الأدوات
الرقمية الجديدة للتمادي في استغلال الأنواع الأخرى
وتسخيرها بدلًا من حمايتها والتواصل معها.
عالم كله آذان مصغية
على مدى خمسين عامًا، وصف الفيلسوف بيير تيلار دي
شاردان مستقبل الحوسبة بعبارة مُلغِزة. وكانت
الاستعارة الشاعرية التي استخدمها لوصف الاتساع
المتزايد لشبكات الكمبيوتر تنم عن نفاذ البصيرة؛ إذ
قال إن كوكبنا «يعتمر عقلًا.»
31 وهي استعارة استفاض لاحقًا في بيانها
مارشال ماكلوهان في كتابه الأكثر مبيعًا «مجرَّة
جوتنبرج».
32 قبل عقود من اختراع الشبكة العنكبوتية
العالمية تنبأ ماكلوهان بثورة رقمية، تقوم فيها
شبكات الكمبيوتر المتصلة مقام الجهاز العصبي
للكوكب. كما توقع أن يؤدي ظهور تلك الشبكة الرقمية
إلى انبثاق أشكال جديدة من الوعي العالمي. يرى
ماكلوهان أن التقنيات ليست مجرد أدوات يستعملها
الناس؛ فاختراعاتنا تؤثر على سلوكنا ووعينا الفردي
والجمعي. على سبيل المثال، كان اختراع الطباعة
بالحروف المتحركة على يد يوهان جوتنبرج نحو عام
١٤٥٠ نقطة فارقة في تطور الإنتاج الثقافي للمعرفة
بطريقة قياسية موحدة، أصبحت بعد ذلك مؤتمتة، وذلك
عن طريق وسائل الإعلام الجماهيرية المطبوعة مثل
الكتب والصحف.
كان أحد محاور أطروحة ماكلوهان هو التفاعل بين
التكنولوجيا وحواسنا. فقد ذهب إلى أن انتشار
الطباعة بالحروف المتحركة أدى إلى تغيير العادات
السلوكية المعرفية للبشر. حين حلت تقنية الطباعة
محل ثقافة النقل الشفهي والنقل المنسوخ، تنامت
أهمية الحواس البصرية، وفي المقابل تراجعت أهمية
الوسائل الحسية السمعية والشفهية. فلم يَعُد من
الضروري حفظ المعلومات واسترجاعها من الذاكرة، بل
جمعها وتنظيمها. لم تَعُد هناك حاجة إلى استظهار
القصائد الملحمية الطويلة، وهو ما كان ينمي مهارة
الحفظ والاسترجاع. بل استُبدل بذلك تقسيم المعلومات
الذي عزَّز فن التخصص المعرفي. وهكذا حلت مهارة
القراءة والكتابة محل النقل الشفهي؛ وأغنانا نظام
تصنيف ديوي العشري لتصنيف المكتبات عن حفظ النصوص
الطويلة مثل «أوديسة» هومر واسترجاعها من
الذاكرة.
تنبأ ماكلوهان أيضًا بعودة الثقافات الشفهية من
جديد. ففي حين كانت الثقافة المطبوعة تفصل الراوي
عن جمهوره بإدخال نص ثابت (وهو الكتاب)، تنبأ بأن
التواصل الرقمي سوف يؤدي إلى عودة الطرق الشفهية
للحكي التفاعلي: التفاعل بين الراوي والجمهور،
وأنماط النداء والاستجابة، وتطور الحكايات ذات
الحبكات التشاركية القائمة على التقليد. ويجوز
القول إن انتشار ظواهر الإنترنت، مثل تطبيق «تيك
توك» وألعاب الفيديو التفاعلية، يثبت وجهة نظر
ماكلوهان (وفي ذلك تنبؤه بانبثاق شكل جديد من
القبلية). لكن ما لم يتوقعه ماكلوهان ودي شاردان هو
اتساع تلك الثقافات الشبكية الرقمية لتشمل غير
البشر. تُرى ماذا سيكون رأيهما في الصوتيات الحيوية
الرقمية وإمكانية تواصل الأنواع المختلفة عبر
الإنترنت؟
إن الحكايات عن التكلم مع الحيوانات قديمة قدم
التاريخ البشري. ففي إقليم شمال غرب المحيط الهادئ،
تروي مجتمعات الشعوب الأصلية كيف أن شخصية
«التيمسم» (الغراب) — وهو كائن محتال ومتحول الشكل،
يؤدي دور المخادع والشامان — تعلم البشر التعايش
بتناغم وتوازن داخل عالم طبيعي يشكل حياة البشر
ويُقِيمها.
33 وفي القصيدة الملحمية الفارسية
«شاهنامه» يعلم طائر العنقاء الإله الذي يسمى
السيمُرغ الحكمة للأمير رستم ابن زال المنفي
لتجهيزه للعودة إلى عالم البشر.
34 وفي التراث المسيحي، يحدِّث القديس
فرانسيس الذئاب والطيور عن التوبة والمحبة. كذلك
تزخر نصوص وحكايات القرون الوسطى بالحيوانات
المتكلمة؛ كقصص الحيوان من العصور الوسطى التي
تصوِّر الحيوانات تتحدث عن الفضائل الأخلاقية
البشرية، وتصف الضعف البشري والرحمة الإلهية ونفاق
البشر في تعاملهم مع الطبيعة.
35 تلك القصص تذكرنا بأن الطبيعة منبع
للمعرفة، إذا تذكرنا أن نصغي السمع لها.
غير أن كثيرًا من العلماء والفلاسفة الغربيين
اعتنقوا أيضًا الرأي القائل بأن البشر «هم النوع
الوحيد من الحيوانات الذي يملك القدرة على الكلام»،
ومن ثَم ينفردون بمَلَكة التفكير المنطقي (وهو رأي
روَّج له مجموعة من الفلاسفة من أرسطو وأغسطينوس،
مرورًا بتوما الإكويني وديكارت، وصولًا إلى فلاسفة
عصرنا الحاضر).
36 وقد بدأ الجيل الجديد من الأبحاث
العلمية في تقويض هذه الآراء. لكن تظل الآراء
متناقضة بين البشر عن لغة الحيوانات، وهذا مرتبط
بعدم وصولنا إلى معرفة يقينية عن مكانتنا: هل نحن
مجرد نوع من الحيوانات ضمن أنواع أخرى، أم أن ثمة
ما يميزنا فعلًا عنها (اللغة وصناعة الأدوات
واللوجوس أو العقل)؟
37 وتعد الجدالات حول لغة الحيوانات أحد
الأركان الأساسية لتساؤلاتنا عن دورنا في
الكون.
تمتد تساؤلاتنا إلى التناقض بشأن علاقتنا مع
الطبيعة. فرغم أن القدرة على التحدث مع الحيوانات
واردة في القصص الأصلية للعديد من الثقافات، فإن
أساطيرنا أيضًا تخبرنا بأن تلك الأصوات قد
أُخمِدَت. في اليونان، عاشت العرافات ذوات القدرة
الواسعة في أجمات مقدسة وكن يطلبن النصح من آلهة
الأرض المتجسدة، لكن هذا لم يوقف حملة شرسة لقطع
الغابات؛ وفي حين كان المواطنون يجردون الجزر، كتب
الشعراء اليونانيون أن قطع شجرة يعادل إزهاق
نفس.
38 تقول روبن وال كيميرير إنه فيما مضى
كنا جميعًا، البشر والحيوانات، نتحدث اللغة نفسها،
ولكن حين جاء المستوطنون الاستعماريون، أسكتوا
الأصوات غير البشرية، على حد قول جون بوروز، الباحث
القانوني من شعب الأنيشينابه.
39 تثير الرغبة في استعادة قدرتنا
المفقودة على التواصل مع الأنواع الأخرى مشاعر قوية
متضاربة، ما بين التشكيك القوي في إمكانيته والحنين
لاستعادته. تستكشف القصص التي أسردها في هذا الكتاب
ذلك الصراع. وأنا بإقراري بأن الصوت أكثر من مجرد
بيانات رقمية، إنما أسعى لإرساء ثلاث حقائق في آنٍ
واحد: أن الصوت بيانات ومعلومات، وهو موسيقى ومعنى،
وكذلك لغة الأماكن والشعوب غير البشرية ولسانها
الحقيقي. الإصغاء ليس ممارسة علمية فحسب، إنما
أيضًا شهادة تقر بوجودنا على هذا الكوكب بصفتنا
ضيوفًا وتؤكد قرابتنا للأنواع الأخرى في شجرة
الحياة.
عادة ما ينظر إلى الدمج بين التكنولوجيا الرقمية
والعلم باعتباره منهجًا وفكرًا يباعد بيننا وبين
الأنواع الأخرى. لكن القصص التي أسردها في ذلك
الكتاب تعرض وجهة نظر مختلفة؛ وهي قدرة العلم
المعزز بالتكنولوجيا الرقمية وتقنيات الإنصات على
أن يأخذنا في رحلة لإعادة اكتشاف العالم الطبيعي.
وهكذا يمكننا تعزيز مفهوم تشاركنا الأرض مع غيرنا
بدلًا من سيطرتنا عليها، وانتسابنا إليها وليس
امتلاكنا لها.
ونستهل تلك الرحلة باستكشاف كيف شارك شعب
الإنوبيات معارفهم التراثية مع العلماء الغربيين
الذين استخدموا التكنولوجيا الرقمية لإعادة اكتشاف
ما عرفته شعوب المنطقة القطبية الشمالية منذ عهد
طويل، وهو الغناء الشجي لحيتان المحيط التي كان
يُعتقد من قبل أنها صامتة.