قبل ذلك بعقدين، وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» مدينة
نيو بيدفورد — مركز صناعة التحويت الأمريكية — بأنها
«أغنى مكان على الأرجح» في الولايات المتحدة.
2 ففي العالم القديم والجديد، كان زيت
الحيتان وقودًا للصناعة، وكان يُستعمل لإضاءة مصابيح
الشوارع وتزييت المكابس والأنوال ورولمان البلي.
واستُعمل شحم الحوت لتليين الصابون والمسلى النباتي
وطلاء الشفاه. واستخدمت عظام الحوت البليني لتقويس
المشدات التي ترتديها النساء تحت الملابس.
3 حتى قبل أن تغزو حمى الذهب جبال يوكون
وتملأها بالمنقبين، غزت حمى الحيتان مياه المنطقة
القطبية الشمالية فملأتها بسفن الصيد.
4 كانت قيمة الحوت تبلغ ما يوازي اليوم أكثر
من مليون دولار؛ فكان بإمكان صائدي الحيتان الناجحين أن
يتقاعدوا ويعيشوا حياة مترفة بعد بضع رحلات
فقط.
5
كانت أغنيات الحيتان علامات يستدل بها الصيادون على
أماكنها. لكن ألدريتش تساءل عن الغرض منها.
17 هل يمكن أن تكون هذه الأغنيات «نداءات أو
إشارات من نوع ما تُطلقها الحيتان أثناء عبورها إلى بحر
بيرنج، لإعلام بعضها بأنها متجهة إلى الشمال، وربما بأن
المضايق خالية من الجليد؟»
18 ذكر البحارة الذين كانوا يراقبون الأرجاء
من أعلى صواري السفن أنه كلما أصاب رمح حوتًا، كانت
الحيتان الأخرى من حوله ترتعب من صرخاته المتألمة. قبل
عامَين، أصابت سفينة كيلي حوت عنبر برمح، و«على الفور
هُرِع باقي أفراد السرب الذي كان يبعد عن الحوت ثلاثة
أميال أو أكثر إلى رفيقهم المصاب، والتفُّوا حوله
متقاربين وكأنما يسألونه «ما الخطب»؟»
19 سأل ألدريتش رفاقه عن معنى أغنيات الحيتان.
لكن البحارة كانوا منهمكين بحماس في «مطاردتهم
البديعة»، فلم يكترثوا لتأملاته عن التواصل بين
الحيتان.
ضوضاء حيوية مزعجة
بمجرد اختراع الميكروفونات، بدأت تلتقط دون قصد
أصوات الصرير والصفير من شتى أنواع الكائنات. غير
أن البشر، إلا قليلًا منهم، نادرًا ما كانوا
يلتفتون إلى تلك الأصوات. وكان من يُجري أبحاث
الصوتيات الحيوية هم العلماء الغريبي الأطوار أمثال
عالم الأحياء السلوفيني إيفان ريجان، الذي كان
يُسمِع الحشرات أصواتًا مسجلة لحشرات أخرى، ويراقب
استجاباتها عن كثب. وفي واحدة من أشهر تجاربه، جعل
ذكر حشرة ينادي أنثى من النوع نفسه عبر تقنية كانت
حديثة في عهده، وهي الهاتف.
حينئذٍ لم تلقَ تلك التجارب الشديدة التخصص
اهتمامًا كبيرًا، إلا من الجيش.
25 فبعد الحرب العالمية الثانية، بدأت
جيوش العالم تُجري أبحاثًا سرية عن الأصوات البحرية
لتبني عليها دفاعاتها في حربها المضادة للغواصات؛
وسرعان ما أدرك الجيش أن الصوتيات تحت المائية
زاخرة بكنوز من المعلومات القيمة. انصب اهتمام
القوات البحرية على طبقة معينة من مياه المحيط تعرف
باسم قناة الصوت العميق.
26 عبر تلك القناة، التي تقع على عمق نحو
نصف ميل من سطح المحيط عند خطوط العرض الوسطى،
يستطيع الصوت أن ينتقل لآلاف الأميال. اكتُشِفَت
تلك القناة (التي أطلق عليها «سوفار»
(
SOFAR)، وهو
اختصار للأحرف الأولى من عبارة قناة تحديد الموقع
والمدى الصوتي) في أربعينيات القرن العشرين، وصارت
محل اهتمام كبير من الجيش؛ إذ أمكن استخدامها
لاكتشاف الأصوات الصادرة من أجهزة السونار بالسفن،
وهي النظير البحري للرادار.
27 وجد الجيش أن بإمكانه أن يُسقِط
هيدروفونًا (ميكروفون يعمل تحت الماء) داخل قناة
سوفار ويلتقط أصوات الغواصات التي تتحرك على بعد
مئات الأميال.
كان لاستغلال قناة سوفار أولوية أمنية قصوى أثناء
الحرب الباردة. فقد كانت البحرية الأمريكية تواجه
تزايدًا سريعًا في عدد غواصات الأسطول السوفيتي؛
مما دفعها إلى إنشاء شبكة سرية عالمية من مراكز
التنصت الثابتة في قاع المحيط، عُرفت باسم «سوسوس»
(
SOSUS)،
اختصارًا لعبارة نظام المراقبة الصوتية. أثبتت شبكة
سوسوس كفاءتها؛ إذ استطاعت أن تتبع الغواصات
السوفيتية عبر جميع المحيطات بواسطة أدوات حساسة
لدرجة أنها كانت قادرة على التقاط صوت طوربيد منطلق
أو حتى حفيف مروحة دافعة.
28
صارت شبكة سوسوس «السلاح السري» لأمريكا في حربها
المضادة للغواصات. لكن كثيرًا ما كان الفنيون
البحريون المسئولون عن تشغيلها يشتكون من تداخل
أصوات أنين وهزيم خافتة في الخلفية مع تسجيلاتهم.
أثار ذلك حيرة علماء البحرية بشأن مصدر تلك
الأصوات: أهي الفوهات الحرارية المائية؟ أم
الزلازل؟ بعض تلك الأصوات كان يسهل الخلط بينها
وبين الأصوات الصادرة من الغواصات أو غيرها من
المعدات الحربية، وهو ما زاد من خطر الإنذارات
الكاذبة في خضم التوتر الذي ساد أثناء حقبة الحرب
الباردة.
شكَّت البحرية في أن بعض تلك الأصوات قد يكون
مصدرها كائنات بحرية؛ لذا استعانت بعدد من علماء
الصوتيات الحيوية. وكان من بين أولئك العلماء
الدكتورة ماري بولاند فيش التي يتماشى اسمها مع
مهنتها (إذ تعني كلمة فيش الإنجليزية سمكة). عملت
الدكتورة فيش تحت مظلة مكتب أبحاث البحرية لأكثر من
عَقدين، أجرت خلالهما تجارِب على كائنات بحرية
اصطيدت بوكزها بما يناظر المناخس الصاعقة التي
تُنخَس بها الماشية. وسجلت الأصوات التي صدرت عن
تلك الكائنات حتى يتسنى لمشغلي السفن البحرية
المضادة للغواصات التدرُّب على تمييز الأصوات
الصادرة من الكائنات البحرية عن تلك الصادرة عن
الغواصات.
29 وبعد دراسة أكثر من ثلاثمائة نوع ما
بين الثدييات والرخويات، خلصت إلى وجود عدد كبير من
الأنواع البحرية لديه القدرة على إصدار أصوات.
واكتشف علماء الأحياء فيما بعد أن كثيرًا من تلك
الأصوات كانت ناتجة عن تقلصات عضلية عنيفة، ولا
تمثل الأصوات التي تُصدرها تلك الكائنات في الظروف
العادية.
30 ولعل ذلك هو السبب في أن أبحاث
الدكتورة فيش لم تُكرر كثيرًا أو تلقى تقديرًا
واسعًا (أو لعل السبب أن تجارِبها تلك كانت تشبه
عمليات التعذيب).
31
رغم تلك التجارب المبكرة، كان بعض من أغرب
الأصوات التي يسمعها فنيُّو البحرية تستعصي على
التفسير. كانت تلك الأصوات تنبعث من أعماق المحيط؛
وتراوحت بين أصوات طقطقة ونعيق وأنين ونخير وزغردة.
الغريب أن بعض تلك الأصوات أمكن التقاطها على نحو
متزامن في عدة محطات تنصت، وكانت تلك المحطات في
مراكز متباعدة موزعة في شتى أرجاء المحيط. منح
الفنيُّون تلك الأصوات الغامضة أسماء آلات أو وحوش
خيالية مثل «إيه-ترين» ووحش جيزَيبل (أو جيزي)،
والفواصل، وجوقة الحظيرة. وفي نهاية المطاف، أدرك
باحثو البحرية أن تلك الصيحات الوحشية هي أصوات
الحيتان المميزة.
32 حينما تغوص الحيتان في المحيط، كانت
تتواصل بعضها مع بعض بواسطة قناة سوفار، التي تنتقل
خلالها أغنياتها مئات بل آلاف الأميال دون أي
معوِّقات. لقد أتقنت الحيتان منذ زمن طويل استخدام
القناة التي اكتشفها الجيش لتوه.
بدأت معرفة البحرية بأصوات الحيتان تتسع سريعًا
عقب الحرب العالمية الثانية، لكن لم تُتَح أول ورقة
بحثية عن ذلك الموضوع للجمهور إلا في عام ١٩٥٧. كان
مؤلفوها قد استلهموا موضوعها من احتكاكهم بالحيتان
أثناء عملهم في الجيش. فقد اكتشف بيل شيفل، الذي
درس علم الحفريات في جامعة هارفارد، أصوات الحيتان
أثناء عمله مع البحرية الأمريكية خلال الحرب، بينما
كان يعمل على تطوير تقنيات تنصت تحت الماء لشبكة
سوسوس. كانت مراكز التنصت البحرية عادة ما تكون
غرفًا بلا نوافذ تحت الماء، مما جعل المراقبين
العسكريين يصفون تلك الأصوات بأنها مجرد «ضوضاء
تصدرها الأسماك».
33 أثار ذلك اهتمام شيفل، الذي تخلى عن
علم الحفريات وعمد إلى إيجاد وظيفة في معهد وودز
هول المرموق لعلوم المحيطات في شبه جزيرة كيب كود.
انضم إليه ويليام واتكينز، الذي كان والداه مبشرين
أفريقيين وعلَّم نفسه بنفسه، واخترع أول مسجل شرائط
صُمم لتسجيل أصوات الثدييات البحرية في البحر.
عُيِّن واتكينز في البداية فنيًّا، لكنه كان لديه
اهتمام شديد باللسانيات (في عمر الخامسة والخمسين،
وبعد أن أتقن أكثر من ثلاثين لهجة أفريقية، حصل على
درجة الدكتوراه من جامعة طوكيو، حيث اختار مناقشة
رسالته باللغة اليابانية).
34 على مدى أربعين عامًا، جاب واتكينز
وشيفل محيطات العالم، متسللَين بجانب الحيتان على
متن قوارب شراعية (وهي أهدأ من القوارب ذات
المحركات) كي يحقنوها بأجهزة إرسال دقيقة حتى يتسنى
لهما تعقبها.
35 وبالتعاون مع باربرا زوجة شيفل، نشر
العالمان عدة مئات من الدراسات القائمة على استخدام
الهيدروفون. ولا يزال الجيش حتى يومنا هذا يستخدم
قاعدة البيانات الصوتية البحرية التي جمعها
واتكينز— التي تضم ما يزيد على ٢٠ ألف صوت نداء
لأكثر من سبعين نوعًا من الثدييات البحرية — لتدريب
فنيي السونار.
36
كانت أبحاث واتكينز وشيفل حجر الزاوية لما توصل
إليه العلماء حديثًا من فهم لطبيعة الحيتان بوصفها
كائنات تعتمد كثيرًا على الصوت. فالحيتان، كغيرها
من الكائنات البحرية، ترى العالم من خلال الصوت.
على مدى سبعين مليون عامًا مضت، عادت الأسلاف
البرية للثدييات البحرية الموجودة اليوم إلى
المحيطات التي كانت مبتدأ الحياة. وهناك بدأت تعيد
التكيف مع العالم تحت الماء. تحت سطح الماء يتفوق
الصوت على الرؤية. فالضوء ينتقل تحت الماء بكفاءة
أقل مما ينتقل في الهواء، ولا يمكن رؤية أشياء
كثيرة بوضوح على مسافة أعمق من مائة قدم. على
النقيض، ينتقل الصوت في الماء بسرعة تعادل أربعة
أمثال سرعة انتقاله في الهواء. لذا تعمل حاسة السمع
لدى الحيوانات البحرية التي تعيش تحت الماء بكفاءة
أعلى بكثير من حاسة البصر. فخلال عملية التطور،
تكيفت الحيتان جيدًا على البيئة الصوتية للمحيط،
وصار الصوت وسيلتها الأساسية للصيد والتعاملات
الاجتماعية والهرب من المفترسين. واكتسبت بعض
الأنواع القدرة على سماع الأصوات تحت السمعية
العميقة، بينما اكتسب البعض الآخر القدرة على سماع
الأصوات فوق السمعية العالية. تبلغ كثافات العقد
السمعية (الخلايا العصبية السمعية) لدى الحيتان ضعف
كثافاتها في الثدييات البرية العادية؛ وهذا العدد
الهائل من الألياف العصبية السمعية يعني أن الحيتان
مبرمجة على معالجة الإشارات المعقدة مقارنة بأغلب
الثدييات البرية، وفيها البشر.
37 وقد عبر عن ذلك كريس كلارك، عالم
الصوتيات الحيوية بجامعة كورنيل؛ إذ قال: «تعتمد
الحيتان بشدة على الصوت. ويعتمد وعيها وإدراكها
لذاتها على الصوت، لا الرؤية.»
38
بصفة عامة، تستعمل الحوتيات (الثدييات البحرية
مثل الحيتان والدلافين وخنازير البحر أو الدواحر)
ثلاثة أنواع مختلفة من التواصل الصوتي.
39 النوع الأول من الأصوات، وهو النداءات
الاجتماعية، ينطوي على نغمات صوتية تقع في نطاق
السمع البشري إلى حد كبير. بالنسبة لنا، تبدو تلك
الأصوات، مثل الصفير أو القرقرة النابضة أو الصرير،
بأنماط مختلفة. على سبيل المثال، تنغي صغار الحوت
السفاح (الأوركا) عند ولادتها، ثم مع بلوغها بضعة
أشهر تبدأ في تقليد الأصوات التي تصدرها عائلاتها.
على غرار البشر، تستخدم الحيتان السفاحة الصوت
لتمييز الأفراد، وتبادل المعلومات، وتنظيم العلاقات
الاجتماعية. ولكل قطيع منها لكنته الخاصة الفريدة
في النداءات، تتعلمها الصغار من أمهاتها على مدى
عدة أعوام، وتلك النداءات تُعد من أعقد مخزونات
التواصل الثقافي في عالم الحيوان.
40 ونظرًا لأن أفراد القطيع يلازم بعضهم
بعضًا طوال حياتهم، فإن لكناتهم تشكل جزءًا من
هويتهم وتشير إلى ترابطهم الثقافي الوثيق؛ فالحيتان
السفاحة ذات اللكنات المختلفة نادرًا ما تطيل
المخالطة فيما بينها.
41 وتلك اللكنات مميزة جدًّا إلى حد أن
العلماء (وحتى الهواة المدربين) يستطيعون التمييز
بين القطعان المختلفة بمجرد سماع أصواتها. تتميز
بعض نداءات الحيتان أيضًا بالارتفاع الشديد؛ إذ
تستطيع حيتان العنبر، وهي الحيوانات الأعلى صوتًا
في العالم، إصدار نغمات تتخطى ٢٠٠ ديسبل، وهذا أعلى
من صوت إطلاق صاروخ أو صوت محرك طائرة عند الإقلاع
(ومرتفع بما يكفي لثقب طبلتي أذنيك إذا كنت تسبح
بالجوار).
النوع الثاني من الأصوات تستعملها رتبة الحوتيات
المسننة (وتضم أكثر من سبعين نوعًا من الحيتان
المسننة، وفيها الدلافين والحيتان السفاحة وخنازير
البحر وحيتان العنبر)، وهو تحديد الموقع بالصدى،
الذي يسمى أيضًا السونار الحيوي. حين يستعمل أحد
الحيوانات السونار الحيوي (الذي يبدو لنا صوته مثل
سلسلة من الطقطقات المتتابعة السريعة)، فإنه يرسم
صورة لمحيطه عن طريق إرسال موجات صوتية عالية
التردد وتبين بُعد الأشياء من حوله واتجاهها من
الأصداء الناتجة عن ارتداد تلك الموجات؛ مثل جهاز
الموجات فوق الصوتية الموجود في عيادة الطبيب.
يمكِّن تحديد الموقع بالصدى الحوتيات المسننة
(وغيرها من الحيوانات مثل الخفافيش) من «الرؤية»
والتنقل في بيئاتها، وإيجاد الفرائس، وحتى تفحص
أجساد الحيوانات الأخرى من الداخل. تستخدم الحيتان
السفاحة الصوت بصفة مستمرة لتفحص بيئاتها، مثلما
نفعل نحن بأبصارنا، ويعتمد بقاؤها على قدرتها على
سماع صدى السونار الحيوي المرتد من الأسماك السريعة
الحركة، أو من هياكل السفن المقتربة.
42 وفي ذلك يقول كلارك: «إدراك الحيتان
يتشكل بأذنيها لا بعينيها.»
43
أما النوع الثالث من الأصوات الذي تصدره بعض
الحوتيات فهو نمط الأصوات الممطوطة المنخفضة
المنتظمة التي تصدرها الحيتان البلينية (السبِليات)
والتي تشتهر باسم أغنيات الحيتان. تلك الأغنيات
التي كان يُعتقَد أن ذكور تلك الحيتان تنفرد بها
وأنها قد تكون مرتبطة بالتزاوج، هي من أعقد العروض
الصوتية في مملكة الحيوان. بعض الحيتان يغني في
النطاق تحت الصوتي، فيما يغني بعضها بترددات يمكن
للبشر سماعها. كانت أغنيات الحيتان الحدباء أكثر
الأغنيات التي خضعت للبحث، مع أن بعض الأنواع
الأخرى لها أيضًا أغنياتها الفريدة. يعكس الفرق في
أنماط الغناء توازنًا تطوريًّا دقيقًا بين موائل
تلك الأنواع والخواص الصوتية للعمق الذي يسكنه كل
نوع في المحيط. فالأنواع التي تعيش في المياه
العميقة تحتاج لأن تكون الأصوات بسيطة، بل متباعدة،
كي تنتقل بدقة لمسافات طويلة. أما الأنواع التي
تسكن المياه الأقل عمقًا، حيث لا يمكن للصوت أن
ينتقل لمثل تلك المسافات الطويلة نتيجة للخصائص
الصوتية للمحيط، فإن زيادة التباين في الأنماط
والترددات تساعد على تحسين التواصل والتنقل. بعض
أغنيات الحيتان تكون أطول، وبعضها أقصر؛ إذا كانت
الحيتان الحدباء والمقوسة الرأس تصدر أصواتًا طويلة
ومعقدة وكأنها تنشد سوناتات، فإن الحيتان الزرقاء
والحيتان الزعنفية هي أساتذة الأصوات البسيطة
والمختصرة كأنها تلقي ألغاز كوان البوذية
التأملية.
44
في ظل التحدي الذي يشكِّله الصراع مع المياه
المالحة، التي تُعَد عامل تآكل، والعواصف
والتيارات، لم يُتَح الوقت والمال والخبرة العملية
اللازمين لتسجيل أصوات الحيتان إلا للقليل من
الأشخاص من خارج البحرية. وما زاد تلك المهمة صعوبة
المسجلات المرهقة التي تعمل ببكرات الشرائط؛ إذ
كانت في حجم حقيبة سفر صغيرة، والأهم أنها لم تكن
مضادة للماء. ورغم رفع السرية عن التسجيلات الأولى
لشبكة سوسوس بدرجة ما بعد عام ١٩٩١، فإن التسجيلات
الأحدث ظلت سرية.
45 وظلت أصوات الحيتان التي دُرست في مجال
الصوتيات الحيوية مجهولة إلى حد كبير، حتى وقع حدث
غير متوقع أخرج موسيقى الحيتان إلى النور.
موسيقى الحيتان تتصدر قوائم الأغاني
الرائجة
في عام ١٩٦٧، سافر العالمان روجر باين وزوجته
كيتي إلى برمودا لمراقبة الحيتان.
46 كانت مغامرتهما الغريبة وليدة مواجهة
مؤسفة. كانت كيتي موسيقية درست الموسيقى
الكلاسيكية. وكان روجر عالمًا في الصوتيات الحيوية
درس الخفافيش والبوم. أثناء دراسته في جامعة
هارفارد، اكتشف أستاذه دونالد جريفين أن الخفافيش
تحدد المواقع بالصدى باستخدام تردد لا يمكن للبشر
سماعه. سار روجر باين على خطى جريفين، فنال درجة
الدكتوراه في جامعة كورنيل، وصار عالمًا ذا شأن.
لكن ما كان يؤرقه أن أبحاثه لم يكن لها أهمية
مباشرة في مجال عمله. وقد قال في معرض تذكره لتلك
الفترة: «كان ما أفعله يثير اهتمامي، واهتمام بعض
الأشخاص الآخرين، لكنه لم يكن يخدم إيقاف الدمار
الذي يتعرض له العالم البري.»
47
ذات ليلة، كان باين يعمل لوقت متأخر في معمله
بجامعة تافتس حين سمع خبرًا عبر المذياع يفيد بأن
الماء قد جرف حوتًا نافقًا إلى أحد الشواطئ
المحلية. حين وصل إلى الشاطئ وجد الحوت مشوهًا.
كانت فلقتا ذنَبه قد انتُزِعتا، وأغلب الظن أن
أحدهم قد أخذهما تذكارًا. وحفر شخصان الحرف الأول
من اسمَيهما بعمق على جانبه. ودس أحد ما عقب سيجار
في نيسمه. كتب باين لاحقًا يقول: «أزلت عقب السيجار
وظللت واقفًا وقتًا طويلًا تجتاحني مشاعر تستعصي
على الوصف. كل منا يتعرض في حياته لتجربة واحدة على
الأقل، أو ربما عدة تجارب، يظل أثرها ملازمًا إياه
طَوال حياته. في تلك الليلة واجهت تجربة كهذه. رغم
أن ما حدث للحوت لم يختلف كثيرًا آنذاك عما تلاقيه
الحيتان عادة عندما تواجه البشر، فإن تلك التجربة
كانت القشة الأخيرة بالنسبة لي، وقررت لحظتها أن
أنتهز أول فرصة ممكنة لأتعلم عن الحيتان ما استطعت،
لعلي أساهم ولو قليلًا في تغيير مصيرها.»
48
جاءت تلك الصحوة التي واتت باين في وقت كان
التحويت التجاري فيه لا يزال متاحًا بلا قيود. عقب
الحرب العالمية الثانية، انتشرت سفن الصيد في
محيطات العالم، وبدأت الحيتان تُهلَك بأعداد كبيرة
في مناطق لم تكن تلك السفن تصل إليها من قبل مثل
القارة القطبية الجنوبية. رغم ذلك، لم يُعرَف عن
المناطق التي تمضي فيها الحيتان وقتها إلا القليل.
ولم يكن باين قد رأى حوتًا على قيد الحياة، ولم
يعرف كيف يعثر على واحد. لحسن الحظ، حصل على معلومة
أفادته من أحد أمناء جمعية نيويورك لعلم الحيوان،
وهو الطبيب والمليونير هنري كلاي فريك الثاني. ففي
أحد اجتماعات الجمعية، ذكر فريك عرَضًا أن عائلته
كثيرًا ما ترى الحيتان الحدباء تسبح على مسافة من
الشاطئ المواجه لمنزلهم الخاص في أرخبيل
برمودا.
49
ما إن سنحَت الفرصة لباين وزوجته حتى سافرا إلى
الجزيرة على متن طائرة. حين وصلا قدَّم أحد معارف
فريك الزوجين لمهندس في البحرية يُدعى فرانك
واتلينجتون. كانت البحرية قد أرسلت واتلينجتون قبل
عَقدين إلى الجزيرة كي يدير إحدى قواعد التنصُّت
التابعة لمركز الأنظمة تحت المائية البحرية في
ساوثهامبتون في الطرف الشمالي لبرمودا. وهناك أنشأ
منظومة تنصُّت جمَع بواسطتها بيانات على مدى أكثر
من ثلاثين عامًا بعد جهد شديد. لكنه أيضًا كان لديه
وقت فراغ كبير وكان عاشقًا للبحر؛ فقد كان أسلافه
الذين استقروا في برمودا في القرن الخامس عشر،
صائدي حيتان.
50
ذات يوم توغل واتلينجتون بقاربه في المياه مسافة
أبعد قليلًا من المعتاد، وأنزل هيدروفونًا إلى عمق
أكبر قليلًا من المعتاد أيضًا. على عمق أكثر من
١٥٠٠ قدم من السطح، التقط الهيدروفون أصواتًا غريبة
ومخيفة. احتار واتلينجتون في أمرها، فأسمع التسجيل
لصيادين محليين، فأخبروه أن تلك الأصوات مصدرها
الحيتان. انبهر واتلينجتون، وظل لسنوات يسجل تلك
الأصوات.
51 ولم تكن تلك بالمهمة اليسيرة. في
البداية استخدم سلسلة من الطبول أنتجت تسجيلات
صوتية على الورق. استخدمت تلك المنظومة أقلام حرق
لحفر أصوات المحيط على الورق ذي السطح المُشمَّع،
فكانت النتيجة نقوشًا صوتية لا بد من تخزينها
بعناية. لاحقًا، بدأ يسجِّل على بكرات شرائط
مغناطيسية عرضها نصف بوصة؛ كان تسجيل أربع وعشرين
ساعة يحتاج إلى بكرة كاملة من ماركة
«أمبيكس».
52 كان في بعض الأحيان يُسمِع تلك
التسجيلات لمن يأتمنهم. ولكنه في الأغلب كان يبقيها
سرًّا، مخافة أن يعرف رؤساؤه بأمر مجموعته من
التسجيلات، أو يسيء صيادو الحيتان التجاريون
استخدام أغاني الحيتان للعثور عليها
وقتلها.
53
بعد لقاء واتلينجتون مع باين وزوجته، سرعان ما
دفعه حدس ما لأن يطلعهما على تسجيلاته السرية. روت
كيتي فيما بعد عن سماعهما التسجيلات وهما واقفَين
في غرفة المحرك في مركب واتلينجتون قائلة: «لم نسمع
شيئًا كهذا من قبل. تدفقت دموعنا على وجنتَينا. كنا
مشدوهَين تمامًا ومذهولَين؛ لقد كانت الأصوات بديعة
ومؤثرة للغاية، ومتنوعة جدًّا. وعرفنا لاحقًا أنها
أصوات لحيوان واحد فحسب.»
54 كان لديهما من المعرفة ما يكفي ليخمنا
أن الحيتان الحدباء هي مصدر هذا الصوت. وبصفتهما
عالِمين، كانا يملكان الأدوات اللازمة لإثبات ذلك.
في النهاية، أعطاهما واتلينجتون نسخًا من مئات
الساعات من تسجيلاته، عادا بهما إلى وطنهما. وقد
أرفق هديته تلك بمطلب واحد: «اذهبا وأنقذا
الحيتان.»
خلال رعاية كيتي لأبنائهما الصغار الأربعة، قضت
ساعات تُصغي إلى الشرائط. كانت تعيد تشغيلها مرة
تلو الأخرى، إلى أن بدأت تدرك أن ثمة أنماطًا
صوتية، دوَّنت بها ملاحظات بدقة. أدركت أن أغنيات
الحيتان في تعقيد مقطوعة موسيقية متقنة. كان روجر
متشككًا في ذلك في البداية، لكنه ما لبث أن اقتنع.
كان للأغنيات بنية داخليَّة يمكن تحليلها. لكن كيف
يمكن فعل ذلك مع مئات الساعات من تلك الأصوات غير
المألوفة؟ لجأ باين وزوجته إلى صديق لهما من جامعة
برينستون يُدعى سكوت مكفاي يطلبان منه مساعدتهما في
مهمتهما الشاقة تلك. توافر لدى مكفاي آلة تنتج
تحليلات طيفية (سبكتروجراف) بسيطة، يمكن بواسطتها
تقسيم التسجيلات إلى مقاطع من ثلاث ثوانٍ وطباعة
رسوم بيانية تظهر العلاقة بين التردد والزمن لكل
مقطع. تعلمت كيتي كيفية تشغيل تلك الآلة، وسرعان ما
صارت النماذج الورقية المطبوعة للنتائج تغطي أرضية
وجدران غرفة المعيشة بمنزل أسرة باين. في النهاية،
شمل البحث تسجيلات جُمعَت على مدى واحد وثلاثين
عامًا. كانت كيتي تقص الأسطر الموسيقية التي تخرجها
التحليلات الطيفية، وتصغي إلى الأغنيات حتى تمكنت
من تبيُّن الأصوات المنفردة، وكذلك الأنماط
المتداخلة.
55 كانت الأغنيات المنفردة تستمر ما بين
ست دقائق ونصف ساعة؛ وكانت الحيتان تكرر أغنياتها
مرارًا، وكانت المرة الواحدة تدوم أحيانًا لساعات.
مثل أي معزوفة موسيقية، كان لتلك الأغنيات بنية؛
فكانت مكونة من عبارات، وأفكار، وذروة وختام
وكريشندو (نغمات متصاعدة) وديكريشندو (نغمات
نازلة). بدأت تحفظ أغنيات الحيتان بالنص. وكان
تقليدها المتقن لتلك الأصوات أحيانًا يفاجئ زوارها؛
إذ يندهشون لسماع تلك الأصوات الغريبة المُنغَّمة
تصدر من أم أمريكية من سكان الضواحي.
في ورقة بحثية محورية نُشرَت في دورية «ساينس»،
ذهب باين ومكفاي بجرأة إلى أن أصوات الأنين
والهمهمة التي تصدرها الحيتان ليست عشوائية. فلتلك
الأصوات المعقدة بنية معقدة وإيقاع، شأنها شأن
الموسيقى بالضبط.
56 وتعمَّدا استعمال لفظة «أغنيات»
المثيرة للجدل لوصف «الأصوات البديعة والمتباينة
التي تتكرر بدقة بالغة». وأثار التحليل، الذي أشار
إلى أن الحيتان قادرة على التواصل المعقد، ضجة بين
العلماء حين عمدوا إلى مناقشة ذلك الادعاء
الجريء.
57
وصفت دراسات علمية سابقة أصوات الحيتان المعقدة،
لكنها نادرًا ما كانت تستخدم تشبيهات موسيقية (لأن
ذلك ضربٌ من التمركز حول الإنسان، الذي كان أغلب
العلماء يحاولون تجنبه). وفي نظر العديد من
الباحثين، كان الزعم بأن الحوتيات قادرة على إصدار
«موسيقى عذبة» فيه مبالغة. ولكن كان من الصعب على
العلماء تجنُّب استخدام الاستعارات الموسيقية في
وصفهم لأصوات الحيتان. وفي أول ورقة بحثية تُنشر عن
أصوات الحوت الأبيض (البيلوجا) في الشمال الكندي،
أشار الباحثون إلى أصوات الصفير والعويل والمواء
والزقزقة والطقطقة الحادة، والتكتكة والقرقرة التي
تراوحت بين ما يشبه صوت الجرس وأوركسترا تتأهب
للعزف، أو «مجموعة من الأطفال يصيحون من
بعيد.»
58 ومع أن الحوت الأبيض يكنى ﺑ «كناري
البحر» بسبب طلاقته، فقد تحرَّج الباحثون من وصف
الأصوات التي يطلقها بأنها موسيقى، فضلًا عن دراسة
وظيفتها التواصلية، واكتفوا عوضًا عن ذلك
بوصفها.
غير أن ذلك التحفظ العلمي لم يردع روجر باين
وزوجته كيتي. فانتقلا مع أطفالهما الأربعة إلى ساحل
باتاجونيا بالأرجنتين؛ حيث قضيا خمسة عشر عامًا
يدرسان أصوات الحيتان. وبدآ يجمعان أدلة على أن
أغنيات الحيتان دلالة على وجود تنظيم اجتماعي معقد،
وكذلك أدلة على وجود تناقل ثقافي داخل مجتمعات
الحيتان وفيما بينها. لاحقًا، توصلت كيتي إلى
الاكتشاف الأعظم لهما على الإطلاق؛ وهو أن ذكور
الحيتان الحدباء في مناطق معينة من المحيط تغني
الأغنيات نفسها أثناء موسم التكاثر. بالإضافة إلى
أن تلك الأغنيات تتطور بصورة غير ملحوظة من عام
لآخر، وبذلك لا يعود ثمة أثر للأغنيات المُسجلة منذ
خمس أو عشر سنوات.
59 واكتشفت كذلك أن الأغنيات الطويلة لها
بنية داخلية، قارنتها بالمقاطع (أو القوافي) التي
تتكرر على بعد فترات محددة أو عند بداية العبارات
أو نهايتها؛ وهذا المستوى الأعمق من التكرارات
المقفاة أثار احتمال أن تكون الحيتان تستخدم عبارات
التذكير الاختزالية في الأغنيات الطويلة لتساعدها
على التذكر كما يفعل البشر.
60 واليوم وبعد مرور عقود على اكتشافات
كيتي، بات انتقال الأغنيات بين الحيتان الحدباء
دليلًا مقبولًا على وجود التفاعلات الاجتماعية
والتعلم الصوتي والتطور الثقافي على مستوى الكوكب
بأكمله بين الحيتان الحدباء؛
61 فإذا نشأت أغنية في أحد أطراف المحيط
الهادئ فبإمكانها أن تنتشر تدريجيًّا لتبلغ سائر
جماعات الحيتان الحدباء في حوض المحيط بأكمله. ما
زال العلماء يجهلون الآلية المحددة ﻟ «تطور
الأغنيات»، لكنها تحدث على الأغلب نتيجة لهجرة
أفراد من الحيتان من جماعة لأخرى أو التعلم الصوتي
الذي يحدث في مسارات الهجرة المشتركة أو المتقاربة
جغرافيًّا.
62
من منطلق قلقهما من الصيد التجاري المتواصل
للحيتان، وحرصهما على جذب أنظار قطاع أوسع من
الجماهير إلى مأساة الحيتان، اتخذ باين وزوجته خطوة
غير عادية؛ إذ أصدرا تسجيلاتهما في صورة ألبوم
موسيقيٍّ. وصدر ألبومهما «أغنيات الحوت الأحدب» عام
١٩٧٠ وكان من أعلى الألبومات مبيعًا، ولا يزال حتى
اليوم التسجيل الأعلى مبيعًا بين تسجيلات التاريخ
الطبيعي.
63 تصف الملاحظات المطبوعة على غلاف
الألبوم صوت الحيتان بأنه موسيقى («أنهار صوتية
جارية جذلة»)، ويضم الألبوم أيضًا أحد تسجيلات
واتلينجتون الأصلية؛ وكان عبارة عن مقطع أُطلق عليه
اسم «حوت منفرد». صارت تلك التسجيلات حدثًا
محوريًّا غيَّر منظور البشر إلى عالم الحيوان.
وحازت أصوات غناء أضخم مخلوقات العالم في أعماق
المحيط انتباه العامة.
64 وعمَّق الجدل الذي أتبعها حالة عدم
الارتياح تجاه صيد الحيتان واستخدام زيتها في صنع
طلاء الشفاه وتشغيل تروس المحركات، وحشد دعمًا
جماهيريًّا لفرض حظر على التحويت لأغراض
صناعية.
65
في عام ١٩٧١، استقال روجر باين من منصبه الجامعي
في جامعة روكفيلر، وأسس «تحالف المحيطات»، وهو
تحالف مكرس لحماية الحيتان وبيئتها، وبدأ يجوب
العالم للحديث عن أغنيات الحيتان مع من يعنيه
الأمر. يسترجع باين ذلك فيقول: «اعتقدت أني إذا
استطعت دمج تلك الأصوات في الثقافة البشرية، فسوف
ينتج عن ذلك حراك لإنقاذ الحيتان.»
66 أثارت جهود باين حراكًا عالميًّا.
فأطلقت منظمة السلام الأخضر أول حملات «أنقذوا
الحيتان» عقب إطلاق الألبوم بوقت قصير، وفي مؤتمر
الأمم المتحدة للبيئة البشرية الذي عُقد في
ستوكهولم عام ١٩٧٢، اعتمد المشاركون اقتراحًا يدعو
إلى تعليق الصيد التجاري للحيتان لمدة عشر سنوات.
وفي عام ١٩٧٣، اعتبرت قائمة الولايات المتحدة
الأولية للأنواع المهددة بالانقراض واتفاقية
التجارة الدولية في الأنواع المهدَّدة بالانقراض
المبرمة حديثًا آنذاك، عدة أنواع من الحيتان مهددة
بالانقراض.
67 وتحت ضغط من العلماء والعامة، طبقت
اللجنة الدولية لصيد الحيتان — والتي أُنشئت في
الأساس لإدارة الصيد التجاري — حظرًا على الصيد
التجاري للحيتان عام ١٩٨٢. جاء قرار اللجنة بحظر
الصيد في الوقت المناسب؛ إذ كانت بعض الأنواع على
شفا الانقراض الكامل.
68
بعد ذلك بسنوات، خرج روجر باين بادعاء أغرب، وهو
أن أغنيات بعض الحيتان — كالحيتان الزعنفية
والحيتان الزرقاء، والتي تعد أغنياتها أعلى صوتًا
من الحيتان الحدباء — يمكن أن تنتقل مئات أو حتى
آلاف الأميال عبر قناة سوفار، إذا توافرت الظروف
الملائمة في المحيط.
69 وبالتعاون مع عالم المحيطات دوجلاس
ويب، حسب باين المسافة التي يمكن أن تنتقل فيها
أغنيات الحيتان تحت الماء، بِناءً على مدى ارتفاع
صوتها وتردده. لماذا تحتاج الحيتان إلى التواصل عبر
تلك المسافات البعيدة؟ تساءل باين إذا كانت تلك
القدرة قد تطورت نتيجة لعدم وجود مناطق تكاثر لدى
أنواع معينة؛ إذ إن القدرة على التواصل على مدى
آلاف الأميال كانت ستنفي الحاجة إلى منطقة معينة
للالتقاء. ظن كذلك أن تلك النداءات التي تسافر
لمسافات بعيدة قد تكون مفيدة في الصيد؛ فأسراب
الكريل تزدهر وتتكاثر على نحو غير متوقع في مناطق
مختلفة من المحيط، وربما تساعد تلك النداءات
البعيدة المدى الحيتان على مشاركة مواقع تلك
المناطق فيما بينها.
تَشكَّك أغلب العلماء في ادعاء التواصل عبر
مسافات بعيدة. وقلة منهم فقط جَرءُوا على دراسة حجة
باين دراسة إيجابية، كان منهم عالم الأحياء البارز
بيتر مارلر. يعلق مارلر قائلًا: «يعتقد باين أنه
باستخدام تلك الحيتان أصواتًا ذات ترددات منخفضة
للغاية، تكاد لا تسمعها آذاننا، وتموضعها على عمق
متوسط في المحيط، قد تتمكن من سماع نداءات بعضها
عبر مسافات تقدر بمئات الأميال، وهي ظاهرة تكاد لا
تُصدَّق، حتى ندرك أن ذلك ما حققته القوات البحرية
لبلدان عدة عبر أنظمة الإشارات الصوتية تحت
المائية.»
70 اعتبر كثير من العلماء الآخرين باين
ناشطًا متطرفًا ونبذوا آراءه. وعن ذلك قال باين
لاحقًا: «كاد ذلك يقضي على مسيرتي المهنية برمتها،
أكثر من أي شيء آخر فعلته من قبل.»
71
ولكن بعد عقود، أكد كريس كلارك بالتجربة العملية
نظرية باين، وذلك باستخدام تسجيلات صوتية للبحرية
أتيحت للعامة حديثًا بعد رفع السرية عنها. يقول
كلارك: «كنت أسمع حيتانًا تغني في أيرلندا، وكنت
أسمعها تغني كذلك قرب سواحل برمودا. ما زال بدني
يقشعر عندما أتذكر ما خطر لي حينها: «يا إلهي، إن
روجر محق».»
72 كانت البيانات التي أتاحتها البحرية
دليلًا دامغًا على صحة ادعاء باين: الحيتان
الزعنفية والحيتان الزرقاء تتواصل عبر مئات الأميال
من مياه المحيط المفتوح.
ورغم تزايد الوعي الجماهيري، والموافقة على قانون
حماية الثدييات البحرية الأمريكي عام ١٩٧٢، ظلت
أغلب تسجيلات البحرية سرية. بدأ العلماء يدرسون
أنواعًا أخرى من الحوتيات، واستكشاف الاختلافات بين
الحوتيات المسننة (الحيتان المسننة، وفيها
الدلافين) والسبليات (الحيتان البلينية)، وتصنيف
أصواتها بدقة إلى فئات مختلفة، مثل نداءات التواصل،
والأغنيات، وتحديد الموقع بالصدى. تضمنت أغلب تلك
الأبحاث دراسات لأنواع منفردة من الحيتان لم تكن قد
سُجِّلت أصواتها بعد بطريقة منهجية؛ على سبيل
المثال، كان أول تسجيل موثَّق لأصوات حوت المنك
لحوت منك منفرد عند فتحة تنفس في الجليد في المنطقة
القطبية الجنوبية عام ١٩٧٢.
73 بدأ الباحثون أيضًا يستكشفون العلاقة
بين تلك الأصوات والسلوك الاجتماعي. على سبيل
المثال، في تجربة فارقة جرت في ثمانينيات القرن
العشرين، أسمع كلارك وزميله حوت الجنوب الأثين
(البال الجنوبي) أصواتًا مسجلة لحيتان مختلفة،
وأوضحا أنه يستجيب لأصوات أفراد نوعه؛ فكانت
الحيتان تقترب من مكبر صوت وضع تحت الماء إذا صدر
منه صوت لحوت بال جنوبي آخر، لكنها لم تكن تقترب
إذا كان الصوت لحوت أحدب أو مجرد ضوضاء
رتيبة.
74
ساهمت معرفة العلماء بالأصوات البحرية في تعميق
فهمهم لأكثر الأنظمة البيئية غموضًا على الأرض:
محيطات العالم. لكن المؤسسة العسكرية اعتبرت
المعرفة بأصوات الأحياء البحرية ميزة استراتيجية.
فقد كانت الضوضاء الحيوية تحت المائية تعيق قدرة
القوات البحرية على تحديد الأهداف المعادية بدقة،
وتزيد من خطر شن سفنها هجمات على أسراب بريئة من
الأسماك، وهو ما كان سيضعها في مواقف محرجة. في
إحدى المرات، حالت التسجيلات الصوتية الحيوية دون
وقوع مواجهة أثناء الحرب الباردة؛ حين رفع جيش
الولايات المتحدة حالة التأهب للدرجة القصوى على
إثر التقاطه لإشارات صوتية ذات تردد منخفض، اعتقد
أن الجيش السوفيتي يستخدمها لتحديد موقع الغواصات
الأمريكية، لكن الباحثين برهنوا أن تلك الأصوات في
الحقيقة هي أصوات حيتان زعنفية تطارد
فريستها.
75
رغم الأهمية العملية الجلية لتلك المعرفة، فإنها
لم تكتشف قبل عام ١٩٩٢ حين مول الجيش مشروعًا
بحثيًّا يهدف إلى التصنيف الدقيق للإشارات الصوتية
التي تصدرها الثدييات البحرية.
76 لكن في الأغلب، لم يكن متاحًا للعلماء
المدنيين استخدام محطات التنصُّت تحت المائية
التابعة للجيش. غير أن بعض الباحثين أنشَئوا مراكز
تنصُّت في مناطق نائية من العالم لا تزال الحيتان
موجودة بها، لكن كانت تعوزهم موارد مهمة. أحد
الاستثناءات القليلة كان في غرب المنطقة القطبية
الشمالية، حيث صاد ألدريتش ورفاقه الحيتان المقوسة
الرأس حتى كادت تندثر.
بعد مرور قرن على زيارة ألدريتش لبوينت بارو، بدأ
العلماء دراسة جديدة هناك بالتعاون مع شعب
الإنوبيات. أثارت نتائج تلك الدراسة ضجة عالمية،
ووصل الجدال الذي أعقبها إلى البيت الأبيض. وبدلًا
من استخدام أصوات الحيتان لصيدها، بدأ العلماء
يستخدمون أصواتها لمحاولة فهمها.