الفصل العاشر

الإصغاء إلى شجرة الحياة

لنعيد البشر إلى الحوار الدائر بين كل ما هو أخضر ونامٍ؛ إلى كون لم يتوقف يومًا عن التحدث إلينا، حتى بعد أن نسينا كيف نصغي إليه.

روبن وال كيميرير، «العشب المجدول»
في عام ٢٠١٠، كان عدد الحيتان الأثينة المتبقية على قيد الحياة في شمال الأطلنطي قبالة الساحل الشمالي الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية أقل من ٤٠٠ حوت. لقد أصبحت هذه الحيتان التي كافحت للتعافي بعد انتهاء صيد الحيتان التجاري، من أكثر الأنواع المهددة بالانقراض في العالم. وفي صيف ذلك العام، عندما ضربت موجة حر غير مسبوقة موطنها التقليدي في خليج مين، أصبح موطنها المنطقة الأسرع احترارًا على كوكب الأرض.1 وبعد فترة وجيزة، اختفت الحيتان من الخليج. لم يعلم أحد إلى أين ذهبت، لكن العلماء خمنوا أنها أصبحت لاجئة بسبب تغير المناخ؛ إذ هاجرت في محاولة يائسة للبحث عن الغذاء.2
تتغذى الحيتان الأثينة، التي تُعد من أضخم الثدييات في العالم بصورة أساسية على الجَوادِف التي تعد أحد أصغر مخلوقات المحيط. والجَوادِف هي عوالق حيوانية تشكل أكبر كتلة حيوية حيوانية على كوكبنا وتعد أساس كثير من سلاسل الغذاء البحرية، وتزدهر في مناطق التيارات الصاعدة للمياه الباردة الغنية بالمغذيات. عندما ضربت موجة الحر خليج مين، انحسرت المياه الباردة نحو الشمال فانخفضت أعداد الجَوادِف بشدة.3 وبعد فترة وجيزة، اختفت الحيتان أيضًا.4
بعد مرور بضعة أشهر، وعلى بعد مئات الأميال شمالًا، رُصدت الحيتان في خليج سانت لورانس، أحد أغنى المناطق البحرية في العالم، وهو مصب نهر سانت لورانس العظيم، الذي يمر عبر البحيرات العظمى (التي تحوي أكثر من ربع المياه العذبة على الأرض) ليصب في المحيط الأطلنطي. لم تكن الحيتان النازح الوحيد إلى الشمال؛ ففي تلك السنة، شُوهد سمك السلمون في أنهار القطب الشمالي مثل نهر ماكنزي، ورُصدت أسماك التونة الأطلنطية قبالة ساحل جرينلاند، على بُعد آلاف الأميال من نطاقاتها المعروفة، بحثًا عن موطن جديد.5 كان اختيار الحيتان ذكيًّا؛ فقد توجهت إلى وادي شِدياك، الذي يعد مركزًا للتنوع البيولوجي وملجأً وحاضنة للحياة البحرية. فكان من المفترض أن تزدهر هناك في ظل وفرة الغذاء. لكن خليج سانت لورانس أيضًا يعد أحد مناطق الشحن الأكثر ازدحامًا في العالم. لقد حالف الحظ الحيتان في العثور على طعام وفير، لكن الوصول إليه كان يستلزم أن تجتاز ما يناظر طريقًا سريعًا مكونًا من اثنتي عشرة حارة مرورية.
مع تجمع الحيتان في الخليج، بدأ معدل اصطدام السفن بها يتزايد. فكانت جثث الحيتان النافقة المنتفخة تنجرف إلى الشاطئ، وقد تمزق جلدها بجروح من مراوح الدفع وتشوه جراء الاصطدام العنيف.6 كما علق عدد قياسي من الحيتان في معدات الصيد التي تبين أنها تتسبب في هلاكها أغلب الأحيان. ففي عام ٢٠١٧، أعزي نفوق أكثر من اثني عشر حوتًا على الجانب الكندي من الحدود إلى حوادث العلوق في معدات الصيد والاصطدام بالسفن؛ كما نفق ثمانية حيتان أخرى خلال العامين التاليين.7 ومن المحتمل أن جثثًا أخرى قد غاصت في قاع المحيط قبل أن تُرصَد، وهو ناقوس خطر ينذر بانقراض نوع لم يتبقَّ منه على قيد الحياة إلا عدد قليل.8
لم يكن المسئولون الحكوميون على دراية بالتصرف اللازم. فكان من الصعب تحديد موقع الحيتان بدقة، وبيانات المسوحات الجوية غالبًا ما تكون قديمة؛ إذ يكون قد مضى على جمعها عام في بعض الأحيان.9 تستند استراتيجيات حماية الحيتان التقليدية — مثل إغلاق مصائد الأسماك وتحديد مناطق الموائل الحرجة وتعديل مسارات الشحن — إلى افتراض أن الحيتان ترتاد المناطق نفسها للبحث عن الطعام في الوقت نفسه من كل عام. ولكن نتيجة لسرعة تغير ظروف المحيط، لم يكن أحد يعلم أين ستظهر الحيتان المرة القادمة. طالب العلماء بفرض قيود شاملة على الشحن البحري، كفرض حدود للسرعة وإغلاق لمصائد الأسماك يستمر إلى حين تحديد أنماط الهجرة الجديدة للحيتان. لكن الصيادين وشركات الشحن احتجوا. وانحاز السياسيون إلى جانب الصناعة؛ وفي ظل عدم تأكد الافتراضات العلمية بسبب عدم توافر البيانات الكافية، واصلت شركات الشحن ومصائد الأسماك أعمالها كالمعتاد.10 مر عام ثم عامان آخران واستمر نفوق الحيتان. وبحلول عام ٢٠١٩، كان واحد من كل عشرة حيتان يموت بسبب الاصطدام بالسفن أو العلوق بحبال الصيد، أي ما يزيد على خمسين حوتًا إجمالًا؛ كان إنقاذها سباقًا مع الزمن.11
وقفت عقبتان رئيستان في طريق منع نفوق المزيد من الحيتان: تحديد مكان الحيتان بدقة، وإنذار السفن بسرعة كافية لتفادي الاصطدام بها. هنا خرجت الصوتيات الحيوية حلًّا مبتكرًا للتغلب على كلتا العقبتين. كان مسئولو مصائد الأسماك يعتمدون على المسوحات الجوية لمراقبة الحيتان، لكن هذه الطريقة كانت مكلفة وغير فعالة وغالبًا ما يعيقها سوء أحوال الطقس. عرف علماء الأحياء المحليون مثل كيمبرلي ديفيز، الأستاذة بجامعة نيو برونزويك، أن الرصد السلبي بتقنيات الصوتيات الحيوية يمكن أن يوفر مسوحات مستمرة لمواقع الحيتان بدقة أعلى وتكلفة أقل.12 وعلى مدى العقد السابق، عمل علماء الأحياء البحرية مثل كيمبرلي على تطوير وتحسين أنظمة للرصد السلبي تعتمد على الصوتيات الحيوية كوسيلة لتتبع تحركات الحيتان؛ وأكدت البيانات التي جمعوها أن كثيرًا من الحيتان تقضي وقتًا أطول عند خطوط العرض الشمالية، وحددت موقع الحيتان بدقة عالية.13
اعتمد نهج كيمبرلي ديفيز على جهاز مبتكر قائم على الصوتيات الحيوية، وهو عبارة عن مركبة غواصة للرصد الصوتي الآلي تغوص تحت الماء مزودة بهيدروفونات، تشبه إلى حد ما نسخة مائية من الطائرات المسيرة الجوية. توضح كيمبرلي أن هذه المركبات الغواصة «تستطيع تحمل جميع أحوال الطقس، والمراقبة المستمرة على مدار الساعة.»14 ومع بدء تلقيها بيانات عن مواقع الحيتان في عام ٢٠١٩، دقت ناقوس الخطر. فبينما كانت المركبات الغواصة تجول مياه المحيط ذهابًا وإيابًا، أظهرت البيانات أن الحيتان تتحرك داخل حيز أكبر بكثير مما كان يُعتقَد. وحذرت كيمبرلي المسئولين من نفوق مزيد من الحيتان ما لم تُفرَض قيود أكثر توسعًا على الشحن والصيد فورًا وعلى مساحة واسعة من المحيط. وواجهت اعتراضاتهم بحل قائم على تقنيات الصوتيات الحيوية. عند رصد المركبة الغواصة حوتًا أثينًا، فإنها تبث بيانات موقعه إلى مسئولي الحكومة والصيادين وقباطنة السفن، وتُغلَق منطقة واسعة حول موقع الحوت المرصود (نحو ١٠٠٠ ميل مربع) أمام أنواع معينة من مصائد الأسماك، من ضمنها مصائد الجمبري والكابوريا، لمدة خمسة عشر يومًا.15 وفي حال رصد حوت للمرة الثانية في بعض المناطق، فإنها تغلق طوال موسم الصيد. علاوة على ذلك، تُلزم جميع السفن بالسرعات المقررة (١٠ عقد فوق الأرض) داخل مناطق الإبطاء المحددة.16 فكلما كانت السفينة أبطأ، قل احتمال أن يكون الاصطدام مميتًا. حدود هذه المناطق متغيرة وتعتمد على مشاهدات الحيتان وظروف المحيط، مثل درجة حرارة الماء، التي تؤثر على أماكن تجمع الحيتان. في المناطق التي تكون فيها الحيتان أكثر عرضة للخطر، تفرض على السفن التي تتجاوز حد السرعة غرامات تصل إلى ٢٥٠ ألف دولار.17 وتوضع بيانات مواقع الحيتان والقيود المفروضة على السرعة على الخرائط المفتوحة المصدر التي تبث إلى جميع السفن في المنطقة؛ ومن ثَم فإن ادعاء الجهل بها ليس خيارًا.
بعد مفاوضات مطولة، اعتمد مسئولو الحكومة الكندية النظام القائم على الصوتيات الحيوية ليصبح جزءًا من الإطار الذي وضعوه لإدارة خليج سانت لورانس.18 وأعيد توظيف المركبات الغواصة التي اقترحتها كيمبرلي ديفيز في منطقة الحماية البحرية المتنقلة الجديدة. وحقق البرنامج نجاحًا فوريًّا؛ ففي غضون ساعات من إطلاق المركبات الغواصة لأول مرة، رصدت مواقع الحيتان، وأخطرت السفن بضرورة الإبطاء. وفي عامي ٢٠٢٠ و٢٠٢١، لم تُسجَّل أي حالات نفوق لحيتان أثينة في شمال الأطلنطي في خليج سانت لورانس بسبب الاصطدام بالسفن.19

إن قصة الحيتان الأثينة الشمال أطلنطية هي أمثولة لمستقبل رقمي يمكن فيه توظيف الصوتيات الحيوية لحماية الأنواع المهددة بالانقراض في جميع أنحاء العالم. فبفضل عدد قليل من المسيَّرات البحرية وخوارزمية ذكاء اصطناعي طُوِّرَت في مختبر جامعي صغير، صارت الحيتان الأربعمائة هي المتحكمة في تحركات عشرات الآلاف من السفن، في مسطح مائي يُئوي ٤٥ مليون كائن حي. بعبارة أخرى، إن تقنيات الصوتيات الحيوية الرقمية لا تمكننا من التنصت على الحيتان فحسب، بل تمكننا أيضًا من حمايتها؛ وذلك بالابتعاد عن طريقها ببساطة.

يجري حاليًّا تطوير أنظمة مماثلة في جميع أنحاء العالم للبيئات البرية والمائية. وما إن تصل خوارزميات تعلم الآلة إلى درجة كافية من الموثوقية، ستكون الخطوة التالية هي استخدام هذه الخوارزميات في المستشعرات الميدانية. فإذا تمكنت الخوارزميات الموجودة في كل مستشعر من تحليل البيانات آنيًّا، فسيخلق ذلك آفاقًا جديدة للحفاظ على البيئة. على سبيل المثال، في متنزه وطني، يمكن استخدام مستشعرات صوتية مدعومة بالذكاء الاصطناعي تطلق إنذارًا مبكرًا لدوريات الحماية من الصيد الجائر فور رصدها لطلقات البنادق. ومن شأن المناطق المحمية المتنقلة — المدعومة ببيانات الصوتيات الحيوية الآنية — أن تساهم بقوة في مستقبل الحفاظ على البيئة.

لتحقيق هذا الهدف المتمثل في الاستخدام المباشر لتقنيات الحوسبة وتخزين البيانات في المستشعرات الميدانية (التي يسميها الباحثون أحيانًا «الحوسبة الطرفية»)، يلزم التغلب على تحديَّين رئيسَين: توفير مصدر موثوق للطاقة للمستشعرات، وتوفير شبكات اتصال موثوقة، حتى في المناطق النائية التي لا تغطيها شبكات الهاتف المحمول. ويتوقع الخبراء التغلب على هذين التحديين خلال السنوات العشر القادمة؛ على سبيل المثال، يمكن حل مشكلات الطاقة بتصميم مستشعرات جديدة لا تستهلك قدرًا كبيرًا من الطاقة أو تستخدم بطاريات، أما مشكلة الاتصال فيمكن حلها بواسطة أنظمة الإنترنت العالمية الجديدة القائمة على الأقمار الصناعية. يتوقع بعض الباحثين أن يكون «إنترنت الأصوات غير المعتمد على البطاريات» هذا جاهزًا للتشغيل في غضون أقل من عشر سنوات.20 ولو تحقق هذا التوقع، فسيتيح استخدام وسائل الحفاظ على البيئة الآنية المعتمدة على الصوتيات لحماية الأنواع المهددة بالانقراض، من أكثر مناطق كوكبنا ازدحامًا إلى أبعدها.

الحوت الذي وجه السفينة

كي تنجح أنظمة الحفاظ على البيئة القائمة على تقنيات الصوتيات الحيوية، يتعين علينا نحن البشرَ تقبل شيء جديد تمامًا علينا: تغيير سلوكنا استجابةً لشيء لا يمكننا رؤيته أو سماعه. فإبطاء سرعتك عند رؤيتك غزالًا يعبر الطريق أمر يختلف تمامًا عن تغيير مسار سفينة شحن لأن حاسوبك يخبرك أنه رصد حوتًا قريبًا. يعتمد استخدام برامج الحفظ البيئي القائمة على الصوتيات الحيوية على تعزيز ثقة الناس في هذه التقنيات الحديثة، وإقناعهم بأن مكاسبها — الممثلة في إنقاذ الأنواع المهددة بالانقراض — تفوق تكاليفها.

يسعى أحد برامج الصوتيات الحيوية الأكثر طموحًا في العالم، ذلك الذي أُطلِق قبالة سواحل كاليفورنيا، إلى تغيير توجه صناعة الشحن العالمية. ويراقب الملاحظون رد الفعل عن كثب؛ إذا وافقت صناعة الشحن القائمة على الالتزام بالمواعيد على اعتماد أنظمة الحفظ البيئي المعتمدة على الصوتيات الحيوية، فإن هذا سيُعَد سبقًا عالميًّا مهمًّا. ويعد مثال كاليفورنيا تجسيدًا لتحديات الحفاظ على الحيتان على مستوى العالم؛ فمع النمو الهائل لصناعة الشحن الذي واكب نمو التجارة العالمية وزيادة متوسط سرعات السفن الضخمة، زادت معدلات اصطدام الحيتان بالسفن في كثير من المناطق ذات الحركة المرورية الكثيفة.21 تعد قناة سانتا باربرا، التي تقع قرب شمال لوس أنجلوس، أحد أكثر طرق الشحن ازدحامًا في العالم، ومن المعتاد رؤية ناقلات بطول ناطحات السحاب تمر بها. وهي أيضًا مسار الهجرة التقليدي ومنطقة تغذية للحيتان الزعنفية والحيتان الحدباء والحيتان الزرقاء المهددة بالانقراض جميعًا، ولكونها أضخم الحيوانات على وجه الأرض فهي أكثر عرضة للاصطدام بالسفن. فبسبب ارتفاع السفن الشاهق فوق سطح المحيط، يصعب رؤية الحيتان في القناة، فضلًا عن تفاديها. قبل عقد، حددت الحكومة الفيدرالية مناطق إبطاء اختيارية — ثبت أنها تخفض بنسبة كبيرة من نفوق الحيتان الناجم عن الاصطدام بالسفن22 — لكن لا يلتزم بحد السرعة الاختياري إلا أقل من نصف السفن.23 وقد سجل العامان ٢٠١٨ و٢٠١٩ أسوأ معدلات لحوادث النفوق نتيجة الاصطدام بالسفن في جنوب كاليفورنيا. لكن حتى هذه الإحصاءات المروعة قد لا تعبر عن العدد الفعلي للضحايا؛ إذ تغرق معظم جثث الحيتان قبل أن تنجرف إلى الشاطئ.24
استجابة لذلك، ابتكر فريق بقيادة عالمة الأحياء البحرية مورجان فيسالي في جامعة كاليفورنيا، بسانتا كروز، نظامًا لحماية الحيتان قائمًا على تقنيات الصوتيات الحيوية. أُطلق على ذلك النظام اسم «ويل سيف» (حوت آمن)، ويدمج بين الصوتيات الحيوية وثلاث تقنيات رقمية أخرى.25 أولًا، يستخدم نظام رصد تحت الماء تقنيات الصوتيات الحيوية للكشف التلقائي عن أصوات الحيتان؛26 إذ ترصد مجموعة من الميكروفونات (هيدروفونات) الأصوات وتحللها باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي لا تقتصر قدرتها على تحديد الحيتان فحسب، وإنما تحدد أيضًا ما إذا كانت حيتانًا زرقاء أو حدباء أو زعنفية. ثم تُرسَل هذه البيانات عبر الأقمار الصناعية إلى علماء الحيتان لمراجعتها وتأكيدها. ثانيًا، يستخدم علماء الأحياء البحرية في سانتا باربرا نماذج تتنبأ بالموقع المحتمل للحيتان، وذلك عن طريق دمج بيانات ظروف المحيط (درجات حرارة المحيط، وتضاريس القاع، والتيارات المائية) مع دراسات سابقة لموقع الحيتان باستخدام رقاقات تحديد الموقع بالأقمار الصناعية.27 ومع تغير درجات حرارة المحيط وظروفه يوميًّا، تتغير أيضًا تحركات الحيتان؛ وتقدم هذه النماذج تنبؤات شبه آنية عالية الدقة. ثالثًا، تُلحق هذه التنبؤات بالمشاهدات الفعلية للحيتان التي يسجلها المواطنون العلماء والبحارة وقوارب مراقبة الحيتان عبر تطبيقات الهواتف المحمولة.28 رابعًا، يتتبع نظام «ويل سيف» مواقع السفن،29 وتدمج جميع تلك البيانات لوضع تصنيف لوجود الحيتان، على غرار لافتة «منطقة مدارس» التحذيرية (الأخضر = لا توجد حيتان؛ الأصفر = تقدم بحذر؛ الأحمر = توجد حيتان، أبطئ السرعة). ثم يرسل هذا التصنيف آنيًّا إلى قباطنة السفن عبر هواتفهم الذكية أو أجهزتهم اللوحية.30 حينئذٍ يُحَث القباطنة على إبطاء سرعتهم ونشر مزيد من المراقبين، ثم يتم تتبع السفن لمعرفة ما إذا كانت ملتزمة بحدود السرعة في مناطق الإبطاء الاختيارية. يساعد نظام «ويل سيف» أيضًا الجهات التنظيمية في اتخاذ القرارات بشأن توسيع حدود مناطق إبطاء السرعة عند الضرورة وسبل تحقيق ذلك، وذلك بإخطار السفن بأن الحيتان تقضي وقتًا أطول من المتوقع في منطقة معينة. ثم يراقب فريق «ويل سيف» السفن وينشر بطاقات تقرير معممة تُوضح مدى التزام السفن بقيود السرعة. وتتلقى السفن التي لا تمتثل لها تقييم «عدم امتثال». ولتعزيز الامتثال أكثر، يطور العلماء كاميرات تصوير حراري بالأشعة تحت الحمراء توضع على مقدمة السفينة، تشبه كاميرا لوحة التحكم، ترصد الحيتان وحوادث الاصطدام بها آنيًّا. إذا لم تلتزم السفن مستقبلًا بمناطق تجنب الحيتان المحددة، فستضبط متلبسة.31
يعتبر نظام «ويل سيف» تحسنًا كبيرًا مقارنة بالطرق السابقة التي تعوزها الدقة وتعتمد على بيانات غير مكتملة، وكانت تتطلب من العلماء استرجاع أجهزة التسجيل من المحيط قبل تحليل البيانات، مما يؤدي إلى فجوات زمنية تتراوح بين أسابيع وشهور. أما الآن، فيمكن للعلماء التوصل إلى تنبؤات شبه آنية بمواقع وجود الحيتان، على غرار تنبؤات الطقس، تقدِّر احتمالات ظهور الحيتان في مناطق مختلفة.32 بعد النجاح الذي حققه النظام على أثر انطلاقه في منتصف عام ٢٠٢٠، يخطط الفريق الآن لتوسيع نطاق استخدامه ليشمل خليج سان فرانسيسكو.
ظهرت أنظمة مماثلة في مناطق أخرى من العالم. على سبيل المثال، في خليج جنوب تاراناكي (الذي يقع بين جزيرتي نيوزيلندا الشمالية والجنوبية)، استخدم الباحثون مؤخرًا الصوتيات الحيوية لرصد مجموعة فريدة مقيمة من الحيتان الزرقاء. تعرضت لي توريس قائدة فريق البحث لانتقادات شديدة نتيجة طرحها فرضية الحيتان المقيمة؛ فقد ذهب أنصار صناعة الشحن والتعدين إلى أن الحيتان جزء من جماعات مهاجرة (إذ إن أغلب الحيتان تكون عابرة بالفعل). لكن أبحاث لي الدقيقة في الصوتيات الحيوية، إلى جانب الاختبارات الجينية، أثبتت أن هذه الجماعة من الحيتان الزرقاء مختلفة جينيًّا وأنها مقيمة على مدار السنة.33 عندما قُدِّمَت طلبات للتعدين في قاع البحر في هذه المنطقة، أدت هذه المعلومة الجديدة عن هذه الجماعة الفريدة من الحيتان إلى حَراك وطني لإنقاذ الحيتان الزرقاء النيوزيلندية، أسفر عن قرار من المحكمة العليا بإلغاء تصاريح التعدين في قاع البحر والضغط على الحكومة لحظر التعدين في قاع البحر تمامًا.34 في الوقت نفسه، طور الباحثون نموذجًا للتنبؤ بمواقع الحيتان الزرقاء سيتيح تعيين مناطق حماية متنقلة ومتغيرة في خليج جنوب تاراناكي.35
تشير مورجان فيسالي إلى أن إبطاء السفن لسرعتها مفيد للمجتمع الأوسع؛ فالسفن البطيئة أقل عرضة لحوادث الاصطدام بالحيتان إلى جانب أنها تقلل من مساهمتها في التلوث الصوتي، وتطلق عددًا أقل من الملوثات البيئية، وقدرًا أقل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. كما أن إنقاذ الحيتان من الاصطدام بالسفن مفيد للبيئة على مستوى العالم؛ إذ يساعد في تخفيف تأثيرات تغير المناخ. فالحيتان تتمتع بكفاءة عالية في تخزين غاز الكربون. فالحوت الواحد بعد نفوقه يخزن في المتوسط ٣٠ طنًّا من ثاني أكسيد الكربون، فينقي الغلاف الجوي من هذا الغاز لقرون. وعلى سبيل المقارنة، تمتص الشجرة الواحدة في المتوسط ٤٨ رطلًا فقط من ثاني أكسيد الكربون سنويًّا.36 وهكذا يعادل تأثير الحوت الواحد، من منظور مناخي، آلاف الأشجار. تساعد الحيتان أيضًا على عزل الكربون عن طريق إخصاب المحيطات؛ إذ تفرز فضلات غنية بالمغذيات، وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادة أعداد العوالق النباتية التي تعزل الكربون أيضًا، ما دفع بعض العلماء إلى تلقيبها ﺑ «مهندسي النظم البيئية البحرية». في عام ٢٠١٩، قدر خبراء اقتصاديون من صندوق النقد الدولي قيمة الخدمات البيئية التي يقدمها كل حوت بأكثر من مليوني دولار أمريكي. وطالبوا بوضع برنامج عالمي جديد للحوافز الاقتصادية يهدف إلى إعادة أعداد الحيتان إلى مستوياتها قبل عهد التحويت الصناعي، باعتبار ذلك مثالًا على «الحلول الطبيعية» لمواجهة تغير المناخ.37

في الوقت الحالي تنطلق دعوات لإنشاء برنامج عالمي لاستعادة أعداد الحيتان، لدعم التنوع الأحيائي البحري والحد من تغير المناخ. ويعمل الباحثون حاليًّا على تطوير الهيكل التنظيمي الذي سيساعد على توسيع نطاق الرصد باستخدام الصوتيات والمناطق المحمية في جميع أرجاء محيطات العالم. واليوم، تُستخدَم أنظمة لحماية الحيتان تعتمد على الصوتيات الحيوية في مناطق منفصلة، ولكن مستقبلًا، يمكن لشبكة من محطات التنصت التي تستخدم الصوتيات الحيوية إنشاء «ممرات حيتان» مرنة في جميع محيطات العالم، تتحكم بها الحيتان نفسها.

محميات متنقلة

يتوقع أحدث التقارير عن حالة المحيطات، الصادرة عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، أن تؤدي موجات الحر البحرية وارتفاع مستوى سطح البحر ونفوق المرجان وتلاشي الجليد البحري إلى تدمير مستويات التنوع الأحيائي الحالية.38 فمع ارتفاع درجة حرارة سطح البحر على مستوى العالم وتغير تيارات المحيطات، وتزايد معدل الظواهر الجوية المتطرفة، بدأت بالفعل موجات هجرة جماعية للأحياء البحرية.39 ومع التحركات غير المتوقعة للكائنات البحرية في محيطات العالم، قد تصبح برامج المناطق المحمية المتنقلة في محيطات العالم إجراءً ضروريًّا ومستخدمًا على نطاق واسع لحفظ البيئة. وسيصبح الإصغاء لتبين مواقع الكائنات البحرية باستخدام التقنيات الصوتية البيئية الرقمية ضرورة أكثر إلحاحًا؛ «إجراءً عاديًّا جديدًا» في نظم الإدارة البحرية.
بعض مكونات البنية التحتية اللازمة للمناطق البحرية المحمية المتنقلة موجودة بالفعل، وتتمثل في الشبكات الصوتية للقياس عن بعد، مثل نظام المراقبة البحرية المتكاملة (IMOS) في أستراليا، وشبكة محطات القياس المرجعي لضوضاء المحيط التابعة للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) في الولايات المتحدة، ومنصة منظومة التتبع الصوتي في جنوب أفريقيا.40 يمكن أن تساعد شبكات التنصت هذه في رصد وجود الأنواع المهددة بالانقراض وتقدير تحركات الكائنات البحرية، بغرض تمكين المناطق البحرية المحمية من الاستجابة للتغيرات البيئية.41 على سبيل المثال، مع فتح مناطق جديدة من القطب الشمالي الذي بدأ في الذوبان أمام حركة الشحن، ستكون هناك حاجة إلى وسائل جديدة لمنع اصطدام السفن بالحيتان في مناطق مثل مضيق بيرنج الذي يُعد عنق زجاجة بالنسبة إلى السفن والحيتان المهاجرة على حد سواء.42
تعتبر هذه المحميات البحرية المتنقلة مثالًا يبعث على الأمل للاستراتيجيات الجديدة الآخذة في الظهور نتيجة توظيف العلماء ونشطاء حركة الحفاظ على البيئة أدوات رقمية لمواجهة التحديات البيئية الملحة. منذ آلاف السنين، يتتبع البشر تحركات الحيوانات بغرض البقاء، وكذا لإدارة الحيوانات البرية وحمايتها، إلا أن مستوى المراقبة الذي باتت الأدوات الرقمية توفره غير مسبوق. في العقد الماضي، أدى تقليص حجم تقنيات التتبع الجديدة غير المكلفة والمتصلة بالإنترنت وانتشارها إلى عصر ذهبي جديد لجمع البيانات الحيوية، وهو ما يتيح المراقبة الدقيقة والمحكمة حتى للأنواع الصغيرة مثل الحشرات، وكذلك للأنواع المهاجرة لمسافات طويلة مثل السلمون والسلاحف المائية.43 ويتم هذا التتبع بوسائل بعضها بصري، لكن أغلبها صوتي.44

ما أهمية ذلك؟ مع تسارع وتيرة انخفاض التنوع الأحيائي، بدأت الموجة السادسة من الانقراض الجماعي للكوكب بالفعل. كثير من الحيوانات تستجيب لذلك بتغيير عاداتها — كأن يصبح نشاطها ليليًّا على سبيل المثال — أو بالانتقال إلى موائل جديدة. ومع استمرار البشر في تعديل الموائل البرية والبحرية، وكذلك استمرار تغير المناخ العالمي، يخلق ذلك تحديًّا جديدًا أمام الحفاظ على البيئة؛ إذ تختفي موائل الأنواع المهددة بالانقراض، أو تنتقل إلى موقع جغرافي جديد نتيجة لتغير المناخ. فلم تَعُد المناطق المخصصة لحمايتها تحتوي على الغذاء أو الموئل المناسب الذي تحتاجه للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى مجموعة متزايدة من الأنواع، ينبغي أن تكون هذه المناطق متحركة جغرافيًّا.

مع الزيادة المتوقعة لعدد البشر على الكوكب، بما يقدر بملياري شخص، على مدى العَقدين القادمين، تعتبر الصوتيات الحيوية أحد أفضل خياراتنا للموازنة بين الأنشطة البشرية وأنشطة الأنواع الأخرى. ومن شأن الدمج بين تقنيات الرصد الصوتي الرقمية وأشكال متقدمة من الذكاء الاصطناعي، مثل تعلم الآلة، أن يمكِّن العلماء من إنشاء نماذج آنية للتنوع الأحيائي الحيواني، يمكن استخدامها لتتبع الأنواع النشطة صوتيًّا، وكذلك الأنواع غير الصوتية التي تعتمد على الأنواع المنتجة للصوت أو تتفاعل معها على نحو وثيق.45 وهذا بدوره يمكن أن يساعد في إعادة توجيه أو تقييد التحركات البشرية في أكثر المناطق والأوقات خطورة. فبدلًا من إنشاء عدد قليل من المتنزهات، يمكن إنشاء عدد كبير من «المناطق الآمنة» المتطورة، تتتبع تحركات الحيوانات عبر الموائل السريعة التغير على مستوى العالم. بالطبع لن تتصدى برامج الحفاظ على البيئة التي تعتمد على الصوتيات الحيوية لجميع التهديدات التي تواجه التنوع الأحيائي، مثل التلوث الكيميائي. لكنها تظل أحد أفضل الوسائل المتاحة لحماية التنوع الأحيائي.
يمكن أيضًا توظيف تقنيات الصوتيات الحيوية لمنع الجرائم البيئية. على سبيل المثال، تُستخدم تقنيات الصوتيات الحيوية الآن لرصد التوزيع المكاني والبؤر الساخنة لصيد الأسماك بالتفجير (المعروف أيضًا باسم صيد الأسماك بالديناميت). تُوصف هذه الممارسة، التي يستخدم فيها الصيادون متفجرات مصنوعة من مواد غير مشروعة أو منزلية الصنع مصنوعة من الكيروسين والأسمدة، بأنها النظير البحري للصيد الجائر للأفيال؛ إذ يستهدف الصيادون الشعاب المرجانية ذات الكثافات العالية من الأسماك، مستخدمين المتفجرات لقتل الأسماك وصعقها لتسهيل حصادها. ويتزايد أيضًا استهداف أسماك الأعماق (مثل التونة) بالمتفجرات ثم جمعها بواسطة غواصين. وهذا يؤدي إلى احتمالات إصابة الأسماك الناجية بتشوهات وفقدان دائم للسمع؛ مما يؤثر على معدلات بقائها المستقبلية. من الصعب رصد ومكافحة صيد الأسماك بالتفجير، الشائع في «مثلث المرجان» في جنوب شرق آسيا وكذلك في تنزانيا؛ إذ عادة ما يسهل على صغار الصيادين التهرب من دوريات المراقبة القليلة.46 ومن خلال الدمج بين الرصد الصوتي السلبي والخوارزميات الآلية للكشف عن الانفجارات، يمكن تحديد مواقع الصيد غير الشرعي بسهولة على مسافات تصل إلى ٣٠ أو ٤٠ ميلًا؛ مما يساعد سلطات إنفاذ القانون على تحديد الجناة بسرعة.47
إلى جانب أن التقنيات الصوتية تساعد البشر على تحديد مواقع الكائنات البحرية المهددة بالانقراض أو تجنبها، يمكنها أن تساعد أيضًا الكائنات البحرية على تجنب البشر. فمع تزايد القلق العالمي بشأن معدلات الصيد العرضي الضخمة في مصائد الأسماك (لا سيما السلاحف والدلافين، وكذلك الحيتان)، طُوِّرَت أجهزة إنذار صوتية لتحذير الثدييات البحرية والأسماك. ويُستخدم اليوم مئات الآلاف من أجهزة الردع الصوتية الرقمية التي تثبت في القوارب والشباك وأرصفة الرسو وحظائر الأسماك لتحذير الكائنات البحرية؛ بل يمكن أيضًا ضبط أجهزة الردع هذه لتناسب أنواعًا بعينها.48 ولكن يخشى البعض من أن الضرر الذي تسببه أجهزة الإنذار قد يفوق الضرر الذي تمنعه. على سبيل المثال، يمكن أن تؤثر أجهزة الردع الصوتية المخصصة لبعض الأنواع على أنواع أخرى بالسلب؛ مثلما يحدث عند تركيب كشافات ساطعة لردع اللصوص فتتسبب في تلوث ضوئي مزعج لجيرانك.49 علاوة على ذلك، قد يؤدي تراكم الضوضاء الصادرة عن أجهزة الردع الصوتية أيضًا إلى التعتيم الصوتي — وهو نوع من التشويش في المجال الصوتي — حتى عند مستويات التلوث الصوتي المنخفضة نسبيًّا. صحيح أن هذه الضوضاء الخلفية المزمنة لا تقتل الحيوانات البحرية مباشرة، ولكنها قد تقلل من جودة مساحة تواصلها ومداه؛ وهذا من شأنه أن يسكتها أو يقلص المسافات التي تستطيع السمع عبرها. وبالنسبة إلى الأسماك أو الدلافين، يعادل هذا الفقدان التدريجي للسمع والبصر.50 وفي محاولة لإيجاد حل، بدأ بعض الباحثين في مجتمع أبحاث الصوتيات الحيوية البحرية يدعون إلى استخدام تقنيات تخفيف الضوضاء وإيجاد بدائل لأجهزة الردع الصوتية.51 لكن حتى لو قررنا التخلي عن أجهزة الردع الصوتية، فهذا وحده لن يعالج التهديد الأكبر والأعم الذي تواجهه الحياة البحرية، ألا وهو الهجوم الشرس والمتزايد للضوضاء البيئية.

إخماد ضوضاء المحيط

في صباح يوم ١١ سبتمبر ٢٠٠١، كانت عالمة الأحياء روزاليند رولاند تستعد لإطلاق قاربها في مياه خليج فندي الهادئة في يوم مشمس رائع من أيام الخريف. عندما وردت أنباء الهجمات عبر الراديو، بدا الأمر مستعصيًا على التصديق. بعد فترة، قرر أفراد الطاقم الخروج إلى المحيط متحدين الخوف الذي داهمهم؛ لأن الخليج «مهدئ للروح»، على حد قول روزاليند.52 في المحيط، انهمك أفراد فريقها في أداء مهمتهم، وهي جمع عينات من براز الحيتان لاستخدامها في دراسة عن صحة الحيتان الأثينة وتكاثرها. في المختبر، سيحللون تلك العينات لقياس مستويات الهرمونات المرتبطة بصحة الحيتان ومستويات الإجهاد لديها.

كانت عالمة المحيطات سوزان باركس أيضًا قد خرجت في قاربها لجمع بيانات من أجل دراسة عن السلوك الاجتماعي لأمهات الحيتان الأثينة وصغارها. على الرغم من أن معظم السفن ظلت راسية لمدة أسبوع بعد الهجمات، واصلت سوزان جمع التسجيلات في الخليج. كانت سوزان وروزاليند هما باحثتا الحيتان الوحيدتان اللتان استمرتا في العمل في الخليج في هذه الفترة الاستثنائية من الهدوء، وبعد بضعة أشهر أدركتا إمكانية دمج بياناتهما للإجابة عن سؤال جديد تمامًا: هل يمكن أن تكون هناك علاقة بين انخفاض مستويات الضوضاء في المحيط وانخفاض مستويات الإجهاد في الحيتان؟

إن هذا السؤال ملح؛ نظرًا إلى تضاعف الضوضاء البحرية كل عقد منذ الخمسينيات في كثير من المناطق بالمحيطات.53 ويعزو هذا إلى حد كبير إلى تزايد النشاط الصناعي في المحيطات.54 فقد أدى نمو التجارة وعولمتها إلى تضاعف حمولة السفن التجارية عشرة أمثال. وفي السنوات الأخيرة، أدى التنافس على استعمار موارد النفط والغاز في أعماق البحار إلى طفرة في عمليات المسح الزلزالي؛ وإلى جانب زيادة حركة السفن، واستخدام السونار، وأعمال البناء، وأجهزة الردع الصوتية، كل ذلك أدى إلى زيادة هائلة في الضوضاء الناتجة عن النشاط الصناعي في المحيطات.55
وهكذا رصدت تجربة سوزان باركس وروزاليند رولاند آثار عقود من الإجهاد على جماعات الحيتان. وتصدرت نتائج تحليلهما المشترك عناوين الأخبار: في ظل الهدوء المؤقت الذي أعقب أحداث ١١ سبتمبر، انخفضت مستويات الإجهاد لدى الحيتان بصورة ملحوظة.56 فمع انخفاض الضوضاء البحرية إلى ربع مستوياتها السابقة، رُصِد انخفاض مماثل في مستقلَبات الهرمونات المرتبطة بالإجهاد لدى الحيتان. وبالتوازي مع تزايد حركة السفن وارتفاع مستويات الضوضاء مرة أخرى، ارتفعت مستويات هرمونات الإجهاد لدى الحيتان أيضًا. وقد لوحظت تأثيرات مماثلة لدى البشر؛ إذ يرتبط التعرض للضوضاء بارتفاع ضغط الدم، ومستويات هرمونات التوتر، وتأثيرات على القلب والأوعية الدموية، والإصابة بأمراض القلب التاجية لدى البشر.57 لكن لم يسبق لأحد أن أثبت آثار التلوث الصوتي على الحيتان.58
بدأ بعض الباحثين، بدافع الفضول، في إجراء تجارب على حيوانات بحرية أخرى، وتوصلوا إلى نتائج مماثلة في مجموعة كبيرة من الأنواع، شملت حتى اللافقاريات مثل الحبار.59 بعد عشرين عامًا باتت الأدلة قاطعة: يتسبب التلوث الصوتي البحري في كثير من الآثار الصحية الضارة إلى جانب زيادة مستويات الإجهاد لدى الحيوانات البحرية. حتى الأصوات المنخفضة الشدة، مثل تلك الصادرة عن سفن الشحن البعيدة، بل حتى السيارات والطائرات البعيدة، من شأنها أن تجعل الأخطبوطات تحبس أنفاسها والمحار يغلق أصدافه.60 ولتراكم الضوضاء البحرية مجموعة هائلة من الآثار السلبية؛ فمن شأنه أن يؤخر النمو، ويعيق التكاثر والنمو، ويتسبب في اضطراب النوم، بل قد يقتل الكائنات الحية مباشرة.61 ولعل أحد أكثر مصادر التلوث الصوتي تدميرًا هو المسح الزلزالي لأعماق البحار؛ فطلقة واحدة من بندقية مسح زلزالي هوائية كفيلة أن تصم الأسماك وتقتل العوالق الحيوانية التي تعد أساس السلسلة الغذائية البحرية، في حيز يصل إلى ميل من موقع إطلاقها، هذا بالإضافة إلى أنها قد تؤدي إلى فقدان السمع لدى الثدييات البحرية الضخمة مثل الفقمات والحيتان.62 ولأن الصوت ينتقل بكفاءة عالية تحت الماء، فإن تلك التأثيرات لا تقتصر على الأفراد، بل تمتد إلى النظام البيئي البحري بأكمله.63
وثِّقَت تأثيرات صحية سلبية مماثلة ناتجة عن الضوضاء لدى الأنواع البرية.64 فالضوضاء البشرية المنشأ تعوق التكاثر والبحث عن الطعام والصيد والهجرة وأنماط النشاط؛ كما أنها تؤثر على نشاط الجهاز العصبي الصماوي لدى الحيوانات (إذ ترفع مستويات الكورتيزول) والوظائف الفسيولوجية (إذ ترفع معدلات التنفس)، والقدرة على التواصل؛ ومن ثَم تصعب عليها التجمع والتزاوج والصيد والاختلاط الاجتماعي.65 وكلما ازدادت الضوضاء البشرية المنشأ، رفعت الحيوانات أصواتها، مثلما يرفع البشر أصواتهم ليسمعوا بعضهم عند وجود ضوضاء مرتفعة في الخلفية؛ وهذا قد يؤدي إلى استنفاد مخزونها من الطاقة فلا يترك منه ما يكفي للأنشطة الحيوية الأخرى.66
عندما تحاول الحيوانات الفرار من الضوضاء العالية، تتأثر العمليات البيئية الأخرى مثل نشر البذور وتلقيح النباتات.67 ففي تجربة مبتكرة، أنشأ الباحثون «طريقًا وهميًّا»؛ إذ وزعوا ١٥ مكبر صوت عبر جزء من الغابة يخلو من الطرق داخل متنزه لاكي بيك الحكومي بولاية أيداهو. أصدرت مكبرات الصوت تسجيلات لأصوات طريق سريع وقاست استجابات الطيور لها. كانت النتيجة أن تجنب ثلث الطيور الطريق الوهمي تمامًا؛ وكانت الطيور اليافعة (لا سيما التي يبلغ عمرها سنة واحدة) أكثر عرضة للاختفاء. أما الطيور التي بقيت، فقد أظهرت تدهورًا في حالتها الجسدية ووجدت صعوبة في اكتساب وزن؛ وهي نتيجة مقلقة نظرًا إلى أن محطات التوقف للتزود بالغذاء ضرورية لبقاء كثير من الأنواع المهاجرة. وينوه الباحثون بأنه بحلول عام ٢٠٥٠، سيزداد عدد الطرق إلى حد أنها مجتمعة ستكفي للالتفاف حول الأرض أكثر من ستمائة مرة؛ ولا يوجد ما يؤكد أن الإجراءات التخفيفية يمكن أن تقلل من تأثير الضوضاء البشرية الناتجة عنها.68 حتى في المتنزهات والمحميات، تواجه الحيوانات بالفعل طوفانًا متزايدًا من الضوضاء البشرية.69
ولعل أكثر تأثيرات الضوضاء إثارة للقلق هو تأخيرها لنمو الأجنة في مجموعة كبيرة من الأنواع حسبما يبدو. تشكل الأصوات التي تسمعها أجنة الحيوانات فرص بقائها؛ إذ تؤثر البرمجة الصوتية للنمو الجنيني على التكوين الفسيولوجي للحيوانات وإدراكها من خلال التغيرات التي تحدثها في الوصلات العصبية الدماغية، والغدد الصماء، والتعبير الجيني. في النظم البيئية الصحية، تساعد هذه البرمجة الحيوانات على التكيف مع بيئاتها؛ إذ يتعرف صغار كثير من الأنواع على نداءات الوالدين عند الفقس. بل إن بعض الأنواع، مثل طيور الحسون المخطط، يتغير حجمها حسب أنواع النداءات التي يصدرها الوالدان قبل ولادتها. وقد يؤدي تشوش المشاهد الصوتية إلى إلحاق أضرار جسيمة بالكائنات الحية بطرق لم نُحِط بها علمًا بعد.70 ما نعرفه يقينًا أن الحيوانات شديدة الحساسية حتى للتغيرات الطفيفة في مستوى الضوضاء؛ فقد وجدت إحدى الدراسات أن تأثير القوارب البخارية على أجنة الأسماك يعتمد على نوع المحرك؛ فرغم أن محركات القوارب بجميع أنواعها ترفع معدل ضربات قلب الجنين، فإن تأثير القوارب ذات المحركات الخارجية الثنائية الشوط فاق تأثير القوارب ذات المحركات الرباعية الشوط الأهدأ بأكثر من الضعف.71 وقد لخص مقال في دورية «ساينس» النتائج في عبارة مقبضة: الضوضاء البشرية تخفق بيض الأسماك الصغيرة.72

أغنيات الأعشاب البحرية

يتجلى ذلك الدمار الناتج عن التلوث الصوتي، لا سيما في عالم البحار، من خلال دراسة حديثة جرت على أحد أقدم النباتات على الأرض: مروج الأعشاب البحرية، التي تعد النظير البحري للسهول الكبرى. باستثناء سواحل القارة القطبية الجنوبية، كانت المناطق الساحلية البحرية لكوكبنا زاخرة بالأعشاب البحرية. تضاهي الأعشاب البحرية الشعاب المرجانية في أهميتها واتساعها؛ إذ توفر الغذاء والمأوى لصغار كثير من الكائنات البحرية، وتحمي السواحل من التآكل، وتساعد في تدوير المغذيات وحفظ استقرار قاع المحيط، وتحسن جودة المياه. وعلى غرار الغابات الأرضية، تؤدي الأعشاب البحرية دورًا حيويًّا أيضًا في استقرار مناخنا العالمي باعتبارها بالوعة كربون.73 في العقود العديدة الماضية، حدث انخفاض كارثي في مساحات الأعشاب البحرية في كثير من المناطق الساحلية في العالم؛ إذ اختفى من مروج الأعشاب البحرية ما يعادل مساحة غابات الأمازون.74 وعزا العلماء ذلك التدهور إلى مجموعة من التهديدات مثل تغير المناخ، والملوثات الكيميائية، ومراسي السفن، والتجريف البحري وارتفاع ملوحة المياه بفعل محطات تحلية المياه. لكن مارتا سوليه، الباحثة البارزة في مجال الهندسة البيئية بجامعة بوليتكنيك بكاتالونيا، برشلونة تك، تساءلت إذا كان من المحتمل أن يكون التلوث الصوتي مسئولًا عن ذلك أيضًا.
اشتهرت مارتا، التي تعمل مع ميشيل أندريه المشرف على رسالتها للدكتوراه، بالأبحاث غير التقليدية؛ إذ درست تأثير الضوضاء البشرية المنشأ على الكائنات البحرية التي لا تملك آذانًا: رأسيات الأرجل (مثل الأخطبوطات)، واللاسعات (مثل المرجان وقناديل البحر)، والقشريات (مثل الروبيان)، وقمل البحر.75 غير أن دراستها المقترحة حول حساسية النباتات البحرية للضوضاء تبحث موضوعًا غير مستكشف. قررت مارتا التركيز على أقدم عشب بحري في العالم، وهو عشب البوسيدونيا. يعود السجل الأحفوري لعشب البوسيدونيا، الذي سمي بهذا الاسم نسبة إلى إله البحر اليوناني، إلى العصر الطباشيري. من بين أنواعه عشب بحري نسيلي بطيء النمو متوطن في البحر المتوسط، يسمى «بي أوشينيا»، ويكوِّن شبكات من الجذور والجذمورات يمكن أن تمتد عدة أمتار. في وقت ما، كان عشب بي أوشينيا يمتد بطول الخط الساحلي بأكمله، وسميت ثمرته الطافية «زيتون البحر».76 مروج الأعشاب البحرية قديمة؛ إذ اكتُشِفَت أحد مستعمراتها قبالة الساحل الجنوبي لمدينة إبيزا ويزيد عمرها على مائة ألف عام، بل ربما يدنو من مائتي ألف عام، وهذا يجعلها أقدم نبات حي في العالم.77
أظهرت أبحاث مارتا سوليه السابقة أن رأسيات الأرجل تحس بالأصوات بواسطة أعضاء حسية صغيرة تسمى الحويصلات السمعية.78 عند تعرضها لضوضاء ذات ترددات مشابهة لضوضاء المسوحات الزلزالية البحرية وضوضاء القوارب، تتضرر حويصلاتها السمعية ضررًا جسيمًا؛ إذ تنتفخ وتنفجر ثم تموت، تمامًا مثلما يحدث لطبلة الأذن البشرية عند التعرض لضوضاء عالية.79 وتتضرر أجنتها بالقدر نفسه، إذ تصيبها آفات بشرانية تطول أجزاءً ممتدة وتتضرر خلاياها الشعرية.80
كان السؤال الذي طرحته مارتا هو: هل يمكن أن تحدث تأثيرات مشابهة للنباتات البحرية نتيجة التلوث السمعي البحري؟81 تحتوي الأعشاب البحرية، مثل سائر النباتات البحرية، على نظير للحويصلات السمعية، وهي عضيات تسمى صانعات النشا (أميلوبلاست) تساعد النبات على التوجه في اتجاه الجاذبية وتوجيه جذوره، وكذلك الإحساس بالصوت من خلال حركة الجسيمات في الماء.82 عرف الباحثون أن صانعات النشا موجودة بتركيزات عالية في خلايا معينة في جذمورات وقلنسوات جذور عشبة بي أوشينيا. فهل تؤذي الأصوات العالية الأعشاب البحرية مثلما آذت الأخطبوطات؟
على غرار ما فعلته مارتا مع الحيوانات البحرية، جمعت عينة من الأعشاب البحرية ووضعتها في أحواض مياه في المختبر.83 تركت المجموعة الضابطة دون تدخل، بينما عرَّضت المجموعة التجريبية لأصوات عالية منخفضة التردد تشبه الأصوات التي تولدها الأنشطة الصناعية، مثل ضوضاء سفن الشحن والمسح الزلزالي تحت الماء. ثم فحصت الخلايا الموجودة في الجذور والجذمورات، وكذلك الفطريات التكافلية المرتبطة بالجذور. في المجموعة الضابطة، لم تتضرر صانعات النشا. ولكن في المجموعة التجريبية التي تعرضت للضوضاء العالية، تشوهت صانعات النشا بشدة، كما انخفضت أعدادها انخفاضًا كبيرًا. عند فحصها بالمجهر الإلكتروني الماسح، لاحظ الباحثون تشابهات مخيفة مع الحويصلات السمعية للأخطبوطات، مثل الآفات والخلايا المنفجرة التي تسرب محتوياتها من خلال ثقوب كبيرة. وكما حدث للأخطبوطات، تعرضت الأعضاء الحسية للأعشاب البحرية لأضرار جسيمة ودائمة. افترض الباحثون أن هذه الأضرار يمكن أن تؤثر على قدرة النباتات على الإحساس بالجاذبية وتخزين الطاقة، وهما وظيفتان أساسيتان لبقائها. وما كان يدعو للقلق أكثر أن الفطريات التكافلية المرتبطة بالجذور تضررت أيضًا. وكان تدهورها يعني أن النباتات قد تجد صعوبة أكبر في جمع العناصر الغذائية من المحيط.
أحدثت أبحاث مارتا سوليه هزة عنيفة في المجتمع العلمي.84 فباحثو الأعشاب البحرية لم يعتبروا الضوضاء من قبل تهديدًا لها. كما أن باحثي الصوتيات الحيوية لم يتصوروا أن الضوضاء البيئية يمكن أن تضر النباتات البحرية. لهذه النتائج تداعيات هائلة على الحفاظ على التنوع الأحيائي البحري. فمع انتشار العمليات البحرية — من التنقيب في قاع البحر إلى استخراج النفط والغاز ومحطات الطاقة المتجددة — لم تلقَ التأثيرات الصوتية على الحياة النباتية البحرية اهتمامًا كبيرًا. رغم عدم تحديد مستويات عتبة التعرض للأصوات حتى الآن، فالواضح أن هذا العلم الناشئ سيُحدث تحولًا في إصدار التصاريح وعمليات الأنشطة الصناعية البحرية مستقبلًا. توضح مارتا أنه إذا كانت جميع النباتات والحيوانات في المحيط حساسة للصوت، فلن يكون التلوث الصوتي مشكلة تخص الأنواع فحسب، بل سيصبح قضية تخص النظام البيئي. ويشير ميشيل أندريه إلى أن التحدي أصبح جليًّا الآن؛ إذ يقول: «بدلًا من مجرد فرض حدود لحماية أنواع معينة، يتعين علينا وضع حلول للحد من التلوث الصوتي في البيئات البحرية إجمالًا.» وتلك أنباء لن تسر أصحاب الأعمال في مجالي الشحن والتعدين على مستوى العالم. ولكن كما يقول أندريه، فإن مجتمع الصوتيات الحيوية العلمي حاليًّا «لا يترك للجهات التنظيمية مجالًا للتملص.»85
يقترح أندريه تطوير مؤشر للصوتيات البيئية لتقييم كل من النشاط البيولوجي وتأثيرات التلوث الصوتي البيئي.86 وحجته في ذلك كالآتي: المشاهد الصوتية للمناطق الغنية بالنشاط البيولوجي ثرية ومتنوعة. ويمكن بواسطة مؤشر ديناميكي للصوتيات البيئية (يرصد تطور المشهد الصوتي عبر الزمن) حساب التغيرات التي تطرأ على صحة النظام البيئي التي يمكن تقييمها من التغيرات في الأنماط الصوتية، بدقة تفوق دقة الوسائل المرئية وبتكلفة أقل بكثير.87 يوجد بالفعل العديد من مؤشرات الصوتيات البيئية. لكنها عادة ما تتطلب قدرات حاسوبية ضخمة؛ لكن أندريه يرى أن الأجهزة والبرامج عالية الكفاءة ومنخفضة التكلفة بما يكفي لتمكيننا من دمج مؤشرات الصوتيات البيئية في عمليات الرصد البيئي على مستوى العالم. تستلزم المعايرة الدقيقة لمؤشر الصوتيات البيئية أيضًا قدرًا هائلًا من البيانات؛ لكن يشير أندريه إلى وجود أكثر من ١٥٠ مرصدًا للصوتيات البيئية حول العالم يبث بيانات متواصلة على مدار الساعة، منذ أكثر من عقد.
إذا صح ادعاء أندريه، فسيكون مؤشر الصوتيات البيئية العالمي معيارًا جديدًا للسلامة البيئية في القرن الحادي والعشرين.88 ومثلما سهَّل النظام الدولي للوحدات (مثل المتر والكيلوجرام) توحيد معايير الاقتصاد وعزز عولمة التجارة، فإن ابتكار مؤشر عالمي للصوتيات البيئية يمكن أن يكون بمنزلة اللبنة الأولى في نظام عالمي للرصد البيئي، وهو ما سيكون أداة قوية تساعد الجهات التنظيمية على مكافحة التلوث الصوتي الناتج عن الصناعة.
لماذا نرغب في ابتكار مؤشر عالمي للصوتيات البيئية، وما الغرض الذي سيخدمه؟ يوضح أندريه أن تقارير سلامة الأنظمة البيئية يمكن أن تدمج بيانات من كثير من المراصد المختلفة لمراقبة سلامة البيئة، مثل تقارير الطقس التي تُدمَج فيها بيانات من آلاف المحطات الخاصة برصد الأمطار ودرجة الحرارة. ومن خلال ذلك يمكننا التوصل إلى فهم أفضل لكيفية تغير النظم البيئية وتحركات الحيوانات، وهو ما سيفيد في مواجهة تغير المناخ العالمي. ومن خلال أرشفة كل تسجيل، سننشئ أيضًا بنك ذاكرة للأنواع الموجودة في العالم؛ ما يعد كنزًا ثمينًا للعلماء المستقبليين. لكن أندريه يرى أن السبب الأهم لوضع مؤشر للصوتيات البيئية أن التلوث الصوتي البيئي بجانب أنه أحد التهديدات الكبرى التي تواجه العالم، فهو أحد الأنواع القليلة من التلوث التي يمكن الحد منها بسهولة. فالضوضاء ملوث نقطي المصدر (أي منشؤه مصدر واحد يمكن التعرف عليه)، وتتراجع آثاره بسرعة بمجرد إيقاف مصدره. وعلى عكس ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون أو الملوثات الكيميائية الثابتة (التي قد تستغرق عقودًا أو قرونًا لتتلاشى)، يسهل إبطال آثار التلوث الصوتي. ومن ثَم فالآثار سريعة ويحتمل أن تكون بالغة التأثير. كذلك يمكن أن تحدد مؤشرات الصوتيات البيئية عتبات الضوضاء البيئية، مما يتيح لنا الحفاظ على مستويات التلوث الصوتي دون المستويات الخطرة. وهذا سيعود بالفائدة أيضًا على البشر، الذين يعانون من آثار التلوث الصوتي البيئي في صورة الإجهاد وارتفاع خطر الولادة المبكرة والنوبات القلبية والاختلال المعرفي والخرف.89
في البيئات البحرية حيث الكائنات حساسة للغاية للصوت، توجد خطوات عديدة يمكننا اتخاذها للحد من التلوث الصوتي. فيمكن أن تؤدي تغييرات في عمليات الشحن إلى تقليل الضوضاء بنسبة كبيرة؛ إذ يمكن توجيه السفن بعيدًا عن المناطق الحساسة، وتقليل سرعاتها، وتصميمها بمراوح دفع ومحركات أهدأ. يمكن حظر استخدام بنادق المسح الزلزالي البحرية والاستعاضة عنها بأنواع أخرى من أجهزة الاستكشاف. حتى وقت قريب، كان خفض ضوضاء المحيط يبدو ضربًا من الأحلام الخيالية. لكن في عام ٢٠١١، قدمت مجموعة من العلماء اقتراحًا غير واقعي: إيقاف الشحن البحري لمدة عام بغرض دراسة المحيط في غياب الضوضاء البشرية المنشأ.90 ووصف عالِم المحيطات بيتر تياك ذلك وصفًا شاعريًّا؛ إذ قال إنه سيمنحنا «لمحة غير مسبوقة لمحيط بلا تدخل بشري … كالنظر إلى السماء ليلًا وقد انطفأت أغلب أضواء العالم.»91 ألهمت الفكرة مجموعة أخرى من العلماء لنشر خطة لتنفيذ «تجربة المحيط الساكن العالمية» التي لن تستمر إلا بضع ساعات، إذا سنحت الفرصة لذلك يومًا ما.92 لكن حتى هذه الفكرة بدت بعيدة المنال.
ثم هاجمتنا جائحة كوفيد-١٩. ومع التوقف المباغت لحركة الشحن العالمية، وثَّق الباحثون انخفاضًا هائلًا في التلوث الصوتي على اليابسة وفي محيطات العالم.93 وفي بعض المناطق، مثل ساحل شمال غرب المحيط الهادئ في أمريكا الشمالية، لم تشهد البحار هدوءًا كهذا منذ عقود.94 كان الإغلاق الذي فرضته الجائحة تحقيقًا ﻟ «تجربة المحيط الساكن» على أرض الواقع، وأظهر مدى النفع السريع الذي قد يعود على الأرض من خفض الضوضاء البيئية.95 لقد كان الإغلاق الذي فرضته جائحة كوفيد-١٩ بمنزلة تذكير مؤلم لنا بكم ما فقدناه لما طغت أصواتنا على المشاهد الصوتية لكوكب الأرض، ولمقدار النفع الذي يمكن أن يعود على الكوكب إذا اخترنا أن نخفض الضوضاء ونبدأ في الإصغاء إليه مرة أخرى.

الإخلال بإيقاع الأرض

حتى لو تمكنا من الحد من التلوث الصوتي، فالمشاهد الصوتية للأرض تواجه تهديدًا خطيرًا آخر وهو خطر تغير المناخ. يُحدِث تغير المناخ تغييرات مباشرة في المشاهد الصوتية الطبيعية على الأرض، وإن كان أغلب البشر ما زالوا غير مدركين لذلك إلى حد كبير. وتواجه الكائنات الحية الحساسة للصوت، البحرية والبرية على حد سواء، تغيرات تُخل باستقرارها في موائلها الصوتية. وقد وصف ثلاثة من رواد علماء الصوتيات في العالم — جيروم سوير وبيرني كراوز وألمو فارينا — تغير المناخ بأنه «يُخلُّ بإيقاع الأرض» حرفيًّا؛ إذ يؤدي إلى تشوش الإيقاعات الصوتية للحياة، سواء كانت أصواتًا حيوية (الأصوات التي تصدرها الحيوانات والنباتات والحشرات) أو أصواتًا جيوفيزيائية (الأصوات الصادرة عن المطر والمياه والرياح وكوكب الأرض نفسه).96

كيف يحدث هذا؟ مع تغير الأحوال الجوية وظروف المحيط، تتغير أيضًا أنماط انتقال الصوت في البيئة؛ وذلك لأن سرعة الصوت تتغير حسب درجة الحرارة والرطوبة والرياح وحتى شدة الأمطار. وفي عالمنا الذي يعاني من الاحترار، وتتزايد فيه ظواهر الطقس المتطرفة، من المحتمل أن يتقلص نطاق التواصل بين أفراد الكائنات الحية بصورة حادة؛ إذ يمكن أن تقل المسافات التي تنتقل عبرها الأصوات، مما يحد من قدرة الحيوانات على التواصل والاختلاط والتزاوج وحتى إيجاد بعضها. أو قد يتطلب منها التواصل بذل طاقة أكبر، مما يعيق قدرتها على البقاء.

كذلك تؤثر درجة الحرارة المحيطة تأثيرًا مباشرًا على عمليات إنتاج الصوت وسماعه لدى كثير من الأنواع، بدءًا من الطيور والحشرات وصولًا إلى البرمائيات والأسماك والقشريات. على سبيل المثال، يعتمد معدل تكرار أصوات البرمائيات والأسماك ومفصليات الأرجل وحدتها وجهارتها على درجة الحرارة؛ تذكر مناقشتنا في الفصل السابع لتجارب جورج واشنطن بيرس في جامعة هارفارد التي كشفت أن معدل صرير الجداجد يتناسب مع درجة حرارة الهواء المحيط. يؤثر تغير المناخ أيضًا على أنماط الظواهر الطبيعية الدورية والموسمية، ويتضمن ذلك الظواهر الصوتية التي تضطلع بدور مهم في التوازن البيئي والتطور. يُحدث تغير المناخ تحولات في هذه الأنماط الصوتية الموسمية سواء بالتأثير المباشر على الكائنات الحية أو بالتأثير على الموارد التي تعتمد عليها (مثل الغذاء). فإذا اختفت مجدافيات الأرجل من مساحات كبيرة من المحيطات الدافئة، فقد لا ترتاد الحيتان تلك المساحات بعد ذلك وتصدر أغنياتها.

مع تغير درجات الحرارة، قد تغير الزيزيات والجداجد والضفادع والأسماك أغنياتها أو تسكت عن الغناء تمامًا. ووفقًا لمجموعة من العلماء، فإن الآثار الطويلة المدى لتغير المحيطات قد تؤدي إلى «شتاء صامت وصيف صاخب»؛ إذ ستؤدي عواصف الشتاء التي باتت أشد وأكثر تكرارًا إلى إسكات جوقات الأسماك.97 ومن المرجح أن تكون التأثيرات الأشد لهذه التغييرات الصوتية من نصيب الأنواع الاستوائية التي تكون قدرتها على تحمل التغيرات الحرارية والتأقلم محدودة.98
حتى المناطق المتطرفة من الكوكب من المحتمل أن ينال منها هذا التأثير، يتضمن ذلك القطبين الشمالي والجنوبي. فباستخدام أجهزة تسجيل آلية وضعت في سلسلة جبال بروكس النائية في ألاسكا، رصد فريق من الباحثين بقيادة روث أوليفر، الباحثة بجامعة كولومبيا، أصوات وأوقات وصول الأنواع المهاجرة من الطيور إلى مناطق الإنسال والتكاثر التقليدية.99 على عكس الدراسات القائمة على تحجيل الطيور (وضع علامات أو حلقات مميزة في أرجلها)، التي تحتاج إلى جهد شاق وتشمل عددًا قليلًا فقط من الطيور، أخرجت أجهزة التسجيل بيانات حول التغيرات التي طرأت على المنطقة بأكملها في توقيت هجرة الطيور على مدى خمس سنوات متتالية. وباستخدام أساليب تعلم الآلة المستعارة من برامج التعرف على الكلام البشري، وجد الباحثون أن الظروف البيئية لا تؤثر فقط على تواريخ الوصول، إنما تؤثر أيضًا على النشاط الصوتي للطيور المغردة؛ لا سيما قبل أن تبدأ في وضع بيضها. ومثلما تتغير أنماط تغريد الطيور، تتغير عادات كثير من الأنواع الأخرى.
وحسبما كتب سوير وزملاؤه، فإن ظروف الحرارة والرطوبة المتغيرة «تخل بتناغم» الأصوات الطبيعية، مثلما قد تصبح النغمات الصادرة من آلة موسيقية نشازًا.100 فمع تغير الغلاف الجوي للأرض، تتطور المشاهد الصوتية الجيولوجية والجوية على كوكب الأرض؛ إذ تشتد الدوامات والأعاصير المدارية والفيضانات وحرائق الغابات وموجات الحر والجفاف. ونتيجة لتشوه المشاهد الصوتية بفعل تغير المناخ، تزداد صعوبة تبيُّن أصوات الطبيعة وسماعها، بل إنها قد تختفي تمامًا. فالأصوات الطبيعية التي تعتمد عليها الحيوانات في حث سلوكياتها، مثل التزاوج والهجرة واختيار الموئل، تختلف وتضطرب بل تختفي. ومن ثَم فإن التحول الصوتي الناجم عن تغير المناخ يمثل تهديدًا كبيرًا للأنواع في جميع أنحاء العالم. إن خطة الحد من تغير المناخ لهي بالفعل خطة ملحة؛ وإدراك أن تغير المناخ مصدر للاختلال الصوتي يمنحنا سببًا إضافيًّا للعمل عليها. هذه قضية ملحة؛ وكما أشار عالم السيميائية الحيوية جريجوري باتيسون ذات مرة، من المرجح أن يسبق أي انهيار واسع النطاق للنظام البيئي انهيار في نظام التواصل الطبيعي وانحسار لأصوات جوقة الطبيعة.101 وعلى المستوى العالمي، قد يمثل التلوث الصوتي تهديدًا بيئيًّا هائلًا لا يقل عن ذلك الذي يشكله التلوث الكيميائي.
في عام ٢٠١٧، قدمت منظمة اليونسكو بيانًا رسميًّا عن أهمية الصوت في عالمنا الراهن، أعلنت فيه أن «البيئة الصوتية عامل أساسي من عوامل توازن علاقة الإنسان مع الآخرين ومع العالم.»102 لكن حكومات قليلة هي التي اتخذت إجراءات ملموسة، على الرغم من أن التوجيهات الإطارية للاستراتيجية البحرية للاتحاد الأوروبي تلزم الدول الأعضاء برصد التلوث الصوتي والحد منه. ومع تراكم أدلة علمية قوية، من المرجح أن يتبع ذلك تغييرات تشريعية مماثلة.103 وفي حال حدوث ذلك، فقد تصبح تقنيات الصوتيات الحيوية ومعايير التلوث الصوتي البيئي الموسعة يومًا ما هي المقياس المعمول به في التشريعات واللوائح البيئية على مستوى العالم.
لكن ميشيل أندريه يرى أن هذه التقنيات أكثر من مجرد أداة مفيدة للمشرعين. فيقول: «لقد منحتنا التقنيات الرقمية حاسة جديدة — حاسة سادسة — تمكننا من الإصغاء إلى البيئة. فصار بإمكاننا الاستماع إلى المحيط كما يسمعه الدولفين أو الحوت. بل إننا نتفوق عليهما؛ إذ نستطيع الاستماع في كل مكان في آنٍ واحد طَوال الوقت. ومن شأن هذه الرؤية الثاقبة أن تساعدنا في نهاية المطاف على إعادة التواصل مع الطبيعة، واستعادة شيء فقدناه.» ويضيف أن هذه الاكتشافات ليست بالجديدة. «أثناء عملنا في الأمازون، نسمع كثيرًا من الأصوات الغامضة عبر الميكروفونات. نستطيع تسجيل تلك الأصوات لكننا لا نفهمها. غير أن المجتمعات المحلية تستطيع أن تشرح لنا معاني هذه الأصوات؛ ولأنهم يعيشون في المكان، فهم يملكون الحكمة والمعرفة اللازمتين للتعرف على تلك الأصوات وفهم سياقها البيئي.»104 بينما يدعو أندريه إلى اعتماد مؤشر عالمي للصوتيات البيئية لتقييم البيئات وتنظيمها، فإنه ينوه بضرورة تحري التواضع بشأن حدود العلم؛ علينا أن نتجنب إعادة استعمارنا للمعارف الأصلية والاستيلاء عليها، لكن لدينا الكثير لنتعلمه ونعيد تعلمه من المعرفة التقليدية.
دون معرفة قائمة على المكان، سيغدو علم الصوتيات الحيوية مجرد عملية حصر؛ إحصاء للأصوات دون فهم لها. لن نفهم معنى الأصوات المحيطة بنا إلا بالجمع بين الاستماع الرقمي والاستماع العميق إلى مجتمعات الكائنات الحية في أماكن معينة. وحين نفهم معنى تلك الأصوات، سيصبح لدينا الدافع لحماية الكائنات الحية التي تصدرها. لهذا السبب بات العلماء الآن يصممون أنظمة للرصد الصوتي في جميع أنحاء العالم، من أعماق المحيطات وصولًا إلى أعماق الغابات السليمة المتبقية في العالم.105 تتصور الموسيقية وعالمة البيانات أليس إلدريدج مستقبلًا توظف فيه شبكات الصوتيات الحيوية هذه إشارات صوتية للإنذار المبكر؛ فلا يقتصر دورها على توثيق تدهور الأرض، إنما تحفزنا أيضًا على اتخاذ خطوات فعلية قبل فوات الأوان.106 وتؤكد أيضًا على دعوات قادة الشعوب الأصلية للحفاظ على المشاهد الصوتية الطبيعية للأرض، مستشهدة بكلمات أحد شيوخ شعب الكيتشوا إذ يقول: «الأغنيات التي نسمعها هي بمنزلة سيمفونية استغرق تأليفها ملايين السنين. ذلك إبداع فريد لا يُقدر بثمن، ولا يمكننا السماح بتدميره أو اختفائه.»107

مجهر صوتي

لقد بدأنا للتو نفهم الأهمية العالمية للصوت بالنسبة إلى جميع الأنواع على شجرة الحياة. وتبين لنا أن عالم الكائنات غير البشرية أكثر حساسية للصوت مما كنا نعتقد، بداية من الكائنات البسيطة مثل المرجان وانتهاءً إلى الكائنات الضخمة مثل الحيتان. فكثير من الكائنات غير البشرية تستخدم الصوت للتواصل فيما بينها، بطرق تظهر أنها أعقد بكثير مما كان يظن العلماء سابقًا. وأدوات الصوتيات الحيوية الرقمية تمكننا من تسجيل هذه الأشكال المعقدة من التواصل، بينما يمكننا الذكاء الاصطناعي من فهمها وفك شفرتها.

إن الدمج بين علم الصوتيات الحيوية والذكاء الاصطناعي يفتح للإنسانية نافذة جديدة نبصر من خلالها بوضوح عملية صنع المعنى في عالم الكائنات غير البشرية. لن نستطيع أنا أو أنت أبدًا أن نغني مثل الحوت أو نطن مثل النحل، ولكن أجهزة الكمبيوتر والروبوتات المحاكية للطبيعة تستطيع ذلك. لقد وضعتنا أجهزتنا الرقمية على أعتاب عصر جديد تتواصل فيه الأنواع المختلفة عبر وسيط رقمي. وهذا من شأنه أن يحدث تحولًا جذريًّا في الحفاظ على البيئة، وأيضًا في فهمنا للطبيعة، ولمعنى الإنسانية. كيف سنختار أسلوب حياتنا على هذا الكوكب عندما تصبح أصوات المخلوقات (مرة أخرى) مسموعة ومفهومة، على حد سواء، لنا؟

لتقييم مدى التأثير العميق لهذه التحولات الفكرية، لنتأمل التأثير الذي أحدثته تقنية ثورية أخرى ابتُكِرَت منذ عدة قرون، وهي المجهر. تقول المؤرخة كاثرين ويلسون إن المجهر كان أحد المحفزات الأساسية للثورة العلمية؛ إذ أحدث تغييرًا جذريًّا في الممارسة العلمية، وكذلك في رؤية البشر لأهميتهم وعلاقتهم بعالم الأحياء بصفة أعم.108 وعلم الصوتيات الحيوية يوشك أن يغير علاقة البشرية بكوكبنا بدرجة مماثلة، لكن من خلال توسيع نطاق حاسة السمع وليس البصر.

عندما استخدم تاجر الأقمشة الهولندي أنطوني فان ليفينهوك، الذي يحمل الشهادة الابتدائية، المجهر في اكتشافات علمية مهمة للمرة الأولى، لم تتضح تداعيات ذلك على الفور. فعبقرية فان ليفينهوك لا تكمن فقط في ابتكاره للمجاهر؛ إذ صنع منها أكثر من خمسمائة، كان العديد منها دقيقًا إلى حد غير مسبوق، بل تكمن أيضًا في توظيفه لها في عادته الغريبة، وهي فحص الأشياء العادية. فبينما كان جاليليو يتطلع إلى السماء، كان فان ليفينهوك ينظر إلى مياه الآبار والعفن والقمل والخميرة وخلايا الدم وحليب الثدي البشري (الخاص بزوجته) والحيوانات المنوية (الخاصة به). عندما نظر عبر عدساته الزجاجية المنزلية الصنع، أبصر شيئًا مذهلًا: حيوانات مجهرية، كائنات دقيقة ذات أشكال وأحجام لا حصر لها، تتراقص وتتلوى داخل إطار الرؤية. لقد كان العالم يزخر حرفيًّا بكائنات دقيقة مدهشة تتراقص لم يتصور البشر حتى وجودها.

لم يفصح فان ليفينهوك عن اكتشافاته في البداية حين أدرك غرابتها، مخافة أن تُقابَل بالاستهزاء. وفي نهاية المطاف كتب رسالة إلى الجمعية الملكية في لندن؛ وهي الجمعية العلمية الأولى آنذاك.109 في بداية الأمر، نظر أعضاء الجمعية إلى اكتشافاته بعين الشك، مما يثبت مقولة أن البشر ينزعون إلى اعتبار كل ما لا يُدرَك بالحواس غير موجود. لكن فان ليفينهوك أصر، وأسفر التكبير عن كشف عالم جديد وغريب من الكائنات التي تعيش في كل شق وركن حولنا، ولا تدركها العين المجردة.110 لقد ساعدت النظارات على التركيز على الكلمة المكتوبة، وقرَّبت لنا التليسكوبات الأجرام السماوية؛ لكن المجهر فتح لنا نافذة على عوالم جديدة تمامًا لم يتصور أحد من قبلُ وجودها. بعد أن أرسلت الجمعية الملكية وفدًا لفحص المجاهر، أقرت نتائج فان ليفينهوك.111 ونُشِرت أبحاثه إلى جانب أبحاث السير إسحاق نيوتن في المجلة العلمية الأولى آنذاك.112

فتح انتشار المجاهر آفاقًا جديدة للعلماء والفلاسفة على حدٍّ سواء، وجدد الاهتمام بنظريات مثل الذرية والآلية. وأثار استكشاف العالم المجهري، والإدراك المتزايد لدور الحيوانات المجهرية في خلق الحياة ونشر العدوى والأمراض، اهتمامَ فلاسفة مثل بيكون وديكارت ولوك وأثر فيهم. وعندما كشف المجهر عن وجود مسببات الأمراض، بدأ التشكيك في الأفكار الشائعة عن المرض (مثل النظرية القائلة بأن المرض ينجم عن روائح كريهة أو عن خطيئة)، ثم ما لبثوا أن تخلوا عنها تمامًا. كما أن استخدام فان ليفينهوك للمجاهر باعتبارها أعضاءً بصرية صناعية، أو أعينًا صناعية ساعدت البشرية على رؤية أشياء جديدة بطرق جديدة، مهد الطريق لاكتشافات ثورية لاحقة لا حصر لها، كان من ضمنها اكتشاف شفرة الحياة نفسها (الحمض النووي). لقد مكَّن المجهر البشر من الرؤية بطريقة جديدة، بأعيننا وبخيالنا.

تتسم تقنيات الصوتيات الرقمية بالقدر نفسه من الأهمية. فهذه التقنيات شأنها شأن المجهر، بمنزلة طرف صناعي منحنا إياه العلم؛ إذ كلما وسعت نطاق حاسة السمع لدينا، تتسع آفاقنا الإدراكية والمفاهيمية. وكلما تكشفت لنا مشاهد صوتية جديدة حول العالم وعبر شجرة الحياة، نكتشف المزيد عن قدرة الصوت على نقل المعلومات والمعاني، وأيضًا عن قدرته على الإيذاء والتدمير. وفي غضون ذلك، نتعلم كيفية استخدام معرفتنا المكتسبة حديثًا لإيجاد طرق أفضل لحماية كوكب الأرض.

وكحال فان ليفينهوك وهو يحدِّق عبر مجهره الذي ابتكره للتو، نحن لا نفهم بعد كل شيء تكشف لنا عنه تقنيات الصوتيات الرقمية الحديثة. نحن اليوم نسمع أشياء لم نتخيل قط أن بإمكاننا سماعها. وهذا ليس جديدًا على الإطلاق (فتقاليد الشعوب الأصلية تقدم طرقًا فعالة للاستماع إلى الكائنات غير البشرية) أو ذا تأثير محايد (إذ يمكن إساءة استخدام التقنيات الرقمية واستغلالها فيما يضر). ولكن إذا التزمنا بالتحذيرات والإجراءات الوقائية، فسيكون علم الصوتيات الحيوية نافذة جديدة على عالم الكائنات غير البشرية. ومن خلال علم الصوتيات الحيوية، نكتشف أن صنع المعنى من خلال الصوت سمة عامة في جميع المخلوقات وأشكال الحياة. وبمساعدة الذكاء الاصطناعي، ربما نكون على أعتاب إنجاز ثوري في التواصل بين الأنواع. إذا أصغينا السمع، فسنجد عالمًا مدهشًا في انتظارنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤