الفصل الثاني

المحيط الشادي

بعد مرور قرن على رحلة ألدريتش، عاد الجنوبيون إلى بوينت بارو بحثًا عن الحيتان. لكنهم وصلوا في خضم نزاع دولي محتدم على مستقبل الحيتان المقوسة الرأس في المنطقة القطبية الشمالية.1 ففي عام ١٩٧٨، فرضت اللجنة الدولية لصيد الحيتان حظرًا أحادي الجانب على صيد الحيتان لغرض الإعاشة في المنطقة القطبية الشمالية. زعمت اللجنة أن ذلك الحظر ضروري لإنقاذ الأعداد القليلة الباقية من الحيتان المقوسة الرأس. عارض شعب الإنوبيات ذلك مدعيًّا أن أعداد الحيتان وفيرة وفي تزايد. ورأوا أن العلماء والسياسيين الجنوبيين إنما يعاقبون السكان الأصليين على جريمة اقترفوها هي جريمة صيد الحيتان لأغراض صناعية. لكن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه أولئك العلماء والسياسيون هو عدم إصغائهم للحيتان نفسها.
كان الإنوبيات مهددين بخسارة الكثير إذا فشل دفاعهم عن حقوقهم في الصيد بغرض الإعاشة. فحُوت واحد مقوس الرأس كان كفيلًا بضمان الرفاه لقرية كاملة لمدة عام.2 فلحم الحوت المقوس الرأس ودهنه (ماكتاك)، الغني بالبروتين والمغذيات مثل فيتامين ج كانا يحفظان للإنوبيات صحتهم في تلك المنطقة غير الصالحة للزراعة إلى حد كبير. وكان استبدال مصدر الغذاء ذلك من شأنه أن يكلف عشرات بل مئات الملايين من الدولارات، وهي تكلفة لا يستطيع الإنوبيات تحملها. كما أن الحيتان كانت أكثر من مجرد مصدر غذاء بالنسبة لهم. فقد كانوا يستخدمون زيت الحيتان في التدفئة والإنارة. ويصنعون من صفائح البلين — التي تصبح طيعة عند تسخينها — الأربطة وهياكل القوارب وحبال الحراب والمزالج. وكانت جلود الحيتان تستخدم في صناعة الطبول والملابس.3 وكانت عظام الضلوع والفك تستخدم ركائز ودعائم للأسقف؛ بينما كانت الفقرات وغيرها من العظام تتحول إلى أدوات وتمائم. وفي بعض المجتمعات، كانت عظام الضلوع الكبيرة تثبت في الأرض لتصنع أقواسًا، تُستخدَم مدخلًا لبيت أو سورًا لمساحة تمارس فيها أنشطة اجتماعية.4 ويوضح ذلك ريكس أوكاكوك الأب، وهو من سكان بارو فيقول: «بنى أسلافنا أواصر مع الحيتان وبيئتها بإشراكها في طقوسنا الاحتفالية. الحيتان هي غذاؤنا وموسيقانا، الحيتان هي هويتنا.»5
الموسيقى والطقوس الاحتفالية؛ الغذاء والأدوات والملبس؛ المأوى والدفء والإنارة؛ كانت الحيتان المقوسة الرأس هي ما يقيم حياة شعب الإنوبيات. كانت طقوس صيد الحيتان والتوزيع الجماعي للحومها عماد مجتمع الإنوبيات.6 تقول ماي أجيك، زوجة أحد قادة أسطول صيد الحيتان المحلي: «في مجتمعنا، دائمًا ما تكون الحيتان سببًا في لمِّ شملنا.»7 شكَّلت طقوس الإعداد لرحلة صيد، ثم تجهيز أجساد الحيتان بعد صيدها نسق المواسم للمجتمع. وتمثل العبارة الإنوبياتية «كيافالاكيكبوت أجفيك» (معناها الحرفي «في دورة التحويت الحياتية») ما يصفه عالِم الجغرافيا الثقافية تشي ساكاكيبارا ﺑ «الوعي الحيتاني»، وهو نوع من الوعي بالحيتان متغلغل في شتى مناحي مجتمع الإنوبيات. وقد وصفت الأجيال السابقة من علماء الأنثروبولوجيا ذوي النظرة الاستعمارية، «طائفة حيتانية» كانت تحكم الحياة في غرب المنطقة القطبية الشمالية.8

يقول الإنوبيات إن مجاورتهم للحيتان لآلاف السنوات منحتهم فهمًا لجماعات الحيتان أعمق من فهم الغرباء لها. فبينما قدر العلماء التابعون للجنة صيد الحيتان أن الأعداد المتبقية من الحيتان أقل من ستمائة حوت، أصر الإنوبيات على أن العدد المتبقي أضعاف هذا العدد. يتذكر شيوخهم ندرة الحيتان بعد أن كادت تنقرض بسبب المحوتين منذ قرن. لكنهم يصرون على أن أعدادها عادت إلى سابق عهدها.

أحصى علماء الحكومة عدد الحيتان باستخدام إحصاءات بصرية متفرقة أجراها علماء أحياء زائرون من الشاطئ، ودعموها بمسوحات جوية. اعتقد العلماء أن الحيتان كانت تخشى الجليد الخَطِر وتقصر تحركاتها على قنوات ضيقة في المياه المفتوحة (تسمى مسارات)؛ مما جعل المسح البصري والجوي طريقة دقيقة لتقييم أعداد الحيتان. غير أن الصيادين المحليين كانوا يعلمون أن هذا غير صحيح؛ فقد أكدوا أن المئات، بل الآلاف، من الحيتان الزعنفية تمر كل سنة بمدينة أوتكيافيك، وعدد كبير منها يمر تحت الجليد لا عبر مسارات المياه المفتوحة. وإذا صح زعم الإنوبيات أن الحيتان كانت تمر تحت الجليد فعلًا، فإن تقديرات العلماء الحكوميين لأعداد الحيتان المقوسة الرأس التي خلصت إليها إحصاءاتهم أقل بكثير من الأعداد الفعلية.

أشعل الجدل الدائر بين الإنوبيات واللجنة نزاعًا دوليًّا. ففي منتصف السبعينيات، بدأت حركة مكافحة صيد الحيتان الآخذة في التوسع تضغط على اللجنة الدولية لصيد الحيتان لتقييد حصص الصيد لأغراض الإعاشة؛ أي صيد المجتمعات المحلية للحيتان لأغراض غذائية. وبدأت مجموعات الضغط تدعو إلى فرض حصص محددة لصيد الحيتان المقوسة الرأس في غرب المنطقة القطبية الشمالية، وتشن حملات علنية ضد اللجنة. وفي عام ١٩٧٧ — ودون التشاور مع الإنوبيات — ألغت اللجنة من لوائحها الإعفاء السابق الذي كان يسمح للسكان الأصليين بصيد الحيتان لغرض الإعاشة. وفي العام التالي، كانت الحصة التي حددتها اللجنة لصيد الحيتان المقوسة الرأس في غرب المنطقة القطبية الشمالية صفرًا. استندت اللجنة في قرارها إلى التقدير الذي يفيد بأن عدد الحيتان المقوسة الرأس المتبقية قليل، وأن استمرار صيد الحيتان في غرب المنطقة القطبية الشمالية لغرض الإعاشة قد يؤدي إلى انقراضها. وأعلنت اللجنة من مقرها في إنجلترا أن صيد الحيتان محظور. اعترى الإنوبيات القلق والغضب، وزعموا أن أعداد الحيتان المقوسة الرأس أكبر مما قدَّره العلماء الغربيون، وأصروا على حقهم في مواصلة الصيد كما فعلوا لآلاف السنين.9 لكن اللجنة تمسكت بقرارها، وظلت الحصة صفرًا كما هي.
كان جوهر ذلك النزاع هو وجود منظورَين عالميَّين؛ المنظور القائم على المعرفة التقليدية الشاملة، في مقابل المنظور العلمي الاختزالي الغربي.10 زعم الإنوبيات أن أفضل طريقة لإحصاء الحيتان هي إجراء مسح صوتي حيوي منهجي على مدى سنوات عدة. لكن أحدًا لم يجرب ذلك؛ إذ كان العلماء والمشرعون يتشككون في إمكانية إجرائه. واقترحوا عوضًا عنه استخدام المسح الجوي وخرائط السونار. ولكن الإنوبيات رفضوا بحجة أن الطائرات والسونار يخيفان الحيتان ويبعدانها.11 أما تقنيات الصوتيات الحيوية فستتيح إجراء مسح أدق. لكن اللجنة رفضت فكرة استخدام تلك التقنيات الصوتية الحيوية لدراسة الحيتان.
لم يَثنِ ذلك الإنوبيات عن موقفهم فأنشَئُوا منظمتهم الخاصة: لجنة إسكيمو ألاسكا لصيد الحيتان (التي كان في اسمها تحدٍّ صارخ للجنة الدولية لصيد الحيتان المقامة في المملكة المتحدة). عُيِّن قادة طواقم الصيد من كل قرية ساحلية مفوضين في تلك اللجنة وفقًا للتقاليد الحاكمة لصيد الحيتان لدى الإنوبيات. وبالاستعانة بعوائد الضرائب على مبيعات النفط التي ازدهرت في تلك الفترة، بدأت لجنة الإسكيمو لصيد الحيتان دراسة علمية طموحة كانت الأولى من نوعها في المنطقة القطبية الشمالية؛ وكانت دراسة للصوتيات الحيوية للحيتان المقوسة الرأس استمرت عدة سنوات وكانت الأوسع على الإطلاق في هذا المجال.12 تحول مختبر الأبحاث البحرية في المنطقة القطبية الشمالية في بوينت بارو إلى منشأة بحثية مدنية، وهو مختبر أُنشئ في الأساس لدعم مراكز التنصُّت التي أقيمت أثناء حقبة الحرب الباردة (التي كانت تسمى «خط الإنذار المبكر البعيد») والتي تناثرت عبر أنحاء المنطقة القطبية الشمالية لالتقاط أي إشارات منبئة باقتراب قنابل سوفيتية. وعيَّنت حكومة مقاطعة نورث سلوب بورو المحلية الحديثة العهد التي يديرها الأنوبيات عالِمين للإشراف على هذا المشروع البحثي. فاستقدموا الطبيب البيطري توم ألبرت من جامعة بنسلفانيا ليترأس قسم إدارة الحياة البرية، وعالم الأحياء جون كريجهيد «كريج» جورج، وهو متسلق جبال ينحدر من عائلة من مشاهير علماء الطبيعة، من ولاية كولورادو ليشرف على العمل الميداني.
بدا سعي العلماء للإصغاء إلى المحيطات ضربًا من العبث في عالم تصورها فيه الثقافة الجماهيرية بأنها أماكن صامتة.13 لكن توم ألبرت كان أكثر تفتُّحًا من أقرانه. فتعامل مع قصص الصيادين المحليين عن الأصوات التي تصدرها الحيتان وغيرها من الأنواع باعتبارها فرضيات علمية، وصمم تجارب وأدوات جديدة لاختبار صحتها. وكان الصيادون المحليون مساهمين أساسيين في تلك التجارب؛ فهم خبراء في رصد الحيتان المقوسة الرأس، ويتمتعون بقوة الملاحظة ودقة الذاكرة، والصبر الشديد، إلى جانب مهارة مصقولة في قراءة التضاريس والرياح والمياه والسماء. صمم هاري (كوباك) براور الأب، وهو أحد شيوخ الإنوبيات، أجزاءً كثيرة من البحث وأشرف عليها. وأصر براور على أن يكون هناك تعاون وثيق بين العلماء الغربيين والصيادين وأصحاب المعرفة التقليدية في عملية إحصاء الحيتان، رغم ما أثاره ذلك من شكوك لدى بعض الصيادين.14 يصف ألبرت ذلك لاحقًا فيقول:
حين بدأتُ دراسة الحيتان المقوسة الرأس عام ١٩٧٨، أخذني هاري «تحت جناحه»، وقضى ساعات طوال في تعليمي ما يعرفه عنها. كانت ملاحظاته عن كيفية تحرك الحيتان عبر الجليد وشرحه الصبور لسلوكها أثناء هجرتها في الربيع بالقرب من جزيرة بارو عاملًا جوهريًّا في إحصائنا لأعدادها. واستند تصميم دراستنا الإحصائية إلى حد كبير على المعلومات التي منحنا إياها هاري. قضينا سنوات عدة وأنفقنا مبالغ طائلة كي نثبت ملاحظاته الميدانية الأساسية بطريقة علمية.15
كان عالم الصوتيات الحيوية الذي قاد تلك الدراسة هو كريس كلارك من جامعة كورنيل، الذي تحول إليها بعد تركه مجال الهندسة متأثرًا بمرافقته لروجر باين وزوجته كيتي في رحلتهما لتسجيل أصوات الحيتان في باتاجونيا بناءً على دعوتهما. حين جاءته دعوة الإنوبيات، كان قد صار باحثًا مرموقًا في الحيتان؛ فقبل دعوتهم لقضاء وقت في القطب الشمالي بترحاب. كان كلارك يعرف أن المياه حول بارو تُعد موطنًا مثاليًّا للحيتان. فالقرية تقع عند ملتقى مسارات واحدة من أعظم الهجرات البحرية: عند المدخل الشمالي لمضيق بيرنج، حيث تكاد سيبيريا تلامس غرب ألاسكا. في تلك النقطة البعيدة في الشمال، تغيب الشمس لجزء كبير من العام؛ إذ يحجبها الجليد والثلوج. لكن حين تعود الشمس في موسم الربيع، يبدأ الجليد في الانحسار شمالًا. وتبدأ حركة المياه في المحيط الهادئ الشمالي تزداد قوة عندما يقترب من الساحل؛ ما يؤدي إلى امتزاج مياه الجنوب الدافئة مع التيارات الصاعدة في مياه المنطقة القطبية الشمالية الباردة الغنية بالمغذيات. وتكون النتيجة أحد أضخم الازدهارات التي تحدث في أعداد الكائنات الحية على وجه الأرض؛ إذ تحدث زيادات هائلة في أعداد العوالق النباتية التي تتغذى عليها ملايين العوالق الحيوانية الدقيقة. ويتركز كثير منها في أخدود بارو كانيون الغائص، الذي يعد وجهة للهجرة السنوية للحيتان المقوسة الرأس، التي تغربل تلك الكائنات الدقيقة من خلال الأمشاط البلينية الطويلة في فكيها؛ وهكذا يتغذى أحد أضخم الحيوانات في العالم على أحد أصغرها.16 تقتات القشريات والأسماك أيضًا على تلك العوالق الحيوانية، فتجذب حيتان البيلوجا وحيوانات الفظ والفقمات والدببة، وكذلك ملايين من الطيور المهاجرة مثل الغوَّاص والخرشنة القطبية والنورس الأسود الساقين.17 يشبه التنوع البيئي في تلك المنطقة في وفرته ذلك الموجود في إقليم السافانا الأفريقي.

وفي ظل هذه الوفرة في الغذاء، رأى كلارك أنه من المنطقي أن تكون الحيتان المقوسة الرأس موجودة، وبأعداد وفيرة. ولكنه كان بحاجة إلى وسيلة لاختبار فرضيته تلك. كان الهدف الطموح المحفوف بالمخاطر للفريق الإنوبياتي لإحصاء أعداد الحيتان هو إجراء تجربة تمتد عدة سنوات لإثبات أن طرق الرصد الجديدة — التي تجمع بين تقنيات الصوتيات الحيوية والمعرفة التقليدية — هي وسيلة لإحصاء أعداد الحيتان أدق من الإحصاء البصري التقليدي. كان العلماء يخرجون إلى الجليد، مسترشدين بالإنوبيات، ويقيمون محطات مراقبة متعددة، ويصغون إلى الحيتان. ويحددون المواقع التي سجلت فيها أصواتها بتقنية التثليث في عدة مواضع وعلى مدى عدة شهور. كانت النتيجة التي يأملون التوصل إليها هي إحصاء دقيق لأعداد للحيتان.

بدا هذا سهلًا من الناحية النظرية. أما عمليًّا، فكان خروج العلماء إلى الجليد في كثير من الأحيان «أشبه بخوض حرب» مع المحيط، كثيرًا ما كان العلماء هم الطرف الخاسر فيها.18 كان توقيت هجرة الحيتان السنوية إلى الشمال يعني أن التسجيل لا بد أن يبدأ في شهر أبريل، وهو وقت تكون فيه درجات الحرارة العظمى لا تزال تحت الصفر بكثير. كانت معدات تسجيل الصوت الضخمة توضع في سقائف مغلقة، محمولة على مزالج يجرها الباحثون بواسطة عربات جليد آلية على صفحة الأرض المشققة، يقودهم أدلة من الإنوبيات. أثناء محاولتهم تتبع حركة الحيتان، كانت تعترضهم كتل جليدية تتحرك باستمرار من الجليد الشاطئي.19

لم يكن التنقل على الجليد إلا شطرًا من المعركة. أما التحدي الحقيقي فكان جمع بيانات صوتية ومرئية كافية لإثبات دقة التقنيات الصوتية الحيوية أولًا، ثم بعد ذلك البدء في إجراء حصر للحيتان. كانت فرق المراقبة البصرية مكلفة بالجلوس داخل «السقائف المحمولة على المزالج» في مكامن متحركة فوق تلال جليدية عالية الكثافة، والمراقبة على مدار أربع وعشرين ساعة أربعة أشهر متصلة، وتسجيل أي ظهور للحيتان بدقة. أما فِرَق المراقبة الصوتية فكانت تُنزِل هيدروفونات إلى الماء من حافة الجليد الذي يغطي البحر، أو عبر ثقوب يحفرونها في مواضع أخرى من الجليد أكثر سمكًا وأمانًا، ثم ينقلون ما يرصدون من إشارات عبر التردد اللاسلكي إلى المراقبين الصوتيين. وكانوا كثيرًا ما يُضطرون إلى نقل معداتهم فجأة عند اقتراب جبهات جليدية خطيرة دون سابق إنذار. في درجات الحرارة الأدنى من الصفر، كان يجب توخي الحرص في التعامل مع مركبات الجليد الآلية والمولدات والمزاوي (أجهزة مسح دقيقة تُستخدَم لقياس الزوايا بين نقاط ظاهرة في المستوى الأفقي والرأسي)، وأجهزة تحديد الموقع المتصلة بالأقمار الصناعية، والهيدروفونات الحساسة.

كان الإنوبيات يعرفون موطنهم في شتى أحواله، في هدوئه وتقلباته. أثناء ذوبان الجليد وتحركه، كان المراقبون مهددون بالغرق بمكامنهم ومزالجهم. وكان النوم نادرًا ما يزور أولئك المتناوبين على المراقبة تحت الشمس الساطعة في منتصف الليل.20 يحكي أحد الباحثين قائلًا: «ما إن نجهز معداتنا ونجلس في مكامننا حتى يرتطم بها جليد البحر ونخسر معداتنا كلها. كنا كمن يخوض حربًا. كنا نستخدم بطاريات تعمل بحمض الرصاص. كانت بطاريات تزن خمسين رطلًا. وكانت ملابسنا بالكامل تتلطخ بحمض البطاريات.» فقدت سقائف بكامل محتوياتها. وتجمدت البطاريات بفعل البرودة القاسية، وتشققت.21 كان الأمر يتطلب عشرات الأفراد لبناء المعدات وصيانة المخيمات والجلوس في المكامن، وحراستها من الدببة القطبية، والحركة المفاجئة للجليد، وهو ما قد يدمر مخيمات كاملة في غضون دقائق معدودة، أو يؤدي إلى انفصال كتلة طافية عنه تجرف المراقبين إلى عُرْض المحيط. كانت جهود عام كامل معرضة للفقد في غضون ثوانٍ. وإذا استطاعوا رغم تلك الظروف جمع بيانات بطريقة ما، تكون المهمة التالية شاقة؛ فكان يتعين مطابقة المخططات الطيفية الصوتية — وهي رسوم توضيحية للتسجيلات الصوتية في مخططات بيانية توضح تباين الترددات بمرور الزمن — مع المشاهدات البصرية، وهي عملية تحقق تتم يدويًّا كان يمكن أن تستغرق شهورًا.22
كان سماع صوت المحيط وهو يغني يستحق كل هذا العناء من وجهة نظر كثير من أولئك العلماء. فقد بدأ الباحثون، الذين اعتمدوا على الإنوبيات في اختيار رقع آمنة للاستماع، ينظرون إلى تضاريس المكان بمنظور مختلف. في البداية، كانوا يرون الجليد مكانًا ملغمًا بالأخطار. ولكن بعد أن قضوا أيامًا امتدت لأسابيع ثم شهور وسط الجليد، بدأ شيء ما يتغير في نظرتهم له. فجليد البحر، كما قال ويزلي أيكن أحد شيوخ الإنوبيات ذات مرة، بمنزلة حديقة جميلة، منها يجمع المرء طعامه، وعبرها يسافر، وفيها يشعر بالألفة؛ هو مكان ذو أهمية مادية وعاطفية وروحية.23 وقد استرجع كلارك ذلك لاحقًا بقوله:
عندما تنزِل الهيدروفون إلى المحيط، تسمع مشهدًا صوتيًّا كاملًا تتمازج فيه مختلف الأصوات والمطربين. إنه يشبه … يشبه منطقة حالمة خيالية، عالم مختلف تمامًا؛ عالم يجمع بين حيتان البيلوجا والحيتان المقوسة الرأس والفقمات الملتحية والجليد. فلا تملك إلا أن تقول: «يا إلهي، إنها غابة تحت الجليد!»24
لم يكن كلارك أول من سمع أصوات الحيتان تحت الماء. فعندما ناول سماعته إلى الدليل الإنوبياتي الذي كان يرافقه، وجد أنه يعرف بالفعل أي الحيوانات تصدر تلك الأصوات. يقول كلارك: «في ثقافتهم، يضعون طرف مجدافهم على فكهم ويضعون طرفه الآخر في الماء، ويصغون.»25 كانت الهيدروفونات توفر وسيلة استماع مختلفة عن المجاديف: فالأولى تقيس المقادير الرقمية للصوت، في حين تميز الأخيرة سماته التناظرية. كان يمكن تحديد مواضع الحيتان بدقة بواسطة منظومة من الهيدروفونات المثبتة في مواضع ملائمة؛ غير أن الإنوبيات كانوا يخلصون إلى معلومات مشابهة باستخدام أساليبهم التقليدية في الاستماع. فكانوا على دراية بالفعل بالأصوات المعقدة التي تصدرها الحيتان؛ القرقرة والنبضات والغمغمات والأنين، تلك الدفقات الصوتية المتقطعة التي تتخللها نغمات لحنية.26 بدأ كلارك يدرك ما يعرفه الإنوبيات منذ زمن طويل؛ وهو أن الحيتان المقوسة الرأس تغني، وأن أغنياتها قد تنافس في تعقيدها أغاني الحيتان الحدباء التي حظيت بدراسة أوسع.
صعَّبت الخلفية الصوتية للمحيط على العلماء مهمتهم أكثر. فقد استعصى ذلك المزيج من الأصوات المتنوعة على أي تحليل بسيط؛ فكان من الصعب تفسير الضوضاء الصادرة من الجليد والرياح، وكذلك من الفقمات وحيوانات الفظ وغيرها من الحيوانات. وبعد عدة محاولات، نجحت أول منظومة هيدروفونات في تحديد موقع الحيتان المغنية بدقة. وفي عام ١٩٨٤، حقق الفريق أول كشف مهم له.27 في ذلك العام، كانت طبقة الجليد سميكة، مما يعني أنه لا توجد مناطق مفتوحة فيها تبرز خلالها الحيتان للتنفس؛ ولم يُرصَد إلا ثلاثة حيتان فقط بالوسائل البصرية. غير أن التسجيلات الصوتية رصدت ما لا يقل عن ١٣٠ حوتًا يمر أسفل الجليد.28 وكانت النتائج التي حصل عليها الفريق بعد عامين مماثلة، حين رصدوا ٥٠٥٥٢ نداءً للحيتان المقوسة الرأس، على الرغم من أن المراقبين البصريين لم يرصدوا إلا عددًا ضئيلًا منها.29 كانت طرق التحليل الإحصائي المستخدمة لتحليل البيانات الصوتية الحيوية دقيقة بما يكفي لتتبع «مسارات» الحيتان أثناء تحركها في الماء، وهو ما يضمن لهم تجنُّب العد المزدوج.30 وهكذا، أثبت العلماء بشكل مستقل فرضية الإنوبيات، المتعلقة بإمكانية تقييم عدد الحيتان المقوسة الرأس المهاجرة بدقة من البيانات الصوتية، وأن تقديرات الإحصاء البصري الذي يستخدمه العلماء الغربيون غير دقيقة وأقل من الأعداد الفعلية.31
بالنسبة إلى العلماء الغربيين واللجنة الدولية لصيد الحيتان، كانت تلك النتائج مستحيلة منطقيًّا؛ فكيف يمكن للحيتان أن تسبح شمالًا والسطح مكسو بطبقة من الجليد يبلغ سمكها عشرات البوصات؟ كان الإنوبيات يعرفون الإجابة. فقد قاد صيادوهم العلماء إلى مواقع تمكنوا فيها من مشاهدة الحيتان وهي تخترق الجليد الصلب الذي يبلغ سمكه عدة بوصات برءوسها الكبيرة التي تشبه القوس فتصنع فيه فتحات. وأوضحوا للعلماء أن الحيتان تستخدم إشارات بصرية وصوتية للتنقل تحت الجليد، وتنتقي أنسب المواضع لاختراق الجليد من أجل التنفس.32 وهكذا حصل العلماء على تفسير لشكل الجمجمة الغريب للحيتان المقوسة الرأس (والذي يستمد النوع اسمه منه): فوظائفها تشبه وظيفة المدق.
فسر الإنوبيات لغزًا علميًّا آخر ظل محيرًا لوقت طويل؛ وهو لغز شكل فتحتي النيسم البارزتين للحيتان المقوسة الرأس. يسمح النيسم البارز لتلك الحيتان بالتنفس حتى من خلال أضيق الفتحات في الجليد. عندما يسود الهدوء، كان صيادو الإنوبيات يستطيعون سماع الحيتان تتنفس من خلال الفتحات الصغيرة، أو حتى من خلال الجيوب الهوائية أسفل التكوينات الجليدية التي تشكَّلت بسبب الضغط.33 كان صيادو الإنويت في شرق المنطقة القطبية الشمالية قادرين على تمييز أنماط تنفس الحيتان وأصواتها من مسافات كبيرة، وكذلك تحديد مواقعها برصد طيور الخرشنة القطبية التي تحوم فوق الجليد؛ فهذه الطيور تتغذى على الحيوانات البحرية الصغيرة التي تدفعها الحيتان إلى سطح الماء حين تصعد للتنفس.34 كان الإصغاء إلى الحيتان فنًّا دقيقًا، صُقل على مر القرون.
لاحظ الإنوبيات أن الحيتان تصغي بدورها إلى البشر. لهذا ظلوا يستخدمون في الصيد الزوارق التقليدية المصنوعة من جلود الفقمات والتي تسيرها الأشرعة بدلًا من المحركات. آنذاك، كانت الأدلة العلمية المتعلقة بقدرة الحيتان على الإصغاء محدودة لدى العلماء الغربيين، وكان فهمهم لفسيولوجية السمع لدى الحيتان ضئيلًا. غير أن دراسات لاحقة بيَّنت أن الحيتان المقوسة الرأس تستجيب إلى أصوات الحيتان السفاحة ومحركات الديزل وكاسحات الجليد المقتربة وسفن الحفر البعيدة وسفن التجريف والمدافع الهوائية المولِّدة لموجات زلزالية من مسافة بعيدة.35 ومرة أخرى، ثبت صحة ادعاء الإنوبيات.
تفوقت أيضًا معرفة الإنوبيات على العلم الغربي في الجانب المتعلق بالسلوك الاجتماعي للحيتان. أصر الصيادون على أن الحيتان تعيش في مجتمعات معقدة، وأن أغنياتها تعد رمزًا ثقافيًّا لتلك المجتمعات تتناقلها الأجيال. واكتُشِف أحد الأدلة المؤيدة لادعاء الإنوبيات في مختبر الأبحاث البحرية القديم، حيث عثر الباحثون على رءوس رماح حجرية داخل أجساد حيتان كانوا يأخذون منها عينات من الأنسجة. بدأ الإنوبيات يستخدمون الحِراب المعدنية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وهذا يعني أن تلك الحيتان عمرها يتجاوز القرن. سمح ذلك للعلماء بوضع أساليب دقيقة لقياس العمر، وتوصلوا إلى أن المتوسط الطبيعي لعمر الحوت المقوس الرأس نحو ١٥٠ عامًا؛ وهذا يجعلها النوع الأطول عمرًا من الثدييات على وجه الأرض. كما أشارت النتائج إلى أن أحد تلك الحيتان تجاوز عمره ٢٠٠ عام. كان الإنوبيات يعرفون ذلك أيضًا؛ فقد تناقلوا عبر الأجيال معلومات حول العلامات المميزة في حيتان منفردة، وهي علامات شُوهِدَت عدة مرات أثناء مرور تلك الحيتان كل عام بقرية بارو؛ وهكذا ثبت أيضًا صحة ادعاء الإنوبيات عن طول عمر الحيتان، والذي كان مشكوكًا فيه من قبل. وبالنسبة لنوع يعيش تلك المدة الطويلة، ويقضي صغاره سنوات طويلة مع أمهاتها، بدت فرضية تناقل الثقافة أكثر قابلية للتصديق.36 ولاحقًا، كشفت سلسلة من الدراسات الصوتية الحيوية أن الأغنيات تختلف باختلاف الجماعات، مثلما تختلف اللهجات فيما بين المجتمعات البشرية؛ وهكذا ثبتت أيضًا ادعاءات الإنوبيات عن السلوك الثقافي وتناقل الثقافة بين أجيال الحيتان المقوسة الرأس.37
بدأ العلماء يُصغون إلى الحيتان، فأدركوا تدريجيًّا أن الإنوبيات كانوا على حق أيضًا في ادعائهم الأكثر إثارةً للجدل بأن عدد الحيتان يفوق تقديرات العلماء الغربيين واللجنة الدولية لصيد الحيتان.38 لم تكن الحيتان «تخاف» الجليد، ولا تقصر تحركاتها على مسارات المياه المفتوحة، بل كانت تشق طرقها بالسباحة تحت الجليد وتخترقه كي تتنفس وقت الحاجة.39 ومن ثَم كانت الصوتيات الحيوية أساسًا متينًا لإجراء إحصاء منهجي لعدد الحيتان، أثبت ما ظل الإنوبيات يؤكدونه طول الوقت، وهو أن عدد الحيتان الفعلي أكبر مما يشير إليه الرصد البصري وحده. في الواقع، كان عدد الحيتان المقوسة الرأس التي تمر عبر بوينت بارو أضعاف ما قدره العلماء الغربيون في السابق. وبعد سنوات من البحث العلمي، والصعوبات التي لاقاها الصيادون المحليون من نقص الغذاء، وخطر الاعتقال والسجن أثناء فرض حصص الصيد المنخفضة، ثبت زعم الإنوبيات.40
في البداية كانت اللجنة الدولية لصيد الحيتان متشككة في تلك النتائج، لكنها أقرت تدريجيًّا بقوة الأدلة المُقدَّمة. وكانت الأخبار السارة — أن أعداد الحيتان في تزايد — تعني أن الإنوبيات يمكنهم استئناف صيدهم التقليدي للحيتان لأغراض الإعاشة. وقد فتح ذلك الاحترام الجديد للمعرفة التقليدية بابًا لتعاون مستمر بين الإنوبيات والعلماء الغربيين، ولإشراكهم في إدارة حصص الصيد مع حكومة الولايات المتحدة، التي عدلت القانون الفيدرالي ليقر بشرعية صيد الإنوبيات للحيتان المقوسة الرأس لأغراض الإعاشة. علاوة على ذلك، مكنت البيانات الصوتية التي جُمِعَت على مدى عقود العلماء من متابعة تزايد أعداد الحيتان المقوسة الرأس متابعة شاملة، وحتى يومنا هذا لا تزال هذه البيانات تساعدهم في التحقق من أعداد الحيتان المقوسة الرأس لضمان استدامة الصيد دون التأثير عليها.41 واصل الإنوبيات مطالبتهم بحقوقهم السيادية، وواصلوا الضغط على اللجنة الدولية لصيد الحيتان لتغيير لوائحها، وفي عام ٢٠١٨ أقرت اللجنة بالحق الدائم للسكان الأصليين في الصيد لأغراض الإعاشة (على أن يخضع لتقييمات وفرة الأعداد). لا يقل أهمية عن ذلك إقرار اللجنة بالأهمية الجوهرية لصيد الحيتان لثقافة الإنوبيات؛ فبعد أربعين عامًا من الصراع، أقرت اللجنة بأن «صيد الحيتان متغلغل في النسيج الكلي للحياة في هذه المجتمعات، أكثر من أي نشاط آخر.»42
ربح الإنوبيات معركتهم مع اللجنة الدولية لصيد الحيتان، لكن ظهرت تهديدات جديدة للحيتان المقوسة الرأس. فالتلوث السمعي البحري الناتج عن سفن الشحن يتضاعف كل عقد.43 ومع كل تضاعف يطرأ على ضوضاء المحيط يضيق نطاق تواصل الحيتان بمقدار النصف؛ أي إذا كان نطاق التواصل الصوتي للحيتان ١٠٠٠ ميل على سبيل المثال، فقد يتقلص بعد مرور عقدين إلى ٢٥٠ ميلًا فقط، وهو ما يعني تضييق الحيز الذي يمكن للحيتان أن تتنقل داخله وتبحث عن الطعام وتجد أزواجًا محتملين.44 إلى جانب ضوضاء سفن الشحن، يتزايد تلوث المشهد الصوتي في المحيط بفعل كثير من الأنشطة البشرية الأخرى (مثل الضوضاء الصاخبة التي تصدر عن المدافع الهوائية المولِّدة للموجات الزلزالية تحت الماء، المستخدمة في استكشاف النفط والغاز).45 نتيجة لذلك، فإن النطاق الصوتي الفعَّال للحيتان لا ينفك يتقلص بشدة. وتدريجيًّا، اتسع نطاق أبحاث كريس كلارك لتشمل تأثيرات التلوث السمعي أو ما أسماه «الضباب الصوتي» على البيئة.46 ومع تزايد التلوث الضوضائي البيئي في مناطق القطب الشمالي التي لا ينفك الجليد يتقلص فيها، فتتزايد فيها أعداد السفن، يخشى كلارك أن يطغى مستوى الضوضاء المحيطة على صوت الحيتان.47
ينتاب سكان المنطقة القطبية الشمالية القلق نفسه بشأن تغير المناخ. فالقطب الشمالي أحد أسرع المناطق تغيرًا على كوكب الأرض.48 مع ارتفاع درجة حرارة المحيطات، يقل الغطاء الجليدي، ويصعب التنبؤ بسلوك ما يتبقى منه، مما يشكل تهديدًا على الصيادين والمسافرين.49 كذلك تعني قلة الجليد في القطب الشمالي زيادة حركة الشحن، وقد شهدت الحركة السفن البحرية في مضيق بيرنج زيادة كبيرة خلال العقد الماضي.50 تجلب السفن معها تهديدات جديدة للحيتان؛ كالضوضاء والنفايات وخطر علوقها في شباك الصيد واصطدامها بالسفن.51 يعتقد العلماء أنه مع ارتفاع درجة حرارة المياه، تتوغل الحيتان السفاحة شمالًا أكثر، فتفترس الحيتان المقوسة الرأس وتتسبب في اضطراب سلوكها؛ وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن انعدام الجليد في القطب الشمالي من شأنه أن يخلق «مشهدًا جديدًا يسوده الخوف» بالنسبة للحيتان المقوسة الرأس (وهو رأي مثير للجدل نوعًا ما).52 ففي عام ٢٠١٩، وهو العام الذي شهد أعلى درجات حرارة صيفية مسجلة ومستويات قياسية من انخفاض الجليد، لم تمر أي حيتان مقوسة الرأس بالقرب من بوينت بارو؛ إذ ظلت إما في عُرْض المحيط أو لم تسافر شمالًا من الأساس.53 لقد كانت الحيتان تتجه إلى الجليد من قبلُ هربًا من صيادي الحيتان التجاريين، لكن التغير المناخي لم يترك لها مكانًا للاختباء.

حيتان رقمية

على مدى حياتهم، أشرف شيوخٌ مثل هاري براور وجورج نونجووك رئيس لجنة إسكيمو ألاسكا لصيد الحيتان، على التحول الرقمي لبحوث الصوتيات التي يقودها الإنوبيات. فعلى مدى الأعوام، ظل براور يصحب الصيادين في قوارب الصيد التقليدية المصنوعة من جلود الفقمات (الأوميات)، ويعلِّمهم الطريقة التقليدية لترقب الحيتان والإصغاء لها، بينما أشرفت لجنة إسكيمو ألاسكا لصيد الحيتان على برنامج بحثي كان يتجه على نحو متزايد نحو الرقمنة؛ إذ بدأت اللجنة تستخدم تقنيات متطورة تشمل القياس عن بُعد بالأقمار الصناعية، والبطاقات الإلكترونية لتتبع الحركة في الأبعاد الثلاثة، والطائرات المسيرة، والرصد الصوتي السلبي لتتبع الحيتان على مدى العام، وعلى مدى أوسع بكثير من المحيط المتجمد الشمالي.54 كان ذلك الطور الجديد من الابتكار الرقمي في مجال أبحاث حيتان القطب الشمالي إحدى نتائج انتهاء الحرب الباردة واستعداد حكومة الولايات المتحدة لإتاحة استخدام بعض أصولها العسكرية للاستخدامات غير العسكرية.55 فقد بدأت البحرية الأمريكية في السماح للباحثين المدنيين باستخدام شبكة الهيدروفونات البحرية الخاصة بها «سوسوس» لتتبع الحيتان وتسجيل أغنياتها؛ مما منح العلماء قدرة غير مسبوقة على تتبع الحيتان الكبيرة عبر محيطات العالم.56 ودفع النجاح الذي حققته شبكة سوسوس الباحثين إلى الاهتمام بتطوير شبكة مدنية أكثر مرونة وأقل تكلفة؛ فطوروا مسجلات صوتية آلية قادرة على التسجيل المستمر لمدة تصل إلى عام، وأمكن نشرها عبر محيطات العالم.
كانت النتيجة سيلًا جارفًا من مجموعات البيانات التي تحوي أغنيات الحيتان فاق قدرة البشر على التحليل. لذا طُوِّرَت خوارزميات برمجية مؤتمتة لتحليل هذا الكم الهائل من البيانات؛ ومن ثَم قلَّت الحاجة إلى التحقق اليدوي أو انتفت. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، لم تَعُد الجهود البطولية التي بذلها الباحثون في بوينت بارو ضرورية إلى حد كبير؛ إذ آل كثير من مهامهم إلى أجهزة الكمبيوتر.57 وفي عصرنا الحالي، طوَّر العلماء أنواعًا جديدة من خوارزميات تعلم الآلة للتصنيف التلقائي لأصوات الثدييات البحرية تقوم على شبكات عصبية عميقة. تنتج هذه التقنيات الجديدة معدلات أقل بكثير من النتائج الإيجابية الزائفة عن ذي قبل، وترفع القدرة على التعرف على النداءات بدرجة كبيرة، حتى لو كانت مجموعة البيانات التي دُرِّبَت عليها صغيرة نسبيًّا؛ إذ يكفيها تسجيلات التقطت في منطقة جغرافية واحدة على مدى أيام معدودة.58 تشمل الابتكارات الأخرى استخدام التعلم العميق لتحسين دقة الخوارزميات الآلية عن طريق «إزالة الضوضاء» من التسجيلات؛ بمعنى تنقيتها من المستويات العالية من الضوضاء التي غالبًا ما تلتقطها التسجيلات الصوتية السلبية.59
كذلك ظل نطاق أبحاث الصوتيات الحيوية البحرية يتسع. فبدأ العلماء يستخدمون التسجيلات الصوتية لتوثيق سلوك الحيتان على مدى عام كامل لا موسم واحد، ولدراسة التفاعل بين الحيتان، وموائلها، والتهديدات البشرية. والكثير من تقنيات الصوتيات الحيوية الرقمية المستخدمة لتتبع هذه المساحات البيئية الآخذة في التطور هي تقنيات واسعة النطاق، ولكن بعض أهم الاكتشافات جاء نتيجة لتقليص حجم تلك التقنيات الرقمية. أحد الأمثلة على ذلك مسجِّل الصوت الرقمي (DTAG) الذي يُسمى أيضًا «مستشعر الصوت والاتجاه».60 يُثبَّت مسجِّل الصوت الرقمي، المزود بهيدروفون دقيق الحجم ومقياس تسارع ومقياس مغناطيسية ومجموعة كبيرة من شرائح الذاكرة ذات الحالة الثابتة، على ظهر الحوت برفق باستخدام أكواب شفط لا تخترق الجلد، ويمكنه تحمل الضغوط العالية التي يتعرض لها في أعماق المحيط. يمكن لمسجِّل الصوت الرقمي أن يظل ثابتًا على ظهر الحوت حتى عمق ميل تحت سطح المحيط، مسجلًا أصوات الحوت ومتتبعًا كل تحركاته مع تسجيل بيانات تشمل العمق ودرجة الحرارة والاتجاه والسرعة والدوران الأفقي والرأسي للحوت، بل كل ضربة يضربها بذيله. يسجل الجهاز أيضًا أصوات البيئة المحيطة، مما يتيح للعلماء دراسة استجابات الثدييات البحرية للضوضاء الخارجية التي هي من صنع الإنسان.61 تُدمَج البيانات التي يجمعها ذلك الجهاز مع البيانات الواردة من أجهزة الرصد الصوتي السلبي وأجهزة التتبع بالأقمار الصناعية، ثم تخضع للتحليل بواسطة الخوارزميات الآلية، التي يمكنها تحديد موقع الحيتان بدقة تصل إلى عشرات الأمتار.62 في بعض الحالات، يمكن للخوارزميات حتى التعرف على حيتان منفردة بِناءً على بصماتها الصوتية الفريدة؛ أي إنها فعليًّا نظام تعرُّف صوتي للحيتان.

كشفت مسجلات الصوت الرقمية عن أنماط سلوكية جديدة تمامًا لم يشك في وجودها أحد حتى العلماء المتخصصون. على سبيل المثال، لم يكن العلماء حتى وقت قريب على دراية إلا بالأصوات العالية نسبيًّا التي تستخدمها الحيتان للتواصل؛ فهذه الأصوات المنخفضة التردد، التي تنتقل لمسافات طويلة، تُسمَع بسهولة تحت الماء. لكن سوزان باركس، التي تترأس مختبر علم الصوتيات الحيوية وعلم البيئة السلوكي في جامعة سيراكيوز، بدأت تتساءل عما إذا كانت الحيتان تصدر أصواتًا أخرى أخفت. وقررت دراسة الحيتان الأثينة في شمال الأطلنطي، وهي من فصيلة الباليَّات وتربطها صلة قرابة وثيقة بالحيتان المقوسة الرأس. تتحرك الحيتان الأثينة ببطء وتطفو فور قتلها مثل أقربائها من الحيتان المقوسة الرأس؛ من ثَم فهي حيتان مناسبة للصيد. وكان موئلها التقليدي، الساحل الشرقي للولايات المتحدة بين ولايتي بوسطن وفلوريدا، يجعلها أهدافًا سهلة للصيادين.

افترضت باركس أن الحيتان الأثينة البالغة في شمال الأطلنطي ليس لديها حاجة كبيرة للبقاء هادئة؛ نظرًا لقلة عدد الحيوانات المفترسة لها. ولكن صغارها معرضة للافتراس من قبل الحيتان السفاحة والقروش. وفي المياه العكرة القريبة من الشاطئ حيث تعيش وتتغذى الحيتان الأثينة عمومًا، من المرجح أن تعثر الحيتان السفاحة والقروش على صغارها من خلال التنصت على أصواتها.63 وقد دفع ذلك باركس للتساؤل: هل تصدر صغار الحيتان أصواتًا خافتة للغاية كي تتجنب اكتشافها من قبل الحيوانات المفترسة؟
في إطار إحدى التجارب، سافرت باركس وفريقها لتقضي عدة سنوات في مناطق تكاثر الحيتان قبالة سواحل فلوريدا وجورجيا، وهي منطقة تجمع معروفة للقروش البيضاء والحيتان السفاحة أيضًا. ثبَّت الفريق مسجلات صوت رقمية في مجموعات ثنائية تضم كل منها أمًّا وصغيرها، وكذلك في حيتان أخرى في الجوار لا صغار لها. عندما حللوا البيانات المستمدة من مئات الساعات من التسجيلات، وجدوا أن المجموعات الثنائية التي تضم أمًّا وصغيرها كانت تصدر أصواتًا لم يسبق للعلم أن عرفها. فالأمهات المرضعات تصدر أصواتًا قصيرة خافتة حنجرية تشبه الغمغمة، لم يكن بالإمكان سماعها إلا من مسافة قصيرة.64 تقول باركس: «يمكن تشبيه هذه الأصوات بالهمس البشري. وهي تسمح للأم والصغير بالبقاء على اتصال دون الإعلان عن وجودهما للمفترسين المحتملين في المنطقة.»65
كشفت دراسات مماثلة أجريت على الحيتان المقوسة الرأس أنها أيضًا تصدر أصواتًا حادة النبرات، تدمجها في أغانيها، وأن هذه الأغاني تتطور، مثلما تتطور أغاني الحيتان الحدباء الأكثر شهرة.66 وبخلاف المعتاد، تغني الحيتان المقوسة الرأس عدة أغنيات مختلفة على مدار العام الواحد، وتتميز أغنياتها بتعقيد مذهل؛ إذ تحتوي على أصوات متعددة متزامنة ومتنافرة.67 فإذا كانت الحيتان الحدباء هي نجوم الأوبرا في المحيطات، فإن الحيتان المقوسة الرأس بمنزلة نجوم موسيقى الجاز. وأغاني الحيتان المقوسة الرأس، المتكررة والزاخرة بالتباينات، تُمكِّن العلماء من حصر الحيتان وتتبعها، وكذلك تقييم هياكلها الاجتماعية وصحتها وسلوكياتها. ومثلما يُعد تنوع أغاريد الطيور مؤشرًا معروفًا على قدرة جماعاتها على البقاء، فإن تنوع أغاني الحيتان المقوسة الرأس وتعقيدها يمكن أن يكون مؤشرًا لتأثير التعدي المتزايد لأعمال التطوير البشري في المنطقة القطبية الشمالية.68
أتاح لنا الجمع بين استخدام مسجِّلات الصوت الرقمية والتقنيات الحوسبية الآلية القوية القائمة على الذكاء الاصطناعي، التوصل إلى هذه الرؤى الثاقبة. وتعد الأبحاث المعاصرة المتعلقة بالحيتان مثالًا نموذجيًّا لمزايا دمج الحواسيب الفائقة وعلم البيئة. تمضي الحوتيات الغالبية العظمى من وقتها في أعماق البحار، مما يجعل تتبعها تحديًّا صعبًا للغاية.69 على اليابسة، يمكن للباحثين في علم الحيوان قضاء سنوات في مراقبة سلوك الغوريلا أو إنسان الغاب أو الأسود، سواء بمراقبتها سرًّا أو بتعويد الحيوانات على وجودهم. أما أبحاث المحيطات فأمرها أصعب؛ فلا يمكن إخفاء القوارب، ولا يستطيع العلماء تتبع الحيتان أثناء غوصها في الأعماق التي يمكن أن تصل إلى ٦٠٠٠ قدم تحت سطح الماء. وحتى وقت قريب، كان العلماء عاجزين عن التغلب على تلك التحديات الصعبة. ومن ثَم منحتهم أجهزة مثل مسجِّلات الصوت الرقمية القدرة على الولوج إلى عالم الحيتان الخفي ودراسة سلوكها، كما قدمت أيضًا رؤى قيِّمة عن ظروف النظام البيئي في أعماق المحيطات التي نادرًا ما يصل إليها البشر. وكما تقول الباحثة جينيفر جابريز، صارت أجسام الحيوانات تُدمَج في شبكات المستشعرات. كتبت جابريز: «تصبح الكائنات الحية محوسبة، سواءً عبر حملها للمستشعرات أو عبر الطرق التي توفر بها البيانات والمعلومات عن الظروف البيئية التي تُستمَد من بيئاتها الحسية.»70 لقد صرنا الآن قادرين على إدراك المحيط كما تدركه الحيتان؛ بسمعنا لا ببصرنا. وهكذا تعد أجهزة الصوتيات الرقمية كآلة ترجمة رقمية، تمكننا من إدراك المشاهد الصوتية وتفسير أغنيات تلك الكائنات التي تعيش تحت المياه.

حيتان في المنام

تقنيات الصوتيات الحيوية الرقمية أدوات مفيدة، لكنها لا ترى إلا عن بُعد. ونحن في علاقتنا مع الحيتان، التي تتوسطها التقنيات الرقمية، إنما نشبه الجاسوس أو المتلصص. لكن كي تتعرف على حوت عن كثب، يجب أن تدنو منه بنفسك، مثلما يفعل الإنوبيات.71 وذلك التناغم بين الحوت وصياده نابع من حميمية فعل الصيد. فما زال الإنوبيات يستخدمون زوارق صغيرة للصيد؛ سواء قوارب الأوميات المكسوة بالجلد، أو قوارب من الألومنيوم، وهي أصغر حجمًا بكثير من الحيتان؛ ويصيدون الحوت بحربة حجمها بالنسبة إليه كحجم المفك بالنسبة إلينا (وإن كانوا حاليًّا عادة ما يزودون تلك الحربة برأس متفجر). أثناء عملية الصيد، يقضي الإنوبيات ساعات طوال في مراقبة الحيتان، وعادة ما يقتربون منه ببطء بينما يحدق بهم. أحيانًا يختار الحوت لنفسه موضعًا يسمح لهم بإصابته بالحربة بطريقة آمنة، وأحيانًا أخرى يسبح بعيدًا عنهم. يقولون إن الحيتان تراقب البشر مثلما يراقبونها.72
يعلم الإنوبيات أن الحيتان لها مجتمعات وطرائق تواصل ومشاعر معقدة. وهذا الفهم للحيتان باعتبارها كائنات اجتماعية مثل البشر، يحكم عملية الصيد. وقد أوضح الشيخ الإنوبياتي هاري براور أن الحيتان تختار أن تسلم نفسها للبشر، فقط إذا رأت أنهم جديرون بذلك. عندما يقترب الصيادون في قواربهم الصغيرة من الحوت، فإنهم يخوضون معه حوارًا. يقول الإنوبيات إن الحوت ينظر إذا ما كان أولئك البشر يحترمونه؛ ويقرر إن كان سيسلم نفسه لهم أم لا. يعلم الإنويت أن الحيتان تُصغي إليهم، وأنها ستتجنبهم إذا لم يتعامل الصياد معها باحترام أو كان أنانيًّا. إذا أردت أن تجري عمليه الصيد على ما يرام، فيجب أن يسود قاربك الهدوء والتناغم؛ حتى النساء اللواتي يخطن كساء القوارب المصنوع من جلود الفقمات يجب أن يخفضن أصواتهن أثناء حياكتها. ولا بد أن ينوي الصياد وزوجته أن يتشاركا لحم الحوت مع أبناء مجتمعهما بسخاء وعن طيب نفس.73 فالصيد ضرورة عادية فوضوية، ولكنه أيضًا فعل له طقوس.

أدرك براور أن أرواح الحيتان تبث الحياة في عالم الأعماق. وكان يعتقد أن الحيتان تضاهي البشر في قدراتهم البيولوجية والفكرية، وأنها تخبر من لديه الاستعداد للإصغاء إليها منهم باحتياجاتها ورغباتها. وتولد التقنيات الرقمية سيلًا من البيانات لتأكيد رؤى الإنوبيات، غير أن معرفتهم تلك نابعة من صلتهم الوطيدة بالحيتان، التي تكوَّنت على مدى أجيال عديدة؛ من رؤيتهم الكونية التي تتجاوز البشر، والتي تَعدُّ الحيتان أقرباء لنا.

قرب وفاته، حكى هاري براور قصة. حينما كان يرقد في فراش مستشفى بمدينة أنكوريج، زاره حوت رضيع من فصيلة الحيتان المقوسة الرأس. وبينما كان جسده راقدًا في المستشفى، رافق الحوت الرضيع روحه لأكثر من ٦٠٠ ميل شمالًا إلى موطنه في بلدة أوتكيافيك. سافر براور والحوت معًا إلى حافة الجليد وتحت الماء. وهناك، رأى براور بعض صيادي الإنوبيات في قارب من جلد الفقمة، كان من بينهم ابنه. بينما كان الصيادون يقتربون من صغير الحوت وأمه على متن قارب «الأوميات»، رأى براور وجوههم وشعر بالحربة تخترق جسد الأم. وحين تكلم، وكأنه كان في غشية، حكى قصة صيد ذلك الحوت، واصفًا بالتفصيل كيف مات الحوت، والصياد الذي قتله والقبو الجليدي الذي حُفِظ فيه لحمه. حين استعاد عافيته بالقدر الذي سمح بعودته إلى بيته، اندهش حين أدرك أن رؤياه كانت دقيقة. كيف عرف براور ذلك؟ يحكي بروار تلك القصة في كتابه «الحيتان تسلِّم نفسها» فيقول: «لقد تحدث إليَّ الحوت الرضيع. أخبرني بقصص كثيرة عن المعاناة التي لاقاها وأمه في الجليد.»74 حكى الحوت قصته لغرض معين. وقد ناقش براور ذلك الحلم مع قادة فرق الصيد، ونتج عن تلك المناقشات قوانين جديدة تحظر صيد أمهات الحيتان التي لها صغار.
يعتقد الإنوبيات أن الحيتان تتشارك وعيها مع البشر. ومفهوم «الوعي الحيتاني» لا يشير إلى وعي البشر بالحيتان فحسب، بل أيضًا إلى وعي الحيتان بنا. إذن ما هو موضع تقنيات الصوتيات الحيوية الرقمية في هذه الرؤية الكوزمولوجية؟ حاليًّا، تتيح تقنيات رصد الصوت السلبية للإنوبيات والعلماء مراقبة الحيتان باستمرار في أي مكان في العالم دون مغادرة مختبراتهم.75 وبينما كان القبطان كيلي يستخدم أغنيات الحيتان لصيدها عشوائيًّا في الماضي، بات العلماء الآن يستخدمون الصوت لحصر الحيتان وتتبعها وفهمها وحمايتها، حتى يمكن صيدها بحذر واحترام وتقدير. أثارت الأبحاث التي جرت في بوينت بارو أيضًا اهتمامًا علميًّا بالحيتان باعتبارها كائنات اجتماعية. ويقدم لنا علم الصوتيات الحيوية وسيلة جديدة لاستكشاف ما يدعيه الإنوبيات وغيرهم من الثقافات التقليدية القائمة على صيد الحيتان منذ وقت طويل عن أن ثمة كائنات غير البشر تمتلك القدرة على التواصل المعقد وتتمتع بسلوك اجتماعي ثري، ويمكن لمن يختار الإصغاء إليها من البشر أن يفهمها.

كما سنرى في الفصول التالية، فتحت هذه الدراسات الفذة في مجال الصوتيات الحيوية للحيتان الباب لدراسة أنواع أخرى؛ وفيها أنواع كنا نظن أنها بكماء. لقد فتح رواد الصوتيات الحيوية الأوائل آذاننا وعقولنا لأصوات العالم من حولنا، الزاخرة بالحياة والمعنى. وبدأ العلماء يفطنون لفكرة أن العالم من حولنا قد لا يكون صامتًا؛ ربما كانوا يحتاجون فقط إلى تعلُّم كيفية الإصغاء له. لم تكن المحيطات محل الاكتشاف المذهل التالي في علم الصوتيات، بل كان محله اليابسة، وكان ذلك اكتشاف القدرات الصوتية غير المتوقعة للأفيال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤