الفصل الثالث

الرعد الصامت

حينما سافرت كيتي باين إلى أفريقيا في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، وصلت في خضم حملة إبادة للأفيال. قبل قرنين، كانت الأفيال تحكم القارة الأفريقية؛ فكان البشر كجزر وسط بحر من الأفيال.1 بعد أقل من قرن، انقلب ذلك المشهد. فقد أدت تجارة العاج إلى ازدهار صيد الأفيال حتى وصل إلى ذروته في الثمانينيات، وفي غضون عقد واحد، كان نصف عدد الأفيال قد هلك.2 في كينيا، قُدِّر أن تسعة من كل عشرة أفيال أُزهِقَت أرواحها حتى عام ١٩٩٠.3 تناثرت جثث الأفيال بأعداد كبيرة في المناطق الطبيعية، حتى إن العلماء بدءُوا يحصون أعداد الجثث لتقدير أعداد الأفيال التي ما زالت على قيد الحياة. كما وضعوا مقياسًا مأساويًّا لتقييم سلامة جماعاتها، وهو نسبة الجِيَف (عدد الأفيال النافقة مقسومًا على مجموع الأفيال الحية والنافقة).4 وأطلق الصحفيون على تلك المأساة ببساطة «هولوكوست الأفيال».5

سافرت كيتي باين إلى أفريقيا بهدف طموح، وهو وضع أول قاموس للغة الأفيال في العالم. لكن لما اتضح لها المشهد الفعلي، أدركت أن هدف بحثها سيكون أوسع مما توقعت. فقد جاءت إلى أفريقيا لتوثيق القدرات الصوتية الإبداعية والمعقدة للأفيال، لكن انتهى بها المطاف إلى تسجيل أصوات نوع مهدد بالاندثار.

تزامنت بداية عملها مع شروع دعاة الحفاظ على البيئة في توثيق الذكاء الفائق للأفيال وحياتها الاجتماعية الشديدة التعقيد. كان من أحد ألمع القدرات التي تتمتع بها قدرتها غير المفهومة على تنظيم أنفسها في صمت، حتى عبر مسافات بعيدة. في تنزانيا، انبهر إيان دوجلاس هاملتون، أحد دعاة الحفاظ على البيئة، بقدرة الأفيال على تنسيق سلوكها دون إشارات مرئية أو مسموعة. وفي كينيا، لاحظت العالمتان سينثيا موس وجويس بوول أن ذكور الأفيال وإناثها، رغم عيشهم في مناطق منفصلة، وأحيانًا بعيدة، يجدون بعضهم بسرعة مذهلة أثناء الفترات القصيرة التي لا يمكن التنبؤ بها التي تكون الإناث فيها على استعداد للتكاثر. وفي زيمبابوي، تعقب رُوان مارتن إناث الأفيال من عائلات مختلفة لعدة سنوات، مستخدمًا أطواق التتبع اللاسلكي لتحديد مسار تحركاتها؛ فوجد أن قطعان العائلات كانت تنسق تحركاتها لأسابيع عبر مسافات طويلة وتضاريس وعرة دون أن تكون قد التقت من قبل قط، رغم غياب الإشارات البصرية أو الشمية.6 وفي جنوب آسيا، حيث رُوضت الأفيال لتعمل دواب حمل لآلاف السنين، يزخر الفلكلور بحكايات عن القدرات الخارقة للأفيال.7 يقول دوجلاس هاملتون مازحًا إن الأفيال ربما تملك إدراكًا حسيًّا متجاوزًا للحس.

غير أن كيتي باين كانت لديها فرضية بعيدة عن الماورائيات، وضعتها أثناء دراستها للأفيال في حديقة الحيوان بمدينة بورتلاند. قبل ذلك الوقت بعَقدين، تصدرت حديقة الحيوان تلك عناوين الصحف تزامنًا مع ولادة «باكي»؛ أول فيل يولد في النصف الغربي من الكرة الأرضية منذ أربعة وأربعين عامًا. نما باكي سريعًا حتى صار أطول فيل آسيوي في الولايات المتحدة، وبات محطًّا للأنظار. حين زارت كيتي حديقة حيوان بورتلاند عام ١٩٨٤، كانت الحديقة قد طورت أنجح برنامج تناسل للأفيال الأسيرة في العالم. كانت كيتي تأمل أن تتمكن من خلال قضاء وقت مع المجموعة الأكبر من الأفيال الأسيرة في القارة الأمريكية من التعرف أكثر على الأصوات التي تصدرها تلك الأفيال.

في أولى زياراتها للحديقة، دنا منها فيل رضيع يسمى سانشاين، ومد إليها خرطومه عبر القضبان. بدت أمه التي كانت تقف على مقربة متوجسة. شعرت كيتي بارتجاج خفيف «كشعور الرعد حين يضرب، غير أن السماء لم تكن ترعد.» على حد وصفها8 أعاد إليها ذلك الشعور ذكرى؛ في صباها، حينما كانت تغني في الجوقة بكنيسة سيج بجامعة كورنيل، كان يبهرها قوة الأرغن أثناء نزول نغماته نحو النغمات الجهيرة العميقة فكانت تشعر وكأن الكنيسة كلها ترتج. تساءلت: «أكان ذلك ما شعرت به وأنا جالسة بجوار قفص الأفيال؟ صوت أدنى من أن أستطيع سماعه، لكنه قوي جدًّا إلى حد أنه خلخل الهواء؟ هل كانت الأفيال تنادي بعضها بأصوات تحت سمعية؟»9 كانت كيتي تعرف من أبحاثها السابقة عن الحيتان أن الحيتان الزعنفية والحيتان الزرقاء — التي تُعد أضخم ثدييات المحيط — تُصدر نداءات ذات موجات تحت سمعية؛ ومن دراستها للصوتيات، كانت تعرف أن تلك الأصوات يمكنها أن تنتقل لمسافات كبيرة عبر المياه والصخور والهواء. فهل يمكن أن تكون الأصوات تحت السمعية هي الحل للغز قدرة الأفيال الغامضة على التواصل؟

عادت كيتي إلى بورتلاند بعد بضعة أشهر ومعها معدات تسجيل مصممة لالتقاط الموجات تحت السمعية العميقة، التي تقع خارج حيز السمع البشري. جاء معها أيضًا اثنان من زملائها: عالم الأحياء ويليام لانجباور والكاتبة إليزابيث مارشال توماس. كانت كيتي تنوي تسجيل أصوات الأفيال، ثم بعد عودتها، تعيد تشغيلها بسرعة أعلى، لترفع ترددها؛ فكان هذا من شأنه أن يُظهِر أي أصوات تحت سمعية خفية، مثلما تظهر الإضاءة فوق البنفسجية الحبر السري. اتخذ الباحثون الثلاثة من حظيرة كئيبة في حديقة الحيوان مقرًّا لهم، وبدءُوا عملية المراقبة اليومية المرهقة؛ فكان أحدهم يفحص المسجل، بينما يوثق الثاني بدقة سلوك الأفيال، والثالث يسجل أوقات صدور أي أصوات مسموعة. في بعض الليالي، كان الفريق يعمل على مدار الساعة، ويتناوب أفراده على التسجيل والمراقبة والراحة. ومن حين لآخر، كانت كيتي تشعر بذلك الخفقان أو الارتجاج الذي شعرت به في أول زيارة لها، كما شعرت به إليزابيث أيضًا. لكن بيل لم يشعر بشيء ولم يسمع شيئًا؛ لذا قررت كيتي ألا تشعر بالإحباط إذا وجدت أن التسجيلات لا تحتوي على أي أصوات غير تلك المسموعة.

بعد أن عادت كيتي إلى كورنيل، طلبت من كارل هوبكنز، وهو عالم صوتيات زميل، أن يستمع إلى التسجيلات معها. واختارت واقعة معينة لفتت انتباهها في حديقة الحيوان: وقف فيلان بالغان، يفصلهما جدار مرتفع، أحدهما في مواجهة الآخر عبر الخرسانة السميكة. لم تصدر عنهما أي أصوات مسموعة. لكن حين أُعيد تشغيل الشريط بسرعة تعادل سرعته الأصلية باثني عشر ضعفًا، كشفت الأصوات عن نفسها بعد أن تكثفت وارتفعت ثلاثة أوكتافات. كان الفيلان يجريان حديثًا مطولًا بصوت أدنى من نطاق السمع البشري، كانا يتبادلان حديثًا مطولًا بصوت جهوري يشبه قليلًا خوار الماشية.

رفعت كيتي رأسها في حماس فرأت نظرة أسى ترتسم على وجه كارل. غمغم قائلًا: «إنها تلك الأصوات تحت السمعية اللعينة!»10 طوال تلك السنوات العديدة التي قضاها العلماء في تدريس صوتيات العالم الطبيعي ودراستها، لم يفكر أحد في تسريع الشرائط. كانت كيتي باين، التي درست الموسيقى الكلاسيكية، هي من توصلت إلى ذلك الاكتشاف المذهل. وفي الشهور التالية، كشف تحليل منهجي لمئات الساعات من التسجيلات عن مجموعة واسعة من نداءات الأفيال التي بدا أنها تنتقل لمسافات بعيدة، وكان بعضها يقع في النطاق تحت الصوتي. كانت الأفيال تطلق نداءات فريدة في كثير من السياقات، مثل تهدئة رفيق مضطرب، أو إرشاد صغير تائه إلى أمه، أو التحذير، أو توجيه مجموعة من مكان لآخر.
أثار اكتشاف كيتي قدرًا كبيرًا من الحماسة في دوائر دعاة الحفاظ على البيئة. ووصفت صحيفة «نيويورك تايمز» دراستها وصفًا شاعريًّا؛ إذ قالت: «يعد ذلك أول دليل على أن الثدييات الأرضية قادرة على إصدار تلك الأصوات تحت السمعية، ويضيف نداءات الأفيال المجهورة إلى جوقة الحياة البرية التي تتضمن الصيحات العالية التردد للخفافيش، وأصوات السوبرانو التي تصدرها خنازير البحر، وعواءات الألتو التي تصدرها الذئاب والقيوط، وغناء الحيتان المقوسة الرأس الذي يتراوح بين طبقتي التينور والباص.»11 يصف توماس لافجوي، نائب رئيس الصندوق العالمي للحياة البرية تلك النتائج بأنها كشف، فيقول: «هذا الاكتشاف يشبه اكتشاف … لغة لم تكن معروفة لنا حتى الآن فجأة.»12
بيَّن تسجيل كيتي لمحادثة الفيلين عبر الجدار قوة الأصوات تحت السمعية، التي تختلف عن الأصوات «العادية» التي يمكن للبشر سماعها من ثلاثة جوانب. أولًا: ترددات الأصوات تحت السمعية أدنى بكثير من النطاق الذي يستطيع البشر سماعه، مما يستلزم استخدام تقنية خاصة لرصدها. ثانيًّا: الأصوات تحت السمعية تكون موجاتها طويلة جدًّا؛ وهذا ينطبق بقوة على الأفيال، بالنظر إلى كيفية تفاعل الموجات الصوتية مع الأشياء الصلبة. الأصوات ذات الموجات القصيرة — مثل الأصوات العالية النبرة التي تستعملها الخفافيش لتحديد المواقع بالصدى — ترتد بقوة عند اصطدامها حتى بأشياء صغيرة، وتنتقل لمسافات قصيرة فقط. أما الأصوات ذات الموجات الطويلة فتمر من حول أغلب الأشياء ومن خلالها. ثالثًا: يمتص الهواء الأصوات العالية التردد بكفاءة، أما الأصوات المنخفضة التردد فتنتقل عبره دون أن يُفقَد منها الكثير. ومن ثَم يمكن استخدام الأصوات دون السمعية للتواصل عبر مسافات بعيدة. فهي يمكنها كذلك النفاذ عبر أشياء مثل الجدران، أو التذبذب عبر الأرض.13 لقد كانت الأفيال تخوض حوارات عميقة عبر مسافات بعيدة، وحتى عبر جدران المباني؛ دون أن يتطرق منها شيء إلى آذان البشر.
في غضون بضعة أشهر قليلة من نشرها لنتائج بحثها عام ١٩٨٦، عادت كيتي إلى كينيا بدعم من الصندوق الدولي للحياة البرية والجمعية الجغرافية الوطنية «ناشونال جيوجرافيك». كانت تأمل أن تمكنها دراسة تواصل الأفيال من المساهمة في صد موجة اندثار الأفيال التي اجتاحت القارة بأكملها. في البداية قضت كيتي بعض الوقت في العمل مع جويس بوول وسينثيا موس في كينيا. كانت سينثيا قد تركت عملها في مجلة «نيوزويك» لتتولى تدريب نفسها بنفسها لكي تصبح عالمة أحياء متخصصة في الأفيال. وفيما بعد أصبحت دراستها التي أجرتها على قطيع أفيال يعيش في حديقة أمبوسيلي الوطنية على التلال الواقعة حول سفح جبل كلمنجارو، أطول دراسة في العالم تُجرى على أفيال السافانا الأفريقية.14 بعد أن قرأت جويس عن سينثيا في الصحف، تطوعت للعمل مع مشروع أبحاث أفيال أمبوسيلي وهي لم تزل في التاسعة عشرة من عمرها، لتنال لاحقًا درجة الدكتوراه من جامعة كمبريدج.15 كان لمعرفة سينثيا وجويس الوثيقة بأفيال السافانا — إذ كانتا تستطيعان تمييز مئات من الأفيال — دورها في تحقيقهما عدة اكتشافات علمية عن السلوك الاجتماعي للأفيال. ولعل أهم إنجازاتهما التي استطاعتا تحقيقها توثيق الشبكات الاجتماعية المتداخلة والمعقدة التي تتجاوز مجموعة العائلة الأساسية، لتشمل عشرات الأفيال على مدى أجيال.16 سلَّطت أبحاثهما الضوء على أهمية الأفيال الأكبر سنًّا، لا سيما ربات العائلات من الإناث، باعتبارها حاملة المعرفة وشخصيات ترسي الاستقرار في قطعان الأفيال. كانت الإناث الأكبر سنًّا تتولى رعاية صغارها وتعليمها حتى الوصول إلى سن النضج، وهو ما يستغرق عقدين من الزمان.17 للأفيال الأكبر سنًّا أيضًا ذاكرة طويلة المدى تمد القطيع بمعلومات قيمة وقت الحاجة، مثل مواقع تجمع المياه الموسمية أثناء موجة جفاف، أو مواقع توافر الغذاء الموسمية، أو مسارات الهجرة غير المطروقة كثيرًا. وقد كشفت أبحاث جويس بوول أن صيد الأفيال الذي عادة ما كان يستهدف الأفيال المسنة ذات الأنياب الأكبر حجمًا لا يقضي على أفراد فحسب، بل يدمر أيضًا النسيج الاجتماعي لمجتمع الأفيال. وكان لتلك الاكتشافات دور محوري في دفع المجتمع الدولي إلى حظر تجارة العاج الدولية أخيرًا في عام ١٩٨٩.
انطلاقًا من اكتشاف كيتي، بدأت الباحثات الثلاث في استكشاف السياقات الاجتماعية للنداءات المنخفضة التردد التي تصدرها أفيال السافانا. وأكدت نتائجهن أن الأفيال تستخدم الأصوات دون السمعية للتواصل عبر مسافات طويلة، وتنسيق تحركاتها، والبحث عن شركاء التزاوج.18 أدت معرفة كيتي العميقة بالحيتان إلى كشف آخر، وهو أن التواصل عبر المسافات الطويلة يُعد ميزة تكاثرية بالنسبة إلى الحيوانات التي تصدر نداءات تحت سمعية. فعلى غرار أنواع الحيتان التي تهاجر لمسافات طويلة كي تصل إلى مناطق تكاثرها، تعيش ذكور وإناث الأفيال في مناطق متباعدة، لكنها يجب أن تتلاقى وتتكاثر أثناء الفترات القصيرة المتباعدة التي تكون فيها الإناث في طور الودق؛ وهي نافذة زمنية تدوم أربعة أيام في المتوسط وتحدث مرة واحدة كل أربع سنوات.19 حين أصغت كيتي إلى إناث أفيال السافانا أثناء فترة الودق، سمعت نداءات مميزة منخفضة التردد؛ وفي تجارب أعيد فيها تشغيل تسجيلات لتلك النداءات، كانت الذكور تسير أميالًا نحو مكبرات الصوت التي تصدر منها الأصوات المسجلة.20 واصلت جويس وسينثيا توثيق شبكات التعرُّف الصوتي الواسعة لأفيال السافانا، والإشارات الصوتية المحددة التي يمكن أن تنتقل لمسافات بعيدة، وجمع الأدلة على قدرة الأفيال على تعليم الأصوات وتعلمها.21 وقد عمَّق هذا البحث الفهم العلمي للسلوك الاجتماعي للأفيال، وهذا بدوره أدى إلى ظهور رؤى أخرى عن موضوعات كان العلماء يتشككون فيها من قبل؛ مثل قدرة الأفيال على إبداء التعاطف.22
كانت كيتي تعرف أيضًا أن الأصوات تحت السمعية من شأنها أن تكون مفيدة في بث النداءات عبر الغابات الكثيفة أو الأحراج الشجيرية. فكلما انخفض تردد الصوت، انخفض معدل تبدده في الغابات الكثيفة. وعلى عكس أقربائها من أفيال السافانا التي أمكن دراستها بصريًّا من الأرض أو بالطائرات أو حتى بالأقمار الصناعية، كانت مراقبة الأفيال التي تسكن الغابات أصعب بكثير.23 تسكن تلك الأفيال في عمق غابات وسط أفريقيا، ثاني أكبر الغابات المطيرة على الأرض، وكان العلماء لا يزالون يَعدُّونها لغزًا إلى حد كبير. فنظرًا للقيود التي تحد الإشارات البصرية في الغابات الاستوائية الكثيفة، خمنت كيتي أن أفيال الغابات ربما كانت أكثر اعتمادًا على الأصوات المنخفضة التردد، حتى على المسافات القصيرة.24 ومن ثَم قد تكون الصوتيات الحيوية هي مفتاح دراسة أفيال الغابات وإنقاذها.
بالتعاون مع العلماء في مركز أبحاث الصوتيات الحيوية التابع لمختبر علم الطيور بجامعة كورنيل، قررت كيتي أن تدشن مشروع «الاستماع إلى الأفيال» في قلب الغابة المطيرة، على أحد روافد نهر الكونغو في متنزه دزانجا سانجا الوطني.25 كان المشروع الطموح يهدف إلى وضع «قاموس للأفيال»؛ معجم لنداءات الأفيال والحيلة الصوتية المرتبطة بسلوكيات وتفاعلات الأفيال.26 بالتعاون مع أندريا توركالو التي بدأت أطول دراسة في العالم لأفيال الغابات، عكف فريق كيتي أولًا على قياس معدلات النداءات، وذلك بتثبيت وحدات تسجيل مستقلة في الغابة في المواضع التي يُعتقَد أن الأفيال تختبئ فيها، ثم ربط عدد النداءات المسجلة بعدد الأفيال التي تُصدِرها.
منذ عام ٢٠٠٦ فصاعدًا، تظل منظومة التقنيات التي ابتكرها فريق كيتي لمشروع الاستماع إلى الأفيال، الذي يقوده حاليًّا عالم الصوتيات بيتر ريج، واحدة من أفضل شبكات الصوتيات الحيوية التي بُنيت على الإطلاق. قسَّم ريج الغابة المطيرة إلى خمسين شبكة (مساحة كل منها نحو ٢٥ كيلومترًا مربعًا)، ووضع وحدة تسجيل مستقلة عند كل نقطة في تلك الشبكات على ارتفاع ٣٠ قدمًا تقريبًا على قمم الأشجار، وهو ارتفاع أعلى قليلًا مما يستطيع الفيل أن يبلغه بخرطومه إذا شب. صُممَت أولى وحدات التسجيل المستقلة في جامعة كورنيل، وكانت توضع داخل أنابيب صرف مصنوعة من مادة بولي كلوريد الفينيل مع قرص صلب لكمبيوتر محمول لتخزين البيانات ولوحات دوائر إلكترونية تُسجِّل ملفات بيانات الصوت بصيغة ثنائية؛ احتاجت كل وحدة تسجيل مستقلة في أول مجموعة كبيرة نُشِرَت من تلك الوحدات في الجابون ٤٣ رطلًا من البطاريات كي تعمل لثلاثة أشهر.27 وكان الفريق يزامن تلك الأجهزة مع كاميرات فيديو تعمل عن بُعد، مما أتاح للباحثين مشاهدة مقاطع الفيديو لاحقًا أثناء الاستماع إلى التسجيلات لمطابقة الأصوات بأفراد وسلوك معين. كان الباحثون يزورون كل وحدة تسجيل كل ثلاثة أشهر، ويغيرون بطاقات الصوت ويستبدلون البطاريات، ويعيدون الكرَّة. وفي المختبر بجامعة كورنيل، عكفت فرق من طلاب الدراسات العليا على فك شفرات إشارات الأفيال. وبعد عقود من الدراسة، استطاع الفريق ترجمة عدد كبير من إشارات الأفيال، وأمدتهم الأصوات الفريدة للأفيال بمعلومات عن نسب الإشغال، واستخدام المساحات في بيئاتها، والتعداد، وآثار الاضطرابات الناجمة عن الأنشطة البشرية.28
على مر السنين، جمع فريق جامعة كورنيل مئات الآلاف من الساعات من التسجيلات والملاحظات، وهو ما أتاح لهم توثيق حيوات أفيال مفردة منذ ولادتها مرورًا ببلوغها وحتى نفوقها. ومن خلال دمج تلك البيانات الصوتية الحيوية مع المشاهدات البصرية النادرة، استطاع الفريق التعرف على جوانب أساسية في دورة حياة أفيال الغابة؛ مثل حجم قطعان عائلاتها وتكوينها، وتحركات الجماعات من منطقة إلى أخرى، والتزاوج، واستجابات الأمهات لصغارها. لسوء الحظ، التقطت التسجيلات أيضًا أصوات طلقات نارية لصيادين، وأصوات مناشير الحطابين غير الشرعيين، وأصوات أفيال تفر مذعورة.29 وبِناءً على تلك البيانات، كان الفريق أول من دق ناقوس الخطر للتحذير من سرعة تناقص أعداد أفيال الغابة؛ إذ بدأ الخوف ينتابهم من أن يكون النوع الذي يسجلون أصواته على شفا الاندثار.30
وثَّقت دراسة سابقة التناقص الخطير في أعداد أفيال الغابة في عدة مواقع مهمة في وسط أفريقيا، إلا أنه آنذاك لم يكن يُعرَف الكثير عن أعدادها في باقي أنحاء أفريقيا.31 غير أن التقارير الأخيرة عن أقاربها من ساكني السافانا كانت محبطة. وعندما أُجري أول تَعداد شامل لأفيال السافانا على مستوى القارة بأكملها في عام ٢٠١٦، أثارت النتائج ضجة في دوائر دعاة الحفاظ على البيئة.32 أرسلت فرق المراقبين بإشراف منظمة «أفيال بلا حدود» طائرات صغيرة وخفيفة لتحلق فوق مساحات شاسعة من القارة — غطت ٢٩٠ ألف ميل (وهي تفوق المسافة إلى القمر) — وجاءت النتائج قاتمة. فحسب التقديرات، يقتل صيادو الأفيال نحو ٢٧٠٠٠ فيل سنويًّا. وعلى مدى سبع سنوات، انخفض عدد أفيال السافانا في أفريقيا بمقدار الثلث. ففي الكاميرون، أحصى الباحثون ١٤٨ فيلًا فقط على قيد الحياة، بينما بلغ عدد الجثث أكثر من ستمائة؛ كانت نسبة الجيف تزيد على ٨٠ في المائة، وهو ما يعني أن الأفيال مهددة بشدة بالانقراض. حتى في تنزانيا، التي تزدهر فيها سياحة السفاري، انخفض عدد أفيال السافانا بنسبة ٦٠ في المائة في السنوات الخمس الماضية. ولسوء الحظ، لم يشمل ذلك الإحصاء أفيال الغابات، وظل العلماء على غير علم بمدى انعكاس ذلك الانخفاض في أعداد أقاربها. وواصلت كيتي وزملاؤها الضغط من أجل إجراء إحصاء لأفيال الغابة. وفي مطلع عام ٢٠٢١، كشف الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة أن أفيال الغابة فقدت ما يقرب من تسعة أعشار عددها في القرن الماضي، وحدَّث تقييمه لأفيال الغابة في «القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض» وأعاد تصنيفها بأنها مهددة بشدة بالانقراض؛ أي إنها على شفا الاندثار في المناطق البرية.33
قبل ذلك الإعلان بفترة، كان فريق جامعة كورنيل قد غيَّر مساره. ففي ظل ضغط الصيادين على أفيال الغابة، تحوَّل مشروع الاستماع نحو تطوير أساليب قائمة على الصوت لتحقيق أهداف عملية من أهداف الحفاظ على الطبيعة؛ فإنشاء قاموس للأفيال سيكون هدفًا لا طائل منه إذا لم يتبقَّ أي أفيال. بدا تسجيل أصوات الأفيال أشبه بالتلصص؛ ففي ظل المذبحة الدائرة، كان كل تسجيل بمنزلة حفرية صوتية. وبدلًا من الاكتفاء بتسجيل أصوات الأفيال قبل إبادتها، تساءلت كيتي عما يمكن فعله لمنع اندثارها. كانت قد اقترحت في عام ٢٠٠٣ أنه من الممكن تصميم نظام للرصد الصوتي يمكن أن يكون أداة للإحصاء وأداة آلية للتحذير من التهديدات.34 يتطلب هذا النظام استخدام مسجِّلات آلية يمكن إخفاؤها عن أعين الصيادين، بالإضافة إلى وسيلة دقيقة للتعرف على نداءات الأفيال، وكذلك الضوضاء الدالة على أعمال الصيد، مثل طلقات الرصاص والمحركات والمناشير الكهربائية. كانت تلبية المطلب الأول سهلة، نظرًا للتطورات الحديثة في أجهزة الصوت الرقمية. لكن كان تحقيق المطلب الثاني أصعب؛ لأن الغابات أماكن تعج بالأصوات الصاخبة.
في علم الكمبيوتر، لهذه المشكلة نظير معروف في مجال أبحاث الصوت البشري، يشار إليه أحيانًا باسم «معضلة حفل الكوكتيل»؛ وهي الحاجة إلى التركيز على صوت بشري محدد دون ضوضاء الخلفية والأصوات الأخرى. في عام ٢٠١٥، اقترح باحثون في مجال الذكاء الاصطناعي حلًّا جديدًا لمعضلة حفل الكوكتيل، أطلقوا عليه «الكاريوكي العميق» على سبيل المزاح. لتدريب الخوارزميات الحاسوبية على كيفية التمييز بين الأصوات البشرية والآلات الموسيقية، بدءُوا يغذونها بقاعدة بيانات من الأغاني تحتوي على مقاطع منفصلة لكل آلة أو صوت في كل أغنية، بالإضافة إلى النسخة النهائية من الأغنية الممزوج فيها جميع تلك الأصوات. حُوِّل كل مقطع إلى سلسلة من التحليلات الطيفية البيانية مثلت بصمة صوتية فريدة لكل آلة أو صوت؛ كما حُوِّلت النسخة النهائية من الأغنية أيضًا إلى تحليل طيفي بياني، هو في الأساس مزيج من التحليلات الطيفية للأصوات المكونة لها مجتمعة. أدخل الباحثون هذه المجموعة من البيانات في شبكة عصبية؛ وهي نوع من خوارزميات الذكاء الاصطناعي مصممة لتتعلم بالتكرار، عن طريق مقارنة العينات واكتشاف الأنماط، تمامًا مثل الدماغ البشري. حين تُزود الشبكات العصبية بمجموعة بيانات كبيرة بما يكفي وقوة حوسبية كافية، يكون أداؤها في التعرف على الأصوات ممتازًا؛ بل إنها غالبًا ما تتفوق على البشر في ذلك. في هذه الحالة، عالجت الشبكة العصبية قاعدة البيانات بأكملها مائة مرة. ثم غذى الفريق الشبكة العصبية بأغنية جديدة غير مألوفة لها وطلبوا منها اختيار المقطع الصوتي الذي يحتوي الصوت الملفوظ، وهو ما نجحت في القيام به. صُمِّمَت الخوارزمية للتعرف على صوت مغنٍّ معيَّن واستخلاصه من ضوضاء الخلفية، تمامًا مثلما يفعل الإنسان.35
تساءل فريق جامعة كورنيل: هل يمكن استخدام نهج مماثل لعزل أصوات الأفيال عن الخلفية الصوتية الصاخبة لغابة استوائية؟ تواصل بيتر ريج مع علماء كمبيوتر في جامعة كورنيل، كان من بينهم كارلا جوميز، أحد مؤسسي علم الاستدامة الحوسبي، وهو مجال جديد يستخدم تطبيقات علم الكمبيوتر لمعالجة التحديات البيئية والاجتماعية. وخلصا إلى أن استخلاص بيانات مفيدة من تسجيلاتهما الصوتية يستلزم ابتكار نهج آلي جديد. تواصل بيتر ريج وكارلا جوميز مع شركة «كونزرفيشن مِتركس» بكاليفورنيا لبناء شبكة عصبية مُصممة خصوصًا لغرضهما؛ خوارزمية ذكاء اصطناعي قادرة على التعرف تلقائيًّا على أصوات معينة تصدرها الأفيال. حين سلَّم ريج التسجيلات لشركة «كونزرفيشن مِتركس» لأول مرة، طلب منهم التركيز على مهمتين: استخلاص أصوات الأفيال من الخلفية الصوتية الصاخبة للغابة، والتمييز بين مختلف أنواع نداءات الأفيال؛ وعلى وجه التحديد التمييز بين نداءات التحذير والاستغاثة. كان مشروع الاستماع إلى الأفيال قد جمع مئات الآلاف من الساعات من البيانات الصوتية، وفرت مجموعة بيانات تدريب كبيرة بما يكفي؛ ومع ذلك، كان ريج متشككًا في إمكانية نجاح هذه الفكرة التي لم تُختبَر من قبل. غير أن النتائج فاقت التوقعات؛ فإلى جانب أن الشبكة العصبية تعرفت بدقة على أصوات الأفيال، التقطت أيضًا أصوات طلقات رصاص، رغم أن ذلك لم يُطلب منها. وكي يتحقق المهندسون من دقة نتائجهم، بنوا نسخة أخرى من الشبكة العصبية، تركِّز على أصوات مثل طلقات الرصاص والمناشير الكهربية، بالإضافة إلى النداءات التحذيرية للأفيال. كانت الخوارزمية الثانية أدق من الأولى. وهكذا اخترع الفريق ما اقترحته كيتي باين لأول مرة منذ ما يقرب من عشرين عامًا: نظام رصد آني للتهديدات التي يشكلها البشر على الأفيال، قد يُفضي في النهاية إلى إيقاف نشاط الصيادين.36

وكما أوضح بيتر ريج وكارلا جوميز وزملاؤهما في ورقتهم البحثية البارزة التي نُشِرت لاحقًا، يتطلب الاكتشاف الآني للتهديدات التي تتعرض لها الأفيال ورصد تَعدادها إنجاز مهمتين صعبتين: أولًا، التعرف السريع والدقيق على الحيوانات المعنية والتهديدات المحتملة التي تواجهها تلك الحيوانات، مثل الحطَّابين والصيادين الجائرين؛ ثانيًا، إيصال البيانات الضرورية فقط إلى النظام بكفاءة، لتجنُّب تحميل النطاق الترددي المحدود لشبكات اللاسلكية أحمالًا زائدة عن طاقته. تمثل المهمة الأولى تحديًّا تقليديًّا ينطوي على تقسيم البيانات الصوتية وتصنيفها — أي كيفية التمييز بين صوت طلق ناري وصوت انكسار غصن شجرة — وهو ما حققته شبكتهم العصبية المصممة خصيصى لغرضهم. ولكن للحصول على البيانات الصوتية اللازمة لتغذية الشبكة العصبية، كان لا بد من التغلب على التحدي الثاني. وقد تطلَّب هذا من الفريق التخلي عن استخدام خوارزميات الصوت التقليدية، والتي عادةً ما تقلل أو حتى تُلغي الأصوات المنخفضة التردد التي تستخدمها الأفيال في أغلب تواصلها. ولإنجاز تلك المهمة، ابتكر الفريق آلية جديدة لضغط الصوت موجهة خصيصى لشبكتهم العصبية؛ أي إنها تستهدف جمهورًا رقميًّا وليس بشريًّا.

أدرك فريق جامعة كورنيل أن هذا النظام يمكن أن يكون أساسًا لنظام إنذار مبكر يستخدمه حراس المتنزهات في جميع أنحاء القارة.37 وانطلاقًا من هذا البحث، أطلق الفريق نظامًا مفتوح المصدر للتحليل التلقائي للأصوات الصادرة من النظم البيئية (المشاهد الصوتية). طوَّر هذا النهج شبكة عصبية للتعرف على «البصمات الصوتية» الفريدة للمشاهد الصوتية من مجموعة متنوعة من النظم البيئية، وهو ما سمح بمراقبة بيئية سريعة وقابلة للتوسيع سوف تمكِّن الباحثين مستقبلًا من التنبؤ الدقيق بجودة الموائل والتنوع الأحيائي فيها، وكذلك تحديد الأصوات الشاذة تلقائيًّا، مثل أصوات المناشير وطلقات الرصاص.38 وهكذا تحول ما كان في بدايته مشروعًا يهدف إلى الاستماع إلى الأفيال باستخدام تكنولوجيا الصوتيات التناظرية إلى مهمة لإنقاذها باستخدام الصوتيات الرقمية المدعومة بالذكاء الاصطناعي.

على الرغم من أن أدوات الصوتيات الرقمية هذه قد تمثل قفزة إلى الأمام من الناحية التقنية، فهي ليست بأي حال رصاصة سحرية تضمن الفوز في معركة إنقاذ الأفيال الأفريقية من الانقراض. فما زالت الأدوات في حد ذاتها غير دقيقة بما يكفي لكشف حوادث الصيد الجائر على نطاق واسع، وحتى لو سُيطِر على الصيد الجائر، تواجه الأفيال تهديدًا آخر، ربما يكون أخطر، يتمثل في فقدانها لموائلها بسبب التعديات التي يقوم بها البشر من قطع للغابات واستصلاح الأراضي المتاخمة للغابات، مما يولد صراعًا بين الأفيال والبشر عبر جميع أنحاء القارة. وتلك مشكلة قد يقدِّم علم الصوتيات البيئية حلولًا لها، ويكشف عن رؤى أخرى مفاجئة عن تواصل الأفيال.

أسوار من نحل العسل

بعد جيل من رحلة كيتي باين الأولى إلى أفريقيا، بدأت لوسي كينج تصغي إلى الأفيال عند التلال المحيطة بسفح جبل كليمنجارو. نشأت لوسي في أفريقيا، وشهدت بنفسها التدهور السريع في عدد الأفيال. أسس إيان دوجلاس هاملتون، مرشد لوسي، منظمة «أنقذوا الأفيال» غير الهادفة للربح للدعوة إلى حظر تجارة العاج على مستوى العالم. وبعد عقود من الضغط، نُفِّذ الحظر أخيرًا في عام ١٩٨٩ بموجب اتفاقية التجارة الدولية للأنواع المهددة بالانقراض. ولكن بعد مرور ثلاثين عامًا، واجهت الأفيال تهديدًا جديدًا وهو المزارعون المحليون. وحين بدأت لوسي دراستها الجامعية، قررت تكريس حياتها لحل الصراع المحتدم بين الأفيال والمزارعين.

اختارت لوسي أحد أصعب التحديات القائمة في مجال الحفاظ على البيئة. فمع تزايد عدد السكان في أفريقيا، بدأ البشر يتعدون على موائل الأفيال التي باتت تتقلص سريعًا. ولما حُرِمَت الأفيال من الغذاء الذي كانت توفره لها الأدغال، بدأت تغزو المزارع على نحوٍ متزايد لتتغذى عليها. كان بإمكان فيل واحد أن يقضي على أفدنة من المحاصيل في مدة زمنية قصيرة للغاية؛ فالأفيال تقتلع وتدمر من الزروع بالقدر الذي تأكله منها؛ والذي يبلغ مئات الأرطال يوميًّا. وفي بعض الأحيان، تقتل الأفيال من يعترض طريقها من البشر.39 وكلما كانت المزارع أقرب من محميات الحياة البرية، زاد احتمال هجوم الحيوانات البرية عليها.
إن ردع الأفيال ليس بالمهمة اليسيرة. فالجدران الحجرية وحواجز الأجمات الشائكة قد توقف الظباء، لكنها لا توقف الأفيال؛ لهذا غالبًا ما يتناوب أفراد العائلات على حراسة المحاصيل ليل نهار. فيتناوب الآباء والأمهات والأطفال محاولين إبعاد الأفيال عن طريق القرع على الأواني والمقالي، وإطلاق الألعاب النارية، ورمي الحجارة، وحتى حرق قرون الفلفل الحار (حيث يُبعِد الدخان الأفيال، مثل غاز مسيل للدموع منزلي الصنع).40 غير أن هذه الأساليب ليست فعَّالة دائمًا؛ لذا يلجأ المزارعون أحيانًا إلى قتل الأفيال انتقامًا. وعندما يُضطر حراس المتنزهات إلى إعدام «الأفيال المزعجة»، غالبًا ما يصير باقي أفراد القطعان أكثر عدوانية تجاه البشر.41 وقد تعلم الصيادون الجائرون الاستفادة من هذا الصراع لصالحهم؛ فقد يجندون المزارعين المستاءين لمساعدتهم في اصطياد الأفيال، أو قد يقرر هؤلاء المزارعون غض الطرف عن تحركات الصيادين الجائرين. وحتى عندما ينجح الردع، فإنه يخلِّف خسائر اجتماعية؛ على سبيل المثال، قد يُمنع الأطفال من الذهاب إلى المدرسة لحراسة المحاصيل.42
من وجهة نظر الأفيال، يلعب المزارعون الدور الأساسي في مشكلة من صنع البشر؛ وهي التعدي على أراضي الأفيال التقليدية ومسارات هجرتها. بعد حظر تجارة العاج، بدأت أعداد الأفيال تتعافى ببطء. لكن حين بدأت المستوطنات والمزارع البشرية تتوسع، تقلصت المساحات التي يعيش فيها ما تبقى من الأفيال في جميع أنحاء آسيا وأفريقيا.43 ولما ظلت موائل الأفيال تتقلص، أُجبرت على الاحتكاك أكثر بالبشر، مما أدى إلى احتدام الصراع بينهما.44
في محاولة لفض الصراع بين المزارعين والأفيال، جرَّب دعاة الحفاظ على البيئة والعلماء مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات لم تؤتِ الثمار المرجوة منها. فالأفيال تخترق الأسوار الكهربائية بسهولة نسبية؛ والمزارعون لا يرتضون بالتعويض المالي عن خسائرهم.45 ولا يؤتي استخدام تسجيلات لأصوات تهديدية مثل زئير القطط البرية وصيحات البشر ونداءات قطعان أخرى من الأفيال أي نفع إلا على المدى القصير؛ فالأفيال سرعان ما تتعلم تجاهل هذه الأصوات، كما أن تلك الأنظمة غالبًا ما تكون مكلفة جدًّا بالنسبة إلى المزارعين ولا يستطيعون اقتناءها.46 تساءلت لوسي إذا كانت ثمة أساليب أخرى أقل عنفًا لإبعاد الأفيال عن حقول المزارعين. نشأت لوسي كينج في أفريقيا، ثم التحقت بجامعة أكسفورد لدراسة سلوك الحيوانات، ثم عادت إلى موطنها لتأسيس برنامج «التعايش بين البشر والأفيال». كان هدفها هو ابتكار طرق صديقة للبيئة لتهدئة الصراعات بين المزارعين والأفيال. ولم تكن هذه بالمهمة السهلة.
استلهمت لوسي فكرة برنامجها من معلومة تلقَّتها من مربي النحل وصائدي العسل من شعب الماساي. تفيد معارفهم التقليدية بأن الأفيال تخاف النحل، ويروي أفراد الماساي قصصًا على لسان شهود عيان عن مطاردة النحل للأفيال لأميال عديدة.47 من المعروف عن نحل العسل الأفريقي (أبيس ميليفيرا سكيوتيلاتا) أنه أكثر عدوانية من نظيره الأوروبي؛ فهو يستجيب للتهديدات على نحو أسرع، ويرسِل ثلاثة إلى أربعة أضعاف عدد النحل للهجوم على المتطفلين، ويطاردهم بعيدًا عن الخلية لمسافات أطول بكثير (تصل إلى ميل وفقًا لبعض التقارير).48 ونظرًا لطبيعة هذا النحل العدوانية وسرعته الهجومية، صرع رجالًا بالغين بمئات اللدغات. وأكد الماساي أن النحل يمكن أن يروِّع قطعانًا كاملة من الأفيال. قد يبدو هذا مُستغربًا؛ نظرًا لسماكة جلود الأفيال التي غالبًا ما تجعلها تصمد أمام حيوانات مفترسة تفوق النحل حجمًا بكثير، إلا أن نحل العسل الأفريقي بارع في استهداف مواضع رقيقة من جلد الأفيال في بطونها وجذوعها وآذانها وعيونها. وقال الماساي إن نحل العسل الصغير هو أحد الكائنات الحية القليلة القادرة على ترويع الفيل الأفريقي الضخم.
حين بدأ إيان دوجلاس هاملتون، مرشد لوسي، في استكشاف سلوك الأفيال، وجد أن روايات الماساي صحيحة. ففي إحدى تجاربه، علَّق خلايا نحل خاوية على أشجار السنط؛ وبعد شهر، كانت الأفيال قد جردت أكثر من ٩٠ بالمائة من الأشجار المحيطة من أوراقها. لكنها لم تمسَّ الأشجار التي تحتوي على خلايا النحل الحية، بينما تعرضت الأشجار التي عُلِّقت فيها خلايا نحل خاوية لأضرار أقل من الأشجار التي خلت تمامًا من النحل. وخلص من ذلك إلى أن الأفيال تخشى من نحل العسل إلى حد أنها تتجنب التغذية على أشجار السنط، التي تُعد أحد مصادرها المفضلة للغذاء، إذا كانت تحوي خلية نحل. اقترح دوجلاس هاملتون بعد ذلك اقتراحًا مثيرًا للجدل؛ بدلًا من الأسوار الباهظة التكلفة، يمكن للمزارعين إنشاء «أسوار من نحل العسل»، بوضع خلاياه في مواضع منتقاة بدقة لإبعاد الأفيال.49
لاختبار تلك الفرضية، بدأت لوسي عملها بإجراء تجارب بسيطة؛ فكانت تشغل تسجيلات لأصوات خلايا نحل مضطربة عبر مكبرات صوت لترى كيف ستستجيب لها الأفيال.50 تراجعت الأفيال، وهي تهز رءوسها وتنفض أجسادها؛ وهذا سلوك انفعالي من الواضح أن الهدف منه حماية أنفسها من لدغات النحل. اختبرت لوسي أصواتًا أخرى باعتبارها مجموعة ضبط، لكن الأفيال تجاهلتها. كانت أصوات النحل هي السبيل الوحيد لإبعاد الأفيال، حتى في غياب النحل نفسه.51
أثبتت لوسي أن أسوار النحل الصوتية وسيلة ناجحة لردع الأفيال. لكن استخدامها في المزارع الصغيرة كان تحديًّا صعبًا. فالمعدات الإلكترونية اللازمة لذلك باهظة الثمن ويصعب على أغلب صغار المزارعين في أفريقيا اقتناؤها. ومن ثَم كانت الخطوة التالية للوسي هي بناء أسوار من نحل العسل الحي. اختارت لوسي مزرعة على هضبة لايكيبيا، شمال شرق الأخدود الأفريقي العظيم، لبناء أول «سور حماية» حي. كانت المزرعة الصغيرة التي تقع على مساحة فدانَين تتعرض لغارات متكررة من الأفيال. بعد أن وضعت لوسي سياجًا طوله ١٠٠ قدم مكونًا من تسع خلايا متصلة على جانبين من جوانب المزرعة، تراجعت الأفيال، بينما استمرت غاراتها على مزرعة أخرى قريبة.52 وقد شجعها ذلك على توسيع نطاق تجربتها، فسيجت سبع عشرة مزرعة بسياجات من نحل العسل، وتركت سبع عشرة مزرعة أخرى محمية بحواجز من الشجيرات الشوكية فقط. على مدى سنتين، لم تُخترَق أسوار النحل إلا مرتين (بواسطة ذكر فيل عنيد)، بينما كانت الأفيال تخترق حواجز الشجيرات الشوكية بسهولة وبصفة متكررة. وهكذا نجحت طريقة أسوار نحل العسل البسيطة. كما فرح المزارعون بالمائتين وخمسين رطلًا من العسل التي حصدوها، والتي غطت أرباح بيعها تكلفة الأسوار وزيادة.53
بعد ذلك، تعاون فريق لوسي مع الهيئة الكينية لإدارة الحياة البرية لاختبار أسوار خلايا النحل في واحدة من المناطق التي وصل فيها الصراع بين الأفيال والبشر إلى أوجه، بالقرب من متنزه شرق تسافو الوطني.54 وجاءت النتائج ناجحة إلى حد أن المزارعين المجاورين بدءُوا يطلبون خلايا النحل، وهو ما مكَّنهم من زراعة أنواع جديدة من المحاصيل التي يلقحها النحل ولا تستسيغها الأفيال (مثل دوار الشمس).55 ومنذ ذلك الحين، أثبتت أسوار خلايا النحل فاعليتها في ردع هجمات الأفيال على المزارع في سبع عشرة دولة، بداية من الجابون وموزمبيق، وصولًا إلى الهند وتايلاند، رغم أنه في بعض الحالات تبين أن الأفيال تتأقلم على وجود الخلايا بمرور الوقت.56 من المرجح أن يكون الجمع بين تكييف المحاصيل على مدى زمني أطول وإقامة أسوار خلايا النحل الحل الأكثر فاعلية على المدى البعيد، وهو التصور الذي وضعته لوسي في البداية.57 ومع انتشار ابتكار لوسي البسيط حول العالم، يحتمل أن يكون حلًّا جذريًّا؛ فهو وسيلة قائمة على الصوتيات الحيوية قد تمكن البشر والأفيال من التعايش السلمي.58

كيف نقول «نحل العسل» بلغة الأفيال؟

أثناء دراسة لوسي كينج لأسوار نحل العسل التي ابتكرتها، لاحظت شيئًا غريبًا في سلوك الأفيال. كانت الأفيال عند مواجهة النحل (أو حتى مجرد أصواته)، تُصدِر أصوات «هدير» مميزة وغير معهودة، تختلف تمامًا عن استجاباتها الصوتية لتسجيلات الضوضاء البيضاء. وسرعان ما كان أقرباؤها ينضمون إليها، وكان بعضهم يأتي من مسافات طويلة لنجدة أقربائها المستغيثين. فما الذي قالته الأفيال المستغيثة، وكيف عرف باقي القطيع ما قالته؟

كانت لوسي تعرف أن الأفيال دائمًا ما تتكلم بأصوات دون سمعية ذات ترددات أدنى بكثير من نطاق السمع البشري العادي.59 وكما أوضحتُ في موضع سابق من هذا الفصل، يمكن أن تنتقل هذه الأصوات لمسافات طويلة، وتوجد أدلة على أن كل فيل له بصمة صوتية فريدة؛ وهذه الملاحظة ساعدت العلماء على فهم كيفية تنسيق الأفيال لأنماط تنقلاتها حتى حين تفصل بينها أميال.60 كما تستطيع الأفيال استخدام الاهتزازات الزلزالية لتحديد مصادر المياه الواقعة على بعد مسافات طويلة.61
للتعرف على الوسيلة التي تتواصل بها الأفيال، والحديث الذي يدور بينها، تعاونت لوسي كينج مع جوزيف سولتس، عالم الصوتيات الحيوية في متنزه أنيمال كينجدم للحيوانات بمدينة ديزني. أمضى سولتس سنوات في دراسة التواصل الصوتي للأفيال، واستكشف كيف تعكس التباينات الدقيقة في أصوات الأفيال المتواصلة هوياتها الفردية والحالة العاطفية لصاحب النداء، والتفاعلات الاجتماعية أثناء انخراط الأفيال في سلوكيات المجاوبة الصوتية (النداء والاستجابة).62 صمم جوزيف ولوسي سلسلة من التجارب لاختبار استجابات الأفيال لتسجيلات كل من أصوات نحل العسل وأصوات بشرية. وأدت هذه التجارب إلى اكتشاف مذهل؛ وهو أن نداءات الأفيال التحذيرية من البشر تختلف عن نداءاتها التحذيرية من نحل العسل.63 علاوة على ذلك، لا تتجمع الأفيال وتتراجع بسرعة إلا عندما تتعرض للترويع من نحل العسل. وتتفرق استجابة لنداءات تحذيرية أخرى. لا تزال لوسي غير متيقنة من السبب الذي يدفع الأفيال إلى هذا السلوك، لكن فرضيتها الأولية هي أن تجمعها معًا يقلل احتمال تكالب النحل بلدغاته على فيل واحد؛ تبدو استراتيجية التكاتف منطقية عند مواجهة حشد من النحل الغاضب، لكن التفرق يعد استراتيجية أنسب عند مواجهة الصيادين البشريين.
هل كانت أصوات الهدير المميزة تلك إشارة من نوع ما تستخدمها الأفيال للدلالة على وجود نحل العسل؟ أعاد جوزيف ولوسي تشغيل تسجيلات لهذه الأصوات الهادرة المميزة لجماعات من الأفيال؛ فكانت استجاباتها لها مماثلة (هز الرأس والتراجع السريع لمسافات بعيدة) حتى في غياب النحل أو أصواته. كان للوسي استنتاج دقيق من ذلك، إذ قالت: «يشير هذا إلى أن أصوات الهدير تلك قد تكون بمنزلة إشارات مرجعية، حيث ينبه تحول [محدد] في تردد الصوت الأفيال القريبة … إلى خطر وجود النحل.» وتوصلت لوسي إلى اكتشاف محوري، وهو أن الأفيال لديها «كلمة» محددة تعبر عن «نحل العسل».64
لاختبار فرضية أن الأفيال تستخدم نداءات تحذيرية تختلف باختلاف التهديدات، أجرى جوزيف ولوسي تجربة جديدة تقوم على الصوتيات الحيوية. فسجلا أصوات رجال بالغين من قبيلة سامبورو، وهم رعاة في شمال كينيا يرتحلون بانتظام وسط الأفيال الأفريقية، ويتنافسون معها أحيانًا على موارد مثل ينابيع المياه. ثم أسمعا تلك الأصوات للأفيال، فكانت النتيجة أن سلكت سلوكها المعتاد تجاهها من تحفز وهروب وإصدار أصوات. لكن أصوات الهدير التي أصدرتها الأفيال استجابة لتلك الأصوات كانت مختلفة عن تلك التي تصدرها استجابة لوجود نحل العسل؛ فعندما حلل سولتس التسجيلات، وجد تباينات واضحة بين أنماط «هدير التحذير من السامبورو» و«هدير التحذير من النحل» (الذي كانت ذروة تردده عند مستوى حدة أعلى). عندما أعاد الفريق تشغيل النداءات التحذيرية من السامبورو للأفيال، ابتعدت دون أن تقدم على سلوك هز الرأس الذي تستثيره نداءات التحذير من النحل. بعبارة أبسط، عندما أطلقت الأفيال نداءاتها التحذيرية، ميزت بين نوعين من التهديدات، وعكست نداءاتها المستوى النسبي للخطر.65 وهكذا وثَّق جوزيف ولوسي إشارتين مرجعيتين تستخدمهما الأفيال: إشارة دالة على وجود نحل العسل وأخرى دالة على البشر. ومضت لوسي لتبين أن الأفيال قد ميزت بين أنواع مختلفة من البشر (وهذا أمر لا تنفرد به الأفيال؛ فمن المعروف أن بعض الأنواع البرية الأخرى مثل طيور العقعق تميز بين البشر المألوفين وغير المألوفين).66 في تجربة مشابهة، أسمعت عالمة الأحياء المتخصصة في الأفيال كارين مكومب أفيالًا في حديقة أمبوسيلي الوطنية في كينيا تسجيلات لأصوات بشرية؛ فتراجعت الأفيال بسرعة عند تشغيل تسجيلات للصيادين الرجال من قبيلة الماساي، لكنها لم تضطرب نسبيًّا عند سماع تسجيلات لنساء وأطفال الماساي، أو رجال من شعب الكامبا (مجموعة عرقية أخرى لا تصطاد الأفيال). تقدم أبحاث كارين مكومب أدلة إضافية على أن الأفيال تتعرف لا على العرق فقط، بل أيضًا على الجنس والعمر من إشارات صوتية في أصوات البشر.67
سبق أن وثَّق الباحثون قدرة الأفيال على التمييز بين نداءات التحذير المألوفة وغير المألوفة التي تصدرها الأفيال الأخرى، التي يعرف عنها أنها تتمتع بشبكات تعرُّف على الأصوات واسعة النطاق.68 تكهن العلماء بأن هذه النداءات كان لها دور أساسي في الأنظمة الاجتماعية المعقدة للأفيال؛ ومن ثَم حملت معلومات عن الأفيال فرادى أو عن جماعات عائلاتها.69 غير أن لوسي كينج وجوزيف سولتس وثَّقا إشارات صوتية محددة أشارت إلى مخلوقات أخرى غير الأفيال؛ وهو ما يُعد اكتشافًا محوريًّا. علاوة على ذلك، فقد أثبتا أن هذه الأصوات تؤدي وظيفة الكلمات لدينا (مع أن العلماء يفضلون تسميتها «إشارات مرجعية»؛ إذ ترتبط لفظة «كلمات» باللغة البشرية دون غيرها).
يستكشف باحثو الأفيال الآن كيفية دمج هذه المعرفة الجديدة في أنظمة الإنذار المبكر والرصد. هل يمكن للأفيال أن تتعلم إشارات جديدة؟ هل يمكننا أن نعلِّمها «كلمات» محددة دالة على التهديدات لإبعادها عن مواطن الأذى؟ يوجد بعض الأدلة على أن الأفيال تستطيع تعلُّم الأصوات من البشر. كانت ملايكا، وهي أنثى فيل يتيمة شبه أسيرة في كينيا تعيش بالقرب من طريق نيروبي-مومباسا السريع، تصدر أصواتًا تشبه أصوات الشاحنات عند غروب الشمس، وهو أفضل وقت ينتقل فيه الصوت المنخفض التردد عبر غابات السافانا الأفريقية.70 في حالة أخرى، تعلم ذكر فيل أفريقي نشأ مع فيلين آسيويين في حديقة حيوان بازل بسويسرا تقليد الأصوات العالية والمكررة التي يصدرها رفيقاه؛ وهي أصوات لا تصدرها الأفيال الأفريقية عادة.71 هذان مثالان على التعلم الصوتي المعقد؛ أي القدرة على تعلم الأصوات المسموعة في البيئة المحيطة وإعادة إنتاجها، لا الاكتفاء بمخزون الأصوات الفطرية الذي تولد به.72
إذا كانت الأفيال قادرة على أن تتعلم تقليد ضوضاء السيارات وأصوات الأنواع الأخرى، فربما يمكنها أيضًا أن تتعلم كيفية تفسير أصوات تصدها عن دخول حقول المزارعين. ويعكف العلماء الآن على اختبار إشارات محددة لاستخدامها في تحذير الأفيال من أنواع مختلفة وإبعادها عن المخاطر. يثير هذا مجموعة معقدة من التساؤلات المتخصصة، بشأن استخدام التحليل التلقائي للبيانات الصوتية أم البصرية (أم كليهما)، وكيفية تنقية أصوات الأفيال من ضوضاء الخلفية (على سبيل المثال، يمكن أن تتداخل أصوات محركات الشاحنات مع الإشارات المنخفضة التردد التي تتواصل بها الأفيال عبر مسافات طويلة)؛ وكيفية تنسيق هذه الأنظمة الرقمية مع أنظمة اكتشاف حوادث الصيد الجائر الرقمية المعقدة المستخدمة حاليًّا على نطاق واسع في المحميات.73 على سبيل المثال، عند تفعيل نظام «تاسكر أليرت» الذي طُوِّر في سريلانكا، فإنه يطلق أضواءً تحذيرية ويُصدِر أصوات نحل صناعية، كما يُخطِر إدارة الحياة البرية وموظفي السكك الحديدية ومراكز الشرطة عبر الرسائل القصيرة وتطبيق على الهاتف المحمول.74 يعتمد نظام «تاسكر أليرت» على الصوتيات وعلى تقنية الرؤية الحاسوبية؛ وهي خوارزمية ذكاء اصطناعي مصممة للتعرف على الأفيال من الصور؛ ومن ثَم تقليل الإنذارات الكاذبة. في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية التي تتعايش فيها الأفيال مع البشر، قد تعزز هذه الأنواع من الأنظمة — التي تتجاوز نسبة دقة بعضها في التعرف على الأفيال في التجارب الميدانية ٩٥ في المائة — من التقبل الجماهيري لوجود الأفيال وتجولها بحرية بين البشر.75
يختبر الباحثون الجمع بين أنظمة الإنذار المبكر الصوتية والمرئية واستخدام الليزر أو الطائرات المُسيَّرة أو فيرومونات نحل العسل لردع الأفيال.76 لكن معظم الباحثين يتفقون على أن تكييف المحاصيل المحلية وتدريب المزارعين المحليين على أساليب من شأنها أن تخفف الصراع بينهما هما وسيلتان لا تقلان أهمية عما سبق. يمكن أيضًا إعادة تطبيق الممارسات الزراعية التقليدية من زراعة الكفاف المتنقلة للمحاصيل المنخفضة الكثافة، التي تترك للأفيال مناطق زراعية داخل الغابات بعد موسم الحصاد يمكنها الوصول إليها والرعي بها؛ مما يحد من الصراع المباشر.77 إذا استطاع البشر والأفيال إيجاد وسائل لزيادة التعايش السلمي بينهما، فمن شأن ذلك أن يزيد من احتمالات نجاح الأدوات الرقمية للحفاظ على البيئة. ومع استمرار علم الصوتيات الرقمي في مساعدتنا على تفسير الإشارات المحددة التي تصدرها الحيوانات، يمكننا تحويل هذه الإشارات إلى أنظمة ردع رقمية.

هل نترجم لغة الأفيال؟

تعتمد أنظمة الردع الصوتي الرقمية المستخدمة حاليًّا في الغالب على بث أصوات عشوائية لردع حيوانات مثل الأفيال من خلال ترويعها. ولكن ماذا ستفعل أجهزة المستقبل؟ تأمل قدرات الترجمة الهائلة التي يتيحها لك هاتفك الذكي، الذي يمكنه الترجمة فوريًّا بين مئات اللغات. هل يمكن أن يبتكر أحد آلة ترجمة مشابهة للغة الأفيال يومًا ما؟

بعد أن قضت جويس بوول وزملاؤها أربعين عامًا في دراسة الأفيال، وضعوا مؤخرًا أول معجم رقمي للغة الأفيال في العالم: «معجم سلوك الأفيال». معجم السلوك الحيواني أو الإيثوجرام هو قائمة بالسلوكيات الفريدة — الأصوات في حالة الأفيال — لكل نوع، والتي تكون لها دلالات متمايزة لدى أفراده. بتوثيق لغة الأفيال وحفظها من خلال مشروع «أصوات الأفيال» التعاوني، تأمل جويس بوول وغيرها من علماء الأفيال في زيادة الوعي الجماهيري بالأفيال، ودراسة إدراكها وتواصلها وسلوكها الاجتماعي.78
تُعد قاعدة البيانات التي أنشأتها جويس أداة أحادية الاتجاه؛ إذ يمكن لمستخدميها مشاهدة سلوكيات الأفيال ونداءاتها المختلفة. أنشأت مجموعة أخرى من دعاة الحفاظ على البيئة تطبيق «هالو إن إليفانت»، وهو تطبيق على الهاتف الذكي يترجم النصوص والتعبيرات والعبارات البشرية إلى لغة الأفيال. ويقول مطورو التطبيق إنه يهدف إلى «تمكين الناس من ترجمة الكلمات والمشاعر البشرية البسيطة إلى نداءات للأفيال تعبر عن مشاعر أو مقاصد مشابهة».79 هذه المبادرات ذات طبيعة تصنيفية أكثر منها تفسيرية؛ فهي بمنزلة معجم وليست قاموسًا رقميًّا حقيقيًّا. فتطوير قاموس رقمي يستلزم معرفة المزيد عن البيولوجيا العصبية للأفيال وسلوكها وإدراكها المعرفي وبيئتها وحتى منظورها الجمالي؛ أي سنحتاج إلى أن نتعلم رؤية الحياة من منظور الأفيال.80 ربما ستتطور الابتكارات المشابهة يومًا ما إلى أجهزة اتصال ثنائية الاتجاه؛ ونأمل في المستقبل القريب، أن تمكننا من تغذية أدوات الردع الصوتية بإشارات أعقد، ومن ثَم أكفأ.

بالنظر إلى ما سبق، يبدو استخدام الأفيال للتواصل دون السمعي أمرًا بدهيًّا. وإلا فكيف لهذا النوع الاجتماعي للغاية أن ينسق سلوكه عبر مساحات شاسعة من الغابات وسهول السافانا؟ غير أن اكتشافات كيتي باين نزلت كصاعقة مدوية؛ إذ كشفت عن تحيز بشري عميق في فهمنا العلمي للعالم. فنظرًا لأن بعض الحيوانات لا تصدر أصواتًا يمكننا سماعها، افترض العلماء ببساطة أنها بكماء. ولغياب الأدلة على استخدامها الصوت لنقل معلومات معقدة، افترض العلماء أنها لا تتواصل. صحيح أن التكنولوجيا الرقمية ساعدت في رأب الفجوة التقنية؛ لكن القفزة الحقيقية كانت قفزة معرفية؛ إذ تعلمنا أن ننحي تحيزاتنا جانبًا.

أما القفزة المعرفية الكبرى فهي توسيع نطاق هذه الرؤية لتشمل باقي عالم الأحياء. فنظرًا لكبر حجم أدمغة الحيوانات الضخمة الجذابة، يسهل علينا نسبيًّا قبول فكرة أنها قادرة على استخدام التواصل الصوتي لنقل معلومات معقدة. ولكن التحدي الأصعب يكمن في الاعتقاد بأن الأنواع ذات الأدمغة الأصغر، أو ربما التي لا تملك أدمغة، قد تكون قادرة أيضًا على الاستماع والتواصل. وكما سنستكشف في الفصول التالية، فإن رؤى العلماء عن الحيتان والأفيال وضعت المجتمع العلمي على مسار جديد؛ وهو استخدام علم الصوتيات الحيوية لفك شفرة التواصل غير البشري عبر جميع مستويات شجرة الحياة. لقد بدأ العلماء يعرفون بوجود مجموعة ضخمة من الأنواع قادرة على الاستماع إلى الأصوات وإصدارها بطرق بدأنا بالكاد في فهمها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤