الفصل الخامس

تهويدة الشِّعاب المرجانية

يسمم التغير المناخي المحيطات ببطء. فمع ارتفاع درجة حرارة البحار، تقل نسب الأكسجين في مياهها، مما يجعل الحياة فيها تختنق. ومع زيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، يتفاعل مع مياه البحار لينتج حمض الكربونيك. وهذا بدوره يزيد من حموضة مياه المحيطات، التي ارتفعت بنحو ٣٠ في المائة عمَّا كانت عليه قبل الثورة الصناعية.1 يمكن اعتبار التغير المناخي جهازًا لكربنة الماء يعمل على مستوى الكوكب، فيؤدي إلى ارتفاع متزايد في نسب ثاني أكسيد الكربون في مياه المحيطات. بعض النباتات البحرية، مثل طحلب الكيلب، قد تنمو أسرع مع تزايد نسب الكربون، لكن بعض الأشكال الأخرى للحياة البحرية الأكثر هشاشة، مثل المرجان، لا تزدهر في تلك الظروف. وعلى أفضل تقدير، يؤدي ارتفاع نسبة الحموضة إلى تشويه الشعاب المرجانية؛ فالمياه الحمضية تحوي نسبًا أقل من كربونات الكالسيوم الذي يحتاجه المرجان لبناء هيكله، وينمو الناجي منه في صورة تجمعات مشوهة.2 لكن كثيرًا من أنواع المرجان لا تصمد.3
لتحمض المحيطات تأثيرات خفية وتدريجية على الشعاب المرجانية، وغالبًا ما لا تكون معروفة على نطاق واسع مثل حرائق الغابات الهائلة وارتفاع مستوى سطح البحر. ولكن عواقبها لا تقل عنهما خطورة. تتناقص غالبية الشعاب المرجانية على كوكبنا بسرعة بسبب التأثير المزدوج لارتفاع درجة حرارة المحيطات وتحمضها. ويتوقع العلماء، حال استمرار الاحتباس الحراري العالمي على وتيرته الحالية، أن تختفي الشعاب المرجانية تمامًا من المحيطات في غضون ثلاثين عامًا، مما يهدد سبل عيش أكثر من مليار شخص يعتمدون عليها في الغذاء والأدوية وحماية السواحل.4
ينذر اختفاء الشعاب المرجانية بهلاك كثير من الأنواع الأخرى. فالشعاب المرجانية بالنسبة إلى البحار كالغابات المطيرة لليابسة؛ فرغم أنها لا تشغل إلا أقل من عشرة في المائة من قاع المحيط، فإنها تدعم ثلث إجمالي الأنواع المعروفة التي تعيش في المحيطات.5 وأكثر أنواع المرجان عرضة لتأثيرات التغير المناخي — وهو المرجان المتشعب الذي يشبه الأشجار — يوفر للأسماك مساحة للسباحة والصيد وتنشئة صغارها والاختباء من المفترسات. أما باقي الأنواع الأخرى الناجية الأكثر تحمُّلًا فتكون أقل ظهورًا للعيان وتتخذ شكل القبة؛ ومن ثَم فهي أقل ملاءمة لإيواء الأسماك وأشكال الحياة البحرية الأخرى.6

يصعب تخيُّل حجم هذا الدمار، إلا بالتشبيه. فلو كان التغير المناخي يؤثر على مدينة نيويورك بقدر تأثيره على الشعاب المرجانية في المحيطات، لتسببت موجات الحر القياسية بمقتل الملايين من سكانها، ولساد الصمت المخيف شوارعها. ستنهار مباني المدينة ويكسوها العفن السام، ولن تتوافر مواد بناء جديدة لإعادة إعمارها. وسيكون من المتوقع أن يقضي الدمار على المدينة بأكملها بحلول عام ٢٠٥٠. هذا هو المصير الذي ينتظر الشعاب المرجانية في عالم يزداد احترارًا؛ مدن أشباح صامتة في أعماق البحار.

الموت بيد التغير المناخي

كان تيم جوردن لا يزال طالب دراسات عليا عندما شهِد حالات نفوق جماعي للشعاب المرجانية بأم عينه. وكان يعتزم في الأصل دراسة تأثير القوارب البحرية التي يستخدمها السائحون على الأسماك عبر الحيد المرجاني العظيم في أستراليا. يغطي الحيد المرجاني العظيم أكثر من ١٣٠ ألف ميل مربع، وهو ضخم إلى حد أنه يُرى من الفضاء، ويعد موطنًا لألف وخمسمائة نوع من الأسماك، ومائتي نوع من الطيور، وثلاثين نوعًا من الحيتان والدلافين، وهو أكبر منطقة تكاثر للسلاحف في العالم. إنه أكبر هيكل مرجاني في العالم على الإطلاق. ونظرًا لأن الشعاب المرجانية تتكاثر لاجنسيًّا عن طريق الاستنساخ، فهي أيضًا أحد أقدم الكائنات الحية على هذا الكوكب.

تحكي مجتمعات الشعوب الأصلية التي تسكن الساحل الشمالي لأستراليا عن زمن مضى منذ أكثر من ثلاثمائة جيل، حين كانت مستويات سطح البحر أقل عمَّا هي عليه الآن بنحو ٤٠٠ قدم، وكان أسلافهم يعيشون ويمشون على الأرض التي تغطيها الآن مياه البحر والشعاب المرجانية. تحكي أناشيد الشعوب الأصلية عن نشأة الحيد المرجاني العظيم، في صورة أبيات شعرية تؤرخ للمشاهد الطبيعية تُنشَد وسرديات تحكي عن إيجاد الطريق، وكأنها خرائط مرسومة بالموسيقى. تلك الأناشيد القديمة المعقدة هي تعاليم تضم شروحات الأسلاف، وشعائر طقوسهم، وذاكرتهم الثقافية. تحوي أناشيد الشعوب الأصلية أيضًا التاريخ الاجتماعي البيئي منذ زمن سحيق في صورة معلومات عن المحيط الطبيعي والنباتات والحيوانات، وتعاليم وقوانين وضعها الأسلاف ومتجسدة في «زمن الحُلم» (الزمن الأصلي الذي هو خارج الزمن)، ذلك المنظور الكوني للسكان الأصليين الذي يصفه أمبيلين كوايمولينا الباحث القانوني المنتمي لشعب الباليوكو بأنه «الخلق المستمر لكل ما هو موجود … شبكة العلاقات الأزلية الحركة … التي تقر بأننا مرتبطون بأواصر عائلية مع جميع أشكال الحياة.»7 تحكي أناشيد الشعوب الساحلية القريبة من الحيد المرجاني العظيم عن فيضان مدمر، أعقبه تكون الحيد قبل آلاف السنين. وقد أكد علماء الآثار الغربيون المعلومات الواردة في أناشيد السكان الأصليين، وأرجعوا تاريخ نشأة الحيد إلى فترة الاحترار العالمي في مطلع العصر الهولوسيني، وما نتج عنها من ارتفاع في مستويات سطح البحر.8
على الجانب الشمالي من الحيد المرجاني العظيم، يتلاقى مسار الجولات السياحية مع أناشيد الشعوب الأصلية على جزيرة ليزارد، التي يعرفها شعب الدينجال باسم ديجورا. يقدس الدينجال الجزيرة التي كانت ذات يوم متصلة بالقارة، ويحكون عن نشأتها في زمن الحلم؛ إذ تشكل الجزيرة جسد سمكة راي لاسعة، بينما يشكل الحيد ذيلها. يعتبر شعب الدينجال جزيرة ديجورا مكانًا مقدسًا تقام فيه طقوس الانتساب والاحتفالات. أما السياح فيعتبرون جزيرة ليزارد أحد أبرز مواقع الغوص في العالم، ومقصدًا للبواخر السياحية، ومركزًا للسياحة البيئية، وتتباهي بموقعها المميز المطل على واحدة من أكثر الشعاب المرجانية ذات التنوع الحيوي الواسع في العالم.9
اختار تيم جوردن لدراسته الميدانية موقعًا متاخمًا لساحل الجزيرة، وهو موقع مثالي لدراسة تأثيرات السياحة على المرجان. تنمو حول جزيرة ديجورا واحدة من أعقد المناطق وأكثرها وفرة بالشعاب، وتُئوي عددًا وافرًا من المحاريات والسلاحف والأطوم والأسماك. لكنه ما إن همَّ ببدء العمل الميداني في عام ٢٠١٦ حتى اجتاحت موجة حارة عاتية شمال أستراليا.10
يُقدِم المرجان على ما يشبه الانتحار الجماعي حين يتعرض للإجهاد نتيجة تغيُّر درجات الحرارة في المحيط. المرجان حيوانات دقيقة شفافة رخوية من عائلة قناديل البحر وشقائق البحر، يعتمد الصحيح منها على طحالب تكافلية تعرف باسم زوكسانثيلا، تعيش داخل أنسجته. تمد الطحالب الدقيقة الزاهية الألوان المرجان بالأكسجين وغيره من المغذيات الأساسية؛ وفي المقابل يوفر المرجان للطحالب بيئة آمنة لممارسة البناء الضوئي. وهذه العلاقة التكافلية تمكن المستعمرات المرجانية من الازدهار والتكاثر؛ وتعد العلاقة بين النباتات (الطحالب) والحيوانات (المرجان) علاقة وثيقة للغاية، حتى إن البعض يصف الشعاب المرجانية بأنها «حيوانات نباتية». عند استقرار درجات الحرارة في المحيطات، يمكن أن تعيش المستعمرات المرجانية مئات أو آلاف السنين.11 لكن ارتفاع درجة حرارة المياه يخل بتلك العلاقة التكافلية الحساسة؛ إذ تبدأ الطحالب في إفراز مواد كيميائية تهدد المرجان، الذي يُحمل على لفظ تلك النباتات الملونة المعايشة له. وبدون الطحالب، يفقد المرجان ألوانه ويهزل، في ظاهرة تسمى الابيضاض. وحين يتجرد هيكل المرجان المكون من كربونات الكالسيوم، فإنه يتحول إلى اللون الأبيض المصفر الباهت معلنًا موته.12
حينما ارتفعت درجات حرارة سطح المحيط إلى مستويات غير مسبوقة في عام ٢٠١٦، قضت ظاهرة الابيضاض على أكثر من نصف المرجان الذي يعيش في المياه الضحلة على الجانب الشمالي من الحيد المرجاني العظيم. كان الحيد قد تعرض من قبل لأعاصير متعاقبة، ثم جاءت الموجة الحارة فقضت عليه، وتركته شاحبًا هازلًا مُحتضَرًا. وصل جوردن إلى أستراليا فإذا به يشهد احتضار أحد أقدم وأضخم الحيوانات على سطح الأرض. كان الغوص قرب سواحل جزيرة ديجورا مثل «السباحة في مقبرة».13

وحينما جلس أمام البحر المنكوب، حدثته نفسه بالرحيل؛ فثمة مناطق أخرى من العالم تحوي شعابًا مرجانية سليمة يمكنه دراستها. لكن شعورًا مستغربًا بالمسئولية راوده حثه على أن يشهد احتضارها. وفي نهاية المطاف، لم يغير موقع دراسته، بل قرر تغيير موضوع رسالة الدكتوراه؛ سوف يوثق مراحل احتضار الحيد المرجاني العظيم بتسجيل التغيرات التي تطرأ على أصواته؛ إذ بدأت الأسماك تنفق أيضًا بنفوق المرجان.

اعتمد جوردن في صياغته لموضوع بحثه الجديد على التراث البحثي العريق في مجال علم الصوتيات الحيوية للأسماك، الذي تأسسس بفضل جهود رواد ذلك المجال، وكان ويليام تافولجا أحدهم، في منتصف القرن العشرين. بدأ تافولجا مسيرته المهنية بالعمل في حديقة مارينلاند بولاية فلوريدا، التي كان تجذب ألف زائر سنويًّا كانوا يرتادونها لمشاهدة عروض الدولفين التي يقدمها أدولف فرون أول مدرب للدلافين في العالم. ورغم الضجة التي أثارتها الدلافين، جذب شيء آخر أقل إبهارًا انتباه تافولجا وزوجته مارجريت المتخصصة في دراسة سلوك الأسماك؛ وهو أسماك الجوبي الصغيرة (باثيجوبيوس سوبوراتور) الموجودة في البرك المتناثرة في أرجاء الحديقة.14 ذات يوم في مطلع الخمسينيات، قابل تافولجا الدكتور تيد بايلور الذي يعمل في معهد وودز هول لعلم المحيطات، الذي جاء إلى الحديقة لتسجيل أصوات الدلافين. توقفا ليشاهدا بعض أسماك الجوبي، فلاحظا أن الذكور تغير ألوانها بسرعة وبشدة أثناء محاولاتها للتودد إلى الإناث. تساءل بايلور عرَضًا عما إذا كانت أسماك الجوبي تصدر أصواتًا. كان سؤاله غير تقليدي؛ إذ كان الاعتقاد العلمي السائد حينئذٍ أن الأسماك لا تصدر أصواتًا.15 لطالما راودت تافولجا أسئلة مشابهة، وسمع قصصًا عن أنواع معينة من الأسماك (مثل سمك النَّعَّاب أو الشماهي) يصدر أصواتًا أثناء السَّرْء (وضع البيض)، وسمع أيضًا عن سمكة السلور التي دربها العالم الحائز على جائزة نوبل كارل فون فريش على الاستجابة لصفيره.16 لكن لما كان الاعتقاد السائد في المجتمع العلمي أن الأسماك لا تستطيع إصدار الصوت أو سماعه، استحال إقناع ممولي الدراسة بتحمُّل تكلفة معدات التسجيل.17
نظر تافولجا إلى معدات التسجيل التي بحوزة بايلور، وكان معه ميكروفون ومكبر صوت، ومُضَخِّم صوت قديم مستعمل من ماركة ويليامسون، ولم يكن أي من هذه المعدات مضادًّا للماء. لذا وضع تافولجا الميكروفون داخل واقٍ ذكري ووضعه بالقرب من بيت ذكر سمكة جوبي (وكان عبارة عن قوقعة حلزون فارغة) داخل حوض ليس فيه إناث.18 حينما وضع الرجلان أنثى جوبي في الحوض، سمعا همهمات خافتة؛ كانت نبضات صوتية تزامنت بدقة مع هزات رأس الذكر. كانت رقصة التزاوج التي أداها ذلك الجوبي واحدة من أولى المرات التي سجل فيها العلماء الغربيون أصوات الأسماك. وأدرك تافولجا لاحقًا أن الحظ قد حالفه في اختياره للتوقيت؛ فذكور أسماك الجوبي لا تصدر أصواتًا إلا أثناء محاولتها جذب الإناث للتزاوج.19
سرعان ما شجعت دراسة تافولجا علماء أحياء آخرين متخصصين في الأسماك على إجراء دراسات مشابهة. وأدهشتهم النتائج؛ فقد سمعوا فرقعة الروبيان، وطقطقات الدلافين، وأسماكًا تغني عن طريق حك أسنانها أو هزهزة مثانتها، فتصدر أصواتًا يمكن سماعها من بُعد أميال.20 وهكذا تبين أن الكائنات البحرية ثرثارة، وأن باستطاعتها إصدار وسماع نطاق واسع من الأصوات، غالبًا ما يقع دون نطاق السمع البشري بكثير. في العقود التالية، ازدهرت الدراسات العلمية لأصوات الكائنات البحرية وتواصلها الصوتي، لكنها ظلت نشاطًا محصورًا على فئة شديدة التخصص؛ إذ كان الباحثون الأكثر عزمًا ومثابرة هم فقط من كان لديهم الاستعداد لحمل معداتهم التناظرية الضخمة إلى مناطق هادئة بما يكفي لجمع تسجيلات مفيدة. لكن خلال السنوات التي سبقت دراسات تيم جوردن مباشرة، ظهر جيل جديد من أجهزة التسجيل التلقائي مما سهَّل على الناس الدخول إلى مجال الصوتيات الحيوية بتكاليف زهيدة. فبتكلفة قليلة نسبيًّا، استطاع جوردن استخدام تلك الأجهزة لرصد مناطق أوسع بكثير مما تتيحه التقنيات التناظرية التقليدية، وبتدخلات أقل.21
عرف جوردن أن الشعاب المرجانية السليمة تزخر بالأصوات؛ إذ تتكشف الموجات الصوتية مثل أوركسترا تحت الماء أو فرقة جاز ترتجل بلا نهاية.22 فعند الحيد المرجاني العظيم، تغني الحيتان الحدباء اللحن الرئيسي أو السوبرانو.23 أما الأسماك فهي الجوقة؛ فهناك أسماك المهرج الناعقة، وأسماك القد الناخرة، وأسماك الببغاء الصارة.24 وتعزف قنافذ البحر صريرًا ذا صدًى كأبواق التوبا. أما الإيقاع فهو من اختصاص الدلافين الثرثارة والروبيان المطقطق، الذي يستخدم كلَّاباته لصنع فقاعات تنفجر محدثة دويًّا عاليًّا. ويحك الكركند صدفته بقرون استشعاره مثلما يفعل عازفو أداة لوح الغسيل الإيقاعية بأناملهم. أما إيقاع الخلفية فيتولاه المطر والرياح والأمواج.25 وكي تحظى بأفضل مقعد للمشاهدة، عليك أن تحضر الحفل في منتصف ليلة قمرها بدر، حين يكون غناء الأسماك في أوجه عادة.26 لكنك لن تحتاج لحجز مقعد في الصف الأول بالضرورة؛ فغناء جوقات الأسماك يمكن سماعه من مسافة تصل إلى ٥٠ ميلًا، وأصوات الحيتان تتردد لمئات الأميال.27 وهذا أحد الأسباب التي تجعل الشعاب المرجانية واحدة من المشاهد الصوتية تحت سطح البحر الأكثر دراسة؛ فالضوضاء البحرية الوفيرة والمبهجة تزخر بكنز من المعلومات التي يمكن استخلاصها من تحليل الطبقات الصوتية.28
يتيح الرصد الصوتي للشعاب المرجانية مزايا أخرى للعلماء. فترك الميكروفونات في الموائل الحساسة للتسجيل فيها على مدى فترات زمنية طويلة يعد وسيلة للرصد أكثر كفاءة وأقل تدخلًا من الرصد البصري. فالوسائل التقليدية لجمع البيانات عن الشعاب المرجانية تستلزم زيارة غواصين بشريين لمواقعها. وتلك عملية معقدة من الناحية اللوجيستية ومكلفة ومستهلكة للوقت، بالإضافة إلى أن جمع البشر للبيانات قد يتسبب في انحياز استعياني (تحيز في اختيار العينة)؛ فقد يتسبب وجود البشر في اختباء الأسماك أو هروبها. في المقابل، يتيح وضع مسجل رقمي غير ملحوظ في الشعاب المرجانية للعلماء مراقبتها دون الإخلال ببيئتها. فبضع ساعات من التسجيل الصوتي لأحد الشعاب المرجانية كفيلة بتوفير بيانات كافية لتقييم الوظائف الأساسية للنظام البيئي؛ فيمكن للعلماء تفسير التحليلات الطيفية للكشف عن وجود آكلات العشب وآكلات العوالق وتقدير كتلتها الحيوية، بل التمييز بين الأنواع المختلفة من المرجان الذي يسكن الشِّعب. بعض الأحداث — مثل هروب أسراب من الأسماك فجأة من مفترس — يكون لها بصمة صوتية مميزة، وهو ما يتيح للباحثين تتبع الأحداث التي تجري في الشعب عن طريق الصوت.29 ونظرًا لأن الصوت ينتقل تحت الماء بكفاءة أعلى من الضوء ولمسافات أطول، فإن تقنيات الصوتيات الحيوية الرقمية تُعد وسائل فعالة وموثوق فيها وغير اجتياحية للوقوف على تعقيدات العالم تحت الماء.30
يمكن أيضًا لتسجيلات المشاهد الصوتية البحرية أن تكون وسيلة لتقييم صحة الشعاب المرجانية. فالمشهد الصوتي لنظام بيئي متدهور عادة ما تنقصه أصوات توجد في الأنظمة البيئية السليمة، ويبدو التحليل الطيفي لأصواته مثل أحجية صور تنقصها قطع متعددة، أو توجد بها قطع شاذة دخيلة من أحجية أخرى إذا اقتحمه أنواع غازية. ومثلما يقيِّم اختصاصي الأشعة صحتك بالنظر إلى أشعة مقطعية، يستطيع عالم مدرب تقييم صحة شعب مرجاني، أو أي نظام بيئي آخر، بالنظر إلى التحليل الطيفي لأصواته على مدى زمني ممتد.31 فتدهور شعب مرجاني قد يكشف عن نفسه صوتيًّا قبل أن يبدأ تدهوره المرئي الظاهر للعين البشرية.32
يسجِّل العلماء منذ سنوات المشاهد الصوتية للحيد المرجاني العظيم بهدف تقييم التغيرات في التنوع الأحيائي، وكانت توجد بالفعل مجموعة بيانات من تسجيلات المشاهد الصوتية تحت المائية للحيد.33 استنتج جوردن أنه نتيجة لابيضاض الحيد، سيكون المشهد الصوتي فيه متهورًا. ولاختبار هذه الفرضية، أعد مجموعة معدات للرصد الصوتي السلبي لتسجيل أصوات الشعاب المرجانية التي أصابها الابيضاض. وعندما أجرى جوردن مقارنة منهجية بين تسجيلاته والتسجيلات التي التقطت في المواقع نفسها قبل ابيضاض المرجان، وجد انخفاضًا هائلًا في كم الأصوات وتنوعها.34 فمقارنة بالتسجيلات التي التُقطت قبل الابيضاض، كانت الشعاب المرجانية المتدهورة ساكنة لدرجة مخيفة. عادة ما يحاول العلماء التزام الحياد والموضوعية، غير أن القليل منهم يمكنه زيارة شعاب مرجانية محتضَرة ويغادر دون أن يتملكه شعور دفين بالفقد. وقد وثقت تسجيلات جوردن الاحتضار التدريجي لأصوات الشعاب المرجانية.35 ولما حانت النهاية، خمدت الأصوات تمامًا في بعض التسجيلات.

توجيه الأسماك في المسارات المائية

كان جوردن يعرف أنه من غير المرجح أن يتجدد الحيد المرجاني العظيم. فقد كشفت أبحاث سابقة أن الأسماك تتجنب الشعاب المرجانية المحتضَرة والميتة، وحتى يرقات الأسماك لا تحبذ الاستقرار فيها. وأثبت ستيف سيمبسون المشرف على رسالة جوردن أن الصوتيات الحيوية تلعب دورًا مهمًّا في هذا التدهور؛ إذ إن سبب تجنب الأسماك واليرقات للشعاب المرجانية المحتضَرة هو نفورها من أصواتها.

كان الباعث على ذلك الاكتشاف هو فضول ستيف سيمبسون تجاه لغز علمي.36 تنمو يرقات جميع الأسماك التي تعيش في الشعاب المرجانية تقريبًا في البحر خارج الشعاب لعدة أيام قد تمتد إلى أسابيع قبل أن تعود إلى الشعاب و«تستقر» فيها وقد أصبحت أسماكًا يافعة. حتى أواخر التسعينيات من القرن الماضي، كان العلماء ينزعون إلى افتراض أن يرقات الأسماك البحرية كائنات سلبية، تطفو أينما تأخذها التيارات. ولكن هذا الافتراض هدمته تجارب أظهرت أن يرقات الأسماك الصغيرة تختار التحرك في اتجاهات محددة؛ بعبارة أخرى، تختار عن قصد المكان الذي ستستقر فيه وتتخذه موطنًا لها.37 في إحدى الدراسات الميدانية، وسم الباحثون عشرة ملايين يرقة ثم تتبعوا تحركاتها حتى استقرت. وتبين لهم أن اليرقات ليست عاجزة، بل إنها تملك القدرة على الملاحة الدقيقة ومهارة السباحة بكفاءة؛ إذ تقاوم التيارات القوية في طريق عودتها من عُرْض المحيط إلى شعابها المرجانية.38 ولكي يتضح لك عظمة تلك الاكتشافات، فكِّر فيما يلي: عندما تفقس يرقات الأسماك، فإن بعضها لا يتعدى طوله واحدًا على عشرين جزءًا من البوصة. وعندما تستقر، لا يكون طولها قد تخطى البوصة بعد. لا تمتلك اليرقات آذانًا أو أذيالًا أو زعانف. وأظهرت الدراسات المعملية أن يرقات الأسماك البحرية السريعة النمو تصبح نشيطة إلى حد كبير وتجيد السباحة نسبيًّا بعد أسبوع أو أسبوعين من خروجها من بيضها.39 لكن هذا لا يفسر كيف تعرف الاتجاه الذي يجب أن تسافر فيه. تساءل سيمبسون: تُرى هل تتبع اليرقات إشارات صوتية لإيجاد طريقها للعودة إلى مناطق فقسها؟
كان سيمبسون يعلم أن الأصوات تنتقل بكفاءة تحت الماء في أي اتجاه بغض النظر عن اتجاه التيار. وكان يعرف أيضًا أن الشعاب المرجانية السليمة تصنع أصواتًا صاخبة يمكن سماعها على امتداد عدة أميال. في الوقت الذي بدأ فيه بحثه، رفعت البحرية الأمريكية السرية عن سلسلة من التقارير عن أصوات الشعاب المرجانية التي كشفت أن أصواتها يمكن أن تنتقل لمسافة تصل إلى ٥٥ ميلًا في ظروف هادئة.40 وكشفت أيضًا أن شدة أصوات الشعاب تختلف باختلاف الظواهر السماوية؛ فتبلغ ذروتها في الغسق وأثناء الليل، وتتباين حسب أطوار القمر (فتبلغ ذروتها حين يكون القمر هلالًا؛ حين يكون لدى الأسماك الصغيرة فرصة أفضل للاختباء من المفترسين تحت جنح الظلام) وكذلك حسب الدورات الموسمية (فتبلغ ذروتها في نهاية الربيع وفي الصيف).41 انتبه سيمبسون إلى أن هذه الظواهر السماوية تتطابق مع مواقيت دورات الاستقرار لدى أسماك الشعاب. وأظهرت تجارب مبكرة شُغِّلَت فيها تسجيلات للشعاب المرجانية في المختبر أن يرقات الأسماك تستطيع سماع أصوات الشعاب وتبين الاتجاه الذي تصدر منه. لكن هل تلك الاستطاعة كافية لتفسير قدرة الأسماك على التَّرحال عائدة من عُرْض المحيط إلى موطنها الأصلي في ظل ما يقابلها من عواصف وتيارات ورياح وأمواج؟
للإجابة على ذلك السؤال، صمم سيمبسون تجربةً طموحة واسعة النطاق تقوم على تشغيل الأصوات المسجلة.42 فسجل مجموعة من الأصوات في شعب مرجاني في الغسق في فترة غرة القمر في ذروة فصل الصيف (وهو الوقت الذي يكون فيه المشهد الصوتي في أوج جاذبيته بالنسبة ليرقات الأسماك الباحثة عن مأوى). ثم ربط معدات تجربته في مراسٍ مستقرة في القاع الرملي للمحيط المفتوح، بعيدًا عن الشعاب المرجانية. في نصف هذه المراسي وضع فخاخًا ضوئية ومكبرات تصدر أصواتًا مسجلة لشعاب مرجانية وتكررها. أما النصف الآخر من المراسي فلعبت دور المجموعة الضابطة؛ فقد ثبَّت بها أيضًا فخاخًا ضوئية ومكبرات صوت، لكنها لم تصدر أي أصوات. فهل ستختار اليرقات الفخاخ التي يصدر منها أصوات الشعاب المرجانية السليمة؟ أم ستنجذب عشوائيًّا إلى الأضواء (وفي تلك الحالة ستكون أعدادها مماثلة في كلا النوعين من الفخاخ)؟ ظل الباحثون ينشرون الفخاخ كل ليلة لمدة ثلاثة أشهر، جمعوا خلالها أكثر من ثلاثمائة ألف من اللافقاريات وخمسة وأربعين ألفًا من يرقات الأسماك في طور الاستقرار، ثم قارنوا عدد اليرقات التي وجدوها في كلا النوعين من الفخاخ. فوجدوا أن النسبة الأكبر من اليرقات (٦٧ في المائة) انجذبت إلى أصوات الشعاب المرجانية، وكان تنوع اليرقات التي جذبتها أكبر بكثير أيضًا. فقد أحصى الفريق يرقات واحد وثمانين نوعًا مختلفًا من الأسماك في الفخاخ التي بها مكبرات الصوت التي تصدر عنها أصوات الشعاب المرجانية، مما يشير إلى أن كثيرًا من الأنواع لديها القدرة على كشف أصوات الشعاب المرجانية السليمة وتتبعها. بتلك الدراسة، قدَّم سيمبسون دليلًا قاطعًا على أن يرقات الأسماك البحرية تنجذب إلى الشعاب المرجانية بالصوت، مثلما ينجذب العث للضوء.43
في دراسة متابعة، درس سيمبسون الأسماك اليافعة الأكبر عمرًا بقليل من اليرقات. مثلما فعلت اليرقات في الدراسة السابقة، اتبعت الأسماك أصوات الشعاب المرجانية المسجلة إلى مصدرها؛ لكن هذه المرة بيَّن سيمبسون أيضًا أن تفضيلات الأسماك تختلف باختلاف نوعها.44 فقد وجد أن العندقات (الوراطة السوطية الذيل) فضلت الأصوات الصادرة من شعاب البحيرات المالحة؛ أما القعيسيات (أسماك الآنسة أو الدامزل وأسماك المهرج) ففضلت أصوات الشعاب المرجانية الخارجية الهدابية. بينت تجربة سيمبسون أن الأسماك قادرة على تحديد الاتجاه الراغبة في السباحة فيه عن طريق إشارات صوتية. تترجم الأسماك أيضًا أصوات الشعاب المرجانية لتستخلص منها معلومات مهمة عن الموئل، تبني عليها قراراتها في اختيار المكان الذي ترغب في سكناه. (يسمى ذلك بالاصطلاح العلمي «اختيار الموئل الدقيق»).
عندما نُشرَت أوراق سيمبسون البحثية التي تبين أهمية أصوات الشعاب المرجانية الناتجة عن مجتمع الأحياء التي تسكنها بالنسبة إلى أسماك الشعاب في تحديد اتجاهها واختيار موئلها، انقسمت آراء العلماء عنها. فرأى بعضهم أن ذلك مستبعد جدًّا. غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت نتائج سيمبسون واختبرت صحتها على أنواع أخرى. تبين أن الشعاب المرجانية السليمة التي تصدر أكبر عدد من الانبعاثات الصوتية الصادرة من الأسماك والقشريات التي تعيش بداخلها تجذب المزيد من الأسماك والقشريات (بما فيها يرقات سرطان البحر والكركند)، بل المزيد من السلاحف البحرية.45 أظهرت الأبحاث أيضًا أن بعض أنواع اليرقات تسبح «بعيدًا» عن ضوضاء محركات القوارب.46 في الحيز المتاخم للشعاب المرجانية، قد تستجيب يرقات الأسماك وغيرها من الكائنات البحرية لإشارات كيميائية. لكن في عُرْض المحيط، يطغى تأثير الإشارات الصوتية على ما سواها. فكثير من اللافقاريات ويرقات الأسماك لا تنجرف عشوائيًّا إلى أحد الشعاب المرجانية، وإنما تستخدم المعلومات الصوتية لاكتشاف الموائل المناسبة في الشعاب المرجانية والاستقرار فيها (أو تجنب الشعاب التي لا تلائمها)؛ وفي المقابل، تتجنب عوالق القشريات الشعاب المرجانية الزاخرة بالمفترسات، بالسباحة بعيدًا عنها.47
أدهشت تلك الاكتشافات عن يرقات الأسماك المجتمع العلمي. يقول أحد علماء الأحياء البحرية البارزين: «تقريبًا كل الجوانب التي بُحِثَت حتى الآن من سلوك يرقات الأسماك كشفت عن أدلة مدهشة عما تتمتع به من تعقيد وقدرات متنوعة، مما أحدث ثورة في رؤيتنا لإمكانيات يرقات الأسماك.»48 لكن تلك الجِدة المتصورة في الثورات العلمية عادة ما تكون نتاج قصر نظر الرائي. فلو أن العلماء فكروا في سؤال صيادي السمك المحليين، لربما أدركوا ما عميت عنه أنظارهم في وقت أبكر من ذلك بكثير. تحكي الموسيقية وخبيرة علم المعلومات أليس إلدريدج قصة سمعتها من صيادين إندونيسيين في أرخبيل في شمال الحيد المرجاني العظيم؛ فتقول إن الصيادين يُنزِلون أطراف مجاديفهم في المياه ويقربون آذانهم من طرفها الآخر فيتمكنون من سماع المشهد الصوتي الفريد للشعاب المرجانية الصحيحة (الذي تبلغ ذروته ما بين ٤ كيلوهرتز و٦ كيلوهرتز، أي إنه يقع عند الطرف الأدنى من نطاق السمع البشري)؛ إذ تتمازج نداءات وهمهمات الأسماك وطقطقات الكركند فتصنع صوت «فرقعة» يتتبعه الصيادون للعثور على فريستهم.49
في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، نشرت منظمة اليونسكو نسخة مُحررة من مجلد عن معارف الشعوب الأصلية بالأنظمة الساحلية عبر المحيط الهادئ.50 وقد وردت فيه قصة عن جيل سالف من العلماء ممن أمضوا وقتًا يدرسون ممارسات الصيد التقليدية. كان أحد أولئك العلماء بوب يوهانيس الذي قضى عقودًا في أرخبيل بالاو، الواقع في ولايات مايكرونيسيا المتحدة، شمال الحيد المرجاني العظيم. وهناك تعاوَن مع الصيادين المحليين من الشعوب الأصلية الذين وفرت له محاذيرهم المعقدة بشأن بعض ممارسات الصيد نموذجًا لإدارة مصائد الأسماك المستدامة في وقت دمِرت فيه المصائد في جزء كبير من محيطات العالم نتيجة المد الصناعي. أخبره الصيادون البالاونيون أن يرقات أسماك الشعاب تقضي فعلًا عدة أسابيع، قد تمتد إلى شهور، في عُرْض المحيط؛ كانت تلك اليرقات تعيش وهي عوالق دقيقة بعيدًا عن الشعاب المرجانية التي فقست فيها وهو ما توافق مع اعتقاد العلماء الغربيين إلى حد كبير. لكن أخبره الصيادون أن يرقات الأسماك ما إن تبلغ مستوى كافيًا من النمو، تستطيع خمسة أنواع منها على الأقل تمييز الشعاب المرجانية من بُعد أكثر من ميل وتسبح باتجاهها.
لم يدرك الصيادون البالاونيون أن الأسماك قادرة على التنقل عبر المحيطات فحسب، بل استخدموا تلك المعرفة لصالحهم. فاستخدموا العصي والحبال لصنع حضانات صناعية للأسماك عن طريق تعليق أنواع معينة من الطحالب والنباتات في الماء. وبهذا استطاع الصيادون حث اليرقات على التجمع في بقع معينة والاستقرار فيها، ليعودوا فيما بعد ويجمعوها. وفي أماكن أخرى (مثل أرخبيل فانواتو)، كان الصيادون أيضًا يفرضون حظرًا على صيد الأسماك في فترات السرء، التي كانت تمتد أحيانًا عدة أشهر في المرة الواحدة، وذلك لحمايتها من الصيد الجائر وعدم الإخلال بأعدادها. كان الصيادون البالاويون ينسقون ممارسات الصيد مع سلوك اليرقات على نحو تكافلي أثناء فترة السَّرء وبعدها، فكانوا بمنزلة رعاة البحر. بعض مجتمعات الصيادين الأخرى على المحيط الهادئ مثل سكان جزيرة مارشال، يصيغون معرفتهم بأصوات البحر في صورة أغنيات معقدة دمجت طبقات معرفتهم بتيارات المحيط والطقس والحيوانات وأصوات البيئة في أناشيد مقفَّاة كانت في الوقت نفسه بمنزلة ممارسات ثقافية وإرشادات ملاحية دقيقة.51
نشر يوهانيس هذه النتائج عام ١٩٨١، لكن أغلب علماء الأحياء السمكية التقليديين قابلوها بالاعتراض والتجاهل. أشارت مزاعم الصيادين البالاويين إلى أن يرقات أسماك الشعاب المرجانية لديها القدرة على اختيار المكان الذي ستستقر فيه؛ بعبارة أخرى، لديها القدرة على اختيار الشعاب المرجانية التي ستصبح موئلًا لها. لكن هذا بدا مستبعدًا (إن لم يكن مستحيلًا)؛ لذا لم يتحرَّ هذه المزاعم بدقة أكبر إلا قلة من العلماء؛ ورغم حصول يوهانيس على جائزة جوجنهايم تقديرًا لبحثه، فإن ملاحظاته لم تؤكد ببحث مستقل إلا بعد ما يقرب من عشرين عامًا على يد ستيف سيمبسون وزملائه. وحتى ذلك الوقت، كان الاعتقاد السائد بين علماء المصائد السمكية هو أن يرقات أسماك الشعاب المرجانية كائنات غير فاعلة تطفو مع التيار. وهذا افتراض خاطئ، فضلًا عن أنه مضر؛ فقد أدى في بعض الحالات إلى أخطاء جسيمة في نمذجة وفرة أسماك الشعاب المرجانية، ومن ثَم سوء إدارتها.52

جوقة الشعاب المرجانية

حتى عام ٢٠١٠، كان سيمبسون يركز بحثه على الأسماك بصورة أساسية؛ كان سبب تحوله إلى دراسة يرقات المرجان هو رسالة وردت إليه فجأة عبر البريد الإلكتروني من فريق بحث هولندي في جزيرة كوراساو. شرح العلماء في رسالتهم أنهم يدرسون التكاثر الجماعي للمرجان. في الحيد المرجاني العظيم، يحدث التكاثر الجماعي مرة واحدة في السنة أثناء فترة اكتمال القمر؛ وفي تزامن يحصل عن طريق إشارة غير معلومة، تطلق المراجين في جميع أنحاء الشعاب المرجانية بويضاتها وحيواناتها المنوية في الماء في آنٍ واحد. وينتج عن ذلك ما يشبه الألعاب النارية؛ ملايين التجمعات من البيض وغيوم من الحيوانات المنوية تنتشر في المياه بالألوان الأحمر والبرتقالي والأبيض والأصفر.53 ذلك التزامن الوقتي ضروري للغاية؛ لأن البويضات والحيوانات المنوية لا تصمد إلا بضع ساعات؛ من ثَم يرفع التكاثر الجماعي من احتمالية حدوث الإخصاب. لكن ذلك العرض تحت المائي يمثل وليمة ضخمة؛ إذ يجذب إليه الحبار والأسماك والقروش وحتى الحيتان. بعد ذلك ينجرف ما يتبقى من يرقات المرجان المخصبة إلى عرض البحر لعدة أسابيع أو شهور وتنمو بمأمن من المفترسات، قبل أن تعود لتستقر في الشعاب حيث تمضي ما تبقى من حياتها.
قبل أن يتواصل الفريق البحثي الهولندي مع سيمبسون، كان الافتراض السائد لدى أغلب العلماء أن يرقات المرجان تنجرف ببساطة مع التيارات والأمواج بعد السَّرْء الجماعي، حتى تصل دون قصد منها إلى شعب مرجاني ما وتستقر فيه. لكن الباحثين الهولنديين طرحوا سؤالًا: ماذا لو كانت يرقات المرجان تستجيب للصوت مثل يرقات الأسماك؟ ماذا أيضًا لو كان بإمكانها سماع المشهد الصوتي للشعاب المرجانية والملاحة باتجاه شعب بعينه تختاره لتستقر فيه؟ استنكر سيمبسون ذلك، فقال لهم: «أنتم مجانين حتمًا. أعني تلك الكائنات تبدو مثل قطرات لزجة طافية؛ طولها حوالي مليمتر ولها شكل البيضة، وتكسوها خلايا شعرية دقيقة تستخدمها للسباحة والاقتيات.»54 كان سيمبسون يعرف أن يرقات المرجان كائنات بسيطة؛ فهي لا تملك أعضاء سمع ولا دماغًا ولا جهازًا عصبيًّا مركزيًّا. ويبدو أنها لم يكن لديها وسيلة ظاهرة للتعرف على الصوت فضلًا عن الاستجابة له. لكن العلماء الهولنديين طرحوا تجربة مصممة تصميمًا عبقريًّا. كانوا يربون مئات الآلاف من يرقات المرجان في أحواض معدة خصيصى لذلك. يمكن استخدام تلك الأحواض «حجيرات انتقاء»؛ وهي نظير مائي للمتاهة، وضعت فيها سلسلة من الأنابيب مرتبة أفقيًّا حول المنطقة المركزية التي تحوي المرجان. في بعض تلك الأنابيب وضعت مكبرات صوت تصدر أصوات شعاب مرجانية سليمة، وفي بعضها وضعت مكبرات صوت تصدر عنها ضوضاء بيضاء، وفيما تبقى منها وضعت مكبرات لا تصدر أي أصوات. إذا كانت يرقات الشعاب المرجانية الدقيقة تفضل أصواتًا معينة، فسوف تزيد كثافتها في أنابيب معينة دون غيرها داخل حجيرة الانتقاء.
أثارت تجربة الفريق اهتمام سيمبسون فوافق على التعاون معهم رغم تشكُّكه في أنها ستسفر عن أي نتائج ملحوظة. لكن على عكس ما توقع، سبحت يرقات المرجان نحو مكبرات الصوت التي تصدر أصوات الشعاب المرجانية المفضلة لها وتجمعت حولها.55 أدرك الفريق أن نتائجه قد تقابَل بالشك؛ لذا أعادوا التجربة عدة مرات لتأكيد النتائج، مع مراعاة المد والجزر ومراحل القمر وتيارات المحيط. لم يكن من المستغرب إثبات أن الأسماك التي تمتلك حاسة للسمع والرائحة قادرة على اختيار المكان الذي ستستقر فيه، لكن المجتمع العلمي ذُهِل حين ثبت أن يرقات المرجان أيضًا قادرة على ذلك.56
كيف تؤدي يرقات المرجان هذا العمل الرائع؟ استنتج سيمبسون لاحقًا أن اليرقات حتمًا تسمع بواسطة أجسادها. فيرقات المرجان مكسوة بالأهداب، وهي خلايا شعرية دقيقة تؤدي وظيفة نظام استقبال حسي بسيط. مثل غيرها من اللافقاريات البحرية، تعتمد يرقات المرجان على الأهداب في استشعار التيارات المائية وفي تحركاتها، وهي مصادر مهمة تستمد منها معلومات عن البيئة.57 كما أنها وسيلتها للإحساس بالصوت. نحن البشر تغطي آذاننا الداخلية طبقة رقيقة من الخلايا الشعرية؛ تلك الشعيرات تهتز استجابة للصوت، الذي يتضخم عبر الغشاء الطبلي أو طبلة الأذن. تمتلك يرقات الشعاب أيضًا أهدابًا دقيقة، لكنها موجودة خارج جسدها وليس داخل الأذن. يقول سيمبسون إنه يمكن تشبيه يرقة المرجان بأنها «أذن صغيرة مقلوبة سابحة في الماء».58 يتسبب الصوت في خلق حركة لجزيئات الماء، تستشعرها يرقات المرجان بواسطة خلاياها الشعرية؛ تلك الخلايا الشعرية تتعرف على تدرجات الصوت عن طريق التحرك التدريجي، وهو ما يمكِّن يرقات الشعاب من سماع الأصوات وتحديد اتجاهها. تضرب اليرقات بأهدابها أيضًا مستخدمة إياها مجاديف مصغرة تصنع بها تيارات دقيقة تدفعها في الاتجاهات المرغوب فيه. يتميز ذلك الشرح الذي قدمه سيمبسون بروعة نابعة من بساطته؛ فالأهداب تؤدي وظيفة الأذن والعين والساق والذراع لدى يرقات المرجان. وهذا يمكِّنها، رغم دقة حجمها، من سماع الأصوات والسباحة في الاتجاه الذي تختاره؛ نحو مأواها.59
أثبت سيمبسون أن المرجان قادر على الاستجابة لأصوات الشعاب المرجانية. لكن لم يكن من المعلوم إذا كان المرجان نفسه يصدر أصواتًا. في عام ٢٠٢١، اكتشف فريق بحثي بكلية ولاية جنوب فلوريدا جينات مرتبطة باستقبال الصوت وإصداره في نوع من المرجان يسمى «سيفاستريا». ففي دراسة متابعة، سجل الباحثون ترددات فوق سمعية تصدرها مراجين حية، وبدت تلك الأصوات، التي غالبًا ما تصدر أثناء الليل، متوافقة مع الإطار الزمني لاستقرار يرقات كل من المرجان والأسماك.60 تلك النتائج تترك أسئلة كثيرة دون إجابة. نحن نعرف أن المرجان يتواصل مع الطحالب التكافلية التي تعيش فيه عن طريق عمليات كيميائية حيوية، لكن هل يوجد بينهما تواصل بالأصوات فوق السمعية أيضًا؟ وهل تزايد الضوضاء فوق السمعية التي يصدرها المرجان في الليل، وهو الوقت الذي عادة ما تستقر فيه اليرقات، من قبيل المصادفة لا أكثر؟ هل يمكن أن تكون يرقات المرجان السابحة في عرض البحر قادرة على سماع الأصوات فوق السمعية التي يصدرها أقرباؤها في الشعاب التي تُئويها والتعرف عليها؟

منسقو أغاني الشعاب المرجانية

منحت أبحاث سيمبسون بصيص أمل لتيم جوردن الذي أظهر بحثه للدكتوراه أن التغير المناخي خلق حلقة مفرغة من التدهور في الحيد المرجاني العظيم. فنتيجة لانخفاض التنوع البيئي البحري، تصبح المشاهد الصوتية للشعاب المرجانية التي أصابها الابيضاض أفقر وأبسط؛61 وتلك المشاهد الصوتية المتدهورة تكون منفرة لصغار الأسماك والمرجان على حد سواء، فتدفعها لتجنب الشعاب، وهذا بدوره يسرِّع وتيرة تدهور الشعاب.62 حين تطغى الضوضاء البشرية، كتلك الناتجة عن الحفارات أو المسح الزلزالي أو الزوارق ذات المحركات، على الأصوات الطبيعية للمحيط، تتأثر قدرة يرقات الأسماك والمرجان على العودة إلى موطنها سلبًا. لكن حتى لو استطعنا السيطرة على الصيد الجائر والتلوث الصوتي البحري، لا يبدو أن ثمة طريقة لإبطال تأثيرات ارتفاع درجة حرارة المحيطات وزيادة تحمضها.
كانت فكرة اختفاء الحيد المرجاني العظيم أثناء حياته هاجسًا يطارد جوردن. وتساءل: هل يمكن استخدام أبحاثه بصورة عملية تساعد في إنقاذ الشعاب؟ ماذا لو حاول استخدم تسجيلات الشعاب السليمة في محاولة لترميم الشعاب العليلة المتدهورة؟ كان يعرف أن لتجارب الإثراء الصوتي فاعلية مثبتة على أنواع أخرى (منها البشر وحيوانات حدائق الحيوان)، لكن بدا له تطبيقها على الأسماك قفزة كبيرة.63 تشكَّك العلماء البحريون الذين استشارهم جوردن في فاعليتها. ولكنه قرر أن يركز في المرحلة الجديدة من أبحاثه على الترميم الصوتي؛ فبدلًا من تسجيل أصوات الشعاب المحتضَرة، سوف يؤلف مشاهد صوتية رقمية يحتمل أن تساعد في إعادة الحياة إلى الشعاب.

نظرًا لما واجهه جوردن من تشكُّك، كان التصميم الأولي لدراسته بسيطًا. في أواخر نوفمبر ٢٠١٧، وهي بداية موسم استقرار الأسماك في الشعاب، وجد سلسلة من الرقع العارية من الشعاب متاخمة لساحل جزيرة ليزارد. هناك بنى ثلاثًا وثلاثين شعبًا صناعيًّا على الرمال المكشوفة، يبعد كل منها ٢٥ مترًا بالضبط عن أقرب شعب مرجاني طبيعي. بُني كل من تلك الشعاب الصناعية من ٧٠ رطلًا من ركام المرجان الميت، ورُتبت جميعًا على شاكلة واحدة؛ إذ رُتبت بقايا المرجان المتشعب والأنبوبي والدائري في أشكال دقيقة فكانت أشبه بجثوة أو ركام من المرجان. ترك جوردن ثلث تلك الشعاب الصناعية فارغة، وفي الثلث الثاني وضع مكبرات صوت تظل صامتة طوال مدة التجربة، وفي الثلث الأخير وضع مكبرات تصدر أصوات شعاب مرجانية سليمة سُجِّلَت في نوفمبر ٢٠١٥؛ أي قبل واقعة الابيضاض الجماعي. ولأن استقرار الأسماك حدث ليلي في الأساس، قرر أن يشغِّل مكبرات الصوت أثناء الليل فقط. وظل على مدى أربعين يومًا يشغل المكبرات عند الغسق ويطفئها عند طلوع الفجر.

كان جوردن واثقًا من أن مكبرات الصوت التي وضعها ستجذب الأسماك على المدى القصير، لكن النتائج الفعلية لتجربة الإثراء الصوتي لم تكن لتُعرَف إلا في نهاية الدراسة: هل ستمكث الأسماك وتنشئ مجتمعًا مستقرًّا، أم ستدرك أنها خُدِعَت وترحل؟ نجحت تجربة الإثراء الصوتي نجاحًا مبهرًا لم يتوقعه. فقد ظهر في الشعاب الصامتة عدد قليل من الأسماك. أما المواضع التي شُغِّلَت فيها أصوات الشعاب المرجانية السليمة، فقد نما فيها مجتمع الأسماك نموًّا ملحوظًا؛ إذ تضاعفت الأعداد الإجمالية وزاد عدد الأنواع في النظام البيئي بنسبة ٥٠ في المائة، لم تزُرْها الأسماك زيارة عابرة، بل مكثت واستقرت فيها. أكد ذلك أيضًا نتائج سابقة؛ وهي أن يرقات الأسماك تمضي أسابيع في عُرْض المحيط، لكنها مع ذلك تسمع أصوات شعابها وتستجيب لها، بل إنها تسبح أيضًا باتجاه أصوات الشعاب المرجانية السليمة.64 ومثل نبوءة تتحقق ذاتيًّا، يمكن للإثراء الصوتي أن يساعد في إعادة إحياء الشعاب الميتة. وتؤكد أحدث الأبحاث أن نجاح ترميم الشعاب المرجانية يمكن تمييزه من مشهدها الصوتي؛ بل إن تسجيلات لشعاب مرجانية مرممة في إندونيسيا تتضمن أصواتًا جديدة تمامًا لم يعرفها العلم من قبل، وتشمل أصوات نعيق وهمهمة وزمجرة تحير الباحثين.65 وتَعلَّل بعض الباحثين بتلك الاكتشافات في دعوتهم إلى وضع نهج نظامي لترميم النظم البيئية البحرية بتركيب مكبرات صوت في كل أرجاء المحيطات، ثم استخدام تسجيلات تقنيات الصوتيات الحيوية لصنع «مسارات صوتية» تبث معلومات ملاحية للأسماك وغيرها من الكائنات البحرية.66 وهكذا يصبح الإثراء الصوتي وسيلة مستخدمة على نطاق واسع لإرشاد الأنواع البحرية إلى الغذاء والمأوى والأمان.
لكن يحذر جوردن من أن الإثراء الصوتي ليس حلًّا شموليًّا؛ إذ تتباين الاستجابة بشدة بين الأنواع المختلفة. فصوت الشعاب المرجانية السليمة يجذب بعض أنواع الأسماك، لكن بعض القشريات تنفر منه، وتبتعد عن الشعاب الزاخرة بالمفترسات. وتجذب تلك الأصوات بعض أسماك الشعاب، لكن الأسماك السطحية (التي تسبح في المحيط المفتوح) قد تتجاهلها. كما أن التسجيلات قد لا تؤدي وظيفتها إلا في نطاق مساحة محدودة جدًّا، وتعتمد بشدة على ظروف المحيط.67 ونظريًّا يمكن أن يجذب التلوث الصوتي البحري الأسماك إلى مناطق غير قابلة للسكنى أو يحجب الأصوات الصحيحة كليًّا، تاركًا اليرقات تائهة في عُرْض المحيط دون العلامات الإرشادية المعتادة؛ حتى ضوضاء قوارب السياحة البيئية يمكن أن تجعل يرقات المرجان تضل طريقها.68 ومع ذلك، إذا راعينا كل تلك العوامل كما ينبغي، فقد تكون تقنيات الصوتيات الحيوية وسيلة لا للرصد السلبي للشعاب المرجانية فحسب، بل لتجديد الأنظمة البيئية وإدارتها أيضًا.69
بالطبع قد لا تكون سيمفونيات الشعاب المرجانية تحت الماء كافية لقلب موازين معركة إنقاذ الشعاب من التغير المناخي.70 لكن إذا دمجنا بينها وبين تقنيات أخرى، مثل استزراع الشعاب المرجانية وبستنتها، فقد تعزز معدل إعادة تعمير الموائل الملائمة. كما أن خفض ضوضاء الزوارق من شأنه أن يعزز فاعلية الترميم الصوتي. ويأمل جوردن وسيمبسون أن تستخدم تقنيات الصوتيات الحيوية في تعزيز ازدهار ولو بعض الشعاب المرجانية حول العالم.
يشارك العلماء الآن في حملات تقييم للأولويات على مستوى العالم، مركزين مجهوداتهم على أصح الشعاب المرجانية التي من المرجح أن تنجو. تبدو قائمة التقنيات المبتكرة المستخدمة في محاولة إنقاذ الحيد المرجاني العظيم مزيجًا من تقنيات الخيال العلمي؛ إذ تضم التلقيح الصناعي للمرجان، وأنظمة توصيل المرجان الروبوتية (التي أطلقوا عليها اسم «لارفابوت»)، وحضانات المرجان القابلة للنفخ، والحفظ بالتجميد.71 وقد حددت مبادرة «خمسين شعبًا مرجانيًّا» هذا العدد من الشعاب المرجانية التي يحتمل أن تصمد أمام تأثيرات التغير المناخي، باعتبارها النظير البحري لبنوك الحبوب التي ستعتمد عليها المحيطات مستقبلًا.72 تصف عالمة الأحياء البحرية سيلفيا إيرل تلك الشعاب بأنها «منابع للأمل»: مناطق ذات تنوع أحيائي من شأنها أن تقاوم الغزو البشري.73 يمكن استخدام الإثراء الصوتي باعتباره وسيلة مساعدة إضافية لهذه الملاجئ المرجانية على الصمود. ولتسريع تأثيرات مشروعات الإثراء الصوتي، يستخدم جوردن وغيره من الباحثين مجموعة من تقنيات تعلم الآلة تمكنهم من استخدام تقنيات الصوتيات الحيوية للمراقبة الآنية لإدراك التغيرات في الأنواع والأنظمة البيئية سريعًا؛ ومن ثَم تسريع عملية تصميم مقاطع الإثراء الصوتي (قوائم تشغيل مخصصة) للشعاب المرجانية على مستوى العالم.74
يعكف سيمبسون وجوردن في الوقت الحالي على اختبار تلك التقنيات على أضخم مشروع لترميم الشعاب المرجانية في العالم؛ وهو عبارة عن شعب مرجاني مُرمم قرب ساحل إندونيسيا على مساحة خمسة هيكتارات، في منطقة دمرها الصيد بالديناميت.75 يهدف المشروع إلى تركيب هياكل فولاذية متصلة نجمية الشكل، يطلق عليها نجوم الشعاب، في المناطق التي تدهورت فيها الشعاب المرجانية. توفر نجوم الشعاب المكسوَّة بالرمال ركائز للمرجان المستزرع عليها (مثل الفسائل أو العُقَل النباتية) على أمل أن يعاود النمو. وبالفعل شهدت بعض المناطق زيادات هائلة في نمو الشعاب المرجانية.76 لكن ترميم الشعاب المرجانية، لا سيما في مراحل النمو المبكرة، يعتمد على الأسماك الصغيرة؛ فتلك الأسماك الآكلة للعشب تأكل الطحالب التي تنمو بسرعة على الهياكل الفولاذية، التي كانت ستخنق المرجان لولا تلك الأسماك. وفي غياب الأسماك، يُضطر العمال إلى قضاء شهور في كشط الهياكل بالفُرش للحد من نمو الطحالب. في التجارب الأولية، أظهرت تجربة «الإثراء الصوتي» التي أجراها جوردن نتائج مشابهة لنتائج التجارب التي أُجريت في الحيد المرجاني العظيم؛ فقد أدى تشغيل تسجيلات المشاهد الصوتية للشعاب الصحيحة إلى زيادة عدد الأسماك؛ ومن ثَم معدلات الاقتيات على الطحالب.77 يؤدي جوردن دور مندوب تسويق للأصوات، وظيفته الإعلان عن الشعاب المرجانية كمأوًى للأسماك، واختبار مقاطع صوتية لشعاب مختلفة لتحديد أيها سيجذب الأسماك الآكلة للطحالب أسرع. تلك الأسماك الآكلة للطحالب التي تنجذب إلى أصوات الشعاب المرجانية السليمة التي تبثها مكبرات الصوت التي وضعها جوردن تحت الماء تساعد الشعاب الصناعية على النمو بوتيرة أسرع وأصح. يعترف جوردن بأنه لم يتخيل أن يصبح منسق أغانٍ رقمية للشعاب المرجانية حين بدأ مسيرته المهنية العلمية؛ لكن لو كان ذلك سينقذ المرجان، فالأمر يستحق التجربة.

العودة إلى الوطن

من أغرب القدرات التي تتمتع بها يرقات المرجان أنها تستطيع إيجاد طريقها إلى شعابها المرجانية الأصلية بعد أسابيع من السباحة في المحيط المفتوح.78 تجد يرقات الأسماك أيضًا طريقها إلى شعابها المرجانية الأصلية، بمعدل أكبر بكثير من المتوقع لو كان استقرارها عشوائيًّا.79 يبدو أن يرقات كل من الأسماك والمرجان تميز أصوات المكان الذي ولِدت فيه وتفضلها.

تنضم الآن يرقات المرجان البسيطة إلى مجموعة الأنواع التي تظهر مهارات مذهلة في هجرتها عائدة إلى موطنها؛ فأسماك السلمون تغادر الجداول التي فقست فيها وهي صغيرة، وتقطع آلاف الأميال عبر المحيط، ثم تسبح صاعدة لآلاف الأقدام كي تضع بيضها حيث ولِدت في جبال روكي؛ والحمام الزاجل يعود إلى عشه الأصلي في موطنه، حتى لو أُطلق سراحه من بُعد أكثر من ألف ميل؛ وطيور الخرشنة القطبية تفقس في القطب الشمالي ثم تطير مسافة ٢٥ ألف ميل لقضاء فصل الشتاء على ساحل القطب الجنوبي قبل أن تعود إلى موطنها وتتكاثر هي نفسها. يفهم العلماء إلى حد ما الآليات التي تستخدمها الحيوانات لإيجاد طريق العودة إلى موطنها، مثل القدرة على الإحساس بالمجال المغناطيسي للأرض أو مجالاتها الكهربية، أو القدرة على رؤية الضوء المستقطَب من الشمس، أو التقاط رائحة ولو قطرة واحدة مخففة من المجرى المائي الذي فقست فيه. لكن على عكس الطيور والأسماك، لم نفهم بعد الآليات الحسية للملاحة التي تستخدمها يرقات المرجان التي تعتبر أحد أدق الكائنات الحية وأبسطها على الكوكب.

يفترض سيمبسون أن يرقات الأسماك والمرجان قد تتطبع عند فقسها على أصوات الشعاب المرجانية الأصلية. وعادة ما تبلغ أصوات الشعاب ذروتها عند اكتمال القمر، وهو الوقت الذي تتكاثر فيه عادة. أثناء الساعات القليلة التي يحدث فيها التكاثر الجماعي، تحفظ يرقات المرجان الوليدة بطريقة ما المشهد الصوتي الفريد للمستعمرة المرجانية التي خرجت فيها إلى الحياة. ولا بد أن اليرقات تتذكَّر ذلك المشهد الصوتي أثناء طور النمو وتستطيع تمييزه بعد أسابيع أو شهور من بين مشاهد صوتية مشابهة له كثيرًا. في لحظة الولادة، يغني كل شعب مرجاني تهويدة فريدة لصغاره. وفي كل ليلة، يردد الشعب تهويدته في أرجاء البحر كي يرشد صغاره إلى بيتهم.

ربما لا ينبغي لنا أن نستغرب اكتشاف أن الشعاب المرجانية تغني لصغارها، وأن اليرقات تتبع أغنياتها عبر البحر. فأناشيد الشعوب الأصلية التي تُعَد أحد أقدم أشكال التاريخ الشفهي المسجل ترتحل في أرجاء اليابسة و«الوطن البحري» حيث يستقر الحيد المرجاني العظيم. ربما لكل نوع أغانيه الفريدة التي لو أمكننا سماعها لوجدنا أنه يغنيها الآن.

فيما مضى، افترض البشر أن المحيطات صامتة، لكننا صرنا نعرف الآن أنها عامرة بالأصوات، أصوات تأقلمت على سماعها بإتقان حتى أدق الكائنات البحرية. إن عالم الأصوات أوسع وأعقد مما تخيلناه. والمرجان، رغم أنه كائن بسيط، يظل عضوًا في مملكة الحيوان. ربما يتطلب الإقرار بأنه يستجيب للأصوات قفزة إيمان، ولكن طبيعته الحيوانية قد تطمئننا وتؤكد لنا ذلك ولو على مستوى العقل الباطن. ولكن كما سأستكشف في الفصل التالي، يمتد لغز الأصوات غير البشرية الذي يتجلى أمامنا ليتجاوز نطاق المملكة الحيوانية. فقد تبين أن حتى النباتات مخلوقات تألف الأصوات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤