لكن ينبغي ألا يختلط علينا الأمر فنعتبر أن تلك هي
أصوات النباتات؛ فما تُسمعه إيانا تلك الأجهزة هو منتج
بشري، صوت المستشعرات ومحولات الطاقة التي صنعناها. نحن
حين «نستمع» إلى فلورانس إنما فقط نسمع أصواتنا متنكرة
تنكرًا رديئًا في هيئة نبات؛ مثل لعبة بيت المرايا في
الملاهي، حيث نتفاعل مع نسخ مشوهة من أنفسنا. لقد غاب
عن مبتكريها حقيقة أساسية، وهي أن النباتات نفسها قادرة
على إنتاج صوت وسماعه؛ ومن ثَم فإنها تملك أصواتها
الفريدة التي بدأ العلماء يستكشفونها مؤخرًا، كما
سنستعرض فيما يلي.
علم الصوتيات النباتية
يعتبر التخصص الذي يدرس الأصوات الحيوية للنبات،
المعروف بعلم الصوتيات النباتية، مجالًا حديثًا
نسبيًّا ومثيرًا للجدل بالنسبة إلى البعض، ويبحث في
كيفية إصدار النباتات للأصوات والاستجابة لها. نحن
نعرف بداهة أن النباتات تستجيب للإضاءة واللمس. وقد
وثِّقَت أيضًا طرق أخرى للتواصل بين النباتات وبثها
للإشارات، مثل المركَّبات العضوية المتطايرة
المحمولة جوًّا وتبادل المغذيات من خلال علاقات
تكافلية بين الفطر والجذور تتكوَّن تحت سطح
التربة.
13 لكن مؤخرًا، أثبت العلماء أن النباتات
تستجيب للصوت (الانتحاء الصوتي).
14 على سبيل المثال، أدى تعريض النباتات
الزراعية إلى ترددات معينة إلى زيادة نموها وقدرتها
على تحمل الجفاف وارتفاع محتواها من
الفلافونيد؛
15 كما أظهرت هذه النباتات تغيرات
فسيولوجية وبيولوجية وكيميائية، وتغيرات في التعبير
الجيني.
16 برهن العلماء على أن الموجات فوق
السمعية من شأنها أن تعزز مقاومة بعض النباتات
للحشرات، وبدءُوا يجربون استخدام الموجات فوق
الصوتية الهوائية بديلًا للمبيدات
الحشرية.
17 يستخدم علماء المحاصيل أيضًا تقنيات
الصوتيات النباتية لقياس الخواص الميكانيكية لبنى
النباتات، وتحسين الحصاد، وتقييم صحة نباتات
المحاصيل وحالتها الفسيولوجية.
18 إذن ففكرة أن النبات «يستجيب» للأصوات
هي فكرة مثبتة في الأدبيات العلمية.
أما فكرة أن النبات «يصدر» أصواتًا، فيُنظَر
إليها بمزيد من الشك. ولعل السبب وراء ذلك أن
النباتات لا تملك التكوين التشريحي اللازم لذلك مثل
الحيوانات؛ فليس لديها أحبال صوتية ولا آذان. أو
لعل رفضنا لتلك الفكرة نابع من انقسام مفاهيمي راسخ
في الفكر الغربي بين النباتات والحيوانات يمتد إلى
قرون. فقد كان أرسطو، الذي يُزعَم أنه مؤسس التقليد
الغربي المتمثل في دراسة أشكال الحياة من منظور
العلم، يقسم البشر والحيوانات والنباتات إلى ثلاث
فئات مختلفة. ورغم أن جميع الكائنات لها أرواح، فقد
اعتبر أن البشر وحدهم هم من يملكون روحًا عاقلة.
أما الحيوانات التي تملك درجات متفاوتة من المعرفة،
فلها أرواح «حساسة» فقط. أما النباتات التي تذيلت
هذا التسلسل الهرمي، فتملك أرواحًا «نمائية» أو
«مغذية». ظلت دراسة أرسطو المفصلة للحيوانات
نموذجًا للبحث العلمي حتى العصور الوسطى؛ ولهذا
يعتبره كثيرون مؤسس علم الحيوان الغربي، لكنه ترك
دراسة النباتات لأحد تلاميذه، هو ثاوفرسطس، الذي
غالبًا ما يُعتبر مؤسس علم النبات الغربي.
لا يزال الانفصال بين علماء الحيوان وعلماء
النبات قائمًا حتى يومنا هذا، لكن ثمة مجموعة
صغيرة، وإن كانت آخذة في التزايد، من العلماء الذين
يُجرون تجارب على سلوك النبات وإشاراته الصوتية،
بدأت تعيد النظر فيه تدريجيًّا. على مدى العقد
الماضي، نُشِرَت سلسلة من المؤلفات لفلاسفة وعلماء
نبات وأساتذة علوم، استكشفت مجموعة من الأبحاث عن
الإحساسية في النبات، وكانت أبحاثًا تسير بوتيرة
تطورية سريعة، وكان من بين هذه المؤلفات كتاب
الفيلسوف مايكل ماردر «التفكير لدى النبات»، وكتاب
عالمة بيئة الغابات سوزان سيمارد «بحثًا عن الشجرة
الأم»، وكتاب المتخصصة في علم الأحياء التطوري
مونيكا جاجليانو «هكذا تحدث النبات».
19 كما أشار الصحفي مايكل بولان في مقال
له نُشر في صحيفة «نيو يوركر» بعنوان «النبات
الذكي» في عام ٢٠١٣، أجرى هؤلاء الباحثون تجارب
تثبت أن النباتات تمتلك ذاكرة، وتترقب الأحداث،
وتتواصل كذلك مع النباتات الأخرى
والحيوانات.
20 على سبيل المثال، ثبت أن النباتات
تتذكر بدقة توقيت آخر مرة حل فيها الصقيع، وأنها
توجه نفسها صوب الاتجاه المتوقع لشروق الشمس
المرتقب، حتى لو اقتُلِعَت من مكانها وزُرعَت
بطريقة تتعمد إرباكها، وأنها تُظهر نوعًا من
«الذكاء الجمعي» عبر جذورها.
21 تظهر تلك القدرات في إحساس النباتات
بمحيطها واستجابتها له بفاعلية. وتشير عالمة النبات
— التي تحولت إلى دراسة الأنثروبولوجيا — ناتاشا
مايرز، إلى مجموعة آليات الإحساس المعقدة التي تقف
خلف تلك السلوكيات ﺑ «أعضاء الحس النباتية»، وهي
آليات بدأ الباحثون لتوِّهم يستكشفون كامل
أبعادها.
22 إن تلك الأبحاث لا تسعى إلى تقييم قدرة
النبات على الإحساس بالأشياء كما يحس بها البشر؛
إنما يحاول الباحثون في مجال إحساسية النبات وضع
إبستمولوجيا للنبات، على حد قول مايرز؛ أي إطار
جديد يركز على النباتات لتحليل كيفية إحساسها
بالعالم وتفاعلها معه.
تعتبر الصوتيات النباتية أحد جوانب ذلك المجال
البحثي الجديد التي لم تخضع بعد للدراسة نسبيًّا.
استخدم الباحثون ميكروفونات حساسة واكتشفوا من
خلالها أن بعض النباتات تصدر أصواتًا فوق سمعية، أي
فوق الحد الأعلى لنطاق السمع لدى أغلب البشر.
فالأوراق الجافة للنباتات النفضية والدائمة الخضرة
تصدر أصواتًا فوق سمعية، ربما يكون لها علاقة
بالضغط الذي تتعرض له بسبب الجفاف. وهذه الأصوات
فوق السمعية مسموعة لبعض الحشرات والثدييات لكنها
غير مسموعة للبشر. لم تتضح لنا بدقة بعد الآليات
التي تستخدمها النباتات في إصدار الأصوات والإحساس
بها.
23 من العلماء من يعتقد أن تلك الأصوات قد
تكون ناتجة عن تغيرات ميكانيكية متعلقة بمستوى
الرطوبة (فالنبات الذابل تتغير كتلته وصلابته
وبنيته أثناء مروره بمراحل الجفاف)؛ ومنهم من يعتقد
أنها قد تكون ناتجة من فقاعات أو تغيرات في الضغط
ناشئة عن التنفس وتزايد نشاط الأيض؛ ولكن هناك منهم
من يرى أنها ناتجة عن حركة العضيات
الخلوية.
24 وتلك الأخيرة هي نتاج ثانوي للعمليات
الفسيولوجية في النبات، تشبه نوعًا ما قرقرة معدتنا
عند الشعور بالجوع؛ وتقول عنها روبن وال كيميرير
عالمة البيئة: «تلك هي أصوات الوجود غير
الكلامية.»
25
رصد العلماء أيضًا اهتزازات دقيقة تصدرها
النباتات. فباستخدام أدوات قياس بالغة الدقة، مثل
مقياس الاهتزازات الليزري الدوبلري، وجدوا أن
النباتات تطلق ترددات اهتزازية دقيقة تكاد لا تدرك.
على سبيل المثال، يصدر نبات الذرة الصغيرة أصواتًا
تشبه الطقطقة، تتباين حسب مستوى جفافه.
26 وفي دراسة أخرى أجريت على نباتات
الطماطم، استُخدم مقياس الاهتزازات الليزري لقياس
العلاقة بين التردد الاهتزازي للورقة (بعد تعريضها
لقوة ما) وبين كمية الماء في الورقة، ووجِد أن
الأوراق التي تعاني من الإجهاد المائي نتيجة نقص
كمية الماء كان لها ترددات اهتزازية أقل.
27 في تجربة أخرى رصد الباحثون الأصوات
المميزة التي تصدرها نباتات الطماطم والتبغ حينما
تتعرض للإجهاد المائي أو تُقطَع سيقانها؛ فتبين أن
التبغ عند حرمانه من الماء يصدر أصواتًا أعلى بينما
يصدر أصواتًا أقل انخفاضًا عند قطع
سيقانه.
28 في هذه التجربة، نجح الباحثون في تطوير
خوارزمية لتعلم الآلة قادرة على تحديد حالة النبات
(سواء كان جافًّا أو مقطوعًا أو سليمًا) بناءً فقط
على الأصوات التي يصدرها. بعبارة أبسط، أصبح لدينا
الآن برامج كمبيوتر قادرة على تحديد الحالة الصحية
النسبية للنبات فقط عن طريق الإصغاء إليه.
وإذا كانت حواسيبنا تصغي، فلا شك أن الكائنات
الأخرى تصغي أيضًا. وهذا يفضي بنا إلى افتراض أن
النباتات بجانب أنها تميز الصوت وتستجيب له، فهي
تصدر أصواتًا تنقل معلومات إلى غيرها من الكائنات.
بدأ العلماء يختبرون صحة تلك الفرضية؛ لكنهم بذلك
وقعوا في محظور علمي. ففي سبعينيات القرن العشرين،
أثار نشر كتاب بعنوان «الحياة السرية للنباتات»
عاصفة من الاستياء داخل المجتمع العلمي. كان مؤلفاه
هما بيتر تومبكنز، وهو صحفي وجاسوس سابق، وكريستوفر
بيرد، خريج جامعة هارفارد وشارك في حرب فيتنام وعمل
في مؤسسة الأبحاث والتطوير (راند)، ولهما عدة كتب
صارت فيما بعد أيقونات لجماعة تنتمي إلى حركة العصر
الجديد، تهتم بالتواصل مع الكائنات غير الأرضية
والعمليات العسكرية السرية. يحكي الكتاب والفيلم
الوثائقي المبني عليه الذي صدر عام ١٩٧٩ (والذي
ألَّف موسيقاه التصويرية ستيف وندر) عن نباتات
موصلة بأجهزة لكشف الكذب، وكان مليئًا «بمحتوى
متمازج جمع بين مفاهيم العلوم المبسطة وأفكار حركة
الخفيانية الجديدة بتناول سطحي يستهدف نيل القبول
بين أبناء الطبقة المتوسطة»، كما وصفته صحيفة
«نيويورك تايمز».
29 حظيت تلك الكتب برواج كبير، لكن
العلماء المتخصصين اعتبروها رموزًا مثيرة للسخط
للعلم الزائف الذي روجت له حركة العصر الجديد؛
وهكذا صارت الأبحاث في مجال أصوات النبات من
المحظورات العلمية.
كان من أوائل من كسروا تلك المحظورات مونيكا
جاجليانو، مديرة مختبر الذكاء الأحيائي في جامعة
ساوذرن كروس بأستراليا. بدا سؤالها الأساسي بسيطًا
في ظاهره: ماذا لو طبقنا البروتوكولات التجريبية
التي عادة ما تقتصر على الحيوانات، مثل تجارب تشغيل
الأصوات المسجلة، على النبات؟ قد يبدو تساؤلًا
عاديًّا، لكن كما تقول مونيكا: «عادة ما يُنتقَد
العلماء بشدة عندما يطرحون أسئلة «ماذا لو؟» التي
تستكشف موضوعات خارج حدود البحث العلمي المتعارف
عليها.»
30 أثارت تساؤلات مونيكا التي تلت ذلك
جدلًا حقيقيًّا. فقد تساءلت: ماذا لو أظهرت التجارب
أن النباتات تستطيع الاستجابة إلى الصوت؟ وماذا لو
بدأنا ندرس النبات بأفق واسع متحرر، ونستكشف ما إذا
كانت تصدر الأصوات وتحس بها وتستجيب لها؟ قررت
مونيكا أن تُجريَ تجربة تعريض للأصوات المسجلة؛ وهو
نوع من التجارب المستخدمة بكثرة مع الحيوانات لكنها
لم تُستخدَم قط مع النبات.
إن تصميم تجربة تعريض النباتات لأصوات مسجلة أعقد
مما يبدو في ظاهره. في تجارب التعريض للأصوات
المسجلة التقليدية التي تدرس السلوك الحيواني،
تُستخدَم ترددات معينة لمعرفة إذا كانت الحيوانات
تستجيب لأصوات معينة بسلوك يمكن رصده؛ على سبيل
المثال، يطلق العلماء سلسلة من الأصوات تتراوح
تردداتها بين ٠ و١٠٠٠ هرتز، على فترات زمنية
مقدارها ١٠٠ هرتز، مما يتيح لهم معرفة متى يبتعد
طائر ما، ومن ثَم تحديد نطاق الأصوات التي يتسم نوع
معين من الطيور بحساسية تجاهها. وبتكرار التجربة،
يمكن تحديد نطاق الترددات بدرجة عالية نسبيًّا من
الدقة.
تعديل ذلك النوع من تجارب التعريض للأصوات
المصممة للحيوانات كي تناسب النباتات وضع مونيكا
أمام تحديَّين. أولًا: أن النباتات ليس لها سلوك
حركي ظاهر؛ فهي تقف ثابتة في مكانها. في تجارب
تعريض الحيوانات للأصوات المسجلة، يكون المتغير
المستقل هو الصوت؛ أما المتغير التابع فهو حركة
الحيوانات. والنباتات لا تتحرك، إذن ما الذي ينبغي
استخدامه متغيرًا تابعًا؟ ثانيًّا: سيكون من الصعب
إثبات أن أي سلوك معين هو استجابة للصوت؛ فغالبية
النباتات لا تستجيب إلى المحفزات استجابة لحظية،
وذلك الإطار الزمني الطويل اللازم لحدوث الاستجابة
يمكن أن تتخلله متغيرات مربكة. في نهاية المطاف،
استقرت مونيكا على أن يكون المتغير التابع ظاهرة
يسهل رصدها، ويمكن مراقبتها في بيئة محكمة جيدًا،
وهي ظاهرة انثناء الجذور، وهي استجابة معروفة
ودُرست على نطاق واسع تحدث في النبات. وهكذا اتضح
السؤال الذي ستحاول دراستها الإجابة عنه: هل ستنثني
الجذور استجابة لترددات صوتية معينة؟ قررت أن تختبر
تلك الفرضية في نباتات الذرة الصغيرة. فوضعت نباتات
مخصبة حديثًا في أُصُص متطابقة داخل المختبر،
وعرَّضتها إلى مجموعة من الترددات الصوتية. بعد أن
عرَّضتها لهذه الترددات عدة مرات، وجدت أن جذور
النباتات تنثني عندما تتعرض لنغمات صوتية في نطاق
ترددي يتراوح بين ٢٠٠ و٤٠٠ هرتز، ولا تتفاعل مع
الترددات الأعلى أو الأدنى من ذلك.
31
لم تقف مونيكا عند ذلك الحد. فقد استنتجت أن
البشر يصدرون أصواتًا نستطيع سماعها؛ فالأصوات التي
نتكلم بها ونسمعها تقع داخل نطاق واحد من الترددات
تقريبًا. وقياسًا على ذلك، إذا كانت النباتات
تستجيب لأصوات تقع ضمن نطاق معين من الترددات، بدا
منطقيًّا أن نتساءل ما إذا كانت النباتات أيضًا
تصدر أصواتًا بتلك الترددات. فأصغت إلى نباتات
الذرة الصغيرة مستخدمة ميكروفونات حساسة، واستطاعت
أن تلتقط أصواتًا تصدرها النباتات، وكما توقعت،
كانت تلك الأصوات داخل نطاق ترددات الأصوات التي
تستجيب لها. كانت ورقتها البحثية التي أوردت فيها
تلك النتائج هي أول مقال يُنشَر في دورية علمية بعد
خضوعه لمراجعة الأقران يقدم دليلًا تجريبيًّا على
أن النباتات لديها القدرة على التقاط الأصوات
وإصدارها، وإبداء استجابة سلوكية للصوت.
32
عند نشر ورقتها البحثية، أثارت تجارب مونيكا
عاصفة من الجدل. كانت منهجياتها موصوفة بوضوح،
والتجربة يسهل تكرارها، وحصلت على موافقة على نشر
نتائجها من مراجعين مستقلين. إلا أن كثيرًا من
العلماء أعربوا عن مخاوف بشأن المفردات والمصطلحات
التي استخدمتها مونيكا لوصف نتائجها. فوصف بعض
المعارضين اختيارها لمصطلحات مثل «تعلم النبات»
و«الذكاء النباتي» بأنه «غير مناسب» و«محض
هراء».
33 ورغم أن النباتات قد تظهر سلوكيات يمكن
وصفها بمصطلحات مثل «التعلم» و«الذاكرة»، فقد حذر
معارضوها من أن ذلك لا يشير بالضرورة إلى الذكاء؛
ورأى بعضهم أن ذلك المصطلح يجب أن يقتصر على
الكائنات التي تملك دماغًا وخلايا عصبية. كان رد
مونيكا ومؤيديها أن مصطلح «الذكاء» ينبغي أن يتسع
تعريفه ليصبح القدرة على إدراك التغيرات والتحديات
التي تطرأ على البيئة والاستجابة لها
بفاعلية.
34 ذهبت مونيكا إلى أن قصر تعريف الذكاء
على أنه سلوك مقتصر على الكائنات الحية التي تملك
خلايا عصبية يعكس تحيزًا للحيوانات على حساب
النبات. وذهبت هي وغيرها من الباحثين إلى ضرورة
إعادة تعريف مفهومنا عن الذكاء وتوسيعه ليشمل
النبات.
35
في معرض ردها على المعارضين، دفعت مونيكا أيضًا
بأن النباتات قد طورت حواسَّ مناظرة للحواس
البشرية؛ كاللمس (على سبيل المثال، يتفاعل الجذر
حين يقابل عنصرًا صلبًا)، والبصر (تتفاعل أوراق
النبات مع الظل والضوء بطريقة مختلفة، وتختلف
استجاباتها كذلك للأطوال الموجية المختلفة للضوء)،
والشم والتذوق (تطلق النباتات موادَّ كيميائية
حيوية في الهواء أو في أجسادها وتحس بها وتستجيب
لها). ما المانع إذن من أن تملك النباتات نظيرًا
لحاسة السمع البشرية؟ في تجربة متابعة، أثبتت أن
جذور نبات البازلاء تتعرف على صوت المياه الجارية
وتنمو في اتجاهه. وقد سلكت النباتات ذلك السلوك حتى
حين كان الماء معزولًا داخل أنبوب محكم الغلق، ولم
تطرأ أي تغيرات في مستوى رطوبة التربة.
36 مرة أخرى، صممت مونيكا تجربة تقوم على
بروتوكول تقليدي يستخدم في التجارب على الحيوانات؛
إذ وضعت نباتات البازلاء اليافعة داخل متاهة. على
أحد جانبي المتاهة كان هناك صوت ماء جارٍ، وعلى
الجانب الآخر كانت هناك ضوضاء بيضاء، أو تسجيل
صامت، أو لا يصدر أي صوت. كانت التجربة مصممة
للإجابة عن ثلاثة أسئلة: هل تعرف النباتات كيف تجد
الماء؟ وهل تستطيع النباتات إيجاد الماء بالاعتماد
فقط على صوته الصادر من منطقة معينة؟ وهل تستطيع
النباتات أن تجد الماء في سياق مشهد صوتي معقد
(بدلًا من أن تنمو ببساطة في اتجاه أي صوت له
ترددات مماثلة للماء)؟ أجابت نتائج تجاربها
بالإيجاب عن كل من تلك الأسئلة. فحينما كان
الاختيار بين الصوت والصمت، اختارت نباتات البازلاء
أن تنمو في اتجاه الصوت. والأهم أنها حين خُيِّرت
بين صوت الماء المسجَّل والضوضاء البيضاء وكان
لكليهما التردد نفسه، اختارت جذورها أن تنمو باتجاه
صوت الماء. وفي ظل عدم تغير الرطوبة، استطاعت
بازلاء مونيكا أن تتعرف على صوت الماء الجاري
وتميزه عن أي صوت مماثل لا يحمل دلالة
بيئية.
37
اكتشف الباحثون سلوكيات مشابهة في نباتات أخرى.
فقد اكتشفت العالمة البيئية بجامعة توليدو هيدي
أبِل، أن نبات رشاد أذن الفأر «أرابيدوبسيس
ثاليانا» (وهو عشبة شائعة وكائن نموذجي درس على
نطاق واسع في مجال علم النبات) قد أفرز موادَّ
كيميائية دفاعية عند تشغيل صوت يرقة تمضغ ورقة نبات
بالقرب منه، حتى دون أن تمسه الحشرة
نفسها.
38 كما استطاع النبات أن يميز بين
الذبذبات الناتجة عن مضغ الحشرات المفترسة للأوراق
وتلك الناتجة عن الهواء أو نداءات الحشرات؛ إذ لم
تثِر لديها تلك الأخيرة رد الفعل الدفاعي
نفسه.
39
في دراسات متابعة، وجدت هيدي دليلًا أيضًا على أن
النبات يتعلم ويملك ذاكرة. فقد عرَّضت مجموعة من
نبات رشاد أذن الفأر إلى ذبذبات ناتجة عن مضغ يرقة
للأوراق، ولم تعرِّض المجموعة الضابطة إلى أي
ذبذبات؛ بعد فترة، عرضت كلتا المجموعتين إلى مجموعة
جديدة من أصوات مضغ اليرقات للورق. فكانت الإفرازات
الدفاعية في النباتات التي تعرضت من قبل للأصوات
أعلى منها في المجموعة الضابطة. بعبارة أخرى، نبات
رشاد أذن الفأر يتذكر التأثيرات المرتبطة بأصوات
مضغ حشرة مفترسة معينة للأوراق و«يتوقعها». بل إن
نباتات هيدي ميزت بين أصوات الحشرات المختلفة،
فاستجابت استجابات دفاعية للأصوات المرتبطة بحشرات
مفترسة بينما تجاهلت أصوات الحشرات التي لم تمثِّل
لها تهديدًا.
40
تقدم أبحاث مونيكا جاجليانو وهيدي أبل أدلة دامغة
على أن النبات يتمتع بقدرات ثلاث: قدرة على تمييز
الصوت، وقدرة على الاستجابة له، وقدرة على تمييز
الأصوات ذات الدلالة البيئية من ضمن مزيج من
الترددات الصوتية العشوائية. وهكذا تبين أن داروين
وابنه كانا يسيران على المسار الصحيح، وإن كانت
النباتات مهيأة لتمييز الذبذبات البيئية أكثر من
الموسيقى البشرية. ما الذي يمنع أن تتطور لدى
النباتات نفسها والحيوانات المعايشة لها القدرة على
الإحساس بأصوات الطبيعة؟ يقول عالم الأحياء
النباتية دانيال تشامويتز: «الموسيقى البشرية ليست
ذات دلالة بيئية للنباتات، وإن كانت ثمة أصوات قد
يكون سماعها أنفع لها.»
41
لم يَعُد السؤال هل النباتات قادرة على إدراك
الصوت، بل كيف تفعل ذلك. وهذا يثير معضلة محيرة: في
ظل عدم وجود آذان أو خلايا عصبية، كيف «تعرف»
النباتات ماهية ما تسمعه؟ على سبيل المثال، كيف
تعرف أن صوتًا ما هو صوت الماء الجاري وليس ضوضاء
بيضاء؟ وكيف تميز الإشارات الناتجة عن اقتيات
اليرقات؛ هل من الذبذبات (إشارات صوتية أو
ميكانيكية)، أم من إزالة الأنسجة (إشارات
ميكانيكية)، أم من الإفرازات الفموية (إشارات
كيميائية حيوية) أم من مزيج من الثلاثة؟ لم يكوِّن
العلماء بعدُ فهمًا شاملًا لآليات تعامل النبات مع
الإشارات، وإن كانوا يعرفون أن إدراكه لذبذبة صوتية
من شأنه أن يحدث تغيُّرات في هرمونات النبات، وفي
تعبيره الجيني، وفي إفرازه لمركبات عضوية متطايرة،
وهي الإشارات التي تستخدمها النباتات عادة لحماية
نفسها من الافتراس.
42
يواصل العلماء استجلاء غموض تبادل الإشارات في
النباتات، ولا تنفك الأدلة على أهمية الإشارات
الصوتية تتراكم. إن نظام الإحساس بالاهتزازات هو
نظام قديم من الناحية التطورية؛ إذ نشأ قبل ظهور
النباتات الوعائية على الأرض؛ على سبيل المثال،
تملك الطحالب الدقيقة بروتينات حسية ميكانيكية
تستجيب للذبذبات. تفترض مونيكا جاجليانو أن الصوت
نوع مهم من الإشارات؛ لأن الإشارات التذبذبية تنتقل
بسرعات أكبر بكثير من غيرها من الإشارات التي
تُرسَل بواسطة أنسجة النبات (كالإشارات
الكيميائية). تقول مونيكا: «تستمر فاعلية الإشارات
الكيميائية حتى نقطة معينة، ولكن الصوت أسرع بكثير.
فإذا واجهت نبتة ما مفترسًا شرسًا، فستود أن تحدد
النباتات الأخرى وتبلغها بأقصى سرعة
ممكنة.»
43 مقارنة بالإشارات الكيميائية الحيوية
المعقدة، مثل الفيرمونات، تُعد الإشارات الصوتية
سريعة جدًّا ويَسهُل التقاطها دون جهد. كما أن
الصوت ينتقل لمسافة أطول، وعبر وسائط أكثر تنوعًا،
مثل الهواء والماء والتربة والصخر. وقدرة النبات
على إصدار استجابات منهجية سريعة للإجهاد والضغط من
خلال الإشارات الصوتية قد تعني أن قدرته على إصدار
الأصوات والإحساس بها تعكس ميزة تطورية؛ إذ ترفع من
احتمالات بقائه.
44 وإذا صح ذلك، فمن المحتمل أن تكون
القدرة على الإحساس بالأصوات سمة قديمة وعامة في
النبات.
45
لا تبدو تلك النظرية مفاجئة إذا اعتبرنا أن الصوت
شكل أساسي من أشكال انتقال الطاقة. فقد وجد في جميع
الكائنات أثناء تطورها عبر الزمن؛ ومن ثَم من
المفترض أن تكون القدرة على استخدامه والاستفادة
منه قد تطورت لدى النباتات (وغيرها من
الكائنات).
46 والكائنات التي تتفوق على غيرها في
سماع الأصوات تكون أكثر تكيُّفًا على بيئاتها وأقدر
على البقاء فيها. وهذا ما يطلق عليه العلماء فرضية
المشهد الصوتي.
47 ومثلما طورت الكائنات قدرة على الإحساس
بالطاقة في شكلها الحراري (تدفق الطاقة نتيجة
لاختلاف درجات الحرارة)، طورت أيضًا قدرة على
الإحساس بالصوت. ومن هذا المنظور، لا تعد القدرات
السمعية للنبات اكتشافًا مفاجئًا في الواقع؛
فباعتبار أن البيئة تحوي كثيرًا من الأصوات التي
تنقل معلومات مفيدة، من المفترض أن يكون للقدرة على
التقاط الصوت والاستجابة له قيمة تكيفية لدى
النبات، شأنها في ذلك شأن الحيوانات.
لكن هل يعني ذلك أن النباتات قادرة على «السمع»
بمعناه البشري؟ بعض العلماء لا يزالون متشككين في
ذلك. فلم تتضح لنا بعدُ الآلية الفيزيائية التي
يستخدمها النبات لتمييز الصوت، مع أن منهم من يفترض
أن أي كائن يملك خلايا هدبية شعرية — كقرون استشعار
القشريات، أو أهداب المرجان، أو جذور النبات —
يستطيع الاستجابة إلى الصوت.
48 يستكشف العلماء أيضًا احتمالية أن
تستثير أصوات معينة المستشعرات الميكانيكية
الموجودة في جدران الخلايا أو أغشية البلازما، مما
يتسبب في تدفق مواد كيميائية حيوية وهرمونات نباتية
معينة، بل تسريع التعبير الجيني.
49
قد لا تكون حاستا اللمس (الاستقبال الميكانيكي)
والسمع مترابطتين بقوة في النبات. على سبيل المثال،
تميز نباتات رشاد أذن الفأر، التي درستها هيدي
أبِل، الصوت بواسطة شعيرات دقيقة (تسمى الترخومات)
على سطح أوراقها؛ تلك الشعيرات تهتز انتقائيًّا
بذبذبات تقع في نطاق ترددي تدركه الحشرة المفترسة
له، وتؤدي وظيفة قرن استشعار صوتي ميكانيكي متوالف
بدقة لمواجهة الأخطار البيئية.
50 إذا كانت النباتات تصغي بكامل أجسادها،
من أطراف الجذور إلى الأوراق، فإن حاسة السمع لديها
ستكون مختلفة تمامًا عن سمعنا، وتفوقه حساسية بعدة
أضعاف.
الموالفة الصوتية
تطورت لدى كثير من الحيوانات آليات لانتقاء
الإشارات من وسط الضوضاء. تخيل أنك في مطعم مزدحم،
يحتشد جميع رواده في منتصفه ويتحدثون جميعًا بصوت
مرتفع في آنٍ واحد. لن يستطيع أحد أن يميز شيئًا
مما يقال. والآن تخيل أن رواد المطعم نظموا أنفسهم
في مجموعات حسب اللغة التي يتحدثونها (الإنجليزية
والكري والفرنسية والهندية والإسبانية والسواحيلية)
ثم انتشرت في أرجاء متفرقة من المطعم. في تلك
الحالة، إذا كنت تقف في المنتصف، فسينزع عقلك إلى
التقاط أصوات المجموعة التي تتحدث اللغة التي
تفهمها وتجاهُل ما سواها. حين تجد كل مجموعة مكانًا
يلائمها، يحل الهدوء النسبي محل الضوضاء؛ وبموالفة
السمع لالتقاط الأصوات التي يعرفها وتجاهل تلك التي
لا يفهمها، يبذل المستمع طاقة أقل. تسلك الأنواع
سلوكًا مشابهًا في الطبيعة. ففي أثناء تطور القدرة
على السمع لدى الأنواع، تتطور لديها أيضًا محاباة
لترددات معينة. فإذا شدا نوع بنغمات مرتفعة، وشدا
آخر بنغمات منخفضة، سيكون من الأسهل على أفراد كل
نوع التقاط إشارة بني نوعه من بين الضوضاء. في أي
نظام بيئي، تقسِّم الأنواع المختلفة أنفسها (من
ناحية التوقيت أو الترددات الصوتية أو المساحة) بما
يقلل المنافسة على النطاقات المختلفة داخل المشهد
الصوتي.
يُعرَف هذا التقسيم للمساحة الصوتية في علم
البيئة باسم فرضية النطاقات الصوتية؛ وتنص على أنه
في أي نظام بيئي، تتطور الأنواع المختلفة بحيث يشغل
كل منها نطاقات صوتية فريدة، تشبه إلى حد كبير
ترددات المحطات الإذاعية المختلفة الموجودة في جهاز
الراديو. كان أول من طرح تلك الفرضية هو عالم
الصوتيات الحيوية بيرني كراوز. في سبعينيات القرن
الماضي، ترك كراوز مهنته الناجحة كموسيقي ومؤلف
لموسيقى أفلام هوليوود كي يخوض في الغابات والأدغال
حاملًا معدات وشرائط تسجيل تزن مئات الأرطال، سعيًا
لحفظ أصوات العالم الطبيعي قبل أن يقضيَ عليها
التوسع الصناعي والزراعي والامتداد
العمراني.
51 كان يستمع إلى المشاهد الصوتية وكأنها
مقاطع موسيقية، وفي أثناء ذلك تكونت لديه فرضية
النطاقات الصوتية. منذ ذلك الحين، تبين صحة فرضيته
في مجموعة متنوعة من البيئات والكائنات، بداية من
الحوت السفاح والفقمة النمرية في القارة القطبية
الجنوبية إلى ضفادع المطر في بورتوريكو.
52 تظهر تسجيلات كراوز التكاملية المعقدة
التي تمخَّضت عن التطور بين مجموعة متنوعة إلى حدٍّ
مدهش من الأصوات التي تصدر في أي مكان محدد، يطلق
عليها كراوز «الأوركسترا الحيوانية العظيمة»؛ وهي
مجموعة من الأصوات المتشابكة يقع أغلبها خارج نطاق
السمع البشري، وقسمها التطور إلى ترددات متمايزة
يحتكر كلًّا منها نوع مختلف.
53
أجرى كراوز
جزءًا كبيرًا من تسجيلاته في الغابات الاستوائية
المطيرة التي تزخر بأصوات الحيوانات. لكن على حد
قول عالم الأحياء ديفيد هاسكل في كتابه «الغابة غير
المرئية»، تزخر الغابات أيضًا بأصوات
النباتات.
54 عند الإصغاء إلى صوت سقوط المطر على
الأشجار في الإكوادور، ستتجلى نغماتها التي تتنوع
بين أصوات «تطاير شرر معدني»، أو «قرع منخفض حاد
على الخشب»، أو «نقر سريع على مفاتيح آلة كاتبة».
في أثناء تدريسه لطلابه، يتحداهم هاسكل أن يميزوا
بين شجرة بلوط وشجرة قيقب بالسمع فقط. يقول هاسكل:
«نستطيع بالأذن المجردة أن نميز تغير صوت شجرة
القيقب، عندما تبدأ أوراقها الربيعية اليانعة في
الذبول مع اقتراب الشتاء.» إن للعالَم أنغامه
المتناغمة الفريدة، التي تشبه الموسيقى، وإن لم
يملك أغلب البشر الأذن الموسيقية لتمييزه. صحيح أن
كراوز هو من صاغ مصطلح «الأوركسترا الحيوانية
العظيمة»، لكن هاسكل يذكرنا بأن النباتات أيضًا
تشارك في سيمفونية الأرض التي تعزفها الكائنات
الحية.
أدت نظرية
كراوز عن «النطاقات الصوتية» إلى فرضية أخرى مذهلة؛
وهي أن آليات سماع الأصوات تطورت بالتزامن مع آليات
إنتاج الصوت.
55 يشير العلماء إلى ذلك بفرضية تطابق
المرشِّح.
56 تنص تلك الفرضية، على افتراض صحتها،
على أن الإحساسية الصوتية للكائنات الحية المستقبلة
للصوت ينبغي أن تكون مطابقة لتوزيع الطاقة في
إشارات المرسِل؛ أي إننا ينبغي أن نكون متوالفين
صوتيًّا مع أفراد نوعنا. وتعد تجربة مونيكا
جاجليانو على نبات الذرة الصغيرة أحد الأمثلة على
فرضية تطابق المرشِّح؛ فالأصوات التي يصدرها نبات
الذرة والأصوات التي يسمعها تقع في نطاق ترددي معين
ضيق نسبيًّا.
تدفع فرضية تطابق المرشِّح العلماء أيضًا إلى
توقع وجود موالفة متبادلة في الإشارات بين الفريسة
والمفترس. وقد لوحِظ هذا بالفعل في بعض الحيوانات؛
على سبيل المثال، تطورت أجنحة فصيلة العثيات
النمرية إلى شكل معين يجعلها تشوش على موجات
السونار التي تصدر عن الخفافيش (كما تبين أن إنتاج
الأصوات المضادة للخفافيش أمر شائع على نطاق واسع
في العثيات).
57 تحدث موالفة صوتية أيضًا بين النباتات
والحيوانات. ولنا مثال مدهش على ذلك في العلاقة بين
الخفافيش والنباتات. تستطيع الخفافيش، باستخدام
السونار الحيوي، تبيُّن مناطق طبيعية كاملة. فعندما
تستخدم الخفافيش السونار، تتلقى صورًا تبيِّن لها
أشكال النبات في هيئة أصداء السونار الحيوي المرتدة
من تلك النباتات. وقد برهن يوسي يوفيل، اختصاصي علم
الأعصاب البيئي بجامعة تل أبيب، أن النباتات لها
أصوات مميزة ترتبط بأشكالها من شأنها أن تجذب
الخفافيش بسبب «الشكل» الذي تبدو عليه لها من خلال
السونار الحيوي أو الرصد بالصدى. من خلال عملية
للتطور المشترك، تطورت لدى الخفافيش القدرة على
تصنيف النباتات باستخدام هذا السونار الحيوي؛ وفي
المقابل تطورت أوراق وأزهار النباتات التي تلقحها
الخفافيش لتصبح عواكس للصدى؛ فتكون بمنزلة منارات،
أو إشارات تعريف، أو علامات إرشادية جاذبة
للخفافيش.
58 وهذا يساعد الخفافيش على التعامل مع اﻟ
«صخب» المصاحب للسونار الحيوي، الذي يمكن أن يصعِّب
عليها تحديد موقع مصدر للغذاء، لا سيما إذا كان
مطمورًا وسط نباتات أخرى، كما في حالة الخفافيش
التي تتغذى على الرحيق.
لنتأمل على سبيل المثال نوعًا معينًا من الخفافيش
(خفاش بالاس الطويل اللسان) الذي يتغذى على الرحيق.
لاحظ العلماء في أثناء دراستهم لهذا النوع من
الخفافيش في المختبر أنه بارع في إيجاد الأشكال
البيضاوية أو نصف الكروية المختبئة بين أوراق
الأشجار الصناعية. وحين رأى أحد أفراد فريق البحث
صورة لنبات كرم كوبي مزهر، تقبع فوق زهرته ورقة لها
شكل الطبق، فهم السبب: «لا بد أن تلك إشارة
للخفافيش.»
59 لم يكن الباحث آنذاك يعرف حتى أن
الخفافيش تلقح ذلك النوع من الكرم. في تجربة لاحقة،
عثرت الخفافيش على جهاز تغذية مخبأ في وقت أسرع
بنسبة ٥٠ في المائة عندما وضعت فيه ورقة من ذلك
الكرم. أدرك الباحثون أن الورقة تعمل عمل محطة
إرسال عالية الكفاءة؛ إذ ترسل بصمة صوتية قوية
وثابتة للطقطقات التي تصدرها الخفافيش خلال عملية
تحديد الموقع بالصدى. كما أن شكل الورقة جعل الموجة
الصوتية المنعكسة «ثابتة بغض النظر عن زاوية
انعكاسها»، وتلك إشارة أخرى للخفافيش؛ لقد طور نبات
الكرم ورقة جعلته واضحًا صوتيًّا للخفافيش. وجد
الباحثون لاحقًا أن أنواعًا أخرى من الكرم تعتبر
نظيرًا صوتيًّا لعواكِس الضوء الليلية في الطرق
(عين القط)؛ إذ يجذب شكل أوراقها الخفافيش التي
تلقحها إلى أزهارها من خلال عكس أغلب طاقة نداءات
تحديد الموقع بالصدى التي ترسلها الخفافيش، لتعزز
بذلك قوة الإشارة.
60
توجد علاقة توالف صوتي مشابهة بين الأزهار
والنحل. في بعض النباتات المزهرة تنفتح في
المتكَّات (الأكياس التي تحوي حبوب اللقاح) مسام أو
شقوق صغيرة؛ يريح النحل أجساده على الزهرة ويهزها؛
مما يجعلها تهتز بالتردد المناسب الذي يجعل حبوب
اللقاح تخرج من المتكات.
61 وهذا التوافق الدقيق بين طنين النحل
كسلوك وبين حجم الزهرة وشكلها يعد مثالًا ضمن أمثلة
أخرى عديدة على التطور المشترك بين النباتات
والنحل.
62 برهن يوفيل أيضًا على أن طنين النحل
وحده يكون كافيًّا في بعض الحالات لإحداث تلك
الاستجابة السلوكية. فحين تتعرض النباتات لطنين
النحل الملقِّح لها (وكذلك الأصوات الاصطناعية ذات
الترددات المماثلة)، فإنها تستجيب بإفراز رحيق أعذب
في غضون دقائق معدودة.
63 لم يفهم العلماء بعد آلية ذلك، لكن
يوفيل يخمن أن الأزهار مصممة بحيث تتذبذب
ميكانيكيًّا استجابة لترددات معينة يصدرها النحل،
وهو ما يشير إلى وجود تناغم بديع بين الشكل
والوظيفة في النوعين.
64 يقول أحد العلماء: «لقد اكتشفنا أشياء
مذهلة. ونتوقع اكتشاف المزيد. أعتقد أن عالم الصوت
ينتظرنا فقط لكي نستكشفه.»
65
صناعة المعنى
إنه لشيء بديع وساحر أن نكتشف أن صوتيات الأزهار
مرشدة وجاذبة للخفافيش في آنٍ واحد، وأن النباتات
والنحل يخوضان أحاديث حميمية. لكن هل هذا مجرد مثال
على الترابطات الرائعة الموجود في الطبيعة، أم أنه
يدل على ما هو أبعد من ذلك؟ ذهب بعض العلماء إلى أن
قدرة النباتات على إنتاج الصوت وسماعه كفيلة بتغيير
النموذج السائد عن النباتات؛ إذ إنها تُحدث تغييرًا
جذريًّا في فهمنا لتواصلها، وهو رأي مثير
للجدل.
على سبيل المثال، أثارت أبحاث مونيكا جاجليانو
الجدل بسبب ادعائها أن النباتات قادرة على استخدام
الأصوات في التواصل الفعَّال، وأنها ليست مجرد
مستجيب سلبي لها. لكن أغلب علماء النبات يكتبون عن
الأصوات المعقدة التي تنتجها النباتات والمحيط
الطبيعي من حولها بصيغة المفعول به. على سبيل
المثال، يتناول هاسكل في كتابه «أغنيات الأشجار»،
أصوات الغابة من منظور موسيقي؛ فيصفها بأنها باعثة
على الهدوء أو البهجة أو الرهبة بالنسبة إلى البشر،
لكنه لا يصفها بأنها نتاج تواصل بين الأشجار
نفسها.
في الواقع، تختلف آراء العلماء بشدة حول إذا ما
كان ينبغي تعريف الأصوات التي تصدرها النباتات أو
تسمعها بأنها تواصل. وهذا الخلاف يتعلق في جزء منه
بالتعريفات. فمن العلماء من يعرِّف التواصل من
منظور مادي، باعتباره تحفيزًا للنظام الحسي
للمستقبِل، مثل اهتزاز الأهداب أو الشعيرات الدقيقة
في أذننا استجابة للصوت.
66 ومنهم من يخالفهم في ذلك، وأولئك
يعرِّفون التواصل من الناحية المعرفية، باعتباره
تبادلًا لمعلومات ذات معنًى بين المرسِل
والمستقبِل. هذا التعريف الأخير يعتبر أن التواصل
يحصل عندما يحمل الصوت معلومات تقلل الشك وعدم
اليقين لدى المستقبِل؛ أي إنه بجانب استقبالك
للصوت، عليك أن تفسره من أجل الحصول على معلومات
مفيدة. وهذا التعريف يشبه التعريفات المستخدمة في
نظرية المعلومات وعلم الكمبيوتر، ويمهد لطرق جديدة
لدراسة التواصل في النباتات.
67
للإجابة عن سؤال ما إذا كانت النباتات تتواصل
بصورة نشطة عن طريق بث معلومات صوتية، يحتاج
العلماء أولًا إلى إثبات أن النباتات قادرة على
إنتاج الأصوات وكذا الاستجابة لها، ثم إثبات أن ذلك
يمنحها ميزة تكيفية.
68 على سبيل المثال، هل يحتمل أن تصدر
النباتات أصواتًا تجذب الحيوانات النافعة وتردع
الحيوانات الضارة؟
69 يبدو ذلك معقولًا نظريًّا. فالجذب من
خلال الصوت قد يكون له عدة مزايا للنباتات؛ إذ
يمكِّنها من التنافس على لفت انتباه الحشرات
الملقِّحة، أو جذبها دون استهلاك الموارد اللازمة
لإنتاج الزهور الكبيرة.
وربما تكون النباتات قادرة على التواصل صوتيًّا
عبر التربة نفسها. ففي السنوات القليلة الماضية،
بدأ علماء البيئة يسجِّلون أصوات الحياة تحت سطح
الأرض. وعرفوا منذ وقت طويل أن الأرض تُئوي في
باطنها مجموعة هائلة من الكائنات. لكن مؤخرًا فقط
طور الباحثون ميكروفونات تستطيع التقاط أصوات
التربة، مثل أجهزة قياس الكهرباء الضغطية الصغيرة
الشبيهة بالميكروفونات التلامسية التي تثبت على
الجيتار (نوع من الميكروفونات يلتقط الذبذبات
الصوتية عن طريق التلامس مع العناصر الصلدة). كثير
من تلك الأصوات تحت الأرضية يكون أعلى من مستوى سمع
البشر أو أدنى أو أخفت منه. لكن عند تضخيمها بالقدر
المناسب، يتكشَّف لنا عالم صوتي يستلزم وصفه مفردات
جديدة؛ فما بين حشرات تحفر وجذور تنمو، يزخر باطن
الأرض بأصوات زحف وصرير وحفيف وخشخشة.
70
ما الذي يمكن أن يكتشفه العلماء من الإنصات إلى
أصوات التربة؟ تدرس كارولين-مونيكا جورس، عالمة
البيئة التطبيقية بجامعة جايزنهايم الألمانية،
يرقات فصيلة سكارابيدا أو الجُعَليات. فتصف أصوات
تلك الحشرات التي تقتات على الجذور بأنها مزيج من
صوت احتكاك ورق الصنفرة، وصرير الجنادب، وحفيف
اهتزاز فروع الأشجار. تلك الأنماط التي تسميها
كارولين «منصة تويتر تحت الأرضية» تكون فريدة لكل
نوع؛ وتستطيع الأذن المدربة التمييز بين يرقات
الأنواع المختلفة. ولم يثبت العلماء بعد إن كانت
اليرقات تستخدم تلك الأصوات للتواصل، لكن
كارولين-مونيكا لاحظت بالفعل نمطًا مدهشًا؛ وهو أن
اليرقات التي تدرسها تصدر أصواتًا أكثر عند وضعها
متقاربة بعضها من بعض، لكنها تسكت عند عزل كل منها
في حاوية منفصلة.
71
لا شك أن الحيوانات مهيئة منذ زمن طويل لالتقاط
الأصوات الصادرة من تحت الأرض. فالطيور حين تقفز
على المروج المبتلة بالأمطار، وتميل رأسها جانبًا،
فإنها تصغي إلى دود الأرض، وحين نراها تنقض على
شيء، لا يكون هذا فعلًا عشوائيًّا. والخُلْد الذهبي
الصحراوي حين يزحف عبر الرمال دافنًا رأسه تحتها،
فإنه أيضًا يُصغي إلى فريسته.
72 لكن هل تستطيع النباتات أيضًا سماع تلك
الأصوات؟ بدأ علماء النبات وعلماء الصوتيات البيئية
في وضع فرضية مفادها أن الإشارات الصوتية الصادرة
من جذر نبات أثناء نموه ربما تجذب إليه دود الأرض
الذي يساهم بدوره في تخصيب التربة بحفره للأنفاق
فيها. إذا صحت تلك الفرضية، فستجلي ألغازًا لم
تُكشف لنا بَعدُ عن الارتباط الملاحَظ بين نمو
النبات وتركيز الكائنات الحية في التربة. منذ وقت
طويل يولي العلماء اهتمامًا للإشارات المرئية
والكيميائية، لكن الموجات أو الذبذبات الصوتية التي
تنتقل عبر التربة نفسها قد تفتح مجالًا جديدًا
لأبحاث الصوتيات النباتية؛ عالم الأصوات تحت
الأرضية الذي بدأنا للتو ندرك وجوده.
73
أغنيات النبات
يثير غناء الحيتان الدهشة، أما فكرة تواصل
النباتات فعادة ما تثير السخرية. هل تلك الأصوات
إشارات تواصل أم أنها مجرد أصوات عارضة؟
74 بعض العلماء في إجابتهم عن هذا السؤال
يستندون إلى مفهوم «علم الأعصاب النباتي». لكن
كثيرًا من أقرانهم يخالفونهم الرأي بشدة، على أساس
أن النبات لا يملك خلايا عصبية ولا أدمغة. يستخدم
علماء آخرون مصطلحات مختلفة مثل التأشير النباتي
والسلوك النباتي. قد تكون هذه المصطلحات أدق لكنها
تبدو أيضًا تلطيفية نوعًا ما.
انحصر النقاش حول التواصل في النبات في الجدل حول
الإدراك المعرفي في النبات، بل الوعي لدى
النبات.
75 ونحن نستكشف هذه الجدالات، لا بد أن
نعي وجود أنثروبوسنترية (تمحور حول الإنسان) أو حتى
انحياز للثدييات. لماذا نتحدث عن أغنيات الحيتان
بدرجة من التقبل، بينما ننزعج من الإشارة إلى أن
النباتات وغيرها من الكائنات الحية تشارك في
سيمفونية هائلة من الأصوات تنقل المعلومات وتتواصل
من خلالها؟ لعل السبب أن ذلك يشير إلى أن الحيوانات
والنباتات بذلك تنقل معنًى أو تعبر عن مشاعر، وهي
أفكار لا تزال مزعجة لأغلب العلماء. أو لعلنا نخاف
من إسقاط مشاعرنا على غير البشر. وكما يقول كارل
سافينا، نحن نحتاج إلى أن نوازن بين أمرين؛ فكما أن
من المهم تجنُّب إسقاط المفاهيم الإنسانية على
الأنواع الأخرى، من المهم أيضًا عدم إنكار إمكانية
وجود تواصل غير بشري. فالأول خطأ تعيين، والثاني
خطأ حذف.
76
لعل انزعاج العلماء من ربط قوة التواصل الصوتي
بغير البشر نابع أيضًا من العلاقة الوثيقة بين
الصوت والمشاعر لدى البشر. فالتواصل الصوتي نفسي
وفسيولوجي على حدٍّ سواء، فكري وشعوري، وهو مرتبط
بأعمق خبراتنا وأكثرها حميمية. فالصوت يحركنا حتى
لو كان مصدره بعيدًا؛ كصوت حبيب أو صوت بكاء رضيع.
والموسيقى تغمرنا وتتخللنا، ونشعر بها في
أعماقنا.
77 لكن كما تشير ناتاشا مايرز، الأبحاث
التي تتناول أصوات النبات لا تُعنى بالضرورة ﺑ
«مشاعر» النبات. فذاك موضوع يعكس منظورًا
أنثروبومورفيًّا (يؤنسن ما هو غير إنساني) يرفضه
كثير من العلماء بشدة. كما أنه ينطوي على خطر
أخلاقي؛ فالسؤال عما إذا كانت النباتات لديها مشاعر
قد يحط من قدرها؛ إذ إن تقدير قيمتها بمقاييس البشر
سيجعلها دائمًا «نسخًا منا أدنى مقامًا». تقترح
ناتاشا ضرورة تبني منظور فيتومورفي (أي يركز على
النبات)، يقر بقدرة النباتات على القيام بأشياء
مذهلة (مثل التمثيل الضوئي أو تصنيع مركَّبات معقدة
مثل الكافيين). وبذلك سنسعى لفهم قدرات النبات في
حد ذاتها. نحن بدراستنا لأصوات النبات إنما نقر
بمدى تعقيده؛ لكن هذا الإقرار بهذا التعقيد يجب ألا
يُترَك فريسة لمذهب الأنسنة أو مذهب
الحيوية.
من مجالات البحث الواعدة التي قد تجيب عن تلك
التساؤلات، مجال يجمع بين علم النبات
والأنثروبولوجيا. قديمًا كانت الأبحاث الإثنوجرافية
(وصف الشعوب) والإثنوبوتانية (علم النبات الشعبي)
تركز فقط على معارف الشعوب الأصلية عن النباتات؛
أما الآن فيسعى العلماء إلى فهم الخواص الحسية
للنباتات (ابتداءً من الخواص الصوتية الحيوية
وانتهاءً بالخواص الكيميائية النباتية) باعتبارها
ظواهر فيزيائية حيوية وثقافية في آنٍ واحد. تتعامل
تلك الدراسات «الفيتوإثنوجرافية» مع النباتات
باعتبارها عناصر فاعلة لا مجرد عناصر سلبية لا دور
لها؛ وأولئك الباحثون بإعادة صياغتهم للنباتات
باعتبارها أشخاصًا (مثلما تفعل مجتمعات الشعوب
الأصلية)، إنما يتحدَّون أنسنة الأنثروبولوجيا، إلى
جانب إعادة النظر في الفصل بين النبات والحيوان
الذي ورثه العلم الغربي من أرسطو وثاوفرسطس.
بانتهاج ذلك النهج، يعيد علماء الأنثروبولوجيا
النظر أيضًا في انحيازاتهم السابقة تجاه نظريات
الشعوب الأصلية عن قدرات النبات الحسية والإدراكية
والتواصلية. ماذا لو تبين أن نظريات الشعوب الأصلية
لا تقوم على مجرد استعارات، بل تبين دقتها
بالتجربة؟ ماذا لو تبين أنها حقائق وليست مجرد
خرافات وأساطير؟
78 كما تشير روبن وال كيميرير عالمة
البيئة النباتية من قبيلة البوتاواتومي، يوجد جانب
كبير مشترك بين المعرفة البيئية التقليدية والمعرفة
العلمية عن النبات. تقول روبن: «[المعرفة البيئية
التقليدية] برؤيتها الكونية القائمة على احترام
الطبيعة والمسئولية تجاهها والعلاقة التبادلية معها
لا تتنافس مع العلم أو تنتقص من سطوته، بل توسع
نطاقه ليشمل التفاعلات بين البشر والعالم
الطبيعي.»
79 بل إن بعض علماء الأنثروبولوجيا بدءُوا
في إدخال النباتات ضمن «دراسات إثنوجرافية تتناول
العلاقة بين عدة أنواع.» تزعم مونيكا جاجليانو أنها
وضعت تصميمات تجاربها وفرضياتها من خلال حوار مع
المجتمعات الأصلية ومع النباتات نفسها.
80 وربما يمكِّن علم الصوتيات الحيوية
العلماء الغربيين من إعادة اكتشاف ما يعرفه أهل
المعرفة من السكان الأصليين منذ زمن طويل.
إذا كنت ما زلت في شك في فكرة تواصل النباتات،
فتأمل حقيقة أن كثيرًا من الأفكار العلمية السائدة
في وقتنا الحالي كانت تبدو متطرفة منذ وقت ليس
ببعيد. كما ستكتشف في الفصول التالية، ثمة أجندتان
بحثيتان رائدتان عن صوتيات الخفافيش والنحل، اتبعتا
مسارًا مماثلًا من الرفض الواسع إلى القبول في
نهاية الأمر. فقد لاقت الاكتشافات الأولى لسمة
تحديد الموقع بالصدى لدى الخفافيش الرفضَ والتشكيك.
لكن لم يَعُد مثار الجدل الآن هو قدرة الخفافيش على
تحديد الموقع بالصدى من عدمها، بل ما إذا كانت
قادرة على الاستفادة من تحديد الموقع بالصدى
للانخراط في التواصل الرمزي، الذي كان يعتقد أنه
مهارة ينفرد بها البشر، وهذا ما سنستكشفه في الفصل
التالي.