الفصل السابع

مداعبات الخفافيش

التحق دونالد جريفين بجامعة هارفارد عام ١٩٣٩ لنيل درجة البكالوريوس، وفي ذلك الوقت كان لديه اهتمام بالطيور والخفافيش، وفضول شديد تجاه واحد من أشهر الألغاز في مجال التاريخ الطبيعي. تستطيع الخفافيش وهي معصوبة الأعين أن تتنقَّل ببراعة، حتى في الكهوف الحالكة الظلمة. لكن عند سد آذانها، ترتطم بالحواجز حتى في وضح النهار.1 عُرفت هذه الظاهرة منذ القرن الثامن عشر على الأقل، حين عصب العالم الإيطالي لازارو سبالانزاني أعين الخفافيش بإحكام ثم أزالها، وذهل حين وجد أن قدرتها على الطيران لم تتأثر تمامًا في الحالتين.2 وظل ذلك لغزًا محيرًا على مدى قرنَين من اكتشافه؛ فقد تساءل جريفين: كيف استطاعت الخفافيش تفادي الحواجز في الظلام التام؟ هل من المحتمل أنها تستعمل وسيلة ما غير مرئية للتعرف عليها؟3 بدا أن الخفافيش تعرف شيئًا يجهله البشر، وأنها تجيد شيئًا استعصى على البشر فهمه رغم براعتهم في الميكانيكا.
لم يهتم بتأملات طالب البكالوريوس عن الخفافيش سوى قلة من الأساتذة. وكان من حسن حظ جريفين أن جمعته الصدفة بالبروفيسور جورج واشنطن بيرس، أحد الرواد الأوائل في مجال هندسة الاتصالات. كان بيرس راعي بقر وابنًا لمربي ماشية، تخرَّج في إحدى مدارس الفصل الواحد في تكساس وهو لا يملك أي مال، لكنه فيما بعد صار أستاذًا بجامعة هارفارد ورائد أعمال في وقت فراغه، وحصل على العشرات من براءات الاختراع ويملك محفظة استثمارية مزدهرة.4 كان أكثر ما اشتهر به بيرس هو بحثه العملي على أنظمة الهاتف، ولكن في إحدى تجاربه اكتشف بطريق الصدفة وسيلة لتحويل الصوت «فوق السمعي»؛ أي ذلك الذي يفوق نطاق الترددات التي يسمعها البشر، إلى صوت مسموع. اشتمل جهازه الأصلي على أنابيب مفرغة من الهواء، وهاتف، وبلورة كهروضغطية متذبذبة، وبوق مركِّز للصوت، ومكبِّر صوت، وقطعة من الورق المقوى؛ وكان هذا الهيكل المعقد الذي أقامه في قبو بجامعة هارفارد أول جهاز استطاع أن يلتقط أصواتًا فوق العتبة القصوى للسمع البشري ويحللها.5
لم يَكُن جهاز البروفيسور بيرس المذهل يخدم هدفًا محددًا، ولم يكن ثمة طريقة ثابتة لمعايرته. وبعد بحث عن مصدر لأصوات فوق سمعية يختبر بها أجهزته، استقر بيرس على أصوات الجداجد (صراصير الحقل) والجنادب المتوفرة بكثرة ويسهل الحصول عليها؛ وسره أن وجد أن هاتين الحشرتين تصدران وفرة من الأصوات فوق السمعية. على عكس المتوقع، جذبت الأنماط الصوتية التي تصدرها هاتين الحشرتين اهتمامه، وكرَّس جزءًا كبيرًا من مسيرته المهنية لفهم وتفسير أصواتهما، فأصبح بذلك أحد رواد علم الصوتيات الحيوية. واصل بيرس تطوير تقنيات لدراسة فسيولوجيا إنتاج الأصوات في هاتين الحشرتين، وبرهن لاحقًا على أن نمط النبض الموجود في صرير كل من هاتين الحشرتين هو شفرة من نوع ما، وأنه نمط مميز بالقدر الذي يسمح لنا بالتعرف بدقة على النوع الذي يصدره. استقر بيرس أيضًا على أن أصوات هاتين الحشرتين تعملان عمل مقياس حرارة طبيعي، وهو اكتشاف أدهش علماء البيئة.6 على سبيل المثال، يصدر جدجد الأرض المخطط عشرين صرصرة في الثانية عند درجة حرارة ٣١٫٤ درجة مئوية، بينما يصدر ست عشرة صرصرة فقط عندما تكون درجة الحرارة ٢٧ درجة مئوية.7
لم تُفهم تأثيرات أبحاث بيرس على نطاق واسع إلا بعد سنوات عديدة. غير أنه أعرب في نهاية حياته عن إحساسه القوي بأن أبحاثه سيكون لها أهمية في المستقبل. وركَّز كتابه الأخير «أغنيات الحشرات»، على أبحاثه عن الجنادب والضفادع بدلًا من تلخيص مسيرته المؤثرة في مجال الاتصالات اللاسلكية. كتب بيرس في المقدمة: «قد يسأل القارئ العادي عن السبب الذي دفع متخصصًا في الفيزياء وهندسة الاتصالات إلى توجيه جهوده نحو دراسة الحشرات. لعل الإجابة هي أن أي جاهل يجب عليه أن يسعى للتعلم والاستنارة.»8
كان يفصل بيرس عن التقاعد سنة واحدة حينما سعى دونالد جريفين للتواصل معه. كان لدى جريفين شك في أن الخفافيش تستخدم أصواتًا فوق سمعية لا تسمعها الأذن البشرية للتنقل والحركة، وكان بيرس هو صانع الجهاز الوحيد في العالم الذي يمكن أن يختبر به صحة فرضيته من عدمها. كان جريفين طالبًا متوسط المستوى يجد صعوبة في التفاضل ويهدده تقدير «مقبول» الذي حصل عليه مؤخرًا في مساق علم الفيزياء الإجباري لطلاب البكالوريوس، وقد جعله ذلك يتردد في التواصل مع بيرس. كتب لاحقًا: «ما إن استجمعت شجاعتي وطرقت باب بيرس، حتى وجدته رجلًا مرحًا، وكان جهازه يطقطق ويتكتك على نحو يبعث على البهجة كلما نشطت خفافيشي.»9 بعد أن ناقش الرجلان طرقًا عديدة، قررا أن يبدآ بطريقة بسيطة. أحضر جريفين خفافيشه إلى المختبر في أقفاص، ثم بدأ الطالب والفيزيائي البارز يمسكان بها واحدًا تلو الآخر أمام الجهاز ويصغيان. كانت النتائج فورية ومذهلة؛ فقد وجدا أن الخفافيش تصدر أصواتًا فوق سمعية بالفعل، وأن تلك الأصوات تشتد حدتها أثناء محاولتها الفرار من آسريها. لكن حين تركها العالمان تحلق في أرجاء المعمل بحرية، وجدا صعوبة في التقاط أي أصوات لها؛ ودون أن يحصلا على ذلك الدليل، لم يستطِعْ جريفين إثبات أن الخفافيش تستخدم الأصوات فوق السمعية للتنقل وتحديد الاتجاه. وفي نتائج الدراسة التي نشرها بيرس وجريفين، تبنيا نبرة حريصة عند الحديث عن الأصوات «فوق السمعية» التي تصدرها الخفافيش، وصفها جريفين فيما بعد بأنها كانت «حذرة إلى حد غير منطقي.»10
رغم هذا الكشف الفذ، ظل اللغز الذي حيَّر جريفين قائمًا؛ فقد أثبت أن الخفافيش تُصدر أصواتًا فوق سمعية وهي ثابتة، لكنه لم يستطع معرفة إن كانت تفعل ذلك أيضًا أثناء طيرانها. فهل كانت الخفافيش صامتة فعلًا، أم أن تصميم تجربته كان معيبًا؟ بدأ جريفين الدراسات العليا، لكن جاءت الحرب العالمية الثانية فأعاقته عن إتمامها، والتحق بالجيش ليعمل في التواصل الصوتي.11 وبعد انتهاء الحرب، عاد إلى جامعة هارفارد لنيل درجة الدكتوراه في موضوع أكثر شيوعًا وهو الطيور المهاجرة، حتى إنه حصل على رخصة طيران كي يتمكن من تتبع النوارس بالطائرات الخفيفة. لكن لغز تحديد الموقع بالصدى في الخفافيش الذي لم يجد له حلًّا ظل يطارده؛ إذ كانت التجارب التي أجراها مع بيرس غير حاسمة تمامًا.

جاءت نقطة التحول حين تعاون جريفين مع بوب جالامبوس، الذي كان زميلًا له في الدراسات العليا تخصص في الفسيولوجيا. فسرعان ما أدرك الثنائي أن العقبة التي واجهت جريفين في البداية كان سببها أن الأصوات التي تصدرها الخفافيش تكون موجهة بدرجة كبيرة. فالخفافيش تطلق الأصوات في حزم ضيقة كانت كنسخة صوتية من شعاع الكشاف الضوئي؛ ولالتقاط تلك الأصوات، كان يجب توجيه الجهاز مباشرة ناحية خفاش قادم صوبه. ولم يكن جهاز بيرس مركزًا على الخفافيش بدقة كافية لالتقاط تلك الحزم الضيقة.

ما إن تبدَّى لهما ذلك الاكتشاف، حتى تبلور في ذهنيهما تصميم التجربة. كانا يعملان في وقت متأخر من الليل كيلا يشوشا على التجارب الفيزيائية «الجادة» التي تجرى أثناء النهار، فسدا آذان بعض الخفافيش وأغلقا أعين البعض الآخر باستخدام صمغ قابل للذوبان، ثم تركا الخفافيش تحلق في غرفة تمتد في أرجائها عدة أسلاك رفيعة مشدودة، وأصغيا. طارت الخفافيش التي غُطيت أعينها وكانت في مقام المجموعة الضابطة التي لم تُمَس بأي تغيير. ولكن سد آذان الخفافيش أدى إلى ارتطامها مرارًا بالجدران، وعلوقها في الأسلاك، مع عزوف ملحوظ عن الطيران؛ ولم يكن الحال أفضل من ذلك بالنسبة إلى الخفافيش التي سدت إحدى أذنيها فقط.

أثبتت تلك النتائج أن الخفافيش تستعمل فعلًا الأصوات فوق السمعية لتفادي الحواجز.12 لكن إمعانًا في التثبُّت، تحقق جريفين من مصدر الصوت فوق السمعي بأن سد خَطْم بعض الخفافيش بربطه بخيط، ثم غطاه بطبقة من الكولوديون (محلول حلو المذاق يتحول إلى طبقة سميكة حين يجف)؛ وكانت النتيجة أن الخفافيش المُكممة «طارت بتخبط وتردد وارتباك مثل الخفافيش التي سُدت آذانها.»13 استطاعت بعض الخفافيش أن تخدش طبقة الكولوديون وتثقبها؛ وكان مجرد ثقب بسيط كفيلًا بأن يعيد إليها قدرتها على استخدام أساليب تفادي الحواجز مرة أخرى. وكان هذا دليلًا إضافيًّا على أن الخفافيش، مثل أجهزة السونار العسكرية، استمعت إلى أصداء إشاراتها فوق السمعية، فصنعت بذلك خريطة صوتية لبيئتها كانت تضاهي أكثر التقنيات الإلكترونية تطورًا وتعقيدًا آنذاك. لقد صقل التطور آلية بدأ البشر يكتشفونها لتوِّهم.
تحمس الطالبان لإطلاع العالم على ما توصَّلا إليه من نتائج. لكن العالم لم يكن متحمسًا لاستقبالها. يتذكر جريفين ذلك لاحقًا فيقول: «صدِم أحد علماء الفسيولوجيا البارزين من العرض الذي قدمناه في أحد الملتقيات العلمية لدرجة أنه أمسك بكتفَي بوب وهزه وهو يقول بازدراء: «أنت حتمًا لا تعني هذا»!»14 كان السونار والرادار لا يزالان تقنيتَين عسكريتين سريتين للغاية. ولم تكن فرضية أن الخفافيش ربما تستخدم نظيرًا ولو بعيدًا لأحدث انتصارات التقنيات العسكرية (فضلًا عن تفوقه عليها) موضع ترحيب. وكان للدلالة الرمزية للخفافيش في المجتمع الغربي دور في هذا الرفض أيضًا؛ فقد كانت الخفافيش تستدعي في الأذهان صور مصاصي الدماء ونذر الشؤم؛ لا كائنات قادرة على التواصل المعقَّد.
في العقود اللاحقة، استمر التشكيك في قدرة الخفافيش على تحديد الموقع بالصدى؛ فلم تكن التقنيات اللازمة لاختبار صحة بعض من فرضيات جريفين قد وجِدَت بعد. لكن في نهاية المطاف، أتاح له التحسن الذي طرأ على أجهزة رسم الأشعة الهابطة التذبذبية عرض أصوات الخفافيش بيانيًّا وقياسها بدقة، بعد أن كان لا يستطيع وصفها هو وبيرس إلا وصفًا عامًّا.15 في سلسلة من التجارب التي أجراها جريفين على مدى عدة عقود، أثبت أن السونار الحيوي في الخفافيش متوالف على نحو بديع، ودقيق إلى حد مدهش. كانت الطرق التي استخدمها لذلك شاقة؛ فباستخدام كاميرا تصوير أفلام قديمة تعمل بفيلم عرضه ٣٥ ملِّيمترًا، صوَّر التمثيلات البيانية التي رسمها جهاز رسم الذبذبات والتي تتبعت أصوات الخفافيش في شكل خطوط على شاشة. ولما لم يثمر العمل المختبري عن نتائج، اتجه جريفين إلى العمل الميداني. كان يأخذ كاميراه وجهاز رسم الذبذبات ومذياعًا محمولًا يعمل بالبطارية، وميكروفونًا، وجهازًا لتركيز الصوت وعكسه، ومولدًا يعمل بالجازولين في صندوق شاحنة متهالكة ويتجه بها إلى البرك المحيطة، وبعد أن يقضي عدة ساعات في إعداد أجهزته، كان ينتظر بصبر الفترة القصيرة التي تصيد فيها الخفافيش البنية من نوع «إبتيسكوس فوسكوس» الحشرات أثناء الغسق، والتي تمتد من خمس عشرة إلى عشرين دقيقة.
جاءت النتائج مذهلة. كانت معدلات تحديد الموقع بالصدى التي رصدها جريفين أثناء مطاردة تلك الخفافيش البرية للحشرات مرتفعة إلى حدٍّ مذهل. وقاده ذلك إلى اكتشاف آخر محوري. كان جريفين من قبل يعتقد أن تحديد الموقع بالصدى نظير للسونار؛ أي إنه وسيلة يستعملها الخفاش للتعرف على الحواجز الثابتة، وتفادي الارتطام بها، وتحديد اتجاهه في الظلام. وافترض هو وغيره من العلماء أن السونار الحيوي لا يستطيع اكتشاف الحشرات الصغيرة السريعة الحركة، وأن الخفافيش تسترشد ببصرها حتمًا في مناوراتها الرشيقة للصيد. لكن التجارب التي أجراها جريفين عند البرك أثبتت أن هذا الافتراض لا أساس له من الصحة؛ وأن الخفافيش، في الواقع، كانت تستخدم السونار الحيوي لتحديد موقع العث والذباب وحتى البعوض، بالصدى وتتبعه بحرص شديد كي تلتقطه أثناء طيرانه.16 وعن ذلك كتب جريفين لاحقًا: «بدا تحديد موقع الأشياء الثابتة بالصدى مذهلًا بما يكفي، لكن خيالنا العلمي عجز ببساطة عن التطرق، ولو على سبيل التخمين، إلى وجود هذا الاحتمال الآخر ذي التبعات الواسعة المدى.»17 لقد فاق السونار الحيوي لدى الخفافيش أعقد أجهزة السونار البشرية وأكثرها تطورًا بأضعاف.
بعد ذلك بدأ جريفين يتساءل إذا كانت أصوات الخفافيش تختلف باختلاف نوعها، على نحوٍ تكيُّفي مع أنواع الفرائس والبيئات المختلفة. كانت ردود أقرانه من العلماء محبطة؛ فقد أخبره جورج فون بيكسي الحاصل على جائزة نوبل، والباحث الرائد في السمع آنذاك، أن بحث ذلك سيكون مضيعة للوقت. قال له: «الخفاش يبقى خفاشًا؛ وتلك الأصوات ليست إلا دفقات من الضوضاء، ولا يرجح أن تسفر أي دراسات إضافية عما هو أكثر من ذلك.»18 لكن جريفين أصرَّ على موقفه، وأثار جدلًا بافتراضه أن أصوات الخفافيش ليست مجرد أداة للتنقل والحركة؛ بل إنها تُناظر أغاريد الطيور، بل ربما تُناظر اللغة البشرية، على حد زعمه. كان السؤال الذي طرحه جريفين هو: هل الخفافيش قادرة على التعلم الصوتي والتواصل المعقد؟ رفض أغلب العلماء ذلك الطرح الذي يخالف المعتقدات السائدة عن تفرُّد اللغة البشرية. لكن في الأعوام الأخيرة، ظهر جيل جديد من الأدوات الرقمية مكَّن باحثي الخفافيش من إثبات صحة بعض أفكار جريفين؛ مثل أنها قادرة على التعلم الصوتي، وأنها تستخدم التواصل المعقَّد لتوجيه السلوك الاجتماعي على نحوٍ يشبه البشر.

الإصغاء إلى أغنيات الخفافيش

كيف تتعلم الخفافيش بالضبط عن طريق الأصوات؟ لكشف ذلك اللغز، تسافر ميريام كنورنشيلد، الباحثة المتخصصة في الخفافيش بجامعة برلين الحرة، كل عام إلى أمريكا الوسطى لدراسة الخفاش الكيسي الجناحين الأكبر (ساكوبتريكس بيلينيتا)، أحد أكثر الفصائل شيوعًا في الغابات المطيرة الاستوائية. فنظرًا إلى اهتمامها بالتواصل الاجتماعي، تحتاج ميريام إلى ملاحظة الخفافيش التي تدرسها بصريًّا؛ لذا اختارت نوعًا من الخفافيش له بعض السمات غير التقليدية. ثمة ثلاثة أسباب تجعل الخفافيش كيسية الجناح الكبرى أسهل في دراستها من غيرها. السبب الأول أنها مستقرة جغرافيًّا؛ فهي لا تهاجر (كما يفعل كثير من خفافيش المناطق المعتدلة)، وهذا يجعل من السهل دراستها على مدار السنة. تدافع ذكور الخفافيش الكيسية الجناح الكبرى عن مناطق وجود مجاثمها التي تجذب الإناث نحوها بتأدية استعراضات تنافسية؛ وبعد أن يجذب الذكور الإناث، يمكث الذكور في المجثم كي تساهم في رعاية الصغار. وهكذا يستطيع الباحثون العودة سنة تلو الأخرى إلى الموقع نفسه ودراسة عائلات الخفافيش من جيل لجيل. السبب الثاني أن الخفافيش الكيسية الجناح الكبرى تألف البشر للغاية مقارنة بغيرها من الأنواع. على سبيل المثال، تحكي ميريام أن «بعض صغار الخفافيش أثناء تعلم الطيران والتخبط في الهواء، تفقد السيطرة أحيانًا وتسقط فوقي؛ ربما لأني أُشبه بالنسبة إليها جذع شجرة وأبدو لها آمنة. وفي بعض الأحيان تأتيني الأم وتحط فوقي وتلتقط صغيرها لتعيده إلى المجثم. إن الخفافيش تتقبل وجودي، أو على الأقل لا تمانعه.»19 أما السبب الثالث، فهو أن الخفافيش الكيسية الجناح الكبرى، على عكس كثير من أنواع الخفافيش الأخرى، تأوي إلى الشجر عادة (وليس في الكهوف) وتنشط أثناء ساعات النهار. واجتماع هذه العوامل الثلاثة — استقرارها الجغرافي، وإلفها البشر، ونشاطها النهاري — في الخفافيش الكيسية الجناح الكبرى يجعلها الأسهل تقريبًا في دراستها على مدار العام.
ما الذي اكتشفته ميريام؟ أولًا، اكتشفت أن الخفافيش الكيسية الجناح الكبرى تُبدي قدرة على التعلم الصوتي المعقد على مدى حياتها. على غرار البشر، تتعلم صغار الخفافيش عن طريق تقليدها لأصوات البالغين. فالخفافيش الحديثة الولادة تصدر نداءات بتردد مطابق لتردد نداء أمهاتها، وتعلمها أمهاتها نداءات معينة تساعدها في التعرف عليها حين تعود إلى العش.20 كذلك «تناغي» الأمهات صغارها؛ فعلى غرار البشر، تستخدم الخفافيش نوعًا من الخطاب الموجه للصغار يسهِّل عليها تعلم اللغة عن طريق زيادة الانتباه والتيقظ لدى الصغير (وعلى شاكلة الأمهات البشريات، تغير أمهات الخفافيش إيقاع كلامها وحدته وهي تتحدث إلى صغارها، لكنها لا ترفع نبرة صوتها بل تخفضها).21
عندما تبدأ الخفافيش الطيران، فإنها تتعلم النداء المميز لجماعتها، وهو أحد الأصوات المهمة التي تسهل القرارات المستقبلية المتعلقة بالتزاوج.22 تتعلم الذكور اليافعة أغنيات خاصة بترسيم مناطق النفوذ من آبائها، بل إنها تمر بمرحلة تمارس فيها «المناغاة» مثل صغار الطيور المغردة والبشر. تبدأ صغار الخفافيش نطق مقاطع منفردة من أغنيات جماعتها وهي بعمر أسبوعين أو ثلاثة؛ وببلوغها عشرة أسابيع تكون تلك المقاطع قد تبلورت إلى أغنيات.23 وتظل أغنياتها لبعض الوقت أكثر تباينًا من أغنيات الخفافيش البالغة، وكأنما لا تزال تتدرب عليها.24 وعندما تصل إلى مرحلة البلوغ، تكون قد حددت أغنيات تميز منطقة نفوذها عن غيرها، أو نداءات مميزة تنفرد بها عائلتها المباشرة، وتكون قد جمعت حصيلة كبيرة من المفردات الصوتية الخاصة، تتضمن النداءات المقتصرة على أفراد بعينهم. وكما في الأنواع الأخرى من الخفافيش، تُكتسَب تلك الأصوات بالتعلم وليس بالفطرة.25
مثل أغنيات الحيتان أيضًا، تنتقل أغنيات الخفافيش ثقافيًّا وتتطور بمرور الزمن. وللخفافيش الكيسية الجناح الكبرى نوعان من الأغنيات: أغنيات خاصة بترسيم منطقة النفوذ، الغرض منها ردع الذكور المنافِسة، وأغنيات خاصة بالتزاوج، الغرض منها جذب الإناث إلى مجثم داخل منطقة نفوذ الذكر. لتلك الأغنيات أهمية حيوية؛ لأن إناث الخفافيش الكيسية الجناح تهاجر بعيدًا عن جماعاتها التي ولدت فيها قبل البلوغ، وتعتمد على أغنيات مناطق نفوذ الذكور عند اختيار مستعمرات خفافيش جديدة لتستقر بها.26 وقد وجدت ميريام كنورنشيلد أدلة على أن الذكور تغير أغنياتها الخاصة بمناطق النفوذ لتعكس درجة أعلى من العداء (إذ كلما انخفضت حدتها، كان النزاع أخطر)، وتزيد من معدل تكرار أغنيات التزاوج استجابة لزيادة عدد الإناث التي تجذبها وزيادة عدد المنافسين التي عليها أن تردعها. أثناء تعلم صغار الذكور تلك الأغنيات من الذكور البالغة عبر الانتقال الثقافي، تنشأ أخطاء غير ملحوظة في النقل وتعديلات في بنية الأغنية وترتفع حدتها بمرور الوقت. وهذا يؤدي إلى نشأة لهجات محلية مميزة. تميز هذه اللهجات، شأنها في ذلك شأن لغات البشر أو لهجات الحيتان السفاحة، مجموعات الخفافيش المختلفة وتنتقل عبر الأجيال وتستمر في التطور.27
وثقت ميريام كنورنشيلد وغيرها من الباحثين أغنيات ثلاثة عشر نوعًا من الخفافيش، ومن المرجح أن يكون عددها أكبر بكثير من ذلك. فكثير من أنواع الخفافيش (التي تشكل نحو ربع إجمالي الأنواع الثديية على كوكب الأرض) تصدر كثيرًا من الأصوات.28 ومثل الطيور المغردة، تكون أغلب الخفافيش المغنية من الذكور التي تغني للدفاع عن مناطق نفوذها أو لجذب الإناث، لا سيما في المجتمعات التي يوجد فيها تعدد للزوجات، حيث تتنافس الذكور على أكثر من أنثى ويتزوجون أكثر من أنثى.29 ورغم أن ما نعرفه عن أغنيات الخفافيش قليل نسبيًّا، ويقع أغلبه في النطاق فوق السمعي، وجد الباحثون أدلة على أن بنية المقاطع والتراكيب الصوتية لأغنيات الخفافيش يمكن أن تكون في ثراء وتعقيد أغاريد الطيور. هذا بالإضافة إلى أن الضغوط التطورية المحابية للتغريد في الطيور موجودة أيضًا في الخفافيش.30 وهكذا وبعد مرور نحو مائة عام على تجربة جريفين الأولى في قبو جامعة هارفارد، ثبتت صحة فرضيته. فقد تبين أن أصوات الخفافيش أكثر بكثير من مجرد كونها أدوات تنقل مدهشة؛ فمن خلال التعلم الاجتماعي للهجات الأغنيات، تنقل الخفافيش تعاليمها الثقافية عبر المجتمعات والأجيال.
ما كانت تلك الاكتشافات المذهلة لتحدث لولا تكنولوجيا التسجيل الرقمي المتحرك الجديدة. صحيح أن ثمة ملاحظات سلوكية عن الخفافيش المغنية قد سجِّلت في ستينيات القرن الماضي، لكن تلك الدراسات لم تسجل إلا عددًا محدودًا من أغنيات الخفافيش المسموعة للبشر.31 ولم ينشر أول مخطط طيفي لأغنيات الخفافيش فوق السمعية (وليس أصوات السونار الحيوي) إلا في عام ١٩٩٧؛ استعمل مؤلفو المخطط الذي نُشر إشارات صوتية مستخرجة من جهاز لكشف الخفافيش لتسجيل أغنيات لخفافيش صغيرة (بيبيستريل) أثناء الطيران على جهاز ووكمان من شركة «سوني».32 في العقد الأخير، صارت التسجيلات الميدانية لأغنيات الخفافيش أسهل مع ظهور جيل جديد من المسجلات الرقمية الرخيصة الخفيفة الوزن والسهلة الحمل. فصار بإمكان الباحثين تسجيل مجموعات ضخمة من البيانات مكونة من تسجيلات لمدد زمنية طويلة لأصوات الخفافيش من مجموعة متنوعة من الموائل المختلفة، ابتداءً من قمم الأشجار وانتهاءً إلى أعماق الكهوف المظلمة، وعلى مدار الليل والنهار.33 كذلك منح اختراع بطاقات الوسم الدقيقة الخاصة بالخفافيش، التي لا يتعدى وزنها جرامًا واحدًا، العلماء القدرة على تتبع الخفافيش بسهولة أكبر، من خلال دمج بيانات الموقع مع البيانات الصوتية لتكوين فهم أشمل لكيفية ارتباط أصوات معينة بسلوكيات معينة.
تتذكر ميريام كنورنشيلد: «حينما أنهيت رسالة الدكتوراه منذ عقد، كانت المعدات التي استخدمتها توصف بأنها «محمولة». ولكن كان ذلك يعني أن بإمكاني أن أحملها إلى الغابة؛ وبمجرد أن أجهزها للعمل، أجلس بجانبها دون أن أتحرك. فإذا انتقلت الخفافيش إلى شجرة أخرى، كنت أستغرق نصف ساعة أو يزيد كي أنقل معداتي. وحينها تكون الخفافيش قد تحركت مرة أخرى. أما الآن فقد صار بإمكاني الحصول على تسجيلات باستخدام جهاز صغير في حجم هاتفي المحمول. وأستطيع التحرك عبر الغابة وتسجيل أصوات الخفافيش دون وسمها حتى.»34 لقد مكَّن الجيل الأحدث من تقنيات الصوتيات الحيوية الرقمية ميريام من أن تتمتع بحرية التنقل مثل الخفافيش التي تتبعها.
تتوافر أجهزة رقمية أخرى، مثل الكاميرات الحرارية، ومكبرات الصوت التي تشغِّل الأصوات المسجلة، والطائرات المسيَّرة، بل حتى الروبوتات المجسمة على شكل خفاش المكسوة بالفرو والمجهزة بمكبرات صوت، بسعر زهيد بما يكفي بحيث يمكن للباحثين اقتناؤها فرادى، مما وفَّر لهم إمكانية إجراء تجارب تشغيل الأصوات المسجلة التفاعلية. منذ سنوات قليلة، كانت تجارب تعريض الخفافيش للأصوات المسجَّلة التي تُجريها ميريام على حد قولها تقتصر على «الركض في أرجاء غابة مظلمة بسرعة ٨ أمتار في الثانية حاملة مكبر صوت مثبت على طرف عصا.»35 لكن الخفافيش لم تنخدع بها. في تجربة تعريض الخفافيش للأصوات التالية لميريام، سوف تستخدم طائرات مسيرة تعمل بواسطة حاسوب وتحمل مكبرات صوت وميكروفونات، بحيث تتفاعل آنيًّا مع الخفافيش، فتشغِّل أصواتًا معينة استجابة لأصوات الخفافيش. وتتوقع أن تقنية تشغيل الأصوات المسجلة الآنية التفاعلية هذه ستمكن الباحثين من إيجاد شبكات تواصل أكبر وأكثر ثراءً مما يمكن أن نتخيل في الوقت الحالي.
بعبارة أخرى، لولا التقنيات الرقمية وعلوم البيانات التي استعانت بها أبحاث الصوتيات الحيوية للخفافيش، لما تمكن البشر من التوصل إلى ما يعرفونه الآن عن التعلم الصوتي في الخفافيش. لكن رغم قدرة المسجلات الرقمية على التقاط كمٍّ غير مسبوق من الأصوات، وقدرة خوارزميات تعلم الآلة على إيجاد الأنماط، تنوه ميريام كنورنشيلد بأنه لا يزال من الصعب تفسير تلك الأنماط. فمثلما يلزم ربط التسلسل الجيني بمعلومات ذات معنًى بيولوجيًّا، يلزم أيضًا ربط بيانات الرصد الصوتي السلبي بمعلومات ذات معنًى سلوكيًّا وبيئيًّا. وهذا أمر لا تستطيع أجهزة الكمبيوتر أن تقوم به، على الأقل في الوقت الحالي. تقول ميريام: «في نهاية المطاف، ستحتاج لأن تسأل الحيوانات: «هل هذا مفهوم بالنسبة إليك؟ هل لهذا معنًى بالنسبة إليك؟» أنت بحاجة لأن تبتعد عن البيانات الضخمة وتنزل إلى الميدان لتراقب وتسمع.»36 إن تكنولوجيا الصوتيات الحيوية الرقمية ليست إلا أداة تساعد العلماء على طرح أسئلة أفضل وجمع قدر أكبر من البيانات لتحليلها، لكنها في حد ذاتها لا تقدم إجابات. ومن ثَم فإن أفضل طريقة لفهم التقنيات الرقمية هي اعتبارها مجموعة من الأطراف الصناعية التي تساعد في الرصد والملاحظة، فتتيح للعلماء طرح نوع جديد من الأسئلة، وتمكنهم من الحصول على إجابات على نحوٍ أسرع من ذي قبل.

عقول أخرى

أتاحت الصوتيات الحيوية الرقمية للباحثين القائمين على دراسة الخفافيش التوصل إلى مجموعة أخرى أروع من النتائج، تتعلق بالعلاقات الاجتماعية المعقدة بين الخفافيش والقدرات المعرفية التي تتمتع بها. لنأخذ على سبيل المثال فرضية الذكاء الميكافيلي (أو «العقل الاجتماعي»).37 تنص تلك الفرضية على أن الحاجة لاكتساب مهارات اجتماعية ذكية كانت محركًا لتطور الفكر البشري؛ إذ مكنت أسلافنا الذين فاقوا غيرهم مهارة من التعاون والتلاعب بأفراد جماعاتهم الاجتماعية، مما أنشأ دائرة تغذية راجعة تطورية إيجابية. وزيادة التعقيد الاجتماعي تؤدي إلى زيادة التعقيد الصوتي، والعكس بالعكس؛ فالتفاعلات الاجتماعية الأعقد تحتاج إلى تواصل أعقد، وهذا بدوره يرتبط بالضرورة بإشارات للتواصل الصوتي على مستوى أعلى من التعقيد. وقد جرت دراسة دورة التغذية الراجعة الإيجابية تلك في الثدييات (مثل الرئيسيات والقوارض) والطيور المغردة، لكن العلماء بدءُوا مؤخرًا فقط يدرسونها في الخفافيش، التي تبين أنها أيضًا ثرثارة واجتماعية وتعيش في مجتمعات على درجات عالية من التعقيد.38
تتحقق فرضية الذكاء الميكافيلي في نوع «ساكوبتريكس بيلينيتا» الذي تدرسه ميريام. مقارنة بالأصوات البسيطة نسبيًّا التي تصدرها الأنواع الأخرى المعددة للزوجات من فصيلة الخفافيش الكيسية الجناح، تُعد أغنيات ذكور نوع «ساكوبتريكس بيلينيتا» من أعقد الأغنيات الذكورية، كما يتمتع هذا النوع بأحد أعقد التنظيمات الاجتماعية.39 يدافع الأقرباء من الذكور المهيمنين عن مناطق تكاثر متجاورة، ويتنافسون على الوصول إلى الإناث، بينما يصطف الذكور التابعون للدخول إلى منطقة التكاثر وفي أثناء ذلك تدافع عن مستعمرتهم ضد الذكور المهاجرة من غير الأقرباء. يتزاوج الذكور مع عدة إناث، وعلى مدار العام تقيِّم الإناث بدورها الذكور المتنافسين وتختار أزواجها ومناطقها بِناءً على استعراضات المغازلة التي يؤديها الذكور، والتي تشمل أغاني معقدة. وترى ميريام كنورنشيلد أن هذه المنافسة القوية على اختيار الشريك الجنسي (ضغط الانتخاب الجنسي) أدَّت إلى تعقيد أصوات الذكور. بمرور الوقت، تساهم هذه الدراسات المتعلقة بتطور حصيلة الأصوات لدى الخفافيش على نحو أكبر في علم اللغويات الحيوية؛ إذ تعمق فهمنا لكيفية تعلم الخفافيش، التي تعد من الكائنات المعمرة، من أقاربها.
تعتقد ميريام كنورنشيلد أننا سنتوصل إلى اكتشافات مماثلة في أنواع أخرى من الخفافيش. فأغلب أنواع الخفافيش لها حياة اجتماعية معقدة، والتعقيد الاجتماعي يؤدي إلى زيادة التعقيد الصوتي. فتقول: «الخفاش الكيسي الجناح الأكبر ليس متفردًا عن غيره على الإطلاق. فهو لا يملك دماغًا كبيرًا، وليس نوعًا مميزًا من الخفافيش. كل ما يميزه هو السهولة الاستثنائية لدراسته على البشر باستخدام التكنولوجيا الحالية.»40 وتتوقع أن تكون المرحلة التالية هي دراسة التواصل بين الخفافيش وغيرها من الأنواع؛ فقد تؤدي النداءات التي يصدرها نوع ما إلى تغيرات في سلوكيات الافتراس والتعاون والتنافس في أفراد نوع آخر. وتتوقع أيضًا أن يتم كثير من تلك الاكتشافات باستخدام تقنيات رقمية حديثة لاستكشاف سلوك الخفافيش؛ لا سيما قدراتها على حل المشكلات واللعب والمقايضات الاجتماعية واتخاذ قرارات معقدة (مثل تغيير المسار أثناء التنقل). توضح ميريام أن التقنيات الرقمية ضرورية لتسجيل أصوات الخفافيش وتحليلها، نظرًا إلى ضخامة عدد النداءات وتسارعها؛ فأغلب تلك النداءات لا تتعدى مدته أجزاءً من الثانية والكثير منها يصدر في آنٍ واحد. فالضوضاء داخل كهف مكتظ بخفافيش الفاكهة تصم الآذان. وتحليل هذه الأصوات المتداخلة والمتنافرة يستلزم تقنيات حاسوبية قادرة على معالجة وتحليل ما تعجز الأذن البشرية عن معالجته وتحليله.
على سبيل المثال، لدراسة نوع واحد فقط من الخفافيش، راقب يوسي يوفيل، عالم الأعصاب البيئية بجامعة تل أبيب، اثنين وعشرين خفاش فاكهة مصريًّا (روزيتوس إيجيبتياكوس) أسيرًا على مدى زمني متواصل امتد إلى شهرين ونصف شهر، سجَّل خلاله أكثر من خمسة عشر ألف نوع من الأصوات.41 ثم أدخل فريقه تعديلات على أحد برامج التعرف على الأصوات لتحليل الأصوات التي سجلها؛ وربطت الخوارزمية أصواتًا معينة بتفاعلات اجتماعية مختلفة صوِّرت بالفيديو، مثل تنازُع خفاشين على الطعام. باستخدام تلك الخوارزمية، تمكن الباحثون من تصنيف أغلب أصوات الخفافيش إلى أربع فئات: التنازع على الطعام (وهي الفئة التي تضم النداءات الأعلى صوتًا)، والتنافس على مواضع النوم المفضلة داخل المهاجع، واعتراض محاولات التزاوج، والتشاحن بين الخفافيش التي تجثم في مواضع متقاربة. في أغلب الحالات، استطاعت الخوارزمية أيضًا تحديد الخفاش الذي يُصدر الصوت تحديدًا. ولأن أصوات الخفافيش تختلف قليلًا باختلاف الأفراد التي تتواصل معها (لا سيما عندما تتواصل مع أفراد من الجنس الآخر)، نجحت الخوارزمية في نصف محاولاتها تقريبًا لتحديد الخفاش المخاطب. باستخدام تقنيات مماثلة، استطاع فريق يوفيل بعد ذلك إثبات أن الخفافيش تضع في اعتبارها متغيرات معقدة، مثل صلة القرابة والارتباط الاجتماعي، أثناء جمع الطعام. كما برهنوا على أن الخفافيش تقايض الطعام بالجنس.42
وثَّق جيري كارتر، اختصاصي علم البيئة السلوكي بجامعة ولاية أوهايو، بنى اجتماعية تبادلية على درجة مشابهة من التعقيد لدى الخفافيش؛ فهي يساعد بعضُها بعضًا، وتتذكر من يقدم لها المساعدة، وربما حتى تضمر ضغائن لمن يجحف في معاملتها.43 في تجارب التعريض للأصوات المسجلة، بيَّن كارتر أن الخفافيش المصاصة للدماء تتعرف على أفراد نوعها الآخرين من خلال النداءات المميزة لكل فرد، وتفضِّل الأفراد الذين جمعها بهم تاريخ من تشارك الطعام.44 بل إن فريق كارتر وثَّق أن الخفافيش مصاصة الدماء التي تعاني مشكلات في المناعة تصدر عددًا أقل من النداءات؛ فحين تمرض الخفافيش، فإنها تتباعد اجتماعيًّا مثلما يفعل البشر، وتقل تفاعلاتها مع أصدقائها لكنها تبقي على روابطها مع العائلة القريبة.45
تستند اكتشافات كارتر المفصلة عن التفاعلات بين الخفافيش إلى البيانات الرقمية التي يجمعها من أجهزة تسجيل البيانات الحيوية الدقيقة الحجم المحمولة، التي تثبَّت بلصق بطاقات الوسم الملحقة بها في الفراء الظهري للخفافيش. تنقل بطاقات الوسم البيانات التي تجمعها على نحو مستمر إلى نظام مراقبة يعتمد على شبكة لاسلكية، يتيح لكارتر تتبع أفراد الخفافيش باستمرار، فيما يشبه كثيرًا منصة للتواصل الاجتماعي.46 على مدى العقد الماضي، انخفضت أسعار أجهزة تسجيل البيانات الحيوية بمقدار عشرة أمثال؛ إذ انخفض سعرها من ١٠٠٠ دولار أمريكي إلى ١٠٠ دولار أمريكي. في السابق كان علماء الأحياء يجدون صعوبات جمة في استعادة تلك الأجهزة من الخفافيش (إذ كان أغلبها يضيع)، لكن الجيل الجديد منها يحتفظ ببيانات الخفافيش الأخرى أيضًا؛ وبمجرد استعادة جهاز واحد، تحصل على معلومات عن الشبكة بأكملها.47 ويقول كارتر إنها أدق من نظام تحديد الموقع العالمي؛ فأجهزة قياس القرب تمكنه من رؤية وصف شامل ومتواصل لكيفية قضاء الخفافيش الوقت معًا. يقول كارتر: «الأمر يشبه ابتكار أول مُسلسِل حمض نووي. إنها خطوة هائلة إلى الأمام.»48 فالآن صار حقًّا بإمكاننا بدء محاولات فك التشفير.

لغة الخفافيش

من المرجح أن يسلط ذلك الفهم الجديد لأصوات الخفافيش الضوء بدوره على منشأ اللغة البشرية.49 على غرار الطيور المغردة، يشترك الخفافيش والبشر في مجموعة واحدة من الجينات المرتبطة باللغة.50 لكن نظرًا إلى أن الخفافيش أقرب إلى البشر في شجرة التطور من الطيور المغردة، فمن المرجح أن يؤدي الفهم الأعمق لأصوات الخفافيش إلى رؤى جديدة عن التفاعل التطوري بين السلوك الاجتماعي والتواصل الصوتي المعقد.51
إلى جانب الأغنيات وأصوات تحديد الموقع بالصدى، تصدر الخفافيش مجموعة واسعة من النداءات ذات وظيفة تواصلية، ترتبط بسلوك اجتماعي. على سبيل المثال، تمتلك خفافيش الفاكهة المصرية مخزونًا من الأصوات الراجفة والصرير وغيرها من الأصوات التي تتباين تباينًا دقيقًا فيما بينها، وتعكس سياقات اجتماعية مختلفة. وقد ميَّز الباحثون مئات الأنواع من النداءات. على سبيل المثال، تتضمن النداءات العدائية نداءات التنازع على الطعام، واعتراض محاولات التزاوج، والتنافس على المواضع بين الخفافيش عندما تجثم على مسافات متقاربة، والشجارات في المهاجع. وتلك النداءات العدائية ليست إلا فئة واحدة من النداءات الاجتماعية للخفافيش، والتي تتضمن أيضًا على سبيل المثال لا الحصر نداءات الانفصال (التي تصدرها الصغار التائهة)، والمناغاة بنوعَيها (تلك التي تصدر من الخفافيش الرضيعة والتي تصدر من الأمهات لمخاطبة صغارها)، وأغنيات ترسيم منطقة النفوذ، وصفارات المغازلة، ونداءات الاستغاثة من الأخطار المادية، ونداءات الإنذار، ونداءات تنسيق البحث عن الطعام، والنداءات الإرشادية التي توجه الآخرين إلى المجاثم أو الطعام.52 بل إن بعض الخفافيش تضمِّن نداءاتها معلومات عن هوية المخاطَب (سواء كان ذكرًا أم أنثى)، فيما يشبه استخدام البشر لأساليب مخاطبة مختلفة عند الحديث مع الذكور والإناث.53 بل إن بعض نداءات الخفافيش أيضًا قد تتضمن معلومات مشفرة عن هوية فرد، أو قريب، أو نوع معين.54
يطلق مايكل يارسيف، الباحث المتخصص في الخفافيش بجامعة بيركلي، على هذا المخزون «حصيلة مفردات» الخفافيش.55 بالاستعانة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تحلل تلك المفردات، بيَّن العلماء أن الخفافيش تتعلم تلك النداءات، وكذا الأغنيات، اجتماعيًّا.56 وهكذا تنضم الخفافيش إلى مجموعة راقية من الحيوانات التي تمتلك ما يعتبره العلماء أحد أهم السمات المعرفية على وجه الأرض؛ وهي السلوكيات الاجتماعية المعقدة المرتبطة بالتعلم الصوتي.57 وبهذا يثبت صحة ادعاء جريفين مرة أخرى.
تعتقد ميريام كنورنشيلد أننا ما زلنا في بداية اكتشافاتنا للقدرات اللغوية للخفافيش. وتوضح أن الأبحاث الحديثة أثبتت أن الخفافيش تمتلك المتطلبات الأساسية للتواصل باستخدام الرموز؛ وهي التعلم الصوتي، والقابلية للتدريب، والتعلم الترابطي، والتقليد، والمعرفة الاجتماعية.58 وقد بدأ العلماء لتوِّهم يختبرون قدرة الخفافيش على التواصل الرمزي. صممت ميريام تجربة تدرِّب فيها الخفافيش على اختيار رموز اعتباطية على شاشة تعمل باللمس؛ وما إن تتدرب الخفافيش على ذلك، حتى يمكن للعلماء أن يشركوا الخفافيش في أبحاث معرفية. يمكن تدريب الأنواع التي تعتمد على البصر على لمس الرموز فعليًّا على شاشة تعمل باللمس، بينما يمكن تدريب الأنواع التي تعتمد على صدى الصوت على تنشيط الشاشة بإشعاع السونار الحيوي الذي تصدره. وقد طُوِّرت منهجية مشابهة للدلافين تسمح لها باستخدام إشعاع السونار الحيوي لاختيار رموز انعكاسية تظهر لها في صورة رموز ثلاثية الأبعاد استجابة لتردد السونار الحيوي الذي تستخدمه.59 اقترحت ميريام استخدام شاشات لمسية صوتية لدراسة ما إذا كانت الخفافيش تملك القدرة على التمييز العددي أو إدراك وتصنيف الأصوات والإشارات.
بقدر ما يبدو لتلك التجارب من آثار واسعة النطاق، تحذر ميريام من مثل تلك الدراسات التخمينية. فتقول: «قد يبدو التواصل بيننا وبين الأنواع مثيرًا لبعض البشر، لكنه قد لا يبدو مثيرًا بالقدر نفسه للأنواع الأخرى. يجب علينا أولًا أن نتبين مما إذا كانت الخفافيش تدركنا باعتبارنا كيانات يمكن التواصل معها. وحتى لو تبين أنها تعتبرنا كذلك، فعلينا أيضًا أن نتساءل: هل ترغب هي في التواصل معنا؟»60 وتنوِّه ميريام بأن الخفافيش قد لا تستطيع حتى أن تدرك أن البشر كيانات قادرة على التواصل؛ فمثلما يفتقر البشر إلى القدرة الفطرية على الإحساس بالإشارات الكيميائية الحيوية في الغابات، ربما تفتقر الخفافيش للقدرة الفطرية على الإحساس بالإشارات الصوتية للبشر. صحيح أننا قد تمكنا من ابتكار تقنيات رقمية متطورة تعمل بمنزلة أدوات للترجمة، لكن تتساءل ميريام هل الأهم هو دراسة ما تقوله الخفافيش فيما بينها أم ما تقوله لنوع آخر؟ تذهب ميريام في هذا المقام إلى أن ذلك سيكون من شأنه أن يوضح لنا أكثر كيف تدرك الخفافيش العالم من حولها. تسعى ميريام لبحث تلك الفكرة أكثر في واحدة من تجاربها الأخيرة التي تستخدم فيها أزهارًا صناعية مثبتًا بها رقاقات تحديد الهوية بموجات الراديو (مثل تلك الموجودة في بطاقتك الائتمانية) لجذب الخفافيش الزائرة للأزهار وتسجيل سلوكها وأصواتها.61 وتتساءل، تُرى ما الذي يريد الخفاش أن يخبر به الزهرة؟ لعل ذلك أكثر إثارة للاهتمام من التساؤل عما تريد الخفافيش أن تخبرنا به.
تتناقض هذه الأجندة البحثية تمامًا مع المنظور السائد في المجتمعات الغربية الذي يعتبر الخفافيش حيوانات ضارة حاملة للأمراض والآفات، وتجسيدًا لأرواح شريرة. ففي الصين، تُعد الخفافيش رمزًا لحسن الطالع.62 ونظرًا لدورها في تلقيح النباتات والأشجار المقدسة، تعتبر رمزًا للخصوبة الزراعية في إندونيسيا. وفي اليابان يتجسد أحد آلهة شعب الآينو في خفاش حكيم داهية.63 وفي أمريكا الوسطى، تظهر نقوش لخفافيش على معابد شعب المايا باعتبارها كائنات مقدسة مجنحة تحمل الرسائل والرحيق من الآلهة؛ وبوصفها كائنات روحية ملهمة، ارتبطت بالكهوف والسحر والدماء والقرابين؛ فكانت كائنات قوية يستعين بها الكتبة والحكام والمعالجون.64 وفي حضارة الموتشي في شمال بيرو، ترمز الخفافيش إلى الموت باعتباره تجددًا كونيًّا للجسد والزراعة والمجتمع البشري؛ وباعتبارها كائنات ليلية مقترنة بالقمر، تسكن الخفافيش عوالم الأحلام وتضمن استمرار دورات الحياة والموت.65
غالبًا ما تقر تلك التجسيدات الأسطورية للخفافيش بأهمية دورها البيئي؛ فهي تلقح النباتات وتأكل الحشرات وتنثر البذور. كما أنها تحتفي بالخفافيش باعتبارها كائنات تتنقل بين عوالم مختلفة؛ فهي تتغذى على الرحيق لكنها ليست بنحل؛ وهي حيوانات مجنحة ولكنها ليست من الطيور؛ وهي كائنات ليلية تحمل رسائل للنهار. تلك ليست مجرد حكايات تاريخية. فاليوم، يعيش عدد كبير من أنواع الخفافيش في العالم في مناطق تسكنها شعوب أصلية، وقد وثَّق العلماء الأدوار التي تلعبها ممارسات الإدارة التي تطبقها تلك الشعوب في دعم موائل الخفافيش وحماية الأنواع المهددة منها.66 ومن خلال الاستماع إلى تلك الكائنات عبر الوسائل الرقمية، أعاد العلماء الغربيون اكتشاف ما عرفته بعض المجتمعات منذ زمن طويل من خلال الحفاظ على فن الإصغاء العميق.

الروبوت الذي يفكِّر كالخفافيش

تسمح تقنيات الصوتيات الحيوية الرقمية للباحثين باستكشاف عوالم الأصوات غير البشرية التي تختلف كثيرًا عن أصواتنا. وما زالوا يكتشفون أوجه تشابه بينها وبين البشر أعمق مما كان متوقعًا. فإلى أي مدى تمتد تلك التشابهات؟ هل تتحدث الخفافيش بعضها مع بعض كما يفعل البشر؟ هل عقد تلك المقارنة مجدٍ من الأساس؟ يهتم العلماء الذين يطرحون تلك الأسئلة بالدراسة المقارنة لسلوك الحيوان، التي تُعرف أيضًا بعلم سلوك الحيوان أو الإيثولوجيا. قرب نهاية مسيرته المهنية، ركز دونالد جريفين اهتمامه على علم سلوك الحيوان، متحديًا المعتقدات العلمية السائدة بتأكيده أن الحيوانات ينبغي دراستها في بيئاتها الطبيعية. وذهب هو وغيره من علماء سلوك الحيوان إلى أن نتائج المختبر ربما شوهتها الظروف الاصطناعية التي وضِعت فيها الحيوانات. كان المطلوب هو الانخراط في «الأومفيلت» (وهي كلمة ألمانية تعني حرفيًّا البيئة المحيطة) الخاص بالحيوانات؛ أي الرؤية الكونية الذاتية لكائن ما، كما تبدو من المنظور غير البشري.67 وقد لخص روبرت سابلونسكي عالم الأحياء بجامعة ستانفورد ذلك الجدل لاحقًا؛ إذ قال: «الإيثولوجيا هي دراسة سلوك الحيوان، حيث تتحاور معه بلغته، في موئله الطبيعي وسط الطبيعة. إذا كنت تمارس ذلك العلم، فحري بك أن تكون واسع الأفق عند النظر فيما يعتبر تواصلًا وما يعتبر لغة لدى الحيوان … [يرى علماء سلوك الحيوان] أن دراسة لغة حيوان في الأسر يشبه دراسة دولفين في حوض استحمام.»68 لكن باحثي المختبرات يختلفون معهم في ذلك الرأي؛ فقد ذهبوا إلى أنه من دون ظروف محكومة بعناية، تكون هناك مساحة للانحياز البشري.
في خضم ذلك الجدل المحتدم، طرح جريفين زعمًا أشعل الجدل أكثر. فمع تحول اهتمامه إلى المسألة الأعم، وهي أنواع الإدراك الحيواني التي اعتِبر تحديد الموقع بالصدى مجرد واحد منها، أشار إلى ضرورة أن يُعنى العلماء بدراسة عقول الحيوانات ووعيها. ورغم عمله البحثي في مجال سلوك الحيوان الذي استمر عقودًا، ومكانته المرموقة الراسخة، كان ذلك أهم مزاعمه المثيرة للجدل على مدى مسيرته المهنية.69 صاغ جريفين مصطلح «علم سلوك الحيوان المعرفي» لوصف برنامجه البحثي المقترح. على غرار علم سلوك الحيوان، اعتمد هذا العلم على الملاحظات الطبيعية لسلوك الحيوان ومحاولات فهم عقول الحيوانات في سياق التطور، وزاد عليه افتراض أن سلوك الحيوان قد يتأثر بالقصد والإدراك الواعي. بل إنه ذهب لأبعد من ذلك مفترضًا أن الحيوانات ربما تملك القدرة على التفكير والاستدلال المنطقي والإحساس بالمشاعر، وأن العلماء ينبغي عليهم دراسة هذه العمليات العقلية. ولم يتوقف عند افتراض امتلاك غير البشر للوعي، بل تكهَّن أيضًا بأن الوعي قد يفيد في تعويض قصور الآليات العصبية. بل إنه افترض أن أهمية الوعي للكائنات ذات الأدمغة الصغيرة ربما تفوق أهميته للبشر.70 فهل يمكن حقًّا أن تكون الخفافيش واعية، بل أكثر وعيًا منا؟
قلة فقط من العلماء كان لديهم استعداد للنظر في ادعاءات جريفين، فضلًا عن دراستها؛ أما الأغلبية فرفضتها رفضًا قاطعًا. وانتقد كل من علماء سلوك الحيوان التقليديين وعلماء النفس بشدة تعريف جريفين للوعي بأنه: «حالة ذاتية من الإحساس بالأشياء والأحداث أو التفكير بها.»71 اعتبر كثير من العلماء موقف جريفين أنثروبومورفيًّا (مؤنسِن)؛ وردًّا عليهم، وصف موقفهم بأنه أنثروبوسنتري (متمركز حول الإنسان) إذ يفترضون أن البشر متفردون ومتفوقون بالفطرة على غيرهم من الحيوانات، وأنهم المعيار الذي يجب أن تُقاس عليه جميع الأنواع الأخرى. ولكن بعض العلماء الآخرين، ومن بينهم عدد كبير من علماء الأحياء الميداني المتخصصين في الخفافيش، رفضوا الخوض في مسألة الوعي، الذي لا يمكن تعريفه رسميًّا في ضوء المتغيرات المقابلة للرصد أو اختباره تجريبيًّا.72 لكن جريفين أصر على أننا لا ينبغي أن نتعجَّل هكذا في استبعاد ذلك الاحتمال. فقد قال ذات مرة: «من الغريب أننا نحن العلماء ننزع إلى مواجهة الأدلة الضعيفة بأشد العبارات السلبية، فنقول إن الحيوانات لا تفعل ذلك، أو الحيوانات لا تستطيع ذلك وما إلى ذلك، بينما نحن لا نعرف ذلك عن يقين. أرى أننا ينبغي أن ننظر إلى تلك الاحتمالات بذهن متفتح.»73
يرى البعض أن الخفافيش حتى لو كانت تمتلك لغة ووعيًا، فلن نستطيع فهم تلك القدرة؛ فالفجوة التواصلية والمعرفية بين البشر وغيرهم من الأنواع كبيرة جدًّا على حد زعمهم.74 وكثير من هؤلاء حين يقيمون حجتهم قد يشيرون إلى ورقة بحثية مؤثرة نشرها الفيسلوف توماس ناجل عام ١٩٧٤ بعنوان «كيف يبدو العالم بأعين الخفاش».75 ذهب ناجل إلى أن تحليل الوعي الحيواني سيظل مشكلة مستعصية على العلم، حتى إذا افترضنا وجود ما يسمى بالوعي الحيواني (بعبارة أخرى، حتى لو كانت الخفافيش واعية بذاتها). وجزء من صعوبة هذه المشكلة يكمن في قيود اللغة البشرية؛ فالمفاهيم التي قد يستعملها الخفاش لا يمكن لنوعنا التعبير عنها. ويرى ناجل أنه يستحيل أن نعرف أي الحيوانات، خلاف البشر، يملك وعيًا؛ لأن الحيوانات لا تستطيع وصف حالاتها العقلية لنا بلغة نستطيع فهمها. ويدعي ناجل أننا لا يمكن أن نفهم وعي الخفافيش (حتى حال وجوده)؛ لأن الخفافيش تختلف اختلافًا جوهريًّا عن البشر. وكي نرى الحياة بعين الخفافيش، فلا بد لنا أن نحياها مثلهم؛ فنتصور العالم بالسونار الحيوي، ونقتات أثناء الطيران، وننام رأسًا على عقب. لكن ناجل يرى أن هذا الفهم مستحيل على البشر؛ لأن الخفافيش، في منظور البشر «شكل غريب ومختلف جوهريًّا من أشكال الحياة.»76 وكما يقول الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين في كتابه «تحقيقات فلسفية»: «لو أن أسدًا تكلَّم، فلن نستطيع أن نفهم ما يقول.»77

لكن ماذا لو استطاعت أجهزة الكمبيوتر وخوارزميات الذكاء الاصطناعي أن تقوم مقام أدوات للترجمة لنا؟ قد لا نستطيع التحدث إلى الخفافيش مباشرة، وكذلك هي، لكن هذا لا ينفي إمكانية أن تترجم لنا أجهزتنا الرقمية أصواتها. توفر لنا أجهزة الكمبيوتر أداة قوية للترجمة بين أنماط التواصل الصوتي للأنواع المختلفة. إن تكويننا الفسيولوجي يحدُّ من قدرتنا على التواصل مع أقربائنا في «شجرة الحياة»، لكن حواسيبنا وروبوتاتنا وخوارزمياتنا لا تخضع لتلك القيود. صحيح أن البشر لا يستطيعون الطقطقة أو الزقزقة مثل الخفافيش، لكننا نستطيع برمجة أجهزتنا الرقمية كي تفعل ذلك.

قد نستطيع يومًا ما دحض حجة ناجل بنظير رقمي؛ قد لا يتمكن البشر أبدًا من التفكير مثل الخفافيش، ولكن قد تتمكن خوارزميات الذكاء الاصطناعي من ذلك. إذا صممنا «روبوتًا مرنًا» على شكل خفاش وزُوِّد بنظام ذكاء اصطناعي، وعاش هذا الروبوت بين الخفافيش منذ نشأته، فقد يطور فهمًا لحياة الخفافيش أفضل من فهم البشر. ربما سيُصمَّم هذا الروبوت بحيث يتدلى رأسًا على عقب مثل الخفافيش الحقيقية. وربما يستطيع أن يطير بجوارها، ويصدر أصواتًا استجابة لأصواتها. ولأن هذا الروبوت الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي سيكون قادرًا على فهم عالم البشر بالقدر نفسه، فبوسعه أن يكون مترجمًا لنا. حينئذٍ قد يظل ناجل معارضًا؛ إذ كتب لاحقًا في «العقل والكون»: «العالم مكان مدهش، وفكرة امتلاكنا للأدوات الأساسية اللازمة لفهمه ليست أكثر مصداقية اليوم مما كانت عليه في زمن أرسطو.»78
قد يتبين صحة رأي ناجل. لكن الطريقة الوحيدة لمعرفة مدى صحته من عدمها هي التجارب التي تجريها ميريام كنورنشيلد وزملاؤها من الباحثين في الوقت الحالي؛ إذ يحاولون تفسير لغة الخفافيش وترجمتها باستخدام وسائط رقمية. لكن حتى ميريام نفسها تحذر من أن التأويل البشري للبيانات الرقمية له حدود. فالخفافيش تتمتع بسمع سريع جدًّا؛ ومن ثَم فإن وقع نداءاتها الاجتماعية على آذانها متناغم أكثر من وقعها على آذاننا. ونحن حين نحاول ترجمة تلك الأصوات لا يسعنا إلا أن نتخذ منحنًى تقريبيًّا. تقول متأملة: «تُرى بأي قدر يجب أن نبطئ أصوات الخفافيش حين ننصت إليها؟ حتى يصبح صوتها كأصوات الطيور؟ أم كصوت الحيتان؟ لن يتسنى لنا قط أن نعرف كيف يدرك الخفاش الصوت.»79 تذهب ميريام كنورنشيلد إلى أن التقنيات الرقمية ستظل توسع حدود معرفتنا عن الكيفية التي تتعلم بها الخفافيش، وسلوكها الاجتماعي وتواصلها، وإدراكها للعالم. لكننا لن نعرف قط كيف تدرك الخفافيش أصواتها في الحقيقة. فالبيانات الرقمية، حتى حين تتحول إلى صورة قابلة للقياس والتفسير، تظل محاكاة بشرية للأصوات غير البشرية.

تحذِّر ميريام كنورنشيلد أيضًا من استخدام معرفتنا الجديدة تلك في محاولة التواصل مع الخفافيش. وتشير إلى أننا ربما لا ينبغي أن نحاول التواصل معها على الإطلاق، أو على الأقل دون ضمانات تمنعنا من إساءة استغلال تلك المعرفة الجديدة. لكن كثيرًا من العلماء لا يشاركونها ذلك القدر من التحفظ. فكما سنستعرض في الفصل التالي، يحاول الباحثون المتخصصون في دراسة النحل منذ سنوات استخدام التقنيات الرقمية للتواصل معه. وقد نجحوا في ذلك مؤخرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤