في نهاية المطاف، ابتعد سرب النحل عن النحَّال واختار
بيته الجديد دون أي توجيه. كان سلوكه تشبيها رائعًا
للحكم الموزَّع؛ وهو شكل جديد من أشكال التنظيم
الاجتماعي اللامركزي يحدث من خلال حوسبة شخصية، ولكنها
ستكون في الوقت نفسه جماعية. كان ذلك مجرد تعبير مجازي
جذاب بالنسبة إلى كيلي. ولكن ماذا لو كان عقل الخلية
ليس مجرد تعبير مجازي؟ ماذا لو كان النحل قادرًا على
التواصل بدقة مناظرة لدقة التواصل البشري؟ ولو صح ذلك،
هل يمكننا تعلم لغته؟
سيد النحل
الرقصة الاهتزازية التي يؤديها نحل العسل (أبيس
مليفيرا) معروفة منذ القِدم. إنها تناظر رقصة الصف
لدينا، وفيها تهز إحدى الشغالات بطنها من جانب إلى
آخر وهي تسير في شكل رقم ٨ باللغة الإنجليزية، وتظل
تكرر ذلك. يتبع أفراد النحل الآخرون خطاها،
فيتعلمون تقليد نمط الرقصة بينما يلمسون بطن
الراقصة الأساسية برفق بقرون استشعارها.
2 حتى منتصف القرن العشرين، لم يكن
العلماء يعرفون لماذا يرقص النحل. وكان الباحث
النمسوي كارل فون فريش هو من كشف ذلك اللغز وأثبت
أن رقصة النحل الاهتزازية هي شكل من أشكال لغة
النحل، وهو اكتشاف نال عنه جائزة نوبل.
3
في صباه، لم يبدُ أن كارل مقدَّرًا له النجاح
المهني. فأثناء نشأته في النمسا، كان يحب تفويت
حصصه المدرسية كي يقضي الوقت مع مجموعته من
الحيوانات الأسيرة التي تألفت من أكثر من مائة
حيوان، منها تسعة فقط من الثدييات.
4 كان رفيقه الأثير ببغاء من نوع
الباراكيت البرازيلي يُدعى تشوكي، كان يلازمه
دائمًا ويجلس على كتفه أو في حجره، حتى إنه كان
ينام بالقرب من سريره. كان كارل يقضي برفقة تشوكي
ساعات وسط الطبيعة يراقبه فحسب. يتذكر ذلك لاحقًا
فيقول: «اكتشفت أن ثمة عوالم بديعة يمكن أن تتكشف
للمراقِب الصبور، بينما يغفل عنها تمامًا الناظر
العابر.»
5
بعد أن ترك فريش كلية الطب ليدرس علم الحيوان
التجريبي الذي كان تخصصًا جديدًا (ومهمشًّا
نسبيًّا) آنذاك، بدأ في دراسة النحل سنة ١٩١٢. ركز
علماء الحيوان خلال الشطر الأكبر من القرن العشرين
على دراسة تشريح الحيوانات النافقة. لكن فريش اتخذ
خطوة غير عادية حين ترك المختبر ليجري أبحاثه في
مكان طبيعي، فوضع خلايا النحل التي يدرسها في بيته
الريفي الذي كان يبعد عدة أميال عن مدينة ميونخ
التي كان يعمل أستاذًا بجامعتها المحلية. وعلى مدى
عدة عقود تالية، ظل يراقب النحل كل يوم. لم يكن
يأخذ إلا عطلة واحدة في السنة، يوم عيد ميلاد زوجته
(بعد أن تذمَّرت).
كان أول كشف علمي مهم لفريش أن النحل ينجذب إلى
الأزهار من خلال ألوانها، ويمكن تدريبه على تفضيل
ألوان معينة، وهو اكتشاف أذهل المجتمع العلمي. كان
العلماء آنذاك يعتقدون أن النحل ينجذب إلى الأزهار
من خلال روائحها فقط، وهي نظرية ظلت سائدة مئات
السنين. في عام ١٩١٤، بينما كانت أوروبا على أعتاب
الحرب، بدأ فريش يجوب القارة، ويدرب النحل في كل
مكان يزوره على الربط بين الرحيق وبطاقات ورقية
بألوان معينة، ويجري تجارب مباشرة للجمهور. على
سبيل المزاح، صمم فريش بطاقات التدريب بدرجة معينة
من اللون الأزرق كانت رائجة للغاية بين السيدات
الأوروبيات الأنيقات في ذلك العام، مما يضمن أن نحل
العسل لن يتجمع فقط حول البطاقات ذات اللون
المنشود، إنما سيحط أيضًا على ملابس بعض الحضور من
الجنس اللطيف. كانت الحاضرات يهلعن عندما يزحف
النحل على ثيابهن الزرقاء، ليؤكدن نتائج فريش
العلمية بصرخات غير علمية على الإطلاق.
6 وهكذا تبين أن النحل كائنات واعية
ووقحة بعض الشيء.
ترجمة رقصة نحل العسل
لم يتوقف فريش عند ذلك. فبينما كان يراقب النحل
في عام ١٩١٧، لاحظ نمطًا متكررًا. أثناء تجاربه،
كانت نحلات منفردة تزور أطباقًا فارغة من حين إلى
آخر كأنما تراقب محتواها. وما إن يملأ أحد الأطباق
بالماء الممزوج بالسكر، كان عدد كبير من النحل يظهر
خلال دقائق. فخمن أن تلك النحلات المنفردة حتمًا
تخبر رفقاءها في الخلية عن توفر مصدر غذاء جديد،
لكن كيف؟ استغرق الوصول إلى إجابة ذلك السؤال قرابة
ثلاثين عامًا.
في أثناء سعي فريش لفهم قدرة النحل الغامضة على
التواصل، بدأ يختبر حدسًا مخالفًا للاعتقاد السائد،
وهو أن رقصة النحل الاهتزازية هي شكل من أشكال
اللغة. كان بحثه لذلك الاحتمال بمنزلة طعن في فكرة
أن البشر يمتلكون القدرة على استخدام أشكال معقدة
من اللغة دون غيرهم من الكائنات، وهو اعتقاد جوهري
لدى المجتمع العلمي والفلسفي الغربي. كان أغلب
العلماء يعتقدون أن النحل غير قادر على التواصل
المعقد نظرًا لصغر حجم دماغه، لكن فريش أثبت عكس
ذلك بصورة قاطعة.
إذا تأملنا الأمر بأثر رجعي، فسنجد أنه من السهل
أن نفهم السبب في عدم قدرة العلماء على إدراك تعقيد
التواصل لدى النحل. فاللغة البشرية اللفظية
المنطوقة تعتمد إلى حد كبير على الأصوات التي
نصدرها بأحبالنا الصوتية وأفواهنا، والتعبيرات التي
نرسمها على وجوهنا، وحركات أجسادنا وسكناتها. نحن
في أغلب تواصلنا نستعمل الصوت، الذي هو اهتزازات
لجزيئات الهواء. على النقيض، لغة النحل ليست لفظية،
إنما مكانية واهتزازية. فهي تعتمد في تراكيبها
اللغوية على شيء مختلف تمامًا عن اللغة البشرية،
ألا وهو نوع الاهتزازات التي يصنعها النحل بأجساده
(لا سيما بطونه وأجنحته) وترددها وزاويتها وشدتها،
وهو يتحرك في الفراغ. تخيل لغة إشارة في صورة رقصة
تصممها طائفة الهزازين المسيحية: هزهزات وارتجافات
وميل والتفاف. ما إن تجد نحلة كشافة مصدر غذاء
جيدًا، حتى تعود إلى الخلية لإخبار أخواتها. أثناء
الرقصة الاهتزازية، تتحرك النحلة في مسار على شكل
الرقم ٨ باللغة الإنجليزية؛ إذ تسير في خط مستقيم
وهي ترفرف بجناحيها، ثم تسلك مسارًا دائريًّا عائدة
إلى نقطة انطلاقها دون رفرفة. ونحن نعلم الآن أن
النمط الناتج عن ذلك، الذي يمكن ملاحظته بصريًّا،
يتضمن معلومات مشفرة عن الاتجاه المؤدي إلى مصدر
الغذاء نسبةً إلى موقع الشمس في السماء، وأن طول
الرقصة مرتبط بالمسافة التي يتعين على النحل أن
يقطعها كي يصل إلى مصدر الغذاء. لم يكن تصور فريش
عن أن الرقصة الاهتزازية ترسل تلك المعلومات
مدعومًا بأكثر من مجرد حدس؛ وشأنه شأن خبراء فك
الشفرات في الحرب، كان بحاجة إلى فك شفرة النحل كي
يثبت أن الرقصة وسيلة تواصل.
استقر فريش على تجربة ذات تصميم طموح ينطوي على
تتبع آلاف النحلات المنفردة كي يحلل العلاقة بين
رقصاتها ومصادر غذاء معينة. بدا ذلك مستحيلًا
آنذاك؛ نظرًا إلى أن متوسط عدد النحل في الخلية
تراوح بين عشرة آلاف وأربعين ألفًا. لكن فريش
استطاع بانتباهه المذهل للتفاصيل وصبره اللانهائي
إثبات فرضيته؛ إذ وجد أن النحلة قائدة الرقصة حين
تهتز، توجه جسدها في اتجاه معين نسبةً إلى الجاذبية
وموقع الشمس. وبإجراء تعديلات طفيفة على طول
الرقصة، وسرعتها، وشدتها، تستطيع إعطاء إرشادات
دقيقة عن اتجاه مصدر الرحيق وجودته والمسافة
الفاصلة بينها وبينه.
7 وبأدائها الرقصة تُعلم غيرها من النحل
في الخلية، الذي يستغل بدوره المعلومات التي عرفها
من الرقصة الاهتزازية ويطير إلى مصدر رحيق لم
يترددوا عليه من قبل.
أثبتت أبحاث فريش تدريجيًّا الدقة المذهلة لنظام
التواصل لدى النحل. ففي واحدة من أشهر تجاربه،
درَّب نحله على الطيران إلى مصدر غذائي خفي يبعد
عدة أميال، يتطلب الوصول إليه اجتياز بحيرة
والدوران حول جبل. كان هذا إنجازًا مذهلًا؛ نظرًا
إلى أنه لم يُطلع إلا نحلة واحدة فقط على ذلك
المصدر. في تجربة أخرى من تجاربه، بيَّن أن أنماط
الرقص تختلف اختلافات طفيفة بين الخلايا المختلفة.
يبدو أن النحل تعلَّم هذه الأنماط من أقرانه في
الخلية. في الواقع، يبدو أن لغة رقصات نحل العسل
لها لهجات، مثل المجتمعات البشرية.
8
أجراس الماشية والتلوين حسب الأرقام
اندهش فريش نفسه من النتائج التي توصَّل إليها
إلى حد أنه أخفاها في البداية. فقد خالفت نتائجه
الآراء العلمية السائدة آنذاك؛ إذ أظهرت أن نحل
العسل يمتلك ذاكرة، وقدرة على التعلُّم وتبادل
المعلومات من خلال تواصل رمزي معقَّد.
9 في عام ١٩٤٦ كتب إلى صديق مؤتمن يقول:
«والآن إذا كنت تظن أني مجنون، فأنت مخطئ. لكني
قطعًا أتفهم موقفك.»
10 كان فريش محقًّا في قلقه. فحين أعلن
نتائجه أخيرًا، اعترض كثير من العلماء على أبحاثه
بحجة أن صغر دماغ النحل يجعله غير قادر على التواصل
المعقَّد.
11 وقدم أندرو وينر عالم الأحياء الأمريكي
أطروحة يعارض فيها نظرية فريش، ذهب فيها إلى أن
النحل يتعرف على مواضع الغذاء بالرائحة فقط (وهي
نظرية ثبت خطؤها لاحقًا، وإن كانت الروائح من
الإشارات المهمة للنحل).
12 في النهاية، حسم جيمس جولد عالم
الأحياء بجامعة برينستون الجدل؛ إذ صمم تجربة ذكية
أخفى فيها الروائح وعرَّض النحل إلى مصادر ضوء
معينة مصممة لتضليلها؛ ورغم انعدام الروائح ووجود
الأضواء المشتِّتة، استطاع النحل إيجاد مصدر الغذاء
المحدَّد في التجربة.
13 بعد فقدان فريش جزءًا كبيرًا من
تمويله، وخوضه معارك مضنية للاحتفاظ بمنصبه
الأكاديمي، جاء الإثبات القاطع لنتائجه من جهة
مستقلة.
بدأت مؤسسة روكفيلر تدعم فريش، وجاب الولايات
المتحدة بصفته من مشاهير العلم. وبعد ثلاثة عقود من
إعلان نتائجه، نال جائزة نوبل في الطب أو علم وظائف
الأعضاء عام ١٩٧٣. تجنبت لجنة جائزة نوبل، في
إقرارها بقدرة النحل على التواصل المعقَّد، الإشارة
المباشرة إلى المسائل الجدلية التي أرقت فريش،
لكنها اختتمت كلمة الترشيح بالإشارة إلى «العُجب
الشائن» الذي يتسم به الإنسان العاقل إذ يرفض
الاعتراف بالقدرات المذهلة للنحل.
14
كان من الصعب دحض نتائج فريش نظرًا إلى دقة
وغزارة ملاحظاته التي جمعها بمعاونة سَرية صغيرة من
المتطوعين تألفت من زوجته وأبنائه وطلابه وإخوته
وجيرانه وضيوفه المقيمين. في أثناء تجاربه، كان كل
مُراقب يتخذ موضعًا معينًا في الغابة أو الحقل
المحيطين بالخلية المرصودة. وبينما كان فريش يَعُد
اللفات التي تلفها كل نحلة راقصة في الخلية، كان
المتطوعون يحصون عدد المرات التي تحلق فيها كل نحلة
منفردة للاقتيات ومدتها. كانت جلسات المراقبة تستمر
ساعات. وكانت تعليماته صارمة: ليس مسموحًا لأحد
بمغادرة نقطة تغذية لأي سبب. وكان المتطوعون
يتواصلون باستخدام أجراس الماشية. يتذكر شقيق فريش
الساعات المضنية التي قضاها أثناء تجربة استمرت
وقتًا طويلًا للغاية؛ فقد كان يتوق بشدة إلى
التدخين (وكان قد نسي إحضار غليونه معه)، غير أنه
لم يكن مسموحًا له بمغادرة موقعه ولو بضع
دقائق.
كان كل شيء يقوم على نظام ترميز ابتكره فريش. كان
المتطوعون ذوو الأيدي الأكثر ثباتًا يرسمون نقاطًا
دقيقة للغاية بألوان مختلفة على بطون النحل وصدوره.
وكانت الأرقام تشفر؛ فكانت ألوان النقاط ترمز إلى
قيمتها العددية، وموضعها على جسد النحلة يرمز إلى
القيمة العشرية. أتاح هذا النظام البسيط لفريش
ومتطوعيه تتبع آلاف النحلات على نحوٍ فردي وهي
تقتات وترقص مع أخواتها. فقد صاروا قادرين على تتبع
رحلات النحلات المنفردة بين نقاط التغذية (التي
وزَّعها فريش على مسافات دقيقة في الحقول والغابات
المحيطة بالخلايا). كان فريش يجلس أمام الخلية التي
يراقبها ممسكًا ساعة إيقاف، ويراقب النحل بإمعان
لساعات، مركزًا على «نحلة راقصة» واحدة في كل مرة.
لاحقًا كان المتطوعون يستخدمون الأرقام المشفرة
لمطابقة كل نحلة رُصِدت في الخلية بالنحل نفسه الذي
رُصِد عند كل نقطة من نقاط التغذية. كان الأمر يشبه
محاولة مراقبة حركة الطيران في مطار هيثرو باستخدام
معداد وقلم رصاص وورقة.
كان تفاني متطوعي فريش مثيرًا للإعجاب نظرًا
للظروف آنذاك. فقد توصلوا لاكتشافاتهم الأهم في
نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد أن كاد فريش
يفقد وظيفته بسبب أصوله اليهودية. بعد أن نسف القصف
مختبره، نزح هو وأسرته إلى بيته الريفي الذي استقبل
فيه أفرادًا لاجئين من عائلته الممتدة، حيث عاشوا
جميعًا على الكفاف. جرت تجربة فريش الأهم — التي
رصد فيها بمعاونة متطوعيه ٣٨٨٥ مشاهدة لرقصات
اهتزازية منفردة — عام ١٩٤٥ أثناء توغل الأمريكان
والروس في ألمانيا. وفي خضم تلك الفوضى، حافظ فريش
بإصرار على عادة الجلوس أمام خلايا النحل التي كان
يمارسها يوميًّا.
15
في أواخر حياته، يسترجع فريش ذكريات أبحاثه فيقول
إن ما جعل أبحاثه اللاحقة ممكنة كان اختراعًا يبدو
بسيطًا. في الماضي لم يركز الباحثون على السلوك
الفردي لنحل العسل. قد يبدو رسم أرقام مرمزة على
نحل العسل يدويًّا ومراقبته باستخدام ساعات الإيقاف
وأجراس الماشية طريقة قديمة، لكن فريش لم يتوصل إلى
نظرياته إلا بتوظيفه المنهجي لأفضل التقنيات
المتاحة في عصره. وقد قال في وقت لاحق إن أساليب
الرصد والمراقبة التي استعملها كانت الأساس
لاكتشافاته المهمة كافة. صحيح أن الأساليب التي
استخدمها لدراسة الأصوات الاهتزازية التي يصدرها
النحل لم تقدِّم إلا لمحة عن حياته في الخلية،
لكنها كانت فعالة بالقدر الكافي للتوصل إلى رؤى
كاشفة وعميقة عن الحياة الاجتماعية للنحل التي تتسم
بثراء لم يكن متوقعًا.
وصف فريش رقصات نحل العسل بأنها «بئر مسحورة»،
كلما تعمقت في دراستها، تبيَّن أنها أعقد مما
تصورت.
16 وذهب فريش إلى أن لكل نوع بئره
المسحورة الفريدة. فالبشر يمتلكون اللغة المنطوقة.
والحيتان تمتلك السونار الحيوي الذي يمنحها القدرة
على رؤية بيئتها بأكملها عن طريق الصوت. أما
الحشرات الاجتماعية، فتمتلك لغة مكانية مجسَّدة؛
وقد صرنا الآن ندرك بعض الاختلافات الدقيقة في
حركات أجسادها وتذبذباتها التي تتضمن، على سبيل
المثال لا الحصر، هز أجزاء من الجسم وحكها ببعضها،
وطرقها والصرصرة والإمساك والصياح والارتعاش
والتحسس بقرون الاستشعار.
17 لكن تظل رقصات النحل اللغة غير البشرية
الوحيدة المعروفة التي تستخدم حركات جسدية لتمثيل
معانٍ رمزية معقدة، ولا يزال كثير من العلماء
يعتبرونها أعقد نظام رمزي فك البشر شفرته في عالم
الحيوان حتى الآن. صحيح أن كثيرًا من العلماء أكدوا
في البداية وجوب اعتبار رقصات النحل مجرد طريقة
تواصل، لكن فريش أصر على استخدام مصطلح «اللغة»
لوصفها؛ فباستخدام نظام للإشارات، يتبادل النحل
المعلومات، وينسق سلوكًا معقدًا، ويشكل مجموعات
اجتماعية.
18
سار الباحثون في مجال النحل على خُطى فريش
فبدءُوا يسبرون أغوار البئر المسحورة أكثر. ينتج
النحل أنواعًا أخرى كثيرة من الإشارات من خلال
حركات دقيقة؛ إذ يتواصل من خلال أصوات وذبذبات
يستعصي على البشر سماعها أو فك شفرتها إلى حد
كبير.
19 لكن يمكن للباحثين الآن استخدام
خوارزميات لتحليل إشارات النحل بواسطة برامج
الكمبيوتر التي تعمل على أتمتة فك تشفير تذبذبات
النحل وأصواته؛ وهو مجال بحثي يُعرف باسم الصوتيات
التذبذبية.
20 فماذا وجدوا؟ من المعروف منذ قرون أن
الملِكات لها مفرداتها الخاصة (التي تتضمن أصوات
الهدير والوقوقة)، ولكن اكتُشفت إشارات جديدة خاصة
بالشغالات، مثل إشارة تعني السكوت (أو التوقف) يمكن
تعديلها أو موالفتها لتناسب أنواعًا معينة من
التهديدات، وإشارة تحذير من الخطر المحدق يمكن
إصدارها بالطرق الخفيف على الخلية.
21 كذلك يصدر النحل العامل إشارات صياح
واستجداء واهتزاز توجه السلوك الجماعي
والفردي.
22
تعتبر هذه الاكتشافات إضافة إلى الأبحاث
المتزايدة التي توضح قدرات النحل المذهلة.
23 فالنحل يتمتع ببصر ممتاز ويمكنه (بقليل
من التدريب) أن يميز بين لوحات مونيه
وبيكاسو.
24 وبجانب قدرته على التمييز بين الزهور
والمناظر الطبيعية، يستطيع أيضًا التمييز بين وجوه
البشر؛ مما يدل على قدرته المدهشة على معالجة
المعلومات البصرية المعقدة.
25 وفي تجربتين رائدتين أُجريتا في عامي
٢٠١٦ و٢٠١٧، أثبت الباحثون أن النحل قادر على
التعلم الاجتماعي ونقل الثقافة (وهي سابقة في
العلوم الغربية التي تدرس اللافقاريات)؛ فعند تدريب
النحل على جذب خيط للحصول على مكافأة من السكر (وهي
مهمة جديدة عليه)، علَّم رفقاءه في الخلية هذه
المهارة الجديدة، مما يدل على قدرة النحل على
التعلم من خلال ملاحظة أقرانه، وإمكانية مشاركة هذه
المهارات المكتسَبة ودمجها في ثقافة
المستعمرة.
26 وأزيح الستار أيضًا عن جانب مظلم من
الحياة الاجتماعية للنحل؛ فبالرغم مما يتسم به
النحل بصفة عامة من تعاون ودقة وكفاءة، فهو قادر
أيضًا على ارتكاب الأخطاء والسرقة والغش والتطفل
الاجتماعي.
27 بل إنه قد يملك مشاعر؛ إذ تظهر عليه
آثار التشاؤم والتقلبات المزاجية الملازمة لنقص
الدوبامين، التي تشبه التقلبات البشرية.
28 وقد أشار أحد الباحثين محذرًا في دراسة
فارقة أجريت على إحدى إشارات النحل المكتشفة
حديثًا: «لقد تبيَّن أن التواصل بين نحل العسل أعقد
بكثير مما كنا نتصور … وهو ما يكشف عن ذكاء جمعي لا
يسع المرء إزاءه إلا أن يقف ويتساءل هل يمكن أن
تكون هذه المخلوقات أكثر من مجرد كائنات آلية بسيطة
انفعالية غير عاقلة.»
29
ولعل أبرز تلك الأبحاث هو البحث الذي أجراه توماس
سيلي عالم النحل بجامعة كورنيل، الذي أثبت أن لغة
نحل العسل تتجاوز سلوك البحث عن الطعام. على مدى
عدة عقود، ركز سيلي أبحاثه على ظاهرة التطريد؛ وهو
السلوك الذي أسر اهتمام كيفن كيلي. التطريد هو
الطريقة الطبيعية التي تتكاثر بها مستعمرات نحل
العسل؛ إذ تنقسم المستعمرة الواحدة إلى مستعمرتين
منفصلتين أو أكثر، وتغادر جماعة من النحل المستعمرة
الأصلية كي تبحث عن مأوًى جديد. تساءل سيلي: كيف
استقر النحل على موقع المستعمرة؟ عندما قرَّر سيلي
التركيز على ظاهرة التطريد، لم يَكُن العلماء
يعرفون عن تلك الظاهرة إلا القليل. أثناء تحرك سرب
من النحل المستطرد، يطير أسرع أفراده بسرعة تفوق ٢٠
ميلًا في الساعة، وعادة ما يتحرك في خط مستقيم
باتجاه هدفه، بغض النظر عما يقابله في طريقه من
حقول أو مسطحات مائية أو تلال أو غابات. لا يستطيع
أي إنسان مواكبة السرب، فضلًا عن تتبع أثر أفراد
النحل الذي يتجاوز عدة آلاف لمعرفة أي منهم يوجه
السرب، إن كان له قائد. كان سيلي مهتمًّا بكيفية
اتخاذ النحل لقرار اختيار المكان الذي سيستقر فيه،
وهو قرار محفوف بالمخاطر؛ إذ قد يؤدي تقسيم الخلية
إلى فقدان الملكة، وقد يؤدي اختيار موقع غير ملائم
إلى هلاك الخلية.
في البداية، استخدم سيلي طرقًا مشابهة لتلك التي
استخدمها فريش. ولكن بحلول مطلع القرن الحادي
والعشرين، استعان سيلي بالتكنولوجيا الرقمية لتوسيع
نطاق تجاربه والذهاب بها في اتجاه جديد؛ فقد أقنع
مهندس كمبيوتر (كان منبهرًا بالتشابه بين أسراب
النحل والسيارات الذاتية القيادة) بتركيب كاميرا
فيديو عالية الدقة في موقع أبحاث سيلي على جزيرة
أبلدور قبالة سواحل ولاية مين الأمريكية. كان
هدفهما هو تطوير خوارزمية يمكنها تلقائيًّا تحديد
وتعقب عشرة آلاف نحلة مسرعة في وقت واحد. بعد عامين
من العمل الشاق، نجحت الخوارزمية في المهمة
المطلوبة؛ فبفضل الكاميرات الرقمية العالية السرعة
والتقنيات الجديدة المستخدمة في مجال الرؤية
الحاسوبية، استطاعت الخوارزمية التعرف على جميع
أفراد النحل من لقطات الفيديو وتحليل نمط الطيران
المحموم الفريد لكل منها.
30 كشفت الخوارزمية عن أنماط لا يمكن
للعين البشرية اكتشافها، ودفع تحليل تنوع هذه
الأنماط وكثافتها والتفاعلات فيما بينها سيلي إلى
وصف السرب المستطرد بأنه «كيان واعٍ». ربما كان
اكتشاف سيلي الأكثر إدهاشًا أن نحل العسل أثناء
اختياره مأوًى جديدًا، يظهر أشكالًا متقدمة من صنع
القرار الديمقراطي، تتضمن الانخراط في اكتشاف جماعي
للحقائق، والمناظرة القوية، وبناء الإجماع، والوصول
إلى النصاب اللازم لاتخاذ القرار، وإشارة توقف
معقدة لإيقاف الجدل بين الأطراف المتجادلة، تحول
دون الوصول إلى طريق مسدود. بعبارة أخرى، سرب النحل
كيان صانع للقرار يتسم بالديمقراطية والكفاءة
الاستثنائية، يشبه بعض العمليات التي تحدث في
الدماغ البشري والمجتمع البشري. حتى إن سيلي ذهب
إلى حد الادعاء بأن التفاعلات الجماعية بين أفراد
النحل تشبه إلى حد كبير التفاعلات بين الخلايا
العصبية الفردية أثناء انخراطها في التوصل إلى قرار
جماعي.
31
نُشرت نتائج سيلي في دورية «ساينس» وشهدت رواجًا
إعلاميًّا واسعًا، ودعمَّت حُجج المؤيدين لوصف
التواصل بين النحل بأنه لغة. وبإثبات سيلي أن مصطلح
«عقل الخلية» ليس مجرد تعبير مجازي، بل إنه مهد
الطريق أيضًا لتطورات في الذكاء الجمعي لأسراب
الروبوتات في مجال علم الروبوتات
والهندسة.
32 وأدت أبحاث سيلي التي تعتمد على
التكنولوجيا الرقمية (الرؤية الحاسوبية والتعلم
الآلي) إلى ظهور تكنولوجيا رقمية جديدة تمامًا؛ فقد
ألهمت نتائجه عالمي كمبيوتر بمعهد جورجيا التقني
لتطوير خوارزمية «نحلة العسل»، التي تعد الآن جزءًا
لا يتجزأ من صناعة الحوسبة السحابية التي تقدر
بمليارات الدولارات. تعمل الخوارزمية، التي يشيع
استخدامها على نطاق واسع في مراكز الاستضافة على
الإنترنت (المناظرة لخلايا النحل)، على تحسين عملية
تعيين المهام (المناظرة لمصادر الرحيق) للخوادم
(المناظرة للنحل الباحث عن الطعام)، وهو ما يساعد
على معالجة الارتفاعات المفاجئة في معدلات الطلب
على الخوادم ومنع تراكم المهام. في عام ٢٠١٦، منحت
الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم جائزة الإوزة
الذهبية لسيلي وزميلَيه عالمي الكمبيوتر، عن
أبحاثهم التي كانت تبدو شديدة التخصص ولكن تبيَّن
لاحقًا أهميتها الجليلة.
33
الآن وقد حللنا شفرة لغة نحل العسل، أصبح السؤال:
هل يمكننا التحدث معه بطريقة يفهمها؟ باعتبار
الاختلاف الشاسع في التكوين الفسيولوجي بيننا وبين
النحل، كيف يمكن أن يكون التواصل معه ممكنًا حتى؟
يكمن الشطر الأول من الإجابة في تكييف أنفسنا على
استغلال القدرات اللغوية الفريدة للنحل وفهمها،
بدلًا من افتراض أن الكلام البشري هو الوسيلة
الوحيدة للتواصل. أما الشطر الآخر من الإجابة فيكمن
في التقنيات الرقمية، وفي الروبوتات المحاكية للنحل
على وجه التحديد.
روبوتات النحل الراقصة
بفضل جهود فريش ومن خَلَفوه، عرَف العلماء منذ
وقت طويل أن استجابات النحل تختلف باختلاف أنماط
التذبذب التي تعمل عمل الإشارات. في السنوات
القليلة الأخيرة، أدى الدمج بين تقنيات الرؤية
الحاسوبية ومستشعرات التسارع المصغرة (وهي نسخة
فائقة الحساسية من مستشعرات الحركة الموجودة في
هاتفك المحمول) إلى تمكين العلماء من فك شفرة بعض
الإشارات التذبذبية الدقيقة التي تصدرها الكائنات
الحية؛ تلك الذبذبات الضرورية لتواصلها لكن لا يدرك
البشر أغلبها. وبالفعل مكَّنتنا تلك التطورات
التقنية من تحليل تواصل النحل ونشاطه على مدى حياته
كلها.
34
كان الإنجاز الفاصل التالي — الذي سدَّ ما يسميه
المهندسون «فجوة الواقع» بين الروبوتات والنحل
الحقيقي — هو ابتكار روبوتات تحاكي تلك الأنماط
التذبذبية بدقة. وقد كرَّس تيم لاندجراف، أستاذ
الرياضيات وعلوم الكمبيوتر بجامعة برلين، جهده
طَوال العَقد الفائت لهذه المهمة. ركز تيم جزءًا
كبيرًا من أبحاثه على أتمتة عملية التعرف على أفراد
النحل وتتبُّع تحركاته باستخدام تقنيات الرؤية
الحاسوبية وتعلُّم الآلة. وحللت إحدى تجاربه ثلاثة
ملايين صورة التُقطت على مدى ثلاثة أيام وتتبعت
مسار كل نحلة في خلية نحل، بنسبة خطأ لا تتعدى ٢ في
المائة.
35
يتضمن العمل المبتكر الأبرز للاندجراف ابتكار
أجهزة روبوتية صنعها للتواصل مع نحل العسل بلغته.
فبالتعاون مع زملائه بمركز تعلم الآلة وعلم
الروبوتات التابع لجامعة برلين الحرة، صنع لاندجراف
روبوتًا بسيطًا، أطلقوا عليه اسم «روبو بي». صُنعت
النماذج الأولية من «روبو بي» عام ٢٠٠٧، وكان
أداؤها «مريعًا» على حد وصف لاندجراف. فما يكاد
الروبوت يدخل إلى الخلية، حتى يهاجمه النحل؛ فكان
يعض الروبوت ويلدغه ويسحبه إلى خارج الخلية. كانت
النماذج الأولية من الروبوت تُثبَّت على طرف عصا
يحركها محركان يتحركان حركة بندولية، وهي حركة لم
يألفها النحل على الأرجح. لكن لاندجراف ظل يكرر
المحاولة على مدى السنوات الخمس التالية. استخدمت
النماذج الأولية اللاحقة نظامًا شبكيًّا أكثر
تطورًا، مكَّن الروبوت من التحرك في المستوى نفسه
الذي يتحرك فيه النحل. جرب لاندجراف أيضًا رفع درجة
حرارة النماذج الأولية للروبوت، متسائلًا إذا كانت
برودة المعدن منفرة للنحل (إذ تكون منطقة الصدر في
النحل المؤدي للرقصة الاهتزازية دافئة جدًّا)؛ إلا
أن النحل رفض تلك الروبوتات بحزم أكبر، ربما نفورًا
من الإشارات الكيميائية الناتجة عن تسخين
البلاستيك. كذلك أحدث فتح الخلية لإدخال الروبوت
اضطرابًا فيها؛ إذ كان ذلك يخفض درجة حرارتها
ويُدخِل إليها تيار هواء؛ مما أثار سلوكيات دفاعية
لدى النحل، بالتقارب والتشبُّث بعضه ببعض مشكلًا
«بُسُطًا من النحل» الغرض منها الحفاظ على دفء
الخلية والدفاع عنها ضد الدخلاء.
36 لذا صنع لاندجراف حاجزًا بلاستيكيًّا
كان يتحرك مع الروبوت كي يحفظ ثبات درجة حرارة
الخلية ويقلل تدفق الهواء. جعلت التصميمات التالية
الروبوت أخفت صوتًا كذلك؛ فالنحل كائنات هادئة؛ لذا
استنتج لاندجراف أنه يحتاج إلى جعل الروبوت هادئًا
و«أشبه بالنحل قدر الإمكان». جرب وضع عينات من
الغذاء على الروبوت في البداية، لكن ذلك لم يزد من
تقبل النحل لوجوده في الخلية؛ لذا ركز على اهتزازات
الجناح.
تعتبر محاكاة ذبذبات النحل مهمَّة معقدة. فبطون
النحل — التي تهتز أثناء الرقصة الاهتزازية — تتمتع
بستة مستويات من الحركة الحرة، مما يسمح له
بالتعديل الدقيق للحركات وتغيير اتجاهه بمرونة،
وتُعد أقرب محاكاة لحركاته (وإن لم تطابقها تمامًا)
منصات «ستيوارت» المستخدمة في أجهزة محاكاة
الطيران.
37 بدا تصميم نموذج مصغر من تلك الحركات
المعقدة وتطبيقها على روبوت متناهي الصغر مستحيلًا،
لكن لاندجراف لم يستسلم. فظل كل صباح، على مدى عدة
أشهر، يبرمج الروبوت مسبقًا على وجهة معينة يرشد
إليها النحل، ثم يدخله إلى الخلية. وبعدما طوَّر
نموذجه الأولي السادس، لم يَعُد النحل يرفض «روبو
بي». غير أنه لم يتبعه أيضًا بالضرورة؛ بل كان
يتجاهله في أغلب الأحيان. كان «روبو بي» مشفرًا
بسلسلة مبرمجة مسبقًا من المتجهات تمثل المسار
المؤدي إلى موقع معين اختاره لاندجراف (وضع فيه
مكافأة من شراب السكر)، لكن بدون اتباع النحل
للروبوت، لم يتسنَّ للاندجراف أن يعرف ما إذا كان
الروبوت يوصل إرشاداته إلى النحل على نحو
سليم.
كان النموذج الأولي السابع طفرة. ففي بعض
الأحيان، كان النحل يتبع رقصة الروبوت مقلدًا
حركاته بنمط «الراقص التابع» الذي يستعمله النحل
لمعرفة مصادر الغذاء. عندما يحدث ذلك، كان لاندجراف
يعد النحل الذي غادر الخلية ويستخدم رادارًا
توافقيًّا لتوثيق مسارات النحل الموسوم الذي يصل
إلى مصدر الغذاء. طار عدد كبير رُصد إحصائيًّا إلى
الموقع المحدد الذي برمج عليه لاندجراف الروبوتات.
أجريت البرمجة باستخدام نموذج للرقص مستمد من
البيانات؛ إذ أخذ مقاطع فيديو مدتها ساعات وصنع
نموذجًا يحوي المتغيرات المعنية. لم يَكُن لاندجراف
أول من فكَّر في ذلك؛ ففي خمسينيات القرن الماضي،
أجرى العالم البريطاني جون هالدين تحليلًا
إحصائيًّا رائعًا يربط بين الرقصات الاهتزازية لنحل
العسل والاتجاه المتوسط الذي يسلكه النحل إلى مصدر
الغذاء.
38 وفي سبعينيات القرن نفسه، صنعت مجموعة
أخرى من الباحثين نحلة ميكانيكية تستطيع الرقص بدقة
كافية لإرشاد عدد صغير من النحل إلى مصدر
الرحيق.
39 لكن لاندجراف كان أول من برمج تعليمات
في خوارزمية آلية توجه تحركات روبوت مبرمَج وتنجح
في إيصال المعلومات التي تتضمنها الرقصة الاهتزازية
إلى أفراد الخلية. لقد كان ابتكار لاندجراف في
جوهره نظيرًا رقميًّا حيويًّا لترجمة جوجل للغة
النحل.
40
لا يعرف لاندجراف بعد عن يقين سبب اتباع النحل
لإرشادات روبوتاته في بعض الأحيان دون غيرها.
وفرضيته الحالية لذلك هي أن ثمة إشارة مسبقة منفصلة
يجب أن تصدر أولًا؛ مثل المصافحة قبل بدء الحديث.
ومن الوارد أن تكون روبوتاته تصدر تلك الإشارة في
بعض الأحيان بمحض الصدفة، وحينما يحدث ذلك يُصغي
النحل في الخلية إلى إرشاداتها. أو ربما يلزم أيضًا
صدور إشارة تذبذبية منفصلة من جهاز منفصل؛ ومؤخرًا
ابتكرت فيبي كينيج الباحثة في مجال النحل بجامعة
كورنيل، أداة تؤدي ذلك الغرض؛ إذ تحاكي إشارة
«المصافحة» التي يستعملها النحل لتفعيل
سلوكه.
41 قد يكتشف لاندجراف هذه «المصافحة»
الغامضة في مشروعه القادم «هايفوبولس» الذي يتضمن
وضع روبوتاته مباشرة داخل خلايا اصطناعية حديثة قبل
أن يستعمرها النحل. يطمح لاندجراف بذلك إلى أن يألف
النحل الروبوتات حين يصل إلى مأواه الجديد وأن
يعتبرها جزءًا من متاع البيت إن جاز التعبير. يعتزم
لاندجراف أيضًا استخدام المواد الحيوية لتحسين شكل
الروبوت وملمسه؛ إذ يرجح أن يتقبل النحل أكثر
روبوتات المحاكاة الحيوية المصنوعة من مواد حيوية.
أما هدفه التالي فهو دمج تقنيات تعلم الآلة في
برنامج تدريب الروبوتات كي تتمكن من تعلم إشارات
أدق قبل دخولها الخلية. ويأمل أن يعتبر نحل العسل
روبوتات «روبو بي» جزءًا منه، وأن تتمكن الروبوتات
من إصدار الأوامر وتكليف النحل بالطيران إلى مواقع
محددة بواسطة الرقصة الاهتزازية. بل قد تتعلم
الروبوتات المستقبلية اللهجات المحلية للنحل (التي
تختلف باختلاف الموائل).
42 كل هذا ليس إلا غيضًا من فيض؛ فمشروع
«هايفوبولس» سوف يتيح لنا فهم آليات معالجة ودمج
المعلومات المختلفة في الخلية، التي تشبه نوعًا ما
نظامًا حاسوبيًّا موزعًا حيًّا مكونًا من آلاف
الأدمغة الدقيقة المتصلة.
إن مشروع «هايفوبولس» هو جزء من سلسلة من أطروحات
«خلايا نحل ذكية»، التي تهدف إلى إدخال التحول
الرقمي إلى عالم تربية النحل. في عام ٢٠١٥، طرحت
المهندسة الأيرلندية فيونا ميرفي منصة شاملة
لمراقبة نحل العسل تتضمن أجهزة استشعار وكاميرات
حرارية وكاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء، ونظام
تغذية راجعة مدعوم بشبكة «إنترنت
للأشياء».
43 ومثل هذا النظام من شأنه أن يُفيد في
المراقبة الدقيقة للمناحل، من خلال تمكين
النحَّالين من التعرف على الذبذبات والأصوات التي
تشير إلى وجود الملِكات، والتنبؤ باحتمالية
التطريد، واكتشاف المؤشرات المبكرة
للعدوى.
44 لكن ما يقترحه لاندجراف هو خطوة تتجاوز
مجرد الرصد والمراقبة. فهو يرى أن الخلايا الذكية
هي أداة تواصل ثنائية الاتجاه؛ إذ يمكن عبرها إصدار
إشارات تذبذبية وصوتية وفيرمونية لتحذير مستعمرات
النحل من الأخطار (مثل وجود حقول قريبة معالجة
بالمبيدات، أو عواصف وشيكة)، أو لإرشاد النحل إلى
أفضل مصادر الغذاء المتاحة. وهكذا تشبه الخلايا
الذكية المدن الذكية، لكنها تختلف عنها في جانب
واحد؛ وهو أنها شبكة تواصل بين عدة أنواع؛ إذ تتيح
التفاعل والتواصل والتعاون بين البشر والروبوتات
والنحل.
45
صائدو العسل
بقدر ما قد تبدو تلك الابتكارات ثورية، إلا أن
لاندجراف ليس أول من اكتشف كيفية التحدث إلى النحل
باستخدام تقنيات الصوتيات التذبذبية. في الواقع أن
التواصل مع النحل مهارة بشرية قديمة. فكيف استطاع
أسلافنا تسخير سرب من النحل؟ الإجابة تكمن في
الصوت. تعتبر آلة ذات الخوار أقدم آلة صوتية
تذبذبية عُرفت لنا، ويعتبرها علماء الأنثروبولوجيا
أقدم آلة موسيقية في تاريخ البشرية؛ وهي آلة
استخدمتها الشعوب الأصلية في جميع القارات في
طقوسها، وفي طقس «أسرار ديونيسوس» الإغريقي القديم،
كان لها وظيفة أقل شيوعًا وهي صيد النحل.
46 آلة ذات الخوار (التي تعرفها المجتمعات
الأصلية في أستراليا باسم «ترندن» أو «بريبون»،
وتعرفها قبيلة بومو باسم «كاليماتوتو بادوك») هي
آلة بسيطة للغاية، تتكوَّن من خيط أو وتر طويل
مربوط في طرف قطعة رقيقة مستطيلة من الخشب أو الحجر
أو العظم ذات طرفين مدببَين. يُمسَك طرف الخيط
المربوط في القطعة ويُلف قليلًا ثم تؤرجح الآلة في
حركة دائرية. حينئذٍ تصدر الآلة طنينًا مرتفعًا إلى
حدٍّ مدهش، ينتج عن اهتزاز ذرات الهواء بتردد
يتراوح بين ٩٠ هرتز و١٥٠ هرتز، ويشبه إلى حدٍّ ما
طنين رفاص السفينة. ولهذا الصوت تأثير مذهل ومحسوس؛
إذ تشعر بطنينه يتردد في أعماقك، كأنك تقف وسط سرب
عملاق من النحل.
لا تزال قبيلة سان الأفريقية تستخدم آلة ذات
الخوار لتطريد النحل وتوجيه الأسراب المستطردة إلى
خلايا جديدة في مواقع مختارة بحيث يسهل على البشر
الوصول إليها.
47 والاسم الذي تعرف به ذات الخوار لدى
قبيلة سان هو «جوان جوان» ويعني «ضرب»، مثل ضرب
الطبول. يلف أفراد القبيلة ذات الخوار وهم يرقصون
رقصة تجعلهم يدخلون في حالة من النشوة تمكن زعماءهم
من استدعاء النحل وتوجيهه. (يستخدم أصحاب المناحل
المعاصرون نسخة مبسطة من تلك الطريقة تُدعى الصلصلة
لتهدئة النحل وتوجيهه إلى الخلية.) قبل اكتشاف
العلوم الغربية للصوتيات التذبذبية بأعوام طويلة،
كانت قبيلة سان قد اكتسبت فهمًا دقيقًا لتواصل
النحل. ويتحدث علماء الأنثروبولوجيا عن «التآلف»
الذي حقَّقه أفراد قبيلة سان مع النحل بِناءً على
قدراتهم في محاكاة صوته.
48
لا تنفرد قبيلة سان بالقدرة على التواصل مع
النحل. ففي كثير من المناطق في أفريقيا، يستعين
الباحثون عن العسل بطائر يُدعى مرشد العسل الأكبر
(اسمه اللاتيني «إنديكيتور إنديكيتور» وهو اسم على
مسمى؛ إذ يعني المرشد) للوصول إلى خلايا
النحل.
49 يعتبر صيد العسل حرفة قديمة، وبعض من
أقدم الرسوم الصخرية المسجلة في العالم تصوِّر
البشر وهم يصطادون نحلًا بريًّا.
50 وتعد طيور مرشد العسل أمهر صيادي العسل
في مملكة الحيوان. لكن لماذا تتعاون طيور مرشد
العسل مع البشر؟ طيور مرشد العسل هي أحد أنواع
الطيور (والفقاريات) القليلة على الأرض التي تأكل
شمع العسل. فشمع العسل غني بالمغذيات والدهون
المولدة للطاقة؛ لذا تبحث عنه تلك الطيور باعتباره
وجبة شهية. لكن أغلب أعشاش نحل العسل في أفريقيا
متوارية بعناية داخل تجاويف الأشجار ويحرسها نحل
شرس يمكنه أن يقتل الطيور إذا دنت منها. ومن ثَم
تعرف طيور مرشد العسل أماكن النحل، مسترشدة في ذلك
على الأرجح بحاسة الشم الاستثنائية التي تتمتع بها،
لكنها لا تستطيع الوصول إلى الشمع. لذا تتعاون مع
حيوان لا يجيد البحث عن النحل مثلها، لكنه يعرف كيف
يجلب لها الشمع، وهو الإنسان.
تطور شكل دقيق من التواصل التعاوني في أثناء
تعاون طيور مرشد العسل مع صيادي العسل من البشر.
وقد أثبت العلماء ادعاءات شعب بوران في شمال كينيا
أن بوسعهم الاستدلال على المسافة التي تفصلهم عن عش
النحل، واتجاهه، والزمن اللازم للوصول إليه من
نداءات ذلك الطائر، والارتفاع الذي يجثم عليه،
وأنماط طيرانه.
51 لكن هل يسعنا حقًّا أن نتثبت من أن
مرشد العسل والبشر يتكلمان فعلًا؟ تناول باحثون
بقيادة كلير سبوتيسوود الأستاذة بجامعة كمبريدج هذا
السؤال، وأكدت دراستهم عن صيادي العسل في محمية
نياسا الوطنية في موزمبيق وجود تبادل للإشارات بين
النوعين؛ فحين يصدر صيادو العسل الصوت المميز الذي
ينبهون به طيور مرشد العسل إلى استعدادهم لبدء
الصيد، يرتفع احتمال إرشاد الطيور لهم من ٣٣ في
المائة إلى ٦٦ في المائة، ويرتفع احتمال العثور على
عش للنحل في المجمل من ١٧ في المائة إلى ٥٤ في
المائة.
52
كيف يبدو التعاون بين صيادي العسل والطيور؟ في
البداية، يصدر الصيادون نداءهم المميز الذي يشير
إلى استعدادهم لبدء صيد العسل. في حالة صيادي شعب
الياو في محمية نياسا، تصف سبوتيسوود هذا الصوت
بأنه شيء أقرب إلى «بررر–همم»؛ صوت ارتعاش حلقي
عالٍ يعقبه همهمة. في المقابل، تقترب طيور مرشد
العسل وتجيب الصيادين بزقزقة مميزة. ثم تطير من
شجرة إلى شجرة باتجاه عش النحل، فيتبعها الصيادون.
عندما تخفت زقزقات الطيور وتتوقف عن الطيران، يعلم
الصيادون أنهم قريبون. فيفحصون أغصان الأشجار
المحيطة ببصرهم ويضربون بفئوسهم بالقرب من جذوع
الأشجار لاستثارة النحل كي يكشف لهم موقع العش. ثم
يجمع الصيادون كومة من أوراق الشجر والخشب
ويشعلونها أسفل العش مباشرة، كي يهدأ النحل ويخمل
بفعل الدخان قبل أن يسقطوا الأشجار بفئوسهم
ويستخرجوا العش. وبعد ملء دلائهم بالعسل للعود به
إلى ديارهم، يرمون الخلايا الفارغة من العسل،
ويتركونها طعامًا للطيور. تنتظر طيور مرشد العسل
بصبر، ولا تهبط لتأكل إلا بعد مغادرة البشر. قبل
مغادرة صيادي الياو، يجمعون الشمع ويقدمونه على
طبقة صغيرة من الأوراق الخضراء الطازجة، إكرامًا
للطيور على مساعدتها لهم في الصيد.
53
كيف تتعلم الطيور البرية مثل مرشد العسل تفسير
أصوات البشر؟ هذا سلوك نتوقعه من الحيوانات
المستأنسة مثل الصقور والكلاب، لكن ليس من الطيور
البرية (رغم توثيق علاقات صيد تعاونية أخرى بين
البشر والدلافين وكذلك الحيتان السفاحة
والغربان).
54 نحن نعرف أن طيور مرشد العسل لا تتعلم
الصيد التعاوني من أبويها، لكننا لا نعرف بالضبط
كيف تتعلمه. يعتبر مرشد العسل من متطفلات الأعشاش؛
إذ يضع والداها (اللذان لا تراهما قط) بيضهما في
أعشاش طيور أخرى، ويثقبان بيض الطائر المضيف الذي
تطفلَّا على عشه لتعزيز معدل بقاء فراخهما. ثم يترك
الوالدان بيضهما في عش الطائر الآخر الذي لا يدري
بما حدث، وعندما تفقس فراخ مرشد العسل، عادة ما
تستخدم مناقيرها الحادة المعقوفة في قتل أي ناجين
من فراخ الطائر المضيف.
55 نعرف أيضًا أن الأصوات التي يتواصل بها
الصيادون والطيور ليست فطرية؛ فالبشر يستخدمون
أصواتًا تختلف باختلاف المناطق التي يسكنونها من
أفريقيا. وهم يتعلمون تلك الأصوات من أجدادهم
ويتوارثونها عبر الأجيال.
56
كيف تتعلم طيور مرشد العسل هذه الأصوات؟ تحاول
كلير سبوتيسود وزملاؤها الإجابة عن هذا السؤال
بالدمج بين التقنيات الرقمية والمعرفة التقليدية.
فطوروا تطبيقًا خاصًّا يمكِّن صيادي العسل من جمع
بيانات عن أنشطتها. في أعماق غابات محمية نياسا
الوطنية، وهي منطقة في مساحة الدنمارك تندر بها
الطرق ولا تصلها شبكة الإنترنت، يجوب صيادو العسل
من شعب الياو الغابة مزودين بأجهزة محمولة تعمل
بنظام تشغيل أندرويد، ويكسبون دخلًا من جامعة
كمبريدج بالعمل مساعدي باحثين في مجال حفظ البيئة،
فيما يغنون لرفقائهم من طيور مرشد العسل بينما
يبحثون عن النحل.
57
توجيه الأسراب المستطردة
لقد قطعنا شوطًا كبيرًا منذ تجارب فريش التي
استخدم فيها أجراس الماشية وساعات الإيقاف. والآن
تمكننا تقنيات الرؤية الحاسوبية وتعلم الآلة من
مراقبة كل فرد في خلية كاملة، مما يمنحنا رؤية
ثاقبة غير مسبوقة عن حياة الخلية.
58 لقد استغرق فريش في جمع أضخم مجموعة
بيانات حصدها، تضمنت ٣٨٨٥ مشاهدة، عدة أشهر بمساهمة
عشرات المتطوعين. أما أول مجموعة بيانات معتمدة على
تعلم الآلة لمسارات نحل العسل، فحللت ثلاثة ملايين
صورة، جُمعت في ثلاثة أيام فقط.
59
صاحب هذه الثورة الرقمية موجة من التقنيات
الجديدة لمراقبة نحل العسل. تستخدم أنظمة المراقبة
الآلية للخلايا مثل «برودمايندر» و«بازبوكس ميني»
و«أيو بي» مستشعرات مثبتة في آلاف من خلايا النحل
حول العالم لتمكين النحَّالين من تتبع أحوال
الخلايا، وتعتبر أيضًا بمنزلة أنظمة إنذار مبكر من
الأخطار التي كان يستحيل التنبؤ بها من
قبل.
60 ويستطيع هواة النحل تحميل صورة على
تطبيق «بامبل بي ووتش» أو تحميل بيانات على موقع
«بي سبوتر» الذي يستعمله العلماء المواطنون (لفظ
يطلق على المساهمين في البرامج العلمية من العامة)
من جميع أنحاء العالم لتتبع النحل في الطبيعة. أغلب
تلك البيانات يُخزَّن في قواعد بيانات عامة
تُستخدَم في أبحاث خلايا النحل. بل إن الباحثين
استخدموا معالجات إنتل لتطوير جهاز دقيق يشبه
«حقيبة الظهر» للنحل الطنان مزود بشرائح تحديد
الهوية بموجات الراديو، وبدمج البيانات التي يجمعها
الجهاز مع تلك التي تجمعها مسجلات البيانات
المنتشرة عبر البيئة، يتمكنون من تكوين نموذج ثلاثي
الأبعاد لمسارات طيران النحل الطنان في أي مكان في
العالم.
61 الخطوة التالية هي توظيف هذه التقنيات
لدعم حماية البيئة. يمكن استخدام أجهزة الاستشعار
والكاميرات في الخلايا الذكية لمراقبة النحل
وتزويده بمعلومات لتوجيهه أثناء تلقيح المحاصيل
وتجنب المواقع الملوثة. كذلك يمكن استخدام هذه
التقنيات نفسها في توظيف النحل لرسم خرائط للمناطق
التي لا يستطيع البشر الوصول إليها لشدة خطورتها
عليهم، أو تزويد أسراب الروبوتات بالقدرات اللازمة
لدعم الحفاظ على البيئة، أو حتى المعاونة في مهام
البحث والإنقاذ.
62
مع تراكم البيانات يظهر ما يسمى تأثير التوءمة.
مثلما يملك بعض البشر توءمًا رقميًّا (نسخة رقمية
على الإنترنت من ذاتهم المادية)، تملك بعض خلايا
النحل الآن «خلية افتراضية» توءمًا، يحاكي عالمها
عالم الخلية الحقيقة. وهذا قد يساعد في قلب
الموازين في سباقنا لإنقاذ نحل العسل وغيره من
الأنواع الأخرى كذلك. عندما يجمع النحل الرحيق،
وهذا يعني أنه يجمع عينات من البيئة بصفة مستمرة،
أفلا يجعله ذلك أفضل رقيب للمخاطر البيئية؟ في
الأعوام القليلة الماضية، دُرِّب النحل (وحشرات
أخرى) بنجاح على اكتشاف مجموعة من المواد
الكيميائية والملوثات.
63 ويمكن أن يساعد تحليل عدد كبير من
رقصات النحل في منطقة معينة في تقييم المحيط
الطبيعي لتلك المنطقة من ناحية الاستدامة والأمان
البيئي. ومن شأنه أيضًا أن يرفع كفاءة عملية
التلقيح ويمنحنا رؤى تساعدنا في منع اضطراب انهيار
مستعمرة النحل، الذي يُعَد ظاهرة منتشرة
ومقلقة.
يمكن أيضًا توظيف النحل للعمل كمؤشرات حيوية حية؛
إذ يرصد المناطق الطبيعية ويراقبها ويَنقُل عنها
بيانات بطريقة دقيقة وغير مكلفة يستحيل على البشر
تحقيقها.
64 إذا حققت تلك التقنيات ما تعد به،
فيمكن أن يمدنا النحل ببيانات شبه آنية عن البيئة،
مما يحسِّن فرصتنا في تدارك المخاطر البيئية قبل أن
تتفاقم وتخرج عن السيطرة. وتعمل بعض المختبرات،
ومنها مختبر في جامعة هارفارد، على تصنيع نحل آلي —
روبوتات دقيقة طائرة ذاتية التحكم يمكنها تلقيح
المحاصيل ورصد البيئة بدقة — إلا أن بعض دعاة
الحفاظ على البيئة يرون أن النحل المعزز بالتقنيات
الرقمية أكفأ من روبوتات التلقيح الاصطناعية.
وبدلًا من استخدام الروبوتات بديلًا للنحل، علينا
أن نستخدم التقنيات الرقمية لحمايته.
حذَّر المعارضون أيضًا من إمكانية استخدام النحل
المعزز رقميًّا سلاحًا.
65 فللنَّحل تاريخ طويل مع الجيش؛ إذ كان
ترسًا أساسيًّا في آلة الحرب أثناء الحرب العالمية
الأولى، حين كانت أغلب الذخائر تغطى بشمع
العسل.
66 لكنه الآن صار أداة تخدم أهدافًا
عسكرية أوسع. ففي الولايات المتحدة، أجرى الجيش
تجارب عملية لاستخدام النحل باعتباره كاشفًا
حيويًّا في مكافحة المخدرات، والأمن الوطني،
وعمليات إزالة الألغام.
67 يتطلب توظيف ما أسماه علماء الجيش
«الجنود ذوي الأرجل الست» إجراء تعديلات جينية
وميكانيكية في الأنظمة العصبية للنحل وأنماط هجرته
وعلاقاته.
68 في «مشروع المستشعرات الحشرية السرية»
يدرب الجيش الأمريكي النحل على مد ألسنته عند
اكتشافه مواد كيميائية خطرة؛ وبمجرد تدريب أفراد
النحل على ذلك، يوضعون في خراطيش داخل أجهزة رصد
يحملها الجنود. عندما يصدر النحل استجابة لوجود
متفجرات عسكرية مثلًا، تترجم الرقاقة الدقيقة
الموجودة في جهاز الرصد تلك الإشارة إلى إنذار. لكن
النحل المدرَّب لا يعيش أكثر من بضعة أسابيع قبل أن
يموت داخل خرطوشته. وعندما يحدث ذلك، يتسلم الجندي
خرطوشة بديلة، ووفقًا للعالِم المسئول عن المشروع:
«ما عليك سوى نزع خرطوشة النحلة للحصول على واحدة
جديدة.»
69 قد يكون توظيف النحل في اكتشاف
المتفجرات الخطيرة مفيدًا لأفراد الجيش، لكن
التلاعب بالنحل وإهلاكه بتلك الأعداد الهائلة دون
مبالاة يجب أن يجبرنا على التوقف والتفكير في
الأمر. هل التكنولوجيا الرقمية مجرد أداة لتسخير
نحل العسل لأغراض عسكرية؟
تقدم لنا قبيلة سان وشعب الياو منظورًا آخر
للتفكير في علاقاتنا بالنحل. تعتبر الثقافات
التقليدية التواصل مع النحل جزءًا جوهريًّا من
المراسم المقدسة. فالعسل بالنسبة إليهم شيءٌ ماديٌّ
وروحانيٌّ في آنٍ واحد؛ كونهم يعتبرونه طعامًا
وسرًّا مقدسًا. وهذا ليس منظور الصيادين وجامعي
الثمار في أفريقيا فحسب؛ إذ يعود تاريخ أقدم تماثيل
العصر الحجري الحديث لإلهات النحل الأوروربية إلى
أكثر من ثمانية آلاف سنة. ويحتفي كثير من أقدم
النصوص البشرية المدونة بقدسية النحل. فمنذ أكثر من
ألفي سنة، خطَّ كتبة «بردية سولت السحرية» قصة خلق
العالم المصري القديم: بعد أن خلق إله الشمس رع،
الذي كانت الشمس عينه اليمنى والقمر عينه اليسرى،
المحيطات والأرض، ذرف الدموع. وتحولت قطرات دمعه
إلى نحل حط على الأزهار والأشجار، فأخرج إلى الحياة
العسل والشمع.
70 وقبل ذلك بنحو خمسمائة عام، سجلت نصوص
«بريهادارانياسكا أوبانيشاد» الهندية (تعاليم
البرية العظيمة) عقيدة العسل؛ وهي نظرية عن الطبيعة
العضوية المترابطة للحياة، يمثل فيها العسل الغذاء
الكوني لأرض الوجود المضيئة؛ إذ تقول: «هذه الأرض
هي عسل جميع الكائنات، وجميع الكائنات هي عسل هذه
الأرض».
71
في كثير من التقاليد الروحانية، ترتبط الطبيعة
المقدسة للنحل ارتباطًا وثيقًا بميلاد الإنسان
وموته وطقوس العبور. إن العسل هو أقدم مصدر طبيعي
في العالم للسكر العالي التركيز، كما يصنع النحل
العكبر أو البروبوليس، وهو صمغ طبي مهم. ربما كان
أحد دوافع البشر للتواصل مع النحل هو نبيذ العسل أو
الميد، أول مشروب كحولي صنعه البشر. اعتبر الإغريق
الرحيق (أو الأمبروزيا) «طعام الآلهة»، وكان يحتسى
في طقوس أسرار ديونيسوس؛ إذ يطعَم العرَّاف، الذي
يعاني من آلام العرافة، العسل ويشار إليه بأنه
تجسيد لنحلة.
72 قدم المايا والرومان أيضًا العسل
لآلهتهم. وفي كثير من الثقافات، من الهند إلى مصر،
كان العسل هو أول طعام يقدم للرضيع الحديث الولادة،
وكان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمولد الروح وموتها.
كما تجري أنهار من العسل ونبيذه في جنة النعيم في
ديانات العبرانيين والمسلمين والكلتيين والنورس
(الذين خلطوا العسل بالحليب) وشعب سان (الذين فضلوا
خلط العسل بالجراد). لقد كان النحل وخلاياه في
الغالبية العظمى من الثقافات، مقدسَين ودنيويَّين
في آنٍ واحد، تحميهما الطقوس والمراسم.
73
كيف نوازن بين هذه الرؤى الشديدة الاختلاف؟ أن
نشهد تواصلًا متبادلًا (وإن كان بسيطًا) بين نحل
حيوي هجين ونوع آخر لهو أمر يبعث على الإجلال. لكن
أن نشهد تحويل النحل إلى أجهزة عسكرية تُستهلك
ويُتخلص منها دون اكتراث فهو أمر يبعث على الفزع.
كلا هذين الاختيارين يمثل شكلًا من أشكال علاقة
الإنسان بالطبيعة؛ فهل سنختار التسيد عليها أم
الانتماء إليها؟
إذا اخترنا الانتماء، فقد نكتشف أن النحل لديه
المزيد ليقوله لنا، وأن لدينا المزيد لنقوله له.
ولن يكون النحل هو النوع الوحيد الذي سينخرط معه
البشر في حوار. فكما يستكشف الفصل التالي، يحاول
ائتلاف من العلماء الآن توظيف الذكاء الاصطناعي لفك
شفرة التواصل بين الأنواع لمجموعة كبيرة من
الحيوانات بداية من الرئيسيات وصولًا إلى الببغاوات
والدلافين والحيتان.