الفصل التاسع

إنترنت الكائنات الأرضية

فينت سيرف هو نائب رئيس شركة جوجل وكبير مبشري الإنترنت بها، والذي يلقب نفسه بأبي الإنترنت، وهو شخص نادرًا ما يتحدث أمام الجمهور. لذا حين اعتلى المنصة في فبراير ٢٠١٣ في مؤتمر «تيد» السنوي، الذي يُعَد أحد أبرز الفعاليات في قطاع التكنولوجيا، أسر انتباه الحضور.1 انضم إليه على المسرح كوكبة فريدة من الشخصيات: باحثة الدلافين ديانا ريس، والموسيقي بيتر جابرييل، وعالم الفيزياء نيل جيرشنفيلد (مدير مركز البتات والذرات التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا). كان الجمهور متشوقًا لسماع نجم الحدث، لكن سيرف ظل صامتًا فيما وقفت ديانا ريس لإلقاء كلمتها.
في خلفية افتتاحية كلمتها، شُغِّل مقطع فيديو لدولفين صغير يدعى بايلي، يدور في الماء. انبهر الجمهور باستعراض بايلي. لكن ديانا أوضحت أن بايلي لا يستعرض لأجل التصوير. بل كان يشاهد نفسه وهو يدور أمام مرآة مزدوجة، وذلك ضمن تجربة علمية. وشرحت أن قدرة بايلي على التعرف على انعكاسه في المرآة دليل على أن الدلافين تمتلك سمة تُعرَف باسم التعرف على الذات في المرآة، تعد مؤشرًا على الوعي الذاتي.2 في السابق كان يُعتقَد أن البشر ينفردون بتلك السمة، إلا أننا نعرف الآن أننا نشترك فيها مع القردة العليا والأفيال بل حتى طيور العقعق. وأوضحت أن هذه التجربة وغيرها أثبتت أن الدلافين أذكى مما كنا نتصور؛ فهي كائنات مدركة وعاطفية وواعية وقادرة على التعلم المنظم ذاتيًّا.

بعدها تسلم بيتر جابرييل دفة الحديث. وكان هو صاحب الفضل في ذلك الجمع. فقبل سنوات، بدأ جابرييل رحلته في عالم الموسيقى وتواصل مع الموسيقيين من شتى أنحاء العالم باحثًا عن القواسم المشتركة بينهم عن طريق الموسيقى رغم اختلاف اللغات التي يتحدثون بها. أسرته قصص تواصل الحيوانات، وكان يحلم بإيجاد وسائط جديدة — مرئية وصوتية ولمسية — تمكنه من التواصل مع الأنواع الأخرى. لذا بدأ يتواصل مع علماء الحيوان وطرح عليهم اقتراحًا غير تقليدي. كان يستأذنهم في الحضور لزيارة حيواناتهم الأسيرة ومعه بيانو وجيتار وغيرهما من الآلات ليعزف معها الموسيقى. وقد أثار موجة من الدهشة حين عرض مقطع فيديو لإحدى جلسات العزف المشترك التي أجراها؛ وفيه يعرِّف أنثى قرد من نوع بونبو، تدعى بانبانيشا، على لوحة مفاتيح بيانو لأول مرة. بحركات خفيفة بإصبع واحدة تنقر بانبانيشا على لوحة المفاتيح، عازفة لحنًا آسرًا، استطاعت أن تعزف فيه أوكتافات وإيقاعات متوافقة مع النغمة التي يعزفها.

ذات يوم، تواصل جابرييل مع نيل جريشنفيلد وعرض له مقطع الفيديو الذي تتعلم فيه أنثى البونبو العزف على البيانو. يقول جريشنفيلد: «فقدت صوابي عندما شاهدت المقطع … وأدركت أننا البشر قد أغفلنا شيئًا ما؛ أغفلنا باقي كائنات الكوكب.»3 يضيف جريشنفيلد قائلًا إن تاريخ الإنترنت هو تاريخ من صنع «رجال بيض في منتصف العمر في الأغلب.» وأكد أن إنترنت الأشياء يمكن توسيعه ليشمل الحيوانات، بل باقي الكتلة الحيوية الموجودة على الكوكب. ثم توجه جريشنفيلد إلى جهاز كمبيوتر على المسرح، وضغط على أحد المفاتيح، ليظهر للجمهور بثًّا مباشرًا لدلافين في المتحف الوطني للحياة البحرية في بالتيمور، وقردة أورانجوتان (إنسان الغاب) في تكساس، وأفيال في تايلاند. كان الجمهور يشهد آنذاك لحظة تاريخية، وهي لحظة ميلاد الإنترنت الرابط بين الأنواع.

كيف كان مهندسو الإنترنت الأوائل سيرون هذه الخطة الطموحة للتواصل بين الأنواع؟ أوضح سيرف أن المصممين الأوائل اعتقدوا أنهم يصنعون نظامًا للربط بين أجهزة الكمبيوتر. لكنهم سرعان ما أدركوا أن الإنترنت نظام يربط بين البشر. وتوقع سيرف أن المرحلة التالية من تطور الإنترنت ستكون شبكة تربط بين أنواع الكائنات ذات الإحساسية. وتنبأ سيرف أننا من خلال الإنترنت، سنتعلم التواصل مع الكائنات غير البشرية، من الحيوانات إلى الفضائيين.

الإنترنت الرابط بين الأنواع

ينطلق مشروع الإنترنت الرابط بين الأنواع — الذي أصبح الآن ائتلافا عالميًّا يضم أكثر من ٤٥٠٠ من باحثي الحيوانات وعلماء الكمبيوتر وعلماء اللغة والمهندسين — من مقدمة منطقية بسيطة، وهي أن الأدوات الرقمية التي نستخدمها للترجمة بين اللغات البشرية يمكن تكييفها للتواصل مع غير البشر.4 فيمكن توظيف الذكاء الاصطناعي، على وجه التحديد، لترجمة إشارات نوع ما إلى إشارات يفهمها نوع آخر. وهذا بالطبع يُبنى على افتراض أن الأنواع الأخرى تستعمل أشكالًا من التواصل المعقد تشبه اللغة. بافتراض صحة ذلك الافتراض، هل يمكن تكييف التقنيات الحاسوبية المستخدمة للترجمة بين اللغات البشرية وغير البشرية؟ بفضل الاكتشافات الثورية الأخيرة أصبح ذلك الاحتمال الذي كان في وقت ما بعيد المنال، يبدو قريبًا للغاية.
تعد «مبادرة ترجمة لغة الحيتان» مثالًا على ذلك. انطلق هذا المشروع في ربيع عام ٢٠٢١ على يد باحثين من جامعة هارفارد وجامعة بيركلي متخصصين في مجالات علم الأحياء البحرية والصوتيات البيئية والذكاء الاصطناعي واللغويات، ويهدف إلى استخدام تعلم الآلة والروبوتات غير التدخلية لفك شفرة لغة حيتان العنبر (فيسيتر ماكروسيفالوس).5 وحوت العنبر هو أكبر حيوان مفترس مسنن على الكوكب، يمكن أن يصل طوله إلى ٦٠ قدمًا، ويمتلك الدماغ الأكبر حجمًا بين جميع الحيوانات على الأرض. يعتقد العلماء أن حجم دماغ حيتان العنبر أحد المؤشرات على قدرتها على التواصل المعقد. وثمة مؤشر آخر على احتمال امتلاك حيتان العنبر لغة معقدة، وهو مؤشر ينبع من فرضية التعقيد الاجتماعي، التي تنص على أن البنية الاجتماعية المعقدة تعتبر محركًا للتعقيد والتنوع في أنظمة التواصل الحيواني. صيغت هذه الفرضية في الأصل لتفسير تطور اللغة البشرية، لكنها طُبِّقَت مؤخرًا على الحيوانات الاجتماعية، مثل الخفافيش والأفيال. وبجانب أنها ثرثارة، تُعتبر حيتان العنبر كائنات اجتماعية للغاية؛ إذ تعيش في جماعات عائلية أمومية هرمية ومتماسكة تبقى فيها معًا طَوال حياتها. ومثل غيرها من الحيتان، تتسم أنماط نداءاتها بلهجات مميزة؛ فلكل عائلة (تسمى عشيرة صوتية) أنماطها الصوتية الخاصة. وقد كانت هذه المؤشرات الثلاثة مجتمعة — كبر حجم الدماغ والتعقيد الاجتماعي واللهجات — كافية لتبرير تركيز مبادرة ترجمة لغة الحيتان على حيتان العنبر.
تتواصل حيتان العنبر بأصوات تشبه (بالنسبة إلينا) الأزيز والطقطقة والصرير والصيحات الحادة؛ عند سماع الطقطقات عبر هيكل سفينة، يبدو صوتها أشبه بالنقر أو الطرق. ويعتقد علماء الأحياء أن آلية عمل هذه الأصوات تشبه إلى حد ما آلية جهاز تلغراف قديم؛ إذ تصدر الحيتان نبضات صوتية بترددات وأنماط ومدد معينة، وتؤلف منها شفرة دقيقة معقدة. وإذا صح ذلك، فإن التواصل في حيتان العنبر يشبه التواصل بشفرة مورس، وإن كان أعقد منها بكثير. (قد يكون لهذا تطبيقات في مجال علم التشفير؛ فقد اقترح الباحثون تكييف أنماط أصوات الحيتان لاستخدامها في صورة «شفرة مورس حيوية»، لأغراض الاتصال السري المشفر).6
يمكن فك شفرة نظام التواصل لدى حيتان العنبر باستخدام بعض الأدوات المعروفة من نظرية المعلومات واللغويات. أثبتت دراسات اللغات البشرية أن اللغات تشترك في بعض القوانين العامة. على سبيل المثال، ينص قانون زيف–ماندلبروت على أن ثمة نمطًا مشتركًا بين اللغات البشرية، يتمثل في أن بعضًا من مفرداتها يستخدم بكثرة، بينما يندر نسبيًّا استخدام أغلب مفرداتها؛ كما ينص قانون زيف للاختصار على أن الكلمة كلما كانت أقصر، زاد معدل استخدامها؛ ويشير قانون مينزيراث–ألتمان إلى أنه كلما كان التركيب اللغوي، مثل الجملة، أطول، قصر حجم مكوناته، مثل المقاطع الصوتية.7
توجد أدلة قوية على أن أصوات كثير من أنواع الحيوانات تتبع أيضًا هذه القوانين التجريبية للتشفير اللغوي.8 على سبيل المثال، يوجد تشابه مباشر بين جوانب التواصل الصوتي البشري ونظيرتها لدى الفقاريات الأرضية الأخرى، ويتضمن ذلك الجهاز الصوتي والإشارات الأساسية المستخدمة لتعديل الأصوات المنطوقة.9 لا يعني هذا بالضرورة امتلاك الحيوان قدرات لغوية، لكن يمكننا أن نسترشد بهذه التشبيهات والرؤى في جهودنا للبحث عن لغات حيوانية معقدة. على سبيل المثال، استخدم الباحثون مفهوم إنتروبيا شانون — الذي يشير إلى متوسط مستوى عدم اليقين أو العشوائية في التواصل — لتقييم المحتوى المعلوماتي لأصوات الحيوانات.10 يتطلب تقييم قابلية قوانين اللغة البشرية للتطبيق على أنواع أخرى مجموعات بيانات ضخمة؛ وحتى وقت قريب، كانت دراسات اللغة الحيوانية مقيدة بصغر حجم مجموعات البيانات. ولكن مع ظهور تقنيات الصوتيات الحيوية الرقمية والذكاء الاصطناعي، أصبح العلماء الآن قادرين على أتمتة عمليات تحليل مجموعات البيانات الضخمة للأصوات المنطوقة لدى الحيوانات. تستطيع الخوارزميات التعرف على عناصر الصوت المفردة (الكلمات والنداءات والمقاطع)، بالإضافة إلى التراكيب الأعقد، والترتيب الهرمي لعناصر التواصل.11 على سبيل المثال، اكتشف العلماء مؤخرًا أن الحيوانات تشترك مع البشر في سمات لغوية كان يُعتقد أنهم ينفردون بها، من بينها وجود تراكيب لغوية في أغنيات الحيتان والطيور المغردة، خلافًا للتصور الراسخ الذي كان سائدًا، وكذلك المعالجة التوافقية في أصوات الرئيسيات والحشرات.12
ظل العلماء يتساءلون لسنوات إذا كانت أصوات الحيتان تشكل لغة فعلية. ولكن حتى الآن لم يحققوا نجاحًا يُذكر في فك شفرة أصوات الحيتان، وذلك يرجع جزئيًّا إلى أن الحيتان تقضي معظم حياتها على عمق مئات الأقدام تحت سطح الماء، حيث يصعب تسجيل الأصوات الفردية ورصد السلوكيات الفردية. وبفضل التقدم في تقنيات الصوتيات الحيوية الرقمية، صار لدى العلماء الآن مجموعات بيانات ضخمة يستخدمونها لوضع ما يناظر القواميس للغة الحيتان. ويعمل الباحثون على تطوير خوارزميات ذكاء اصطناعي للتعرف على البنية العميقة لأنماط التواصل لدى الحيتان؛ وتستخدم اللغويات الإحصائية المتقدمة لربط هذه الأنماط بسلوكيات الحيتان، وفي الوقت نفسه استخلاص القواعد والبنى اللغوية (التراكيب والدلالات وقواعد الصوتيات والاشتقاق).13 كذلك يأمل الباحثون أن يمكِّنهم التنصُّت على أمهات الحيتان وهي تتواصل مع صغارها من استجلاء عملية اكتساب اللغة؛ إذ ستتعلم خوارزمياتهم كيفية التحدث بلغة حيتان العنبر مثلما تتعلم صغار تلك الحيتان. وإذا كانت أصوات الحيتان تحمل معاني يمكن فك شفرتها، فربما يكون لديها شكل من اللغة يمكن ترجمته؛ وربما تعبر أغنياتها عن تاريخ شفهي يمكننا أن نتعلم منه في النهاية، وهو احتمال أبعد.
تهدف مبادرة ترجمة لغة الحيتان إلى إحداث تحول جذري في فهمنا للغة الحيتان، وفي الحفاظ على البيئة بصفة أعم. ويوضح الموقع الرسمي للمبادرة أنها تطمح إلى تسريع وتيرة جهود الحفاظ على البيئة من خلال اتخاذ خطوات نحو «خوض حوار مجدٍ مع نوع آخر» و«إظهار ذكائه المذهل».14 ويأمل الباحثون أن يؤدي التحدث مع كائنات أخرى إلى تعزيز رغبتنا في حمايتها. ولكن هل التواصل بين الأنواع ممكن من الأساس؟

التحدث بلغات الحيوانات

مبادرة ترجمة لغة الحيتان هي النقيض التام لمحاولات سابقة لرأب فجوة التواصل بين الأنواع. ففي منتصف القرن العشرين، ركز العلماء الغربيون جهودهم على محاولات تعليم الحيوانات التحدث بلغة البشر. وكانت الرئيسيات الأسيرة هي محور تركيز بعض من أبرز تلك المشروعات خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. كان أشهرها أنثى غوريلا تُدعى كوكو وأنثى شمبانزي تدعى واشو عاشرتا البشر عن قرب وتعلمتا لغة الإشارة على يد الأمريكيين القائمين على رعايتهما.15 تعلمت واشو أكثر من ٢٥٠ إشارة، بينما تعلمت كوكو أكثر من ١٠٠٠ إشارة، وكانت تفهم أكثر من ٢٠٠٠ كلمة إنجليزية. علمت واشو بدورها لغة الإشارة لشمبانزي آخر يدعى لوليس؛ وكان ذلك أول مثال مرصود لتعليم كائن غير بشري لغة البشر لكائن غير بشري آخر. كما تعلم قرد بونبو يدعى كانزي التواصل باستخدام رموز لوحة المفاتيح، وكانت إحدى الوسائل التي اكتسب بها تلك المهارة هي مراقبة والدته وهي تتدرب عليها.16
في حين أن المدى الكامل لإنجازات القردة كان محل جدل حاد (وما زال بعض العلماء يرفضونه)، فالثابت عمومًا أن الرئيسيات التي دربها البشر يمكنها فهم صور بسيطة من اللغة البشرية المنطوقة وتعلم استخدام أكثر من مائة إشارة للتواصل. ولم تقتصر مهارة كانزي وكوكو وواشو اللغوية على فهم الطلبات التي تنطوي على تعاملات متبادلة وإصدارها (مثل «أعطني طعامًا»)، بل استخدموا اللغة أيضًا للتعبير عن المشاعر. ويرى المؤيدون لتلك النتائج أنها تثبت أن الرئيسيات قادرة على اكتساب لغة الإشارة وفهم الأوامر البشرية المعقدة، رغم عدم قدرتها على تعلم التحدث بلغة البشر.17
كشفت أيضًا دراسات أُجريت على كائنات حية من غير الرئيسيات عن أدلة على قدرتها على تقليد الكلام البشري. وتعتبر الببغاوات المثال الأشهر للطيور التي تتعلم الكلمات البشرية.18 كما وثِّقت حالات لتقليد الكلام والتعلم الصوتي لدى أنواع أخرى. ومن أمثلة ذلك هوفر، وهو ذكر فقمة شائعة رباه صياد من ولاية مين الأمريكية، كان يستطيع نطق عبارات بسيطة باللغة الإنجليزية؛19 ولوجوسي، وهو ذكر حوت أبيض كان يستطيع ترديد اسمه.20 ويقال إن كوشيك، وهو فيل ولِد في الأسر وترعرع في حديقة حيوان إيفرلاند بكوريا الجنوبية، استطاع تقليد أصوات اللغة الكورية بدقة عالية حتى إن الناطقين الأصليين بالكورية استطاعوا بسهولة فهم كلماته وكتابتها.21
رغم القدرات المذهلة التي أبدتها تلك الحيوانات، فقد تعرض مدربوها من البشر لانتقادات لأسباب أخلاقية. فقد حُرِم كثير من هذه الحيوانات من التواصل مع أفراد نوعها؛ كما انتُقِدَت المشروعات البحثية لأسباب كثيرة أبرزها تحيُّز الباحثين، وأقلها القسوة وسوء الاستغلال.22 كما انتقدها علماء آخرون بحجة أن دراسة الحيوانات الأسيرة التي يربيها البشر لا تساعدنا فعليًّا على فهم آليات تعلمها للأصوات في البرية. لكن لعل أهم الانتقادات هي التي وُجِّهت إلى النزعة الأنثروبوسنترية (المتمركزة حول البشر) التي تغلف هذه الأساليب. فلماذا يجب أن تكون القدرة على التحدث بلغة بشرية مقياسًا للقدرات التواصلية لنوع آخر؟ هذا مقياس خاطئ من الأساس، شأنه شأن تقييم الذكاء البشري قياسًا على قدرة البشر على التحدث بلغة الدلافين.
اليوم، ينتهج العلماء نهجًا مغايرًا تمامًا في دراسة التواصل بين الأنواع. فلم يعد الهدف هو تعليم الأنواع الأخرى التحدث باللغات البشرية، بل تصميم أجهزة قادرة على التواصل مع الكائنات غير البشرية باستخدام الأسلوب الفريد لكل منها. من أمثلة ذلك الدراسة التي أجرتها دينيس هيرزينج، مؤسسة مشروع الدولفين البري (الذي درس الدلافين في المحيط الأطلسي خلال الثلاثين عامًا الماضية)، التي أعادت هندسة الأجهزة المحمولة — الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية — لتلائم استخدام الدلافين.23 أجرت دينيس محاولات للتواصل مع أنواع أخرى، باستخدام أجهزة كمبيوتر ولوحات مفاتيح تعمل تحت الماء ومصممة خصيصى لهذا الغرض، وأظهرت نجاحًا مبكرًا.24 كذلك طوَّر فريقها خوارزمية تعلم آلي أطلق عليها اسم خوارزمية «تشات» (الاستماع إلى الحيتان وقياسها عن بعد CHAT)، تمكنت من اكتشاف أصوات دلافين لها معنًى؛ على سبيل المثال، التقطت الخوارزمية صوتًا معينًا كان الباحثون قد دربوا الدلافين سابقًا على ربطه بطحالب السرجس (نبات طافٍ يلعب به الدلافين أحيانًا). تفترض دينيس أن الدلافين لم تكتفِ بتعلُّم الإشارة الجديدة فحسب، بل بدأت تعليمها لغيرها. وكان هذا اكتشافًا ربما عجزت عن تحقيقه الأذن البشرية، ولكن خوارزميتها استطاعت تحقيقه.25
سعت ديانا ريس أيضًا إلى تكييف التقنيات الرقمية وخوارزميات الذكاء الاصطناعي لغرض استخلاص معلومات عن التواصل لدى الدلافين. فمنذ ثمانينيات القرن العشرين فصاعدًا، عكفت على توثيق التعلم الصوتي في الدلافين وتحليل أنماط صفيرها المميزة. كما تصدرت ديانا عناوين الصحف عندما أثبتت أن الدلافين تستطيع التعرف على نفسها في المرآة (فيما يعد دلالة على الوعي الذاتي حسبما يعتقد كثير من الباحثين).26 وفي دراسة ثورية، طورت ريس لوحة مفاتيح تعمل تحت الماء مصممة للدلافين، وسرعان ما اكتشفت الدلافين كيفية استخدامها لطلب إعطائها كرة أو تمسيد أجسادها دون أي تعليمات شارحة.27 وفي التكرارات اللاحقة للتجربة، استخدمت ريس لوحات لمسية وأجهزة تفاعلية أكثر مواءمة للتكوين الفسيولوجي للدلافين.
في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت ريس تتعاون مع مارسيلو ماجنوسكو، عالم الفيزياء الحيوية بجامعة روكفيلر، لتطوير شاشات تعمل باللمس تحت الماء مجهزة بتطبيقات تفاعلية مخصصة للدلافين؛ ويهدف مشروعهما «التواصل والمعرفة لدى الثدييات البحرية» (m2c2 اختصارًا) إلى استخدام هذه الأجهزة لفك شفرة التواصل لدى الدلافين واستجلاء عملياتها المعرفية.28 وما يحوز اهتمامهما بالأخص هو قدرة الدلافين على مزامنة سلوكياتها وتنسيق تحركاتها بدقة، حتى عند إعطائها أمرًا لأداء مهمة جديدة تمامًا، ودون أن تصدر أصواتًا مسموعة للبشر بالضرورة.29 هل يمكن أن تكون الدلافين تستخدم أصواتًا فوق سمعية تعجز الأذن البشرية عن التقاطها لتنسيق سلوكها؟ لتقييم قدرات الدلافين، لا بد من تصميم الخوارزميات لتتبع الأصوات وأيضًا لتحديد موقع الدولفين الذي يصدر عنه الصوت بدقة. حتى وقت كتابة هذا الكتاب، تعجز أنظمة الرصد الصوتي السلبي المستخدمة في أبحاث الصوتيات الحيوية تحت الماء عن نسب أنماط الصفير إلى أفراد محددين داخل المجموعات الاجتماعية التي تتسم بحرية التفاعل وكثرة الحركة. ولكن خوارزميات الذكاء الاصطناعي الحديثة تستطيع التعرف آنيًّا على أنماط الصفير الفريدة وتحديد مصدرها، مما سيسمح لديانا ريس ومارسيلو ماجنوسكو بمعرفة ما إذا كانت قدرة الدلافين التخاطرية في ظاهرها على نقل المعلومات، تنطوي على استخدام الأصوات. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهذا يعني أنها تستخدم وسيلة تواصل أخرى لم تُكتشَف بعد.

توضح أبحاث ديانا ريس ودينيس هيرزينج أنه على مدى العقود العديدة الماضية، بدأ البحث في مجال التواصل غير البشري يتخلص تدريجيًّا من التحيزات البشرية التي كانت مهيمنة عليه. فبدلًا من البحث عن أدلة على قدرة الحيوانات على فهم لغاتنا أو التحدث بها، بات العلماء يركزون على فهم التواصل غير البشري في حد ذاته. ولكن تكويننا الفسيولوجي يعيقنا عن ذلك؛ إذ يصعب علينا سماع أصوات الدلافين، فضلًا عن التحدث بلغتها. وتلك فجوة من شأن الذكاء الاصطناعي الآن أن يرأبها.

ترجمة جوجل تدخل عالم الحيوان

ماذا لو أمكن استخدام خوارزميات الترجمة التي وضِعت للغات البشرية لفك شفرة عمليات التواصل غير البشري؟ للترجمة بين لغتين بشريتين مختلفتين، تستخدم خدمات، مثل ترجمة جوجل، خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحليل مجموعات بيانات نصية ضخمة (مثل المستندات المُترجَمة إلى لغات متعددة من قبل الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي). إذا كانت مجموعات بيانات التدريب (التي تتدرب عليها الآلة) كبيرة وشاملة بما يكفي، فإنها بذلك تمكِّن الخوارزميات من بناء معجم رقمي يساعدها في ترجمة الكلمات المفردة (على سبيل المثال كلمة نهر تعني river بالإنجليزية، وla rivière بالفرنسية، وsîpîy بلغة الكري) واستخلاص المبادئ العامة للغات، مثل القواعد النحوية واستخدامات الكلمات. شهد العقد الماضي تحسُّنًا هائلًا في سرعة خوارزميات الترجمة، وفي قدرتها على ترجمة جمل كاملة بدقة بدلًا من الكلمات المفردة، وكذلك في عدد اللغات المدعومة؛ ففي عام ٢٠١٦، تجاوز اللغات المائة التي تدعمها ترجمة جوجل. وفي العام نفسه بدأت جوجل تستخدم نموذجًا جديدًا لتعلم الآلة في خدمة الترجمة التي تقدمها؛ وهو الشبكات العصبية الاصطناعية. صحيح أن خوارزميات الترجمة هذه لا تزال غير قادرة على مضاهاة مستوى دقة المترجم البشري (ولا تزال ترتكب أخطاءً يسهل على البشر اكتشافها)، إلا أنها بارعة للغاية في مهام الترجمة الضيقة النطاق والمحددة جيدًا.
حتى وقت قريب، كان من الصعب استخدام هذه التقنيات لتحليل تسجيلات الأصوات غير البشرية؛ نظرًا لعدم توافر مجموعات بيانات ضخمة من الأصوات غير البشرية. كما أن التسمية اليدوية، وهي العملية التي تمكِّن الخوارزميات من تعلم الأنماط الأساسية، لمجموعات البيانات الضخمة، تستغرق وقتًا طويلًا للغاية. على سبيل المثال، في عام ٢٠١١ أتيحت قاعدة البيانات الأضخم آنذاك لأغاني الحيتان (وتدعى «ويل إف إم») للاستخدام العام. فقد وضع الباحثون مجموعة البيانات التي تضم أكثر من أربعة آلاف نداء للحيتان على مدونة «زونيفرس» Zooniverse (وهي أضخم منصة لعلم المواطن في العالم) وطلبوا مساعدة المتطوعين في التسمية اليدوية لمجموعة البيانات.30 وساهم أكثر من عشرة آلاف متطوع بما يقرب من مائتي ألف تسمية. ولكن هذا الجهد الهائل نادرًا ما يتحقق، حتى لو توافرت التسجيلات. ثمة تحدٍّ آخر وهو ندرة مجموعات البيانات؛ فقلة فقط من الأنواع هي التي جذبت اهتمام الباحثين بالقدر الكافي لتطوير قواعد بيانات ضخمة تتضمن قدرًا كافيًا من التباينات في أنواع النداءات. أما الأنواع المهددة بالانقراض، فمن الصعب جمع تسجيلات كافية لها؛ نظرًا لقلة عدد الأفراد المتبقية من تلك الأنواع.
مؤخرًا حدث تطوران كبيران في مجال أبحاث الذكاء الاصطناعي ساعدا الباحثين في التغلب على هاتين العقبتين. الأول هو تطوير وسائل جديدة للتعامل مع اللغات التي لا تتوفر لها مجموعات بيانات ضخمة. في الماضي، كانت خوارزميات الترجمة تتطلب مجموعات بيانات تدريب ضخمة تضمنت نصوصًا ترجمها مترجمون بشريون يدويًّا إلى لغتين على الأقل (يستخدم الباحثون النصوص التي تكررت ترجمتها، مثل الإنجيل والقرآن، أو مقالات ويكيبيديا، أو أعمال شكسبير، أو لوائح الاتحاد الأوروبي). لكن هذا النهج لا يصلح مع اللغات التي تفتقر إلى النصوص المكتوبة. وفي مثل هذه الحالات (كما في حالة اللغات الأصلية في الأمريكيتين على سبيل المثال)، يتعين على الباحثين تجميع مجموعات بيانات مسماة يدويًّا، وتلك مهمة شاقة وتستغرق وقتًا طويلًا.31 على مدى السنوات الخمس الماضية، طُوِّرَت أنواع جديدة من خوارزميات الذكاء الاصطناعي تستطيع الترجمة بين لغتين، حتى إذا لم تتوافر لهما إلا مجموعة بيانات تدريب صغيرة.32 بعبارة أخرى، يستطيع الجيل الأحدث من خوارزميات الذكاء الاصطناعي تعلم ما يسميه العلماء لغات قليلة الموارد.33
حدث تطور ثوري آخر في عام ٢٠١٣ بابتكار نهج جديد لترجمة اللغات دون استخدام قواميس ثنائية اللغة، وحتى في حالة عدم وجود نماذج مسبقة للترجمة (ما يسمى باللغات المنعدمة الموارد). في هذا النهج، تحلل الخوارزمية مجموعة بيانات مكتوبة عن طريق إنشاء بنية (تسمى الفضاء الكامن) تمثل سمات لغة كاملة؛ وهذه البنية الهندسية المتعددة الأبعاد تمكِّن الخوارزمية من فك شفرة لغة لم تكن معروفة لها من قبل.34 على مدى السنوات العديدة الماضية، زادت كفاءة هذه الخوارزميات؛ إذ نجحت في الترجمة بين لغات ليست من أصل مشترك (على سبيل المثال، الإنجليزية والصينية)، وباتت تتفوق حتى على الخوارزميات القديمة القائمة على القواميس.35 تستطيع تلك الخوارزميات — التي تستخدم كبرى شركات التكنولوجيا نُسخًا منها الآن على نطاق واسع — أيضًا تحليل الفوارق اللغوية الدقيقة، مثل المعنى السياقي، والاشتراك اللفظي (دلالة اللفظ الواحد على أكثر من معنى)، والتشبيهات.36 وتتمتع هذه الخوارزميات بالمرونة الكافية للتعرف على أنماط لم تكن موجودة في مجموعة بيانات التدريب.37
في عام ٢٠١٨، اقترح جيمس جلاس، عالم الكمبيوتر بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، توسيع نطاق هذه التقنيات لتشمل الكلام، باستخدام البيانات الصوتية. وقد أجرى فريقه بحثًا أثمر نتائج مذهلة؛ إذ تمكن من تصميم خوارزمية تترجم الصوت من الألمانية إلى نص بالفرنسية باستخدام تسجيلات لم تتجاوز بضع مئات من الساعات.38 وتوقع جلاس أن تؤسس هذه التطورات لأنظمة التعرف التلقائي على الكلام وتحويل الكلام إلى نصوص للغات القليلة أو المنعدمة الموارد حول العالم، والتي تمثل غالبية اللغات البشرية.
لا شك أن هذا هو حال التواصل غير البشري بالنسبة لنا؛ فنحن لا نمتلك حتى الآن قاموسًا للغة حيتان العنبر، ولكن لدينا المواد الخام لإنشاء واحد. فعلم الصوتيات الحيوية يمدنا بالبيانات الأولية لمجموعات التدريب؛ ثم يأتي دور خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تكتشف أنماطًا في مجموعات البيانات هذه، تضاهي (نظريًّا) الأصوات التي تحمل معلومات ذات معنًى.39 أما من الناحية العملية، فمن المرجح أن يتطلب العمل الذي تقوم به تلك الخوارزميات قدرًا من التفسير البشري. فما إن تتعرف خوارزميات تعلم الآلة على إشارات مثيرة للاهتمام في البيانات الصوتية — على سبيل المثال، مجموعة من الأصوات في مشهد صوتي ما — غالبًا ما تحتاج إلى تفسير من قبل البشر لربطها بمعلومات ذات صلة بالسلوك. وبالنسبة إلى الأنواع المهددة بالانقراض بشدة (والتي عادةً لا يتوفر لها إلا عدد قليل من مجموعات البيانات الصوتية)، قد تواجه خوارزميات الترجمة صعوبات معها بسبب قلة بيانات التدريب؛ وقد تظل التسمية اليدوية مطلوبة للجوانب الأساسية لقاعدة البيانات (بدلًا من التسمية اليدوية لمجموعة التدريب بأكملها). على الرغم من هذه التحديات، يظل ذلك التطور التقني الثوري مهمًّا. فتلك الخوارزميات مجتمعة تستطيع إنشاء سلسلة من الأدوات الصوتية المناظرة لحجر رشيد؛ أدوات لفك شفرات اللغات دون نص مكتوب أو قواميس، اعتمادًا فقط على التسجيلات الصوتية.

أما الاكتشاف التقني الثاني في خوارزميات الذكاء الاصطناعي، فهو ذلك التقدم الذي حدث في معالجة الإيماءات والحركات الجسدية بجانب الأصوات. على سبيل المثال، في عام ٢٠١٩، أصدرت مختبرات الذكاء الاصطناعي التابعة لشركة جوجل «ميديابايب»، وهي خوارزمية مفتوحة المصدر لتتبع أوضاع اليد والأصابع؛ من خلال ربط تلك البيانات ببيانات من مقاطع فيديو للخطابات الحكومية يظهر فيها مترجمون رسميون، تمكن علماء الكمبيوتر من تطوير محركات لترجمة لغة الإشارة آنيًّا. وهكذا يمكن ترجمة الإيماءات إلى إيماءات أخرى، أو كلمات مكتوبة، أو كلام، ثم بثها إلى المشاهدين أو القراء أو المستمعين. ومن المحتمل أن تُدمَج جوانب من التواصل كانت متجاهَلة من قبل — مثل النظرة ووضعية الجسد وتعبيرات الوجه وكذلك الإيماءات — في هذه الخوارزميات. اعتمادًا على هذه الابتكارات، وضعت شركات التكنولوجيا هدفًا طموحًا، ألا وهو جعل أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على التحدث بجميع اللغات البشرية الموجودة على وجه الأرض وقراءتها وسماعها وفهمها، بما فيها لغات الإشارة. قد تتمكن خوارزميات الذكاء الاصطناعي في المستقبل من تعلم أنظمة التواصل غير البشرية مثلما يتعلم الأطفال التواصل؛ أي من خلال الاستماع إلى الأصوات ومراقبة الإيماءات؛ ومن ثَم تمييز الأنماط الموجودة في النشاط الصوتي والسلوك بدلًا من الرجوع إلى قاموس جامد.

هل يمكن تطبيق أنظمة الترجمة بالذكاء الاصطناعي القائمة على الإيماءات والحركات على غير البشر؟ في الوقت الراهن تبدو احتمالية ذلك أرجح من ذي قبل، في ظل التطورات الأخيرة التي حدثت في أجندة بحثية موازية، وتتمثل في استخدام الذكاء الاصطناعي في تحديد ماهية المشاعر المعبر عنها من خلال الحركات في الحيوانات. تؤكد مجموعة من الأدلة العلمية المتزايدة أن ثمة مجموعة كبيرة من الأنواع تختبر حالات عاطفية، وقد مكنت منهجيات التحليل الجديدة التي أتاحتها الرؤية الحاسوبية وتعلُّم الآلة العلماء من تفسير تلك العواطف.40
على سبيل المثال، في إحدى التجارب، استخدم الباحثون خوارزمية لتعلم الآلة غير المُراقَب لتصنيف مجموعة كبيرة من المشاعر لدى الفئران، مثل الاشمئزاز والخوف النشط والخوف السلبي والبهجة والفضول. صنفت الخوارزمية تعبيرات الوجه الدقيقة للفئران — تحريك الأذن إلى الخلف، واختلاج الأنف، وإمالة الشارب — على مقياس الملي ثانية؛ مما مكَّن الباحثين من تحليل شدة الحالات العاطفية ومدتها في فئران فردية.41 استنادًا إلى هذا البحث، يمكن تصور خوارزمية ذكاء اصطناعي قادرة على ربط إيماءات الفئران وأصواتها بمشاعرها وسلوكياتها، وهو ما سيوفر أساسًا أقوى للترجمة بين لغة الفئران ولغة البشر. ويذهب المؤيدون لذلك الاتجاه أن هذا من شأنه أن يمكِّن الذكاء الاصطناعي من مواجهة الاعتراض الشائع على إمكانية التواصل بين الأنواع: عدم القدرة على ربط الأصوات بالسلوك. طوَّر الباحثون كذلك خوارزميات ذكاء اصطناعي تحلل صرير الفئران تحت السمعي، كما تتعرف على الفأر الذي أصدر الصوت وتربط الأصوات بسلوكيات الفأر.42 وفي حال دمجها بخوارزمية يمكنها مراقبة وجه الفأر لرصد إشارات دالة على المشاعر، فسيصبح لدينا أداة ترجمة قوية. وفي العامين الماضيين طوِّرَت نماذج أولية لخوارزميات الذكاء الاصطناعي المدمجة تلك لاستخدامها مع الفئران، تحمل أسماء مثل «بوتسناب» و«ديبسكويك» و«فوكالمات».
وقد طوِّرَت خوارزميات مشابهة لأنواع أخرى. ففي عام ٢٠٢١، أطلق فريق من الباحثين تابع لمتحف التاريخ الطبيعي في فرنسا خوارزمية مُعمَّمة مفتوحة المصدر لأصوات الخفافيش تضم أكثر من مليون صوت تصدره الخفافيش، بدقة تصل إلى ٩٨ في المائة، ويمكن أن يستخدمها كل من يرغب في دراسة الخفافيش في أي منطقة من العالم.43 وعلى مدى العقد الماضي، حققت خوارزميات التعلم العميق القائمة على الصوتيات الحيوية نتائج مبهرة في التعرف على أنواع الطيور؛ إذ يبلغ معدل دقة أحدث جيل من تلك الخوارزميات ٩٧ في المائة، وتستطيع إحداها (وتدعى «بيردنت») التعرف على ما يقرب من ألف نوع.44
لكن من المهم ألا نبالغ في تقدير كفاءة خوارزميات الذكاء الاصطناعي تلك. صحيح أن طرق تعلُّم الآلة تتطور سريعًا، لكنها لا تخلو من العيوب؛ إذ تغفل في بعض الأحيان النداءات الخافتة أو العارضة أو المحجوبة جزئيًّا، أو تواجه صعوبة في التعامل مع ضوضاء الخلفية.45 ومن ثَم فإن استخدام الخوارزميات للتعرف التلقائي على الأنواع ينطوي على تنازل عن الجودة مقابل السرعة. في الوقت الحالي، لا تزال تقنيات المراقبة الصوتية الحيوية نصف آلية؛ إذ تحتاج إلى خبراء للتحقق يدويًّا من نتائجها، أو حسم التفسيرات الغامضة، أو تطبيق القواعد الأساسية المعتمدة على التجربة والخبرة. غير أن أداء الجيل الأحدث من خوارزميات الذكاء الاصطناعي (التي تسمى الشبكات العصبية الالتفافية) تحسن بدرجة كبيرة، وتبدو واعدة في معالجة تلك الصعوبات.46

تحقق خوارزميات الذكاء الاصطناعي هذه حلمًا طالما راود علماء الصوتيات الحيوية. فلطالما داعبت خيال الباحثين فكرة تطوير نظير لتطبيق «شازام» لغير البشر. التشبيه لافت؛ «شازام» هو تطبيق للهواتف الذكية يمكنه التعرف على الأغاني من خلال عيِّنة موسيقية قصيرة؛ وسيكون نظير «شازام» للحيوانات غير البشرية تطبيقًا يمكنه التعرف على حيوان بِناءً على صوت قصير، سواء كان ذلك الصوت همهمة أو زقزقة أو صريرًا. وقد حققت تطبيقات مثل «بيرد جيني» و«بيردنت» هذا الهدف بل تجاوزته؛ فهي قادرة على التعرف على أنواع الطيور تلقائيًّا من مجرد عيِّنة صوتية. طوِّرَت أيضًا خوارزميات مماثلة لحيوانات أخرى، بعضها قادر على التعرف على أفراد بعينهم. ورغم أن لكل نوع معجمه الفريد، فإن تلك التقنيات يمكن تعميمها.

خير دليل على سرعة وتيرة تطور تلك الخوارزميات هو أنها باتت تتفوق بسهولة في الأداء على عشرات الآلاف من المتطوعين الذين استُقطبوا للعمل على قاعدة بيانات «ويل إف إم». فبعد جهد المتطوعين البطولي في التسمية اليدوية لقاعدة البيانات، استخدم الباحثون خوارزمية (وندشارم) لتحليل نداءات الحيتان، مكررين ما قام به المتطوعون البشريون.47 كانت النتيجة أن تفوقت خوارزمية «وندشارم» على البشر؛ فقد استطاعت التمييز بين الحيتان السفاحة والحيتان الملَّاحة، وتصنيف النداءات بسهولة إلى مجموعات سكانية محددة (حيتان سفاحة أيسلندية مقابل حيتان سفاحة نرويجية؛ وحيتان ملَّاحة باهامية مقابل حيتان ملَّاحة نرويجية). يمكن للجيل الأحدث من خوارزميات تعلم الآلة (التي تحمل أسماء مثل «أوركا سلانج» و«بات ديتكتف») التعرُّف على أصوات أفراد الحيتان أو الخفافيش، بسهولة مثلما تحدد تقنيات التعرُّف على الوجوه هوية البشر.48 في الحقبة التي تفوقت فيها خوارزميات الذكاء الاصطناعي المصممة للألعاب على البشر في لعبة «جو» ولعبة الشطرنج، تفوقت عليهم أيضًا في التعرف على أغنيات الحيتان ونداءات الخفافيش من حيث السرعة والدقة.
لقد أصبح إنشاء نظام عالمي للتعرف الصوتي، يشمل جميع الكائنات الحية (على الأقل تلك التي تصدر أصواتًا)، هدفًا سهل المرام. وبهذا يكون قد تحقق جزء من آمال مؤسسي إنترنت الأنواع.49 فمن المرجح أن يصدر نظير لترجمة جوجل للغات الحيوانات خلال عقد أو ربما عقدين من الزمن. وثمة احتمال أبعد، وهو تكييف خوارزميات توليد النصوص اللغوية (مثل جي بي تي-٣) لاستخدامها مع الأنواع النشطة صوتيًّا مثل الخفافيش أو الدلافين؛ وهذا سيتيح للباحثين استخدام أجهزة الكمبيوتر في إجراء التجارب الحية التفاعلية لتشغيل الأصوات المسجلة للحيوانات البرية.
سيكون هذا إنجازًا مذهلًا. ولكن ينوه العلماء بأن قدرتنا على تمييز الإشارات الصوتية لا يعني بالضرورة قدرتنا على فهم معناها. فنظرًا للاختلافات الهائلة في التكوين الجسدي وإدراك العالم بين البشر وغير البشر، قد يكون من العسير إيجاد مفاهيم مشتركة بين اللغات البشرية وغير البشرية. فقد لا نشترك في جوانب كافية لفهم تجربة حيوان غير البشري؛ لأننا لا نشاركه ما يسمى «أومفيلت» (مصطلح صاغه لأول مرة فيلسوف علم الأحياء ياكوب فون أوكسكول للإشارة إلى إدراك الكائن الحي للعالم أو رؤيته له).50 يمكننا أن نأمل أن نجد رؤى مشتركة بيننا وبين الرئيسيات أو الحيوانات المستأنسة؛ ولكن تُرى هل يمكن أن نجد رؤى مشتركة بيننا وبين الحيتان؟

علاوة على ذلك، لا ينبغي الاستهانة بالصعوبات الفنية في الترجمة. فغالبًا ما تتضمن تسجيلات أصوات الطبيعة أصوات كثير من الأنواع؛ وللتمييز بينها، يلجأ الباحثون في مجال الصوتيات الحيوية عادةً إلى التسمية اليدوية لمجموعات البيانات، وهو ما يتيح للخوارزمية تعلم التمييز بين صوت فيل ونمر. لكن إذا حاولت خوارزمية غير مُراقَبة تعلم لغة حيتان العنبر من خلال الاستماع إلى تسجيلات المحيط، فستضطر إلى التمييز بين أصوات دقيقة منبعثة من مصادر وأنواع عديدة ومختلفة في آن واحد. صحيح أن هذا ممكن، لكنه يتطلب ضبط الخوارزميات وتكييفها لتناسب مجموعة واسعة من الأنواع والنظم البيئية؛ وتلك ليست بالمهمة اليسيرة.

التفاعل بين الحيوان والكمبيوتر

ونحن نستكشف إمكانية الترجمة بين الأنواع المختلفة، ينبغي أن نضع في اعتبارنا أجندة بحثية موازية، ألا وهي: التفاعل بين الحيوان والكمبيوتر. حددت كلارا مانشيني عالمة الكمبيوتر بالجامعة المفتوحة، المبادئ الأساسية لأجندة أبحاث التفاعل بين الحيوان والكمبيوتر في بيان صدر عام ٢٠١١.51 تذهب كلارا إلى أنه قد ثبتت قدرة كثير من الأنواع غير البشرية على استخدام أجهزة رقمية تفاعلية، بل توظيفها بطرق جديدة وغير متوقعة. والتطورات الحاصلة في الحوسبة المتغلغلة والمحيطة تجعل الوصول إلى التقنيات الرقمية أسهل على البشر وكذا الأنواع الأخرى؛ لا سيما عندما نتمكن من تصميم أجهزة تتفاعل مع الملكات الحسية التي تتفوق فيها الحيوانات الأخرى على البشر (مثل حاسة اللمس أو القدرة على تحديد الموقع بالصدى).
تمخض عن بيان كلارا مانشيني سلسلة من الأجهزة الرقمية المبتكرة التي تستهدف الأنواع الأخرى. على سبيل المثال، صُمِّمَت أحزمة اهتزازية لمسية لكلاب الصيد وكلاب الخدمة؛ تتعرف هذه الأحزمة الإلكترونية على الإيماءات وتقيس المؤشرات الفسيولوجية (مثل معدل ضربات القلب) للكلب ومالكه، ثم تحوِّل هذه المعلومات إلى إشارات ثنائية الاتجاه تعزز التواصل والاستجابة للأوامر.52 وتتيح أجهزة مماثلة للمعالجين تقديم استجابة لمسية للأفيال عبر خراطيمها.53 حتى إن مصممي أجهزة التفاعل بين الحيوان والكمبيوتر صمموا أجهزة قابلة للارتداء للماشية؛ بعضها متصل بأنظمة الواقع الافتراضي والمختلط.54 (مرحبًا بالدواجن في الميتا فيرس.)
يؤيد الباحثون في مجال التفاعل بين الحيوان والكمبيوتر أيضًا الرأي القائل إن احتمالية استمرار التواصل بين الأنواع ستكون أعلى كثيرًا إذا أضفي عليه طابع المرح.55 ولاختبار صحة هذه الفكرة، ابتكرت كلارا مانشيني وغيرها من الباحثين ألعاب فيديو تناسب أنواعًا متعددة من الحيوانات لقردة الأورانجوتان والخنازير والقطط والصراصير (تقدم اللوحات الاهتزازية اللمسية استجابة راجعة للصراصير التي تلعب لعبة «باك-مان» مع لاعبين بشريين).56 على سبيل المثال، تستخدم لعبة «بيج تشيس» شاشة لمسية تفاعلية لتمكين البشر والخنازير المستأنسة من الاشتراك معًا في لعبة تعاونية: فمن خلال جهاز لوحي، يتحكم اللاعب البشري في دائرة من الضوء على شاشة لمسية عملاقة في حظيرة الخنازير، تضيء برسوم متحركة إذا اتبعت الخنازير الضوء ولمسته بأنفها ووجهته إلى وجهة معينة (شكل هندسي). كذلك صممت كلارا أجهزة رقمية تسمح للأفيال الأسيرة بالاختيار من بين أنواع مختلفة من الأصوات المسجلة مسبقًا (على سبيل المثال، أغنيات حيتان أو أصوات أفيال) بهدف إثراء خبراتها في الأسر.57 بعض هذه الابتكارات لها تطبيقات عملية أيضًا، مثل واجهات الشاشات اللمسية المخصصة لكلاب الخدمة، وكذلك الأجهزة التي تحفز اللعب الخيالي؛ ومن ثَم، يُفترَض أنها تعزز رفاه الحيوانات الأسيرة في حدائق الحيوان أو مزارع الإنتاج الصناعي.58 يستخدم باحثون آخرون تقنيات مماثلة لتعليم أنواع أخرى الرموز، منها القردة والببغاوات الرمادية والخنازير.59 كذلك استخدم العلماء مجموعة متنوعة من التقنيات — مثل الشاشات اللمسية، ولوحات المفاتيح التفاعلية، وشاشات التلفزيون، والإشارات الصوتية — لإثبات أن الحيوانات تنخرط في التواصل الرمزي، وتملك مهارات عددية، ولديها القدرة على تكوين المفاهيم، وتنظيم تعلمها ذاتيًّا.60
كثير من تلك التجارب أُجري على حيوانات مستأنسة أو حيوانات أسيرة في حدائق الحيوان. ولتطوير هذه الأفكار بصورة أكبر، يعمل الباحثون حاليًّا على دمج خوارزميات الذكاء الاصطناعي في روبوتات ميكانيكية حيوية مصممة بغرض التواصل مع الحيوانات البرية في موائلها الطبيعية باستخدام الإشارات الصوتية والجسدية والإيمائية. على سبيل المثال، صار النحل يقبل روبوتات النحل التي يصنعها لاندجراف، التي ذكرناها في الفصل السابق، باعتبارها أعضاءً في الخلية وأصبحت تؤثر على سلوك نحل العسل من خلال التواصل الصوتي التذبذبي.61 وطوَّر العلماء أجهزة مماثلة قبلت ضمن أسراب الأسماك وتؤثر على سلوك تجمعها عن طريق إعطائها توجيهات بسيطة («السباحة إلى اليسار»)،62 وكذلك أجهزة تصدر تعليمات بسيطة للنباتات («مدي جذورك في ذلك الاتجاه»).63 لقد نجح استخدام روبوتات المحاكاة الحيوية في التواصل مع مجموعة كبيرة من الأنواع، من ضمنها الصراصير والبط والجرذان والجراد والعث وصغار الدجاج والسمك المخطط وسمك الجلكي.64
تطور مجموعات أخرى من الباحثين مشروعات مماثلة، مثل ائتلاف التفاعل الصوتي بين البشر والحيوانات والروبوتات (VIHAR). تأسس هذا الائتلاف عام ٢٠١٦، ويضم مهندسين وعلماء روبوتات وعلماء أحياء ولغويين لاستكشاف أمور تخص العلاقة بين اللغة وأنظمة الإشارة المختلفة التي يستخدمها البشر والحيوانات والروبوتات.65 يستشرف بعض علماء الروبوتات مستقبلًا تنتشر فيه الروبوتات المحاكية للحيوانات في شتى أنواع الأنظمة البيئية، وتؤدي دور المترجم بين البشر والحيوانات. ويتعاون علماء الأعصاب وعلماء الكمبيوتر وعلماء الروبوتات لصنع روبوتات تعمل بالذكاء الاصطناعي قادرة على تعليم نفسها إشارات الحيوانات. والهدف على المدى الطويل هو إنشاء نظام توفر فيه الحيوانات البيانات والاستجابات الراجعة اللازمة لتعليم الروبوتات «التحدث بلغتها» دون الحاجة إلى برمجتها من قبل البشر. ورغم أن هذه الأنظمة «الروبوتية التطورية» لا تزال في مراحلها الأولى، فقد بدأ ينشأ بالفعل اقتصاد تجاري قائم على هذه الابتكارات. فيوجد الآن برامج تعرف على الصوت للحيوانات، بدءًا من الطيور وصولًا إلى الخفافيش وكلاب البراري إلى قردة السعدان، بالإضافة إلى الأجهزة القابلة للارتداء المصممة للحيوانات الأليفة والماشية، التي تفسر معاني أصواتها لأصحابها.66

يرى مصممو هذه الروبوتات الحيوية المترجِمة أنها وسائط تُكسِب البشر تقديرًا وفهمًا لعوالم الأحياء غير البشرية. بشكل ما، تُعد هذه الروبوتات نسخة القرن الحادي والعشرين من علم سلوك الحيوان (الذي يدرس سلوك الحيوانات في بيئاتها)، تحل فيها الروبوتات وأجهزة الكمبيوتر محل المراقبين البشريين. فحواسيبنا غير المحدودة بتكويننا الجسدي البشري قد تكون أقدر من البشر على فهم خبرة كائن آخر بالعالم، أي «الأومفيلت» الخاص به. قد يتبين أن مفهوم «الماء» لا معنى له بالنسبة إلى الأسماك (أو على الأقل، يختلف تمامًا عن مفهوم البشر له)، ولكن ذلك قد لا يكون حاجزًا يعوق التواصل شأنه في ذلك شأن الاختلافات المفاهيمية بين الثقافات البشرية المختلفة. فنحن حين نترجم بين مفاهيم مختلفة للعالم وخبرات حسية مختلفة، إنما نمارس صناعة المعنى. لكن هذا لا يجعل الترجمة مستحيلة؛ إنما يجعلها أكثر تعقيدًا وتحوي اختلافات أدق لا أكثر. ومن منظور عالم سلوك الحيوان الحاسوبي، فإن هذا التعقيد ينبغي الاحتفاء به إذ يزيدنا ثراءً. تخيل الأفكار التي يمكن أن نكتسبها إذا استطعنا فهم المحيط من منظور حوت، حتى إذا كان ذلك الفهم منقوصًا.

إن هذه النظرة الرقمية اليوتوبية للروبوتات الحيوية الهجينة تتجاهل معضلة أخلاقية. هل سنستخدم هذه الروبوتات لتعزيز التفاهم بين الأنواع، كما يأمل مؤسسو مشروع إنترنت الأنواع؟ أم سنستخدم تلك المهارة الجديدة في ترويض مزيد من الكائنات غير البشرية وإخضاعهم لإرادتنا؟ وهذا ليس سؤالًا افتراضيًّا؛ فكثير من الأجهزة التي ذكرناها مصممة للاستخدام في منشآت إنتاج اللحوم الصناعية.67 في هذه الحالات، يمكن استخدام تقنيات الصوتيات الحيوية في ترويض الأنواع التي كانت من قبل مقاومة للاستئناس، وهو ما سيؤدي إلى تعميق استغلالنا للطبيعة بدلًا من الحفاظ عليها. هل يمكن أن يقتصر استخدام الروبوتات المحاكية للحيوانات، التي تؤدي دور المترجم بين البشر والأنواع الأخرى، على مجرد إصدار الأوامر للحيوانات لخدمة أغراض بشرية؟

أصوات الأنسباء

ما النقاط الأخلاقية الهادية التي يمكن أن نسترشد بها ونحن نخوض في هذا العالم الجديد، عالم التواصل بين الأنواع عبر الوسائط الرقمية؟ تقدم تقاليد الشعوب الأصلية رؤى وتوجيهات بشأن تلك المسائل. من اللافت للنظر أن مجتمعات الشعوب الأصلية وعلماءهم يتعاملون مع البيانات البيئية بنهج مختلف تمامًا عن العلم السائد. يدير سكان الشعوب الأصلية (الذين يقدر عددهم في جميع أنحاء العالم بنحو ٣٧٠ إلى ٥٠٠ مليون شخص) ربع مساحة اليابسة في العالم أو لديهم حقوق حيازة لها، ويتضمن ذلك ما يقرب من ٤٠ في المائة من إجمالي المناطق البرية المحمية والمساحات الطبيعية السليمة بيئيًّا.68 يمتلك كثير من مجتمعات الشعوب الأصلية خبرة في التقنيات الرقمية والحفاظ على البيئة، مثل رسم خرائط نظم المعلومات الجغرافية (GIS) وتقنيات التتبع الرقمي وعمليات رصد كوكب الأرض بأكمله.69 ولكن غالبًا ما تُقصى وجهات نظر الشعوب الأصلية من النقاشات الخاصة بالتقنيات الرقمية والمحافظة على البيئة، ولا يستثنى من ذلك نقاشات علم الصوتيات الحيوية وعلم الصوتيات البيئية. بل إنه في بعض الحالات أُجلي السكان الأصليون من أراضيهم لدواعي الحفاظ على البيئة (على سبيل المثال، اللاجئون البيئيون الذين أُجبروا على النزوح من أراضيهم لإنشاء متنزهات وطنية) أو استُبعدوا بحكم القانون من صنع القرار بشأن أراضيهم.70 وتجازف الأجندات البحثية للصوتيات البيئية والصوتيات الحيوية ومجتمعاتهما العلمية بتكرار ممارسة هذه الأساليب الإقصائية، التي تعد من أشكال الاستعمار البيئي. في المقابل، يرى علماء وناشطو المجتمعات الأصلية ضرورة تأمين مصالح الشعوب الأصلية وحقوقها في البيانات، كما هو منصوص عليه في إعلان حقوق الشعوب الأصلية الصادر عن الأمم المتحدة، وهذا يستلزم من الباحثين الاعتراف بسيادة الشعوب الأصلية على البيانات التي تُجمع من أراضيهم والتعاون معهم وفقًا لذلك.71
تطعن فكرة سيادة الشعوب الأصلية على بياناتهم في التصور السائد بأن البيانات التي تُجمع عن غير البشر ليس لها مالك. ففي الوقت الحالي، تُجمَع معظم بيانات الصوتيات الحيوية دون مراعاة البروتوكولات وإجراءات الحماية القانونية المعتادة التي تنطبق على بيانات البشر مثل خصوصية البيانات.72 ويمكن للشركات والباحثين استخدام مجموعات البيانات هذه بأقل قدر من المراعاة لإجراءات الحماية؛ فالخوارزميات التجريبية المصممة للاستخدام على البشر يمكن اختبارها أولًا على غير البشر، مع الحد الأدنى من الإشراف.73 أما إذا طُبِّقت مستقبلًا مبادئ سيادة الشعوب الأصلية على البيانات، فقد يتعين على باحثي الصوتيات الحيوية الإقرار بملكية الشعوب الأصلية للبيانات، وربما الإقرار بأن الكائنات غير البشرية أشخاص قانونية (معنوية) ومن ثَم حماية بياناتها بناءً على ذلك، أو الامتناع عن جمع البيانات عنها من الأساس.74 وقد تُفعَّل بروتوكولات البحث التي تركز على السكان الأصليين، مثل بروتوكول الملكية والتحكم والوصول والحيازة (OCAP) وبروتوكول النفع العام وسلطة التحكم والمسئولية والأخلاقيات (CARE) بالإضافة إلى مبادئ إمكانية الاكتشاف وإمكانية الوصول والقابلية للتشغيل البيني وإعادة الاستخدام التقليدية (FAIR).75 فهذه البروتوكولات من شأنها أن تفرض إجراءات حماية موحدة على جمع البيانات الصوتية الرقمية وتخزينها ومشاركتها.76
أحد التعاليم الأخلاقية الأخرى التي يدعو إليها أصحاب المعرفة من الشعوب الأصلية تؤكد أهمية الوجود في أماكن معينة والانتماء إليها. وتصف فانيسا واتس، وهي عالمة تنتمي إلى شعب الأنيشينابه وقبيلة الموهوك، هذه الفكرة ﺑ «فكر المكان»: فكلماتنا ومفاهيمنا وأفكارنا تنبثق من مساحة طبيعية معينة وتتجذر فيها. والنتيجة البديهية المترتبة على ذلك هي أننا إذا أردنا الانخراط في تواصل حقيقي مع الكائنات غير البشرية، فلا بد أن ننمي علاقتنا بالأماكن والمجتمعات البيئية التي تسكنها.77 فقد لا نتمكن من فهم الأنواع الأخرى إلا إذا فهمنا الأومفيلت الخاص بها؛ أي خبراتها المعيشة المتجسدة في الأماكن التي تعيش فيها. والاستماع الرقمي لا يتيح لنا إدراك تلك الخبرات، ولكن الإصغاء العميق يتيحه. واستخدام أجهزة الترجمة الرقمية العالية الكفاءة لا يغنينا عن النزول إلى الميدان والإصغاء، بغية كمال الفهم. ورغم أن الاستماع الرقمي أداة عالية الكفاءة، فإن البيانات الرقمية بديل قاصر لتجربة الإصغاء المباشر إلى الأنواع الأخرى في موائلها.
يؤكد كثير من علماء الشعوب الأصلية أيضًا مفهوم الإحساسية لدى الكائنات غير البشرية باعتباره أساسًا في علاقات الإنسان بالطبيعة.78 فهم يعتبرون الحيوانات والنباتات وحتى المعالم الجيولوجية كالجبال أشخاصًا غير بشرية؛ جزءًا من عائلة ممتدة تشترك في الأصول والعلاقات.79 ويرى فاين ديلوريا العالم الذي ينتمي إلى جماعتي لاكوتا وداكوتا (من شعب سِيو) أن هذه «الرؤية الميتافيزيقية للهنود الحمر» تؤكد أن المادة — وفيها الصخور والجبال، وكذلك النسور والغزلان والدببة — ممزوجة بالروح والوعي.80 تقول كيم تولبير إن تبني منظور «التفكير بين النوعي» هذا يعني أن ندرك أن العالم — بشتى عناصره الحيوية وغير الحيوية — يخوض حوارًا دائمًا.81 ومن منطلق هذا المنظور، لا يصح لنا أن نتنصت على الكائنات غير البشرية، إنما ينبغي علينا أن نتواصل معها عبر حوار متبادل حول كيفية مشاركة موطننا بما يحقق النفع للجميع. تكتب فانيسا واتس أن شيوخ الأنيشينابه يوضحون أن هذه الحوارات «الخلاقة والجوهرية» متجذرة في علاقات مكانية محددة.82 وتبني فلسفة انتسابنا للأنواع الأخرى قد يُكسب مصممي أجهزة الترجمة الرقمية حس العناية عند ترجمة أصوات الطبيعة؛ فيصبح موقفنا الأخلاقي تجاهها هو الرعاية وليس الاستغلال. كما تكتب عالمة البيئة النباتية من قبيلة البوتاواتومي روبن وال كيميرير:
تتذكر قصص البوتاواتومي أن جميع النباتات والحيوانات، يتضمن ذلك البشر، كانت في السابق تتحدث لغة واحدة. لكن تلك الهبة قد ضاعت، وبضياعها أصبحنا أفقر خبرة. ولأننا لم نعد نتحدث اللغة نفسها، فإن وظيفتنا نحن العلماءَ هي محاولة تجميع أجزاء القصة قدر الإمكان. لا يمكننا أن نسأل [الكائنات غير البشرية] مباشرة عن احتياجاتها، لذلك نسألها من خلال التجارب ونصغي بإمعان إلى إجاباتها.83
توضح روبن وال كيميرير أن إحدى صعوبات الترجمة تتجلى على نحو نظري في البنية النحوية للغات الشعوب الأصلية التي تستخدم الأفعال محل الأسماء المستخدمة في اللغة الإنجليزية. فالتلال، مثلًا، تخوض عملية صيرورة وكينونة دائمة تتمثل في «التراكم». ويتعامل كثير من اللغات الأصلية مع الأشياء التي تعتبرها اللغة الإنجليزية جمادات — مثل النباتات أو الصخور— باعتبارها كائنات حية. تقول روبن: «إحدى غطرسات اللغة الإنجليزية أن الحالة الوحيدة التي تعتبرك فيها كائنًا حيًّا جديرًا بالاحترام والاهتمام هي أن تكون من بني البشر.» في المقابل، تعتبر لغات الشعوب الأصلية جميع الكائنات غير البشرية كائنات حية؛ أي تعتبرها ذوات فاعلة لا مجرد أشياء. وتذهب روبن إلى أن هذه «القواعد اللغوية التي تغلب عليها سمة الحيوية» تحث على احترام حياة الكائنات غير البشرية.84

هل تعبر اللغات غير البشرية عن مدلول مشابه من الحيوية؟ إذا ثبت ذلك، فسنحتاج إلى تعلم طرق جديدة تمامًا للنظر إلى العالم؛ إلى قواعد نحوية ومفردات جديدة لوصف الكائنات الحية، حتى نتمكن من التواصل مع الأنواع الأخرى. ربما تكون الأسماء في لغة حيتان العنبر أفعالًا مرنة ودائمة التغير مثل موطنها. وربما تحتوي لغة الحيتان على مجموعة مختلفة تمامًا من المدلولات الحسية، مرتبطة بالتشبيهات الصوتية بدلًا من التشبيهات البصرية؛ أي استعارات مرتبطة بالماء والزمن والعمق. أو ربما تختلف لغة الحيتان حسب الأزمنة والأمكنة؛ فربما يكون لديها لغة للمياه الباردة في القطب الشمالي، ولغة أخرى للمياه الدافئة في مناطق ولادتها. في هذه اللغات، قد تندمج الأصوات مع الفيرومونات والمواد الكيميائية الحيوية والإيماءات لصنع المعنى؛ من ثَم قد لا نتمكن من فهم التواصل غير البشري اعتمادًا على البيانات الصوتية فقط. وفي حديث روبن وال كيميرير عن اللغويات الحيوية إشارة ضمنية إلى أن لغات الأنواع الأخرى ربما تختلف جوهريًّا عن لغاتنا.

توضح روبن أنه من منظور المعرفة التقليدية، يكون التواصل منسوجًا في شبكات العلاقات، ويتسم بالاحترام المتبادل والتبادلية. فالكائنات غير البشرية أقارب؛ فهم أبناء عمومة وخالات وأعمام وجدات؛ أي كائنات عاقلة وواعية. ربما يشكل هذا أيضًا أخلاقيات الترجمة بين الأنواع. وربما يساعدنا حين نحاول تعلم لغة مخلوقات أخرى على أن نقر بأنها ليست مجرد أفراد بحث، بل هم معلمونا.

معانٍ سقطت أثناء الترجمة

في عام ٢٠١٢، صدر إعلان كمبريدج بشأن الوعي من قبل مجموعة دولية من العلماء البارزين، كان من ضمنهم بعض الباحثين المشاركين في مشروع إنترنت الأنواع. جمع حفل التوقيع، الذي حضره ستيفن هوكينج وسجله برنامج «سيكستي مينتس» التلفزيوني، علماء متخصصين في علم الأعصاب الإدراكي وعلم الأدوية العصبية وعلم الوظائف العصبية وعلم التشريح العصبي وعلم الأعصاب الحوسبي، وأعلنوا أن البشر لا ينفردون بامتلاك سمة الوعي. ويؤكد الإعلان النظرية القائلة إن مجموعة كبيرة من الكائنات غير البشرية (جميع الثدييات والطيور، والعديد من المخلوقات الأخرى من ضمنها الأخطبوط) تمتلك الأساس العصبي للوعي.85 كانت ديانا ريس من الموقعين على الإعلان. وبدأت مع باحثين آخرين في الحيوانات بنشر آرائهم عن الحيتان؛ فادعت أن الحيتانيات لا تملك فقط أدمغة معقدة ووعيًا، بل تمتلك أيضًا لغة وثقافة وإدراكًا معقدًا.86
تظل هذه الادعاءات المثيرة للجدل غير محسومة، ويرفضها علماء آخرون بشدة.87 وكما تشير عالمة الأحياء أنجيلا داسو، ينزع العلماء الذين يدرسون الصوتيات الحيوية إلى تجنب الإشارة إلى الوعي. وغالبًا ما يتجنبون أيضًا مناقشة اللغة؛ لأن هذا المصطلح يشير إلى حدوث انتقال للمعرفة المفاهيمية.88 بدلًا من ذلك، يركز علماء الصوتيات الحيوية بحذر على التواصل بمعناه الأضيق؛ أي نقل المعلومات لإحداث استجابات سلوكية في الكائنات الحية الأخرى. ومن ثَم، يدرس أغلب علماء الصوتيات البيئية السائدة المقيدين التواصل لدى الأنواع الأخرى في إطار إرسال الإشارات والاستجابة لها، متجنبين الأسئلة الشائكة الخاصة بالوعي واللغة. ولكن إذا اعتبرنا التواصل مجرد مدخلات صوتية ومخرجات سلوكية، فهل نرفض بذلك الاستكشاف الكامل لقدرات المخلوقات الأخرى؟ عندما نتجنب السؤال عما إذا كانوا واعين، فهل نعزز بذلك مفهوم تفوق الإنسان؟ يرى مؤسسو مشروع إنترنت الأنواع أن أبحاث الصوتيات الحيوية يجب أن تتطرق إلى هذه الأسئلة مباشرة.
سيظل الجدل بشأن لغة الحيوانات ووعيها مشتعلًا.89 فلا تنفك أبحاث الصوتيات البيئية تكشف لنا عن تعقيدات وخفايا مفاجئة عن التواصل لدى الكائنات غير البشرية، غير أن أغلب الباحثين في مجال الصوتيات البيئية ينأون عن مناقشة القضايا الفلسفية؛ إذ يدرسون الأصوات لا اللغة. فاهتمامهم تجريبي بحت، والأسئلة التي يطرحونها عملية تمامًا: كيف ترتبط الأصوات بسلوك الحيوانات؟ ما تأثيرات التلوث الصوتي البيئي على الأنواع غير البشرية؟ وكيف يمكننا استخدام هذه المعرفة لمراقبة وحماية الأنواع بصورة أفضل في مواجهة فقدان التنوع الأحيائي؟

في الواقع، يرى بعض باحثي الصوتيات الحيوية أن الرغبة في إنشاء تواصل بين الأنواع وما يرتبط بذلك من فضول تجاه مسألة الوعي لدى الكائنات غير البشرية يمكن أن يتحولا إلى مصدر إلهاء. إن موقفهم المتشكك له شقان. قد يكون تعلم اللغات غير البشرية واستجلاء المعاني المتضمنة في رسائل الطبيعة أمرًا مستحيلًا؛ فحتى لو استطاعت خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي نستعملها تحليل لغة حيتان العنبر، فقد لا نتمكن من فهم المعنى الحقيقي للكلمات (بل ربما لا تحتوي لغتها على كلمات بمعناها المفهوم لنا). وحتى لو نجحنا في الترجمة بين الأنواع، فقد لا تؤدي إلى إحداث التحول الذي يتطلع له مؤسسو إنترنت الأنواع في علاقة البشر بالطبيعة.

يرى المشككون أيضًا أن لدينا مخاوف أكثر إلحاحًا نظرًا لمعدلات فقدان التنوع الأحيائي الكارثية الحالية؛ فبحلول الوقت الذي نكتشف فيه ما إذا كان بإمكاننا التواصل مع الأنواع غير البشرية، من المحتمل أن يكون كثير منها قد اختفى من فوق وجه الأرض. في المقابل يرى بعض الباحثين أن علينا استعمال تقنيات الصوتيات الحيوية أداة لحماية البيئة. وكما سنستكشف في الفصل التالي، نجحت بعض الأجهزة القائمة على الصوتيات الحيوية بالفعل في حماية أنواع مهددة بالانقراض. والواقع أن البعض يأمل أن يكون للصوتيات الحيوية دور حيوي في صد موجة الانقراض الجماعي التي تجتاح كوكبنا الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤