الفصل الأول
المنظر الأول
(غيليوم في مكتبه في قصره يناجي أحلامه غاضبًا، والحكيم جالس معه): لقد طال ما صبرت! والدول لا تريد أن تعرف لي هذا الفضل، كأنها ترى صبري عجزًا، أتريد أن تحرجني لتُخرجني؟ فلأُرينَّ الجميع أني رجل هذا العصر الوحيد، بل رجل كل العصور؛ حتى لا يبقى عظيم يتحدث الناس به سواي لا من الغابرين، ولا من المعاصرين. ومَن هم أقراني اليوم؟ فلأسحقنَّهم سحقًا حتى يذلوا لي. ومَن هم أبطال الماضي كنابوليون، وقيصر، وأنيبال ممَّن يذكرهم الناس بالإِعجاب؟ فلأفعلنَّ ما يمحو ذِكْرهم؛ حتى يبيتوا بالقياس إليَّ كالأعشاب الصغيرة الحقيرة في ظل الشجرة الباسقة العظيمة. ولو أني اضطررت أن آتِيَ مُكبِّرًا ما أتاهُ سوايَ من السفَّاحين قبلي مُصَغَّرًا كتيمورلنك وجنكيزخان وآتيلا، فليس أرْهَب للناس من التمثيل بالناس، والعاجز مَن لا يستبدُّ، حتى أُخضِع الجميع لي، وأصبح وحدي سيِّدَ هذا العالم.
(يبهت قليلًا كأنه يرى وُعورة هذا الأمر، ثم يقول كأن خاطرًا خطر له): وبعد ذلك، أليس هذا هو النظام الإلهي: الكل للواحد والواحد فوق الجميع؟
(يبتسم ويرسل ببصره إلى السماء ويقول): أليس كذلك يا إلهي الشيخ؟ فلنقتسم العالَم بالإنصاف: لك مُلْك السماء، ولي مُلْك الأرض. فيا ربَّ آل هوهنزلرن الأشراف المُقدَّسين، ويا ربَّ الأُمَّة الجرمانية المجيدة؛ بارك هذا السيف لأحكِّمهُ في رقاب العباد، وشدِّد هذهِ الذراع (ويمدُّ ذراعه المشلولة)؛ ليشعر الناس جميعهم بثقل يدي الحديدية فوق رءوسهم.
(يمشي متهيِّجًا إلى جهة الحكيم، ويقول له): دعني هذه المرة من تقريعك أيُّها الحكيم، فلقد أصَخْت لك طويلًا، وحافظت على هذَا السِّلْم المُصطَنع حتى فرغ صبري، ومصلحة ألمانيا تقتضي أن تكون وحدها السائدة، والحكمة ليست دائمًا في الحِلْم، بل كثيرًا ما تكون في الغضب، والغضب كثيرًا ما يكون مُقدَّسًا.
(يتركه، ويجتاز الباب إلى داخل القصر.)
(الحكيم وحده يطلب من ربِّهِ أن يقوِّيَ ذراعَهُ ليسحق بها العالم، فكيف بها لو كانت صحيحةً! ولو كانت ذراعه صحيحةً، فلربما كانت مطامعه أصحَّ، وكان في أخلاقه أكثر اعتدالًا، هو في جنونِهِ يريد أن يكون اليومَ نيرون هذا العصر، وأنا أرى أنهُ سيكون شمشونه.)
(يهز رأسه.)
(عن طمع فادح، لا عقل راجح، وهو مع ذلك يطلب من ربِّه أن يكون شريكه في جناياته، فيا لَلضلالة! ويا لَلكفر! هو يريد أن يحتكر اللهَ لنفسِهِ، كأن المخلوقات الأخرى ليست من صُنْع هذا الإله، ولا تستحقُّ اهتمامَهُ، فهل هو مقتنع بما يريد؟ أم ذلك من أنواع العُدَّة أيضًا في الحروب للسطو على المُغفَّلين؛ ليُساقوا إلى الحتوف مُتحمِّسين راضين؟ وغدًا يقوم خصومهُ، ويستنجدون اللهَ لأنفسهم، فكأن كل فريق يشقُّ من الإله الواحد إلهًا ضدَّه، ولقد كان يفعل مثل ذلك آباؤهم من قبلهم، ولكن آباءهم كانوا أعقل منهم في تصوُّرهم، وأَحكَم في عملهم على هذا التصوُّر، فقد كانوا يعتقدون بتعدُّد الآلهة، ويختار كل قوم منهم إلهًا خاصًّا؛ ليَصرَع بهِ الآلهة الأخرى، ولكن الموحِّدين اليوم كيف يطبِّقون ذلك على تصوُّراتهم؟ فيا إلهَ الجميع، كيف تُطيق مثل هذه المفتريات من مثل هؤلاء المخلوقات، ولا تطبِّق السماء على رءوسهم؛ لتخلق سواهم أنظف منهم في عقولهم؟)
(يتأمل قليلًا ثم يقول): فما أوسعَ مجالَ الرِّيبة!
(يدخل الكرونبرنس فجأةً من دون استئذان، فيجد الحكيم، ويقول في نفسه): أُفٍّ، إن أبي لا يفارق هذه البومة المشئومة.
(ثم يلتفت إليه، ويقول له): أنت هنا أيُّها الحكيم! أما فرغتَ من تسميم عقل والدِي بإرشاداتك ونصائحك كأنك مأجورٌ على إذلال ألمانيا وطَمسِ معالم مجدِها؟!
(يدخل الإمبراطور عائدًا من القصر، ويرى ابنه ويخاطبه بقوله): كيف أنت هنا يا ويلهلم؟ فماذا تريد؟
(ويناجي نفسه على سَمْع من أبيه قائلًا): آه، ما أحلى هذا اليوم الذي أدخل فيه هذه المدينة الزاهرة في مقدِّمة جنودي المُظفَّرة، راكبًا جوادي المُطهَّم، مُتخطِّرًا في شوارعها الواسعة، طائفًا في ضواحيها الجميلة! نعم، لا بدَّ لي أن أجعلها كرسيَّ مملكتنا الجديدة، وأجلس فيها على هذا العرش الجديد؛ لأتمتع من لذة الحكم بما يتمتع به سواي اليوم.
أن يُفسد عليَّ الأمر، ويسلبني هذا الفخر الذي أحلم به من قبل ولاية والدي القصيرة، والذي لأجله أقصَيْت عني بسمارك؛ حتى لا يكون لي فيه شريك أو شبه شريك، هذا الفخر الذي صرفت أكثر من ربع قرن وأنا أتأَهَّب، وأُعِدُّ له العُدَّة، وكأنَّ هذا الولد الطائش يتودَّد إلى الجند ليكسب ثقته، وكأنهُ واثق منهُ اليوم حتى خاطبني بهذه اللهجة، نعم، يجب أن أُسرع، ولا أدع الفرصة له، على أن الحكمة تقضي أن أُخادعه ولا أُغاضبه.
(ثم يلتفت ويخاطب ابنه): لا أخفي عليك — يا ولدي العزيز، ووليَّ عهد ألمانيا المُعظَّم — أني كنت أفكِّر في الأمر حين دخولك عليَّ، وكنت عازمًا على استدعائك واستدعاء قُوَّاد جيوشي ووزراء مملكتي؛ لأشاوركم أوَّلًا، وأسألكم عن مبلغ استعداد الجند، ولا سيَّما عن استعداد الأُمَّة، وكيف يكون وقع شهر الحرب عندها؛ لأني — وإن كنت كما تدري صاحب القول الفَصْل، الذي لا مردَّ له، وكنت على يقين من أن حلفائي في السماء ينصرونني كما نصروا آبائي من قبلي — لكني مع ذلك أودُّ أن أجعل للأُمَّة شأْنًا معي ولو صورةً؛ حتى لا يكون لها سبيل للشكوى، ولا سيَّما في هذا العصر الذي عَلَت فيه «ضوضاء» الاشتراكيِّين، ولا أقول «كلمتهم»، وإن يكن اعتقادي بزعمائهم كاعتقادي بسائر رجال مملكتي، فجميعهم رهن ابتسامةٍ أو تقطيبةٍ في وجههم مني.
(ولكي يكسر من حِدَّة ابنه يتقدم منه باسمًا، ويربِّت له على ظهره براحة يده.)
على أني أطمئنك أنك قبل الشتاء ستكون كما تشتهي مُقيمًا في قصر التويلري، وهذه كانت إرادتي من قبل أن تفاتحني بعد انتصارنا على الفرنساويين ودخولنا باريس.ولأبيه يقول جلالة أبي ومولاي الإمبراطور المُعظَّم إنه يريد أن يعرف مبلغ استعداد جيوشه المُظفَّرة، وحقيقة أميال أُمَّته المخلِصة، فالذي أعرفه عن الجميع يسرُّ جلالته كثيرًا، فالجنود على أتمَّ الأهبة، ولي يقين بأني أفتح العالم بهم، وثقتي هذه بهم من تأكُّد محبتهم لي؛ لأنهم يرونني أميل إلى تحقيق أمانيهم، ولأني مع ذلك حائز لثقة جلالة الإمبراطور الذي ينظرون إليه كنظرهم إلى معبود، والأمة لا تختلف عنهم في فضل التربية الجرمانية العالية التي غرسها فيها الأساتذة في المدارس، والفلاسفة في الكتب، والأمهات في البيوت حسب أوامر جلالتكم السامية، حتى أصبحت الأُمَّة الألمانية كلها تتحرك حركةً واحدةً بإرادة واحدة كالآلة الميكانيكية العمياء، وما هي عمياء؛ لأنها تعلم لَكَمْ أنتم عينها الباصرة، وإن شاء جلالة مولاي زيادة إفصاح؛ فليدعُ إليه الذين ذَكَرهم من رجال مملكته.
(يذهب والإمبراطور يقول في نفسه): ما هذه المتناقضات؟ أدب بقِحَة، وتزلُّف بكِبْر، وخضوع بتهديد، إني غير مطمئن إلى هذا الولد إلا إذا شهرت الحرب ودفعتُهُ إلى خوض معامعها.
المنظر الثاني
(غيليوم ووزراؤُهُ وقُوَّادهُ والكرونبرنس والحكيم في قصر الإمبراطور.)
الأمم جميعها تحسدنا لأننا متفوِّقون عليهم في كل أمر: في العلم والفلسفة، في الصناعة والتجارة، في الذَّكا والنشاط، والذين منهم يهمُّهم أمْرُنا أكثر من الآخرين عاملون على بثِّ العراقيل في سبيلنا؛ فإن رَمَيْنا إلى الاستعمار، وقفوا في وجهنا، وإن قَوِينا بحريتنا شكَوا منَّا وقاموا يناظروننا، وإن أصلحنا جُنْديَّتنا أساءوا الظنَّ بنا وزادوا جيوشهم ليتفوَّقوا علينا. وهذِه روسيا بفضل أموال الفرنساويين ستصبح في سنين قليلة ذات جيش جرَّار مستوفي العُدَّة مُمهَّد الطُّرُق، حتى يكون لها من ذلك كله قوَّة لا تقف في وجهها دولة من دول الأرض مهما تكن قوية، فالخطر علينا في البرِّ من الرُّوس خطر السيل الجارف، والخطر علينا في البحر من الإنكليز خطر الحيتان الكبيرة على السمك الصغير، نحن أُمَّة مسالمة لا نطلبُ إلا أن نعيش. وهم يضيِّقون علينا المذاهب، ولقد طال صبرُنا؛ لأننا لا نريد أن نكدِّر السِّلْم الأوروبي، فهل تريدون أن يتحوَّل صبرُنا إلى موت لا يُبقي منا سوى جثة هامدة تجتمع حولها النسور؟ فإن رضيتم أنتم ورضيَتْ أُمَّتي بهذا العار؛ فمعاذَ الله أن أرضى أنا به، ودم آبائي في عروقي يصرخ بي: الثأر، الثأر، والنار ولا العار، والأُمَّة الألمانية خُلقَت لأن تكون فوق الكل، فيجب أن تكون فوق الكل.
قلتُ الثأرَ لأنه لا يجوز للأُمَّة الألمانية أن تُغضي عن أقل مزاحمة لها، أو مغاضبة من دون أن يمسَّ ذلك بشرفها وشرف مصلحتها، فكل مناظرة يُقصَد بها التقدُّم علينا هي جناية علينا يجب أن نثأر لها.
انظروا إلى فرنسا جارتنا في البر، فبدلًا من أن تكون حليفَتنا لنفتح بها العالم؛ هي التي تمدُّ أعداءَنا بالمال، وتنظِّم المحالفات ضدَّنا، وتسابقنا إلى الاستعمار، وتهدِّدنا بأخذ الثأر، مع أنَّا رحمناها رحمةً لو رحمنا بها أيَّة أُمَّة سواها؛ لمَا نسِيَت لنا هذا الجميل، فقد أبقينا عليها، واكتَفَينا منها بالزَّهيد من المال يوم كنَّا قادرين ألا نُبقِيَ فيها حجرًا على حجر، وهذه أكبر أغلاطنا في الحرب الماضية، والتي لأجلها لم أُسامِح بسمارك، وهي حتى اليوم عقبتنا الكبرى الحائلة بيننا وبين تحقيق حلمنا، ومدِّ سطوتنا على المسكونة كلها، ولولاها لكنَّا الآن سائدين على العالم آمنين على أنفسنا من كل معتدٍ أثيم، بل هي التي لا تفتر تحرِّك ضدَّنا، وتُقلِق راحتنا، وتُعِدُّ العُدَّة بالاتفاق مع سواها لسَلْبنا كلَّ ما جَنَيْناه بجِدِّنا وكَدِّنا، كل ذلك ونحن عليها صابرون، فإلى متى الصبر؟! وهل يليق بالأُمَّة الألمانية التي هي فوق كل الأُمَم أن ترى ذلك، ولا تُقسِم هذه المرة بأن تثأر لنفسها، حتى لا تُبقي ولا تذر على هذه الأُمَّة الفرنساوية الناكرة الجميل.
(يبهت ثم يبتسم.)
ويُعوِّلون أيضًا على جائزة نوبل التي منحوني إيَّاها جزاءَ حفظي للسلم.(ثم يضحك ساخرًا.)
كأنهم يظنون أنهم يفتونني بهذه الجوائز الصبيانية المدرسيَّة؛ لأبقى غافلًا عن مساعيهم ضدِّي، وأعمى عن مصلحتي، وما هم إلا بأنفسهم هازئون، ولعلهم يرَون نتيجة غفلتهم عن قريب.(ثم يلتفت إلى المستشار الإمبراطوري.)
(ويلتفت إلى ولي عهده.)
وأنت كن كتومًا هذه المرة، وسيكون لك ما تحب.(يخرج الجميع، ويقف المستشار صامتًا ينتظر أوامر الإمبراطور.)
(والإمبراطور يمشي في القاعة متمهلًا مطرقًا، ويداه وراء ظهره، ثم يرتدُّ إلى مستشاره ويقف أمامه، ويده «المشلولة» على قبضة سيفه، ويقول له وهو يُحدِّق فيه):
(يذهب الجميع، ويبقى الحكيم وحده ويجلس حزينًا ويندب): الحرب واقعة لا محالة، يا لَلمصيبة! ويا لَحرب ستشيب من هَوْلها الولدان! ويا لَلخراب! إنها ستكون حربًا لم يشهد العالم نظيرها في التفظيع والتدمير، الناس اليوم بالعِلم أنوفون شديدو الشكيمة، وإخضاعهم ليس بالأمر السهل، والمقاومة الشديدة ستثير الوحش الرابض من مَكمَنِه في النفوس، والعُدَّة اليوم طاحنة تقوِّض الجماد، وتحرق النبات، وتُزهِق الأرواح، هو في أطماعه مستهوًى، فهو لا يدري الأضرار التي ستحيق بالعالم بسبب هذه الحرب، أو هو يدري ولكنه لا يدري أنها ستحيق به وبأُمَّته مهما تكن نتيجتها له، فكيف بها إذا كانت عليه؟ مصالح الناس اليوم مشتبكة، فلم تَبقَ فواصل بين الممالك فيها، يدَّعي أن الدول تتحفز للوثوب عليه، مع أنها حتى اليوم غافلة عنه، وهي اليوم إذا انتبهت وأظهرت شيئًا من الاهتمام بأمر الحرب؛ فلاتِّقاء شرِّ استعداداته الهائلة، ويا ليتها كانت مستعدةً لها نظيره؛ لكان الخوف منها يمنعه عنها. التوازن ضروري في كل شيء، وإلا وقع الاضطراب، هو لو عمل بمبادئ المدنية الصحيحة التي يرمي إليها العلم اليوم؛ لاتَّخذ الدول الراقية صديقاتٍ لا عدوَّاتٍ، ولسَهُل عليه حينئذٍ الاتفاق معها على ما يكسر من شَوْكة الحروب، ويؤيِّد سلطان السِّلْم، ويمدُّ بساط المدنية، وكان له بذلك من الفَخْر المؤثَّل الأكيد ما هو فوق ما يحلم به من ذلك الفخر الموهوم والمطعون فيه اليوم، ولجدَّ ليحصرَ التنازع بين الأمم الراقية فيما يُعمِّر، لا فيما يُدمِّر. أوروبا الراقية يجب أن تكون اليوم ممالكَ متحدةً، إن لم تكن صورةً فمعنًى؛ لتتناصر في العمارة والعِلم، وهو يريد أن يثير بينها الحروب ليثير بينها الضغائن والأحقاد، كل ذلك منه طمعًا في أن يُخضِعها لسلطانه، بقية نَعْرَة من عصور الهمجية في رءوس بعض البيوت القديمة المالكة، كأنها في مطامعها الهمجية عائشة واقفة لا تسير مع العصر، ومن نكد الدنيا أنها تجد في كل مجتمع راقٍ أو منحطٍّ نصراء لها على أنفسهم، هؤلاء هم «بقر» الاجتماع، لم يبقَ أمل إلا أن تكون أُمَّته أرقى منه في أفكارها، وأعقل في مطامعها، وهي التي نالت بعِملها واجتهادها مركزًا ممتازًا في العمران، فتنتقض عليه إذا صحَّ ما ينوي وشَهَر الحرب، وتكون قدوةَ الأمم في معرفة المصالح العمرانية المشتركة واحترامها، ولكن الأمل قليل وهؤلاء رجاله المختارون من الأُمَّة قد أَعمَتْهم العبودية، وإذا كان ذلك طبعًا في الأُمَّة؛ فالطبع أغلب، وكأنه هو يريد أن يخدع الأُمَّة، ويصوِّر لها بأنها المعتدى عليها؛ ليحقِّق بها حلمه الجنوني، فيا لَلجناية!