الفصل الثالث
المنظر الأول
المستشار
(للإمبراطور)
:
لقد رضيت اللكسمبرج بأن تجتازها جيوشنا مقابل تعهُّدنا لها بألا نمسَّ
استقلالها بشيء، وأن نعوِّض عليها ما قد يلحق بها من الضَّرَر بسببنا، ولقد عرضنا
مثل ذلك على البلجيك، ولكنَّها أبَتْه علينا، واعتبرته منَّا إهانةً لها، ولما رأتنا
نُصِرُّ، وأن لا بد لنا من اجتيازها إن لم يكن برضاها فقوةً واقتدارًا، قام الملك
ألبرت يخطب في جيوشِهِ، ويحمِّسهم مُعرِّضًا بجلالتكم بكلام مهين تأبى شفتاي أن
تتلفظا به.
الإمبراطور
(للمستشار)
:
ماذا قال هذا المفتون؟ لا تُخفِ عني شيئًا.
المستشار
(للإمبراطور)
:
عفوكم مولاي. قال: إن جارَنا الوقِح يساومني على شرفنا مساومةً دنيئةً، فهو يعرض
عليَّ أن أبيعه خرقَ حياد بلجيكا بالمال. وفي ظني أنه مدفوع إلى المقاومة من
فرنسا وإنكلترا، فهما تشدان أزره، وإِلا فالغرور وحده لا يحمله على هذه الجسارة
ضدَّنا، وهو لا يجهل بأن مقاومته لنا لا تُجديه نفعًا، وهو بهذا الضعف، ونحن بهذه
القوة، وإنه لمن العار علينا الإبقاء على هذه الدول الصغيرة اليوم.
الإمبراطور
(وقد استشاط غيظًا)
:
يقول جلالته إني أُساومه مساومةً دنيئةً؟
(ثم يبتسم ساخرًا.)
وشرفه الأثيل يأبى عليه ذلك؟ فسيعلم الذين تُسوِّل لهم نفوسهم مقاومتي أن
انتقامي شديد، فليكن جنودي قساةً حتى البربرية، «فالويل الويل
للمغلوب».
المستشار
(للإمبراطور)
:
إني أرى رأْيَ جلالتكم في ذلك وأكثر (ثم
يبتسم).
الإمبراطور
(للمستشار)
:
أراك تبتسم؟
المستشار
(للإمبراطور)
:
أبتسم؟ لأن من البلية ما يضحك؟ فقد أرسلنا بلاغاتنا إلى فرنسا وروسيا،
ووردتنا بلاغات من إنكلترا واليابان، ولكن من البلية أن نظام المجتمع لا يزال
فيه أُمَم صغيرة ودُوَيْلات حقيرة يُطلَب منا أن نعاملها، أو نصبر على معاملتها لنا
معاملة النظير لنظيره، فقد وردنا بلاغ لو تدرون جلالتكم ممَّن؟! من إمارة الجبل
الأسود تُشهِر علينا به الحرب.
الإمبراطور
(مشمئزًّا)
:
الحمد لله أنه ليس من جمهورية «سان مارينو»، ولكني سأُصفِّي حساب هذه الدُّوَيْلات
جميعها متى فرغت من الدول الكبرى، وأنهض بالمجتمع إلى مستوًى لا يخجل منه، ولقد
بدأنا اليوم بالبلجيك.
(يقلق ويلتفت يمينًا وشمالًا.)
وإني لمنتظر أخبار جنودنا فيها؛ لأنه على سرعة اجتيازنا لها يتوقف مستقبل
غزوتنا.
(يدخل كبير الحرس ويستأذن لكبير القُوَّاد.)
كبير القُوَّاد
(للإمبراطور)
:
لقد فرغنا من بلجيكا، ودمَّرنا حصونها تدميرًا، وخرَّبنا مدائنها، ولم نُبقِ فيها
على أثَر، وشرَّدنا أهلها في الأقطار، وهم الذين نجوا من السيف والمدفع
والنار.
الإمبراطور
(لكبير القواد)
:
هذا أقل جزاء للمغرورين ولكني أرى أنَّا أضعنا في بلجيكا وقتًا أكثر ممَّا
كنت أنتظر، وربما نكون قد أضعنا فرصًا أيضًا.
كبير القُوَّاد
(للإمبراطور)
:
الحقُّ يُقال، إن هذه الأمة الصغيرة قد استبسلت في الدفاع عن نفسها، وكأنها
كانت متوقعةً هذه الغزوة منَّا، فقد وجدناها بغاية الاستعداد؛ من حصونٍ منيعة،
وكَبَارٍ ملغومة، وسدود لتغريق الأرض، مع علمها أن حيادها مضمون، ولكن كل ذلك لم
يحُلْ دون بلوغ جنودنا النصر ومنتهى الفخر.
الإمبراطور
(لكبير القُوَّاد)
:
وأين أنتم من شراذم جنود الإنكليز الحقيرة، هذه الأُمَّة التي أردنا أن
نوقِّرها فاحتقرتنا.
كبير القُوَّاد
(للإمبراطور)
:
هؤلاء قصدنا أن نُفنِيَهم على بَكْرة أبيهم، ولكن المُؤجَّل لا يفوت، ولقد كسرناهم
شَرَّ كِسْرة، وكَسَرنا الفرنساويين معهم في معركة شرلروا، ولولا قليل لأحدقنا بهم
جميعًا، وأخذناهم أسرى، ولو تمَّ لنا ذلك لكانت الواقعة هناك فاصلةً كواقعة
سيدان، ولكنهم تمكَّنوا من الانسحاب بعد خسائر هائلة، وكأنهم في انسحابهم لا
يلوون على شيءٍ، وجيوشنا المُظفَّرة تتعقبهم، ولا تصادف مقاومة تُذكَر، وعن قريب
سنصل إلى حصون باريس.
الإمبراطور
(لكبير القُوَّاد)
:
كل ذلك عوائق توجب القلق، أنا لا أريد الآن أن أظهر بمظهر المُتعنِّت، وإنما
أرجو لقيادتك حظًّا أحسن عند حصون باريس.
المنظر الثاني
الإمبراطور
(وحده)
:
لا يُنكَر أن أحوالنا حتى الساعة حسنة، وتقدُّمنا مستمر، ولكن كل يوم نتأخره هو
فرصة لأعدائنا يستعدون فيها، لقد كان لنا عليهم في أول هذه الحرب امتيازان:
القوَّة والمباغتة، وهذه الأخيرة أهمُّ، وقد ضاع أملي بالمباغتة اليوم، وقد
أُعطِيَ الفرنساويون والإنكليز وقتًا كافيًا للاستعداد، فمن أين أتى ذلك؟ وما
هو الخطأ الذي ارتكبناه؟ لم يبقَ لنا الآن سوى الاعتماد على القوة، وهذه
راجحة في كل حال، ولو أضاعت وقتًا أطول، ولا سيَّما أن الإنكليز لا يُعتدُّ بهم
كثيرًا في البرِّ، وأمَّا في البحر — ولو أني لا أستطيع أن أُحاربهم بعمارتي
وجهًا لوجهٍ — فلأُفنِيَنَّ عمارتهم بغواصاتي، وأصطادها بها كما يصطاد ابنُ عرس صغارَ
الفراخ، كما أني لأُدمرنَّ مُدنَهم بطياراتي، ولكن أخبار حليفتنا النمسا
تقلقني.
(يقرع الجرس ويأمر كبير الحرس أن يدعو إليه وزير
الحرب.)
الإمبراطور
(للوزير)
:
ما الخبر اليقين عن النمسا؟
الوزير
(للإمبراطور)
:
أخبار حليفتنا النمسا غير سارَّة، فهي من جهة الرُّوس في انكسار، ومن جهة
الصِّرب ليست في انتصار، والرُّوس مع ذلك متقدمون في أملاكنا الشرقية.
الإمبراطور
:
لا عجب وقد تركنا لهم هناك الحبل على الغارب، فلم نترك أمامهم قوة تصدُّهم
لانصرافنا عنهم إلى ما هو أهمُّ، أما الآن فلم يبقَ من حاجة إلى كل ذلك وقد
تقدَّمنا في الزحف على باريس، فيلزم أن نرسل في الحال جيشًا ضدَّ الرُّوس يخرجهم من
بروسيا الشرقية، أو يهلكهم في مستنقعاتها، وأن نرسل نجدةً إلى النمسا تمكِّنها
من قهر العدوِّ، ولا سيَّما أنها تشكو من أن نجدتها لنا أثَّرت عليها كثيرًا، وليكن
ذلك بمنتهى السرعة.
الوزير
(للإمبراطور)
:
سيكون لجلالتكم ما ترغبون، ولا سيَّما أن السرعة متوفرة لنا بفضل سككنا
الحديدية الحربية البالغة منتهى الإتقان.
الإمبراطور
(في نفسه)
:
الحقُّ يُقال إن قوَّتنا الهائلة هي في سككنا الحديدية التي لا نظير لها عند
سوانا.
(يخرج الوزير، ويدخل كبير الحرس، ويستأذن
للكرونبرنس.)
الإمبراطور
(للكرونبرنس هاشًّا)
:
ما وراءك يا ويلهلم؟
الكرونبرنس
(للإمبراطور)
:
كل خير في ظلِّ جلالة مولاي الإمبراطور، جيشنا في الألزاس يطرد العدوَّ، وهذا
ينسحب أمامه راضيًا من الغنيمة بالمآب، وما كان تغريرنا له في الزحف علينا إلا
خدعةً حربيةً عرف منها أن لحمنا مرٌّ، والحقُّ أن تصرُّف جنودنا وضباطنا في هذه الحرب
كان بديعًا، فقد كانوا كأُسودٍ بعد أن جُوِّعَت وعُطِّشَت، وجنودنا كانوا عطاشًا إلى
الدم، وجياعًا إلى النهب والسلب، وكأنهم لا يزال يرنُّ في آذانهم كلام جلالتكم
«الويل للمغلوب» فقاموا يفتكون، ويحرقون، وينهبون، ويفسدون، فلم يحترموا كاهنًا
يصلي، ولا شيخًا كبيرًا، ولا طفلًا صغيرًا، ولا حاملًا تُجهِض، ولا بنتًا عذراء،
ولا طبيبًا مداويًا، ولا ممرضًا مؤاسيًا، ولا أثرًا قديمًا أو جميلًا يُفتخَر
به علينا إِلا وقد دمَّروه، ولقد أقمت أيامًا في قصر فخم لأحد أمرائهم فيه من
الآثار الثمينة والرِّياش الفاخر ما لا يُثمَّن بمال، فبعد أن شربنا وطربنا
وأتينا على ما فيه من الخمور المُعتَّقة قُمْت أجمع كل ما خفَّ حمله وغلا ثمنه،
وبعثت به إلى برلين، وأعدمنا كل ما لا يُحمَل، ثم رحلنا عنه بعد أن تركنا لهم
فيه آثارنا، وقد حضرت الآن لكي أستأذن جلالتكم في الانضمام إلى جيشنا الزاحف
إلى باريس؛ لأكون في مقدِّمته عند دخوله هذه المدينة ظافرًا.
الإمبراطور
(للكرونبرنس)
:
هل لك شأن آخر؟
الكرونبرنس
(للإمبراطور)
:
لا يا مولاي، جلالتكم تعلمون أن باريس هي أقصى مُنْيَتي.
الإمبراطور
(للكرونبرنس)
:
ليكن لك ما طلبت.
(يخرج الكرونبرنس.)
الإمبراطور
(وحده)
:
متى يتأتَّى لهذا الولد أن يكون رزينًا؟
المنظر الثالث
الإمبراطور
(في قصره الأوتومبيلي، والغضب بالغ منه حدَّ الجنون)
:
ماذا يبلغني؟ أكاد لا أصدِّق أُذنيَّ، هل هذا ممكن؟ جيش ظافر يطارد عسكرًا مكسورًا،
لا يبلغ ثُلُثه عدًّا يكسره هذا العسكر القليل الخائر، وأية كسرة؟! لولا أن عصر العجائب
قد انقضى لقال الناس غدًا: إن قِدِّيسًا أو قِدِّيسة هي التي أنقذت الفرنساويين في واقعة
«المارن» كما أنقذتهم جان دارك في الماضي، ولطوَّب هذا الشعب — لولا أنه شعب مُلحِد —
قائده
العظيم جوفر كما طوَّبَت الكنيسة جان دارك اليوم، فما هذا يا إلهي؟ لقد زعزعتَ ثقتي فيك،
كيف تسمح لهذا الشعب الذي أنكرك أن يفوز على شعبك الألماني الخاص، وعلى ممثِّلِه المتصل
نسبُهُ بك، فيا لَضياع اعتمادي عليك! لم يبق لي تلك الثقة فيك ما دام للقِدِّيسين اليوم
هذه
المقدرة دونك، إني لأدمرنَّ كنائسهم ولأحرقنَّ صُوَر قِدِّيسيهم، حتى لا يبقى لهم مُنقِذ
ينقذهم من غضبي، إني أنا الواحد القدير على هذه الأرض، وأنا الغَنِيُّ عن كل حليفٍ آخر
أرضيٍّ أو سماويٍّ، وقوتي يجب أن يدين لها الثقلان.
لقد أحسنْت ظنِّي بقُوَّادي؛ فساء فَأْلي، ولقد أخطأت بأن سمحت لابني أن يلحق بجيشي
الزاحف على باريس، وهو عنوان الفشل والخذلان حيثما كان. ولقد كان أول الفارِّين هذا
المُتبجِّح بفوز سواه للتصدُّر في مقدمة الظافرين، لقد أظلمت الدنيا في عينيَّ من هذا
الانكسار الهائل فكأنَّ أحلامي كلها ضلَّت، لقد ذهبت تلك الآمال الكبيرة، وكاد
يتولاني اليأس لولا ما بي من العزيمة التي تفَلُّ الحديد.
وسواء كان النصر ميسورًا لي أو كُتِب لي ألا يكون النصر حليفي؛ فلأُقلقنَّ الأرض
والسماء؛ حتى يعلم الجميع على السواء أني أكبر من أن يزعجني ما يقول الناس عني، وأني
في غنًى عن رضى الآخرين، وأن غضبي لا يُستهان به، فلأُدمرنَّ الأرض حيثما حَلَلْت كأني
الزلزال المُميد؛ فأهدم المساكن والقصور، وأدكُّ المعاهد والمعابد، وأحرق الزرع، وأُبيد
الضَّرع؛ حتى لا يجد الناس مفرًّا لهم مني غير خنادق الأرض يحفرونها، ويقيمون فيها
كالمناجذ، وهيهات أن تَقِيَهم نارِيَ الحارقةَ، وغازاتِيَ الخانقةَ، حتى تُمسِيَ الخنادق
لهم مدافن
لا مساكن، وحتى أُثير حربًا شعواء فوق الأرض، وتحت الماء، وفي الهواء لم يسمع نظيرها
سكَّان الغبراء، تُقلِق أهل الجحيم، ويصل شِرارها إلى سكَّان السماء ما دام الجميع خانوني،
واستهانوا بي، واستسهلوا غضبي، وما دام نصيري عُلمائي الأعلام يخدمون أغراضي باختراعاتهم
الفائقة، ومنشوراتهم المبرورة، وهذا منهم اعتناء زائد، فهل أنا بحاجة إلى مثل هذا
التبرير؟!
على أن عُلمائي بين علماء اليوم أعلام، فهم مثلي يفهمون ضَعْف الناس، ويسطون عليهم،
ويقودونهم إلى حيث يشاءون كما يُقاد الأعمى، وهذا سرُّ التحكم في الناس: إقدام وجسارة،
وأن تعتبر الناس كما هم، لا كما تريد أن يكونوا، ولكن قُوَّادي، آه منهم لقد أضاعوا
عليَّ بسالة جنودي، وحُسْن تدريبهم، وبديع نظامهم، فلأقلبنَّ الأرض على رءوسهم
قلبًا.
(يقرع الجرس، ويأمر كبير حرسه بأن يدعو إليه قُوَّاده وكبيرهم.)
الإمبراطور
(لقُوَّاده غاضبًا)
:
لقد وضعت ثقتي بكم في غير محلها، ولقد نلت جزائي على ذلك، ولكن هل في الإمكان
أن أكون أنا في كل مكان؟ لقد كان نابوليون الكبير كبيرًا بأعوانه، كما كان
نابوليون الصغير صغيرًا بأعوانه، إني لأكوننَّ أكبر من نابوليون الكبير، وإن
كنتم أنتم صغارًا، ومن ذا يكون نابوليون الكبير وأعوانه في هذه الحرب اليوم؟!
فلأكوننَّ أنا وحدي الكل في الكل.
(ثم يلتفت إلى كبير قُوَّاده.)
وأنت أيها القائد العظيم، إني أخطأت كثيرًا بتيمُّني باسمك، فالزم بيتك،
وهذا أقل جزاء المُقصِّرين.
(يبهت قليلًا، ثم يقول): وأين الكرونبرنس؟ هذا الذي لم أكن أتوقَّع منه خيرًا، ولعله
في فراره قد
سبق إلى برلين بدلًا من باريس؟ فليلزم هو بيته أيضًا.
(وبعد فترة يقول في نفسه): مَن هو هذا الداهية الذي نظَّم جيوش الفرنساويين هذا النظام
البديع، وأتى بهذه
المعجزات؟ فلنِعْم القائد هو! ونِعْم الأُمَّة التي أنجبته، ولو أنها عدوَّتي، ولكن
لا بد لي من سَحْقه، والفخر يَعظُم كلَّما كان الخصم عظيمًا.
(يخطر قليلًا وهو مضطرب ويقول): آه من هؤلاء الإنكليز فقد أحبطوا عليَّ كل أعمالي، وسدَّوا
عليَّ المنافس،
فلأُصلينَّهم حربًا في الهواء، وتحت الماء لم يسبق لها مثيل، هم يريدون أن
يحصرونا ليميتونا جوعًا، لولا أن لكل رائد نجعةً، ولولا منافذ المحايدين، فلأفسدنَّ عليهم
كل شيء.
(يقرع الجرس ويطلب مستشاره.)
الإمبراطور
(للمستشار)
:
ما حال حليفتنا تركيا؟
المستشار
(للإمبراطور)
:
جلالتكم تريدون أن تعرفوا حال أنور وعصابته، وإلا — كما تعلمون جلالتكم
— فتركيا لو استطاعت لمَا حشرت نفسها في هذا المأزق لأجلنا، أمَّا أنور وعصابته فقد
باعوا لنا على رغم أنف العثمانيين، ونحن اشترينا منهم ويَدُنا اليوم فوق كل يدٍ في
إدارة شئون المملكة التي استبدُّوا بها.
الإمبراطور
(للمستشار)
:
وأين هم من حرب الجهاد التي وعدونا بها؟
المستشار
(للإمبراطور)
:
كأنهم خدعونا بهذا الشبح الموهوم، فالمسلمون لم يحرِّكوا ساكنًا ضد الإنكليز،
كما خُدِعنا نحن لمَّا ظننَّا أن مستعمراتهم ستقوم عليهم، فكان لهم من هذه
المستعمرات أعظم نجدة.
الإمبراطور
(للمستشار)
:
وحملة القنال؟
المستشار
(للإمبراطور)
:
لقد فشلت، وكان للإنكليز من مدفعية المصريين أعظم عَضُد.
الإمبراطور
(للمستشار)
:
والدردنيل؟
المستشار
(للإمبراطور)
:
قد تكون الحرب بيننا وبينهم هناك حتى الآن سِجالًا رغمًا من غَرَقِ مدرَّعاتهم
بألغامنا وغواصاتنا، وكأنهم يتوقَّعون من حكومة الأستانة تصافيًا إذا خارت
يدنا، وخارت يدُ عصابتنا؛ لذلك هم يسعون إلى استمالتها ضدَّنا، ويصفحون عنها،
ويعتبرونها مرغمةً على حربهم إذا صافتهم.
الإمبراطور
(للمستشار)
:
يا لَلمكر! أنا أفهم كل ذلك، ولكن هل هم كلهم فاهمون؟ ودول
البلقان؟
المستشار
(للإمبراطور)
:
دول البلقان؟ عنوان التَّذبذُب، هي تنظر بعضها إلى بعض أكثر منها إلى الاتفاق
معنا أو علينا، على أننا نجحنا بأن أَمَلْنا إلينا واحدةً كانت على وشك أن تنضمَّ
إلى أعدائنا، أو بالحَرِيِّ منعناها عن أن تكون ضدَّنا، ونحن اليوم ساعون في
استمالة أخرى إلينا هي نافعة لنا أكثر، وإلا انقطعت مواصلاتنا مع الأستانة،
وقُضِيَ علينا هناك من فقدان المئونة والذخيرة، على أن هذه الدول لا تستطيع شيئًا
ضدَّنا إلا إذا اتفقت فيما بينها، واتفاقها أبعد من منال القمر، وأعداؤنا حتى
الآن لم يعرفوا كيف يستميلونها إليهم؛ لشدَّة طمعهم، ولا بد لنا من القضاء عليها
القضاء التام بعد انتصارنا في أوروبا، وحلولنا محلَّ الأتراك، واستيلائنا على
مملكتهم الضخمة الجميلة.
(يدخل كبير الحرس وبيده تلغراف للمستشار.)
الإمبراطور
(للمستشار)
:
ما هذا؟
المستشار
(للإمبراطور)
:
هو تلغراف لا سلكي، وفيه البشارة لجلالتكم، إن غواصتنا نِمْرَة كذا أغرقت
الباخرة لوزيتانيا، وغرق معها نحو ١٥٠٠ راكب من رجال ونساء وأطفال، وبينهم
أميركانيون كثيرون.
الإمبراطور
:
هؤلاء الذَّنب عليهم فقد أنذرناهم، أنا لا أُنكِر أن فِعْل الغواصات ومناطيد
زبلين لغاية الآن ضعيف، وهي بالحقيقة لا تؤَثِّر شيئًا في نتيجة الحرب، إلا إذا
كان التهويل بها يحمل الأُمَّة الإنكليزية على قبول صلح شريف لنا؛ لأني صرت أرى
أن تحقيق حلم ألمانيا أصبح اليوم بعيدًا جدًّا عما كنت أظنُّه في أول
الحرب.
(يدخل كبير الحرس وبيده تلغراف آخر للمستشار.)
وممَّن هذا؟
المستشار
:
هو من سفيرنا في واشنطون، وفيه أن جرائد أميركا قائمة قاعدة ضدَّنا بسبب غرق
الباخرة «لوزيتانيا»، وتطلب من الحكومة التشديد بطلب الضمان على حياة
تبعتها.
الإمبراطور
(للمستشار)
:
لا شك في أن الدكتور ويلسون سيحتجُّ غدًا إذعانًا لصوت الأُمَّة، ولكني واثق
أن حكومته لا تستطيع شيئًا ضدَّنا نظرًا لنفوذ الأميركيين الألمان هناك، فإذا
احتجَّ فليكن أخذك وعطاؤك معه مَطْلًا ومواربةً، وادَّعِ أن الباخرة كانت تحمل
ذخيرةً للعدوِّ.
الإمبراطور
(للمستشار)
:
وممَّن هذا أيضًا؟
المستشار
(للإمبراطور)
:
هو من سفيرنا في رومه، ويقول: إن مساعي معتمدنا العالي للتوفيق بين إيطاليا
والنمسا ذهبت سدًى، وإن إيطاليا شَهَرت الحرب على النمسا.
الإمبراطور
:
المشاكل تتراكم علينا من كل الجهات، وأنا لا أستغرب مسلك هذه الحليفة
الخائنة، فهي منذ أوائل الحرب تكتم لنا العداء كأنها عالمة بمصيرها منَّا، وإذا
كانت قد تأخرت إلى اليوم؛ فلكي تتم استعدادها، فصار يلزمنا أن نراقب حركات دول
البلقان؛ لنمنعها من أن تتحرَّك معها ضدَّنا، وهذا لا يكون إلا بأن نُجْبِنها بضرب
روسيا ضربةً قاضيةً، ولو أضعفنا مركزنا في الميدان الغربي؛ لأن انكسار روسيا قد
يمنع هذه الدول أن تخرج من حيادها، وإذا خرجت لمصلحة الأعداء كان ذلك الطامَّة
الكبرى على حليفتنا تركيا، إذ نفشل حينئذٍ فشلًا تامًّا يجلب علينا شرًّا
كبيرًا في الخارج، وفي الداخل؛ لأني صرت أخشى فراغ صبر الأُمَّة الألمانية بعد أن
منَّيناها بنصر قريب، وبكل ما يتبع ذلك من الأحلام الجميلة، فلنعجِّل بإعطاء
الأوامر لإرسال هذه النجدة إلى الميدان الشرقي، وبلِّغ الجرائد في الحال خبر
إِغراق الباخرة «لوزيتانيا»، ولتفهم الأُمَّة أنَّا أُوتينا بهذا العمل نصرًا
مبينًا، وأوعز لها أن تزيِّن وتقيم الأفراح، وامنح تلامذة المدارس بأمري عطلةَ
يوم؛ ليفرحوا بهذا العيد الوطني العظيم (يخرج
المستشار).
الإمبراطور
(وحده)
:
لقد طاش سهمي، وكأني فقدت كل آمالي، ولولا أن تكون الأُمَّة الألمانية بنظامها
الذي أدخلْته عليها كالآلة العمياء لمَا أمِنْت على نفسي ثورتَها اليوم، وقد
بلَوْتها بكل البلايا، فإذا لم يبقَ في إِمكاني أن أكون كنيرون فلأكوننَّ
كشمشون، ولأشربنَّ الكأس حتى آخرها، وماذا يجديني انتصاري على الرُّوس اليوم؟
وهم لو غُلِبوا غلبوا، وقاهرهم في بلادهم مقهور، فإذا طاردتهم لم أنَلْ منهم بقَدْر
ما ينالون مني، وأضعفت مركز جيوشي في الميدان الغربي كثيرًا، وإذا ارتدَدْت عنهم
ارتدُّوا إليَّ، وارتدت دول البلقان إلى مُمالَأة خصومي، وخدمَتْ بذلك غرض هؤلاء
الإنكليز الذين هم ألَدُّ أعدائي، وهم أَمْنعهم عليَّ اليوم، وكأن هذه الدولة
الماكرة تسير مع سائر الدول الكبرى والصغرى ضدِّي كما سارت معهم ضدَّ نابوليون
الكبير حتى أوردته حتفه ولو بعد حروبٍ طالت رُبْع قرن، وأنفقت فيها من المال
ما جيَّشت به أوروبا كلها عليه، وهي الدولة التي لا تحسب للمال ولا للزمان
حسابًا ما دام المال يعود، وما دام الزمان يخدمها في إضعاف سواها أكثر منها،
فكأني أحيَيْت هذه الأُمَّة من حيث أردْتُ أن أسحقها، إنها لحُرْقة اليوم في قلبي
تكاد تقتلني.
ولكن ماذا يجدي الاستسلام لليأس وخَوَر النفسِ غير شماتة العدوِّ، وغير إثارة
أُمَّتي عليَّ؟ هذه الأُمَّة التي غرَّرْت بها، وأفقدتها اليوم كل شيء بعد أن كانت
قد نالت بنشاطها مقامًا في العمران رفعها فوق الجميع، سِرُّ نجاح أُمَّة الإنكليز
أن رجالها يخدمون مصلحة الأُمَّة على طول الزمان، فكأنهم ينسَوْن أنفسهم وهم بذلك
يَعظُمُون، وأمَّا أنا فقصدت مع ذلك أن أختصر هذا الزمان؛ لأخدم مصلحة نفسي بخدمة
عنفواني في مطامعي أيضًا فهَوِينا كلانا، فلو حَذَوْت حَذْو أعدائي هؤلاء، ونسيت
نفسي قليلًا؛ لمَا بقي لأُمَّتي مُزاحِم على سطح الغبراء، ولرفعني التاريخ بعد موتي
فوق جميع عظماء الأرض. كَلَّا أنا لم أهوِ بعدُ، ولئن هَوِيت فلأكوننَّ عظيمًا حتى
في سقوطي، فلا أرجعنَّ عن الحرب ما دمت قد خضتها، وما دام في ألمانيا نَفْس حيَّة،
ولأُحالفنَّ زبانية الجحيم ما دام حلفائي في السماء راق لهم أن يتخلوا
عني.