الفصل الخامس
المحاكمة
(يؤلَّف مجلس من خمسة عشر مُحَكَّمًا، سبعة عن اليمين وهم مندوبو إنكلترا وفرنسا وروسيا وبلجيكا والصِّرب والجبل الأسود وإيطاليا.)
(وسبعة عن اليسار وهم مندوبو أميركا واليابان وإسبانيا وسويسرا والصين ومندوب عن دول البلقان، وآخر عن دول الشمال.)
(ويرأس هذا المجلس رئيس جمهورية «سان مارينو».)
(والمُدَّعي هو الرأي العام.)
(والمحامي هو شَبَح الدُّهور في سالف العصور.)
لم يسبق للقضاء فيما مضى أن ينظر في قضية مثل القضية المعروضة عليكم اليوم، ولا أن يُستَهدَف لتَبِعة مثل التَّبِعة المُلْقاة على عاتقكم منها.
(ينظر إلى لِباسه البسيط، ولِباس بعضهم المُزوَّق باسمًا.)
وأنتم مزوَّقون أيضًا.(ويلتفت إلى المُدَّعي جادًّا.)
سِرْ في حديثك على ما ترغب وكما تعوَّدت، ولا عُدْت تخشى مني مقاطعةً.فجانينا لا يُعذَر كما لو ادَّعى الجهل، وقد نال من العلم نصيبًا غير قليل، وهو لقَدْرِه العِلمَ والفنونَ قَدْرَها لم يكتفِ بمَفاخر المُلْك، بل أراد أن يضيف إليها مَفاخِر العلم لغروره الزائد، فحاول أن يمتاز بهذه أيضًا، حتى إنه عانى فنَّ الرسم، وحاول التأليف في الموسيقى على ما فيهما من العَناء، وما يحتاجان إليه من المواهب التي ليست له، وعَوَّل في جناياته الفظيعة على الكيمياء، ولم يحتقرها كما فعل نابوليون عن كيدٍ، وقد خَبَط فيها فوصفها أنها (أي: الكيمياء) مطبخ الطب، وأن الطب صناعة السفاحين تحقيرًا لهما.١
فهو غير جاهل حتى يُلتمَس له عذر يُخفِّف من جُرْمِه، كما قد يُلتمَس لسفَّاحي العصور الماضية الذين كانوا يحتقرون العلم، ويأبَوْن تَعلُّم صناعة الكتابة؛ لشدة احتقارهم لها، ويعتبرون صناعة «السيف» — أي: الطعن والضرب — أشرف الصناعات التي يجب أن يمتاز بها الرجال العِظام، فهم إذا كانوا قد شنَّعوا، وفظَّعوا، ودمَّروا، وقتَّلوا … إلخ، فإنما هم كانوا في أعمالهم على اتفاق تامٍّ مع أنفسهم.
وكانوا متفقين مع عصورهم أيضًا، فالناس في تلك الأزمنة البعيدة كانوا جاهلين مثل أوليائهم، فكانوا عبيدًا لأسيادهم مختارين يُملِّكونهم، حتى على رقابهم، كأنهم خراف في يدي الجزار، ولا يَرَون في ذلك أقلَّ اعتداء على حقوقهم، ولا يشعرون منه بأقل غَضاضة في نفوسهم.
وليس الأمر كذلك اليوم، فإن الأُمَم لكثرة انتشار العلم بينها، وشدَّة إقبالها عليه قد ارتفعت بمستواها العقلي، فصارت حياة الأفراد والمجموع ثمينةً جدًّا في نَظَر الحاكم والمحكوم معًا، وصار الحاكم مُقيَّدًا بنظامات وقوانين لمصلحة الجمهور، لا يجوز له تَخَطِّيها، وصَرْفُها لغَرَضِه الخاص من دون أن يرتكب جناية يستحقُّ أن يُعاقَب عليها.
وهنا تعرض لنا مسألة، وإن بدت أنها خارجة عن الموضوع، فإنها من المسائل الاجتماعية التي لا يجوز للإنسان أن يمرَّ بها غير مُكتَرث، وتحملنا على تشديد اللَّوْم على الهيئة الاجتماعية نفسها؛ كيف أنها تصبر على أن يقوم فيها مَن يستبدُّ بها، ويتحكَّم فيها، بدعوى امتيازات اغتصبها من يوم لم يكن للأُمَم أقل كلمة في تدبير شئونها، ثم صارت هذه الامتيازات له حقًّا مشروعًا؟ وهذا منتهى العار على هذه الأُمَم اليوم، كأن العبودية طَبْع في الإنسان، وكأنه لم يُخلَق حرًّا.
(قلق وتململ من جانب أكثر القضاة.)
قلت: أصدقاء أعدائه؛ لأن هؤلاء إذا عَدُّوا عليه ذلك ذنبًا، فهل هم كانوا أبرياء؟
(أكثر القضاة يتطلَّعون إلى الرئيس كاحتجاج صامت.)
ولولا أن تكون هذه الأخلاق غريزيةً في هذه الأُمَّة لما مالَأَت إمبراطورها على جنايته الكبرى، مع ما هي عليه من العلم، ولأدْرَكَت حينئذٍ أن الأُمَم التي قامت لتُذِلَّها وسَعَت لتُبِيدها؛ لكي تَحُلَّ مَحَلَّها إنما هي أعضاء نافعة في جسم العمران، بل لَعَرَفت أن نجاحها هي نفسها لا يتم لها بدون التعاون معها، ولجعلت تنازُعَها معها تنازُع مباراة لمصلحة هذا الجسم، ولمَا استأنست بحلفاء السوء الذين هم لصوص الاجتماع، وكان ينبغي التحالف عليهم. ودعواها الطويلة العريضة أن مستواها أرقى من مستوى هذه الأُمَم، ويخوِّلها حقَّ السيادة عليها؛ دعوى تحتاج إلى دليل، ومنشؤها غرور المُحدَثين، وهو ابن عم الجهل المُركَّب أو عَيْنه، وهي لو غلب عقلها هواها لَعَلِمت ما يعلمه كل واحد؛ وهو أن المفاضلة بينها وبين الأُمَم المذكورة في العلم والصناعة هي حتى الآن في مصلحة هذه الأُمَم لا في مصلحتها.
فالألمان حقيقةً هم تُجَّار علم أكثر منهم علماء، وهم مستثمرو اكتشافات سِوَاهم أكثر منهم مبتكرين مخترعين، ونعني بسِواهم اليوم الطُّلْيان والإنكليز والفرنساويين خاصةً، حتى في أيام كَبْوَتهم. وهؤُلاء — أي: الفرنساويين — أنجبوا في قرنَين من أبطال رجال العلم المبتكرين اثنَين، لو اجتمع الألمان أكداسًا بعضهم فوق بعض لمَا بلغوا مَأْبِض ركبتهما، وهما: لامرك؛ مكتشف نظام الأحياء الكبرى الطبيعي، وأبو دروين الشهير، وباستور؛ مكتشف الأحياء الدنيا، وصاحب مذهب التعقيم والاختمار، والذي يُعلَم ما كان لهذا الاكتشاف من النفع العميم في الطب والزراعة والصناعة، يستطيع وحده أن يُقدِّر فضل الرجل، فالأُمَّة التي تُنجِب مثل هذَين البطلَيْن اللذَين لا يُقاس بهما أبطال، هل يجوز أن يُقال إنها أُمَّة يُستَغنى عنها ويجب سَحْقها؟ وهل يمكن سَحْق أُمَّة هذا جوهرها مَهْما يبدُ عليها من التواني؟ ولقد أدرك الألمان اليوم على حسابهم أن السَّيِّد لا يصير عبدًا للعبد، وقد رَأَوا ما فعلت هذه الأُمَّة المجيدة في هذا الوقت القصير، حينما انصرفت إلى ما هم منصرفون له منذ نصف قرن، ولكنها أُمَّة أنْبَل من أن تخدم العلم لتَصْرِفه للشَّرِّ نظيرهم، فدعوى الألمان لأنفسهم على سواهم دعوى فاسدة تُستَغرب منهم، لولا أن الغرور يُعمي ويُصِمُّ، ويذهب بالعقل كل مَذْهب.
وتستغرب منهم لولا وجود أُناس فيهم كبرناردي، يعلمون أن تآخي البشر وتعاونهم لا يجوزان إلا في الأُمَّة الواحدة، وإلا انقلبا إلى عَداء، والحرب حينئذٍ بفظائعها فضيلة من فضائل الاجتماع. ولا أعلم مبلغ الدراهم التي قَبَضها على هذا القول الضليل خدمةً لمقاصد إمبراطوره الشنيعة. والعلم عندهم لا ينفع إلا إذا تجمَّد مالًا، وعلى هذه القاعدة الفاسدة جَرَت أُمَّته في هذه الحرب الفظيعة عن علم وقصد لا يُصفَح عنهما، لا عن ضلال وجهل يُستَنكَران، ولكن قد يُعذرَان، فدمَّرت وقتلت وسوَّغت لنفسها كل شنيع وقبيح.
وإنه ليعجبني من قائل هذا القول قِصَرُ نَظَره مع طول دعواه؛ لأنه يزعم أنه يسير على مبدأ العلم الطبيعي، ولم يعتبر للعقل مزايا على الحيوان في التنازُع، ولم يدرك الغاية من هذا التنازُع، حتى في الطبيعة الغشيمة، وهي التوازن في نظام هذا الكَوْن، وضم المتماثلات من الجزئي إلى الكلي، لا العبث بهذا النظام.
ولو أنه كان أقصر نظرًا، ووقف في التنازع عن حد الفرد — وهو كلٌّ بنفسه — لا في أطراف الأُمَّة؛ فلربما كان له من سوء فهمه في علمه عُذْر، ولكنه — وقد امتدَّ بنظره إلى أطراف الأُمَّة الواحدة، وقرر وجوب التعارُف بين أفرادها، حتى تضحية النفس في سبيل مصلحة الكل — لم يبقَ له عذر في عدم إطلاقه هذا المبدأ على كل المجتمع البشري، ناظرًا إليه نظر الفزيولوجي، ومُتصرِّفًا فيه تصرُّف الطبيب في الجسم الحيِّ، فإذا كان أفراد البشر أعضاءً في جسم الأمة، فالأُمَم مجاميع أعضاء في جسم العمران، فإذا كانت الأعضاء ومجاميعها سليمةً، كان التنازُع بينها تنازُع مباراة وتواصل لمصلحة الكل، ولا يكون تنازُع تقاطُع مُفكِّكًا لأوصالها، إلا إذا كانت فاسدةً كلها أو بعضها.
فعلم منافع الأعضاء في الجسم الاجتماعي ينبغي أن يكون بنفس المقام الذي له في الجسم الحيِّ، وطبُّ الجسم الاجتماعي ينبغي أن يكون كطبِّ الجسم الحيِّ للذين يدَّعون أنهم في تعاليمهم يهتدون بهَدْي العلوم الطبيعية، وكم هم كُثار الذين يفترون على هذه العلوم بسوء فهمهم، ولو أنهم — برناردي وقومه — من ذوي الأقدار. ولو اقتصر الأمر على هؤلاء وحدهم لهان، ولكنَّ عُلُوَّ مقامهم يدفع كثيرين وراءهم من المتظاهرين بالفهم؛ فيتعلقون بزِمِكَّاهم، ويقولون قولهم؛ ليقال إنهم يفهمون، ولو أنهم على أنفسهم.
فالجسم الحيُّ لا يصحُّ ويقوى إلا إذا سَلِمَت أعضاؤهُ كلها وإلا تشوَّه، ويُفضي ذلك به إلى الموت إذا كانت الأعضاء المَأُوفة جوهريةً، كذلك الجسم الاجتماعي لا يصحَّ ويقوى إلا إذا سَلِمَت له أعضاؤه وتعاونت على إنهاضه. وأعضاؤه هم الأمم، فإن لم تتعاون وقامت بعضها على بعض؛ ضعفت هي وأضعفته معها، وقطُّ ما كانت الأُمَّة الاجتماع كله، وهذا التنازُع الهمجيُّ بين الأُمَم هو السبب في تباطؤ ارتقاء العمران؛ لتقهقره أجيالًا ووقوفه أجيالًا بسبب ذلك. وطبُّ الاجتماع كطبِّ الأحياء يداوي ما يُدَاوى، ويَبْتِر الأعضاء الفاسدة إذا تعذَّر شفاؤُها، ولا يجوز كما يذهب برناردي ومشايعوه بَتْر الأعضاء السليمة النافعة، ومحاولة تهشيمها، وهم يدَّعون خدمة العمران بذلك كما هي الحال في هذه الحرب. وأنكى من ذلك مشايعة الدول التي لا تُرجَى، والتي بقاؤها في جسم العمران كبقاء الأعضاء الفاسدة في الجسم الحيِّ، والتي ينبغي بَتْرها صيانةً له، بل كان يجب بَتْرها منذ زمان طويل لولا أن الدول ذات الكلمة الراجحة كانت يومئذٍ جميعها ذلك الرجل.
(بعض القضاة يمتعضون.)
ويا ليت الأُمَّة الألمانية اقتصرت من العلم على الغاية الكبرى منه، وهي خير المجتمع — كما قَصَد جنر الإنكليزي، وباستور الفرنساوي، وماركوني الطلياني — واستئمرته مالًا ما شاءت، كما فعل كوخها وأهرليخها، وزاحمت العالم بذلك ما استطاعت حتى بذَّته، لكان لها من كل ذلك عمل مشكور وفضل مأثور، ولكوفئت عليه بسَبْقِها إلى ما تصبو إليه في هذا السباق المشروع بين الأُمَم الحَيَّة، ولكنها لم ترضَ بهذا، بل صرفَتِ العلم عن هذه الغاية الشريفة إلى أقبح أوجه استعماله واستعملته للتقتيل والتدمير والقرصنة والرجوع بالعالم إلى عصور التوحُّش، بقيام الأُمَم السليمة بعضها على بعض، وتعمُّد الشرَّ بعضها لبعض، حتى قلبت الغاية منها إلى ضدِّها، وحتى صار الناس يحمدون عليه الجهل، وما كان الجهل قبل ذلك قطُّ محمودًا.•••
وليس المَلام على الأُمَّة الألمانية المتضامنة مع حكومتها في السراء والضراء، مهما أساءت فهم مصلحتها؛ بقدر المَلام على مجموع الهيئة الاجتماعية التي يجب عليها أن تكون هي نفسها متضامنةً لدفع الشَّرِّ عنها، وتوفير المصلحة لها عمومًا، وهذا انحطاط في هذه الأُمَم وحكوماتها يُخجَل منه اليوم، فعِوَضًا من أن تهبَّ جميعها هبَّةً واحدةً لنصر المجتمع والقبض على الجاني، تركته يسرح ويمرح ويعيث في الأرض فسادًا، وادَّعت الحِياد كأن لا ناقة لها في ذلك ولا جمل، وزعمت أنها تستفيد من ممالأته فشرعت تنصره في السر، وهي تدعي العُزْلة في الجَهْر، وهو لو أُتيح له النصر لمَا كان حظُّها منه إلا الإذلال.وكيف يكون غير ذلك، وحظُّ حلفائه منه ليس أفضلَ، انظروا إلى حليفتَيهِ العظيمتَين النمسا وتركيا، كيف أنه قبض عليهما بيدٍ من حديد، واستخدمهما لمصلحته دون مراعاة أقل مصلحة لهما، حتى لو أرادتا الانفصال اليوم عنه لمَا استطاعتا، كأنهما جزء من مملكته، أو مستعمرة من مستعمراته، بل انظروا إلى معاملة جنوده لجنودهما، فكأن هؤلاء دِرْع لأولئك يضعونهم في مُقدِّمتهم، ويستقبلون بهم الممالك، وما كان جزاؤهما لو تمَّ له الانتصار إلا الاستلحاق — لا للضَّمِّ والشَّمِّ — بل للاستثمار والاستعباد، وخاصةً تركيا، وهذا أقل ما كان ينويه لهما من الغُنْم، وكان ينوي أن يكون عليهما كل الغُرم في الانكسار لو بقِيَ له بعض الحَوْل، وغريب جدًّا أن ترضى أُمَّة بمثل هذا المقام لولا الجهل، وسهولة ابتِيَاع ذِمَم الحُكَّام الطِّغام.
نعم، إن الذنب الأكبر في وجود مثل هذا الجاني إنما هو على المجتمع الذي حتى الساعة لا يفهم مصلحته الكبرى من انضمام الأُمَم فيه كأنها أعضاء من جسمه للتعاون على العَمار لا القيام بعضها على بعض للفساد والدمار، ولو كان يفهم لأطفأ منذ زمان جَذْوة النار التي أوقَدَت هذه الحرب، ولم يذرَّ عليها الرماد كلَّما أوشكت أن تفنى،٢ ولكانت له اليوم أُمَّة عظيمة نافعة، أو أُمَم يفتخر بها عوضًا من استمرار هذه المجازر الدائمة التي أقلقت الزَّبانية في جهنم، والملائكة في السماء، وعوضًا من هذا التَّذَبْذب الشنيع من هذه الدُّوَيْلات الطامحة إلى الاستقلال والراسفة في الأغلال تتخبط في الحال والمصير، ولكان له أراضٍ واسعة تَدِرُّ الخير عليه وعلى أهلها، عوضًا من هذه الصحارى القاحلة التي تأوي إليها وحوش الحيوان، وتعيث فيها فسادًا لصوص الإنسان، فمَن من الدول الراقية لا يحس اليوم بثِقَل ما كان يرتاح إليه في الماضي؟ بل مَن منها يستطيع أن يقف أمام محكمة العقل العُلْيا، ويقول إنه كان فاهمًا جيِّدًا حقيقة التعاون، وسعى لمصلحته من وراء مصلحة المجتمع؟ «وما هذا الوحل الذي يتخبط العالم فيه اليوم إلا من ذلك المطر».
وإذا كنت أُشدِّد اللوم على الهيئة الاجتماعية عامَّةً، والأُمَّة الألمانية خاصَّةً؛ فليس ذلك لأني أريد تخفيف العقاب عن المجرم الأصيل، فالهيئة الاجتماعية قد يُلتمَس لها عُذْر الغَفْلة، وقد عوقبت عليها شرَّ عقاب، والغَفْلة من جهةٍ لا تُشفَع بجريمة التَّعَمُّد من الجهة الأُخرى، بل تجعلها أشدَّ قُبحًا إذ لا شيء أقبح من اغتيال الآمِن المُطمئِن والغدر به، حتى إن البَشَر في عصور توحُّشِهم كانوا يأنَفون أن يأخذوا عَدُوَّهم على غِرَّة، ويفتخرون بأن يُنذِرُوه لينازلوه نِزالَ الرجال للرجال، والأبطال للأبطال، لا كما فعل هذا المجرم العاتي مع البلجيك خاصَّةً، وقد شنَّ عليها غارةً أقلُّ ما يُقال فيها: إنها حرب الجبناء، أو حرب الأفاعي الخبيثة التي يرتفع عنها إِبَاء الأُسُود الضَّراغم، والقوة تُحتقَر وتُهَان إذا لم تُقرَن بالنُّبْل والشَّهامة وحماية الضعيف، ولا سيَّما إذا كان الضعيف نظيفًا صحيحًا، نظيفًا في عَقْله، نظيفًا في أعماله، وكان خَصْمه القويُّ على ضدِّ ذلك نَتِنًا في أفكاره، قَذِرًا في مطامعه، مُعْتَلًّا في بنيانِهِ كمجرم اليوم.
والأُمَّة الألمانية جزء منه، فهي شريكته في جريمته، ولا تُخفَّف شيئًا من عقوبته، فإذا كانت هي يَدَهُ الأثيمة؛ فهو رأسها الشِّرِّير، فإذا قطعنا يَدَ السارق، فهل أتينا على ما في «مَعْمَل» رأسه من الأفكار الشيطانية والمطامع الجهنمية؟ وإذا كانوا قد قالوا: إن الوظيفة توَلِّدُ العُضْو، فالوظيفة هنا في الرأس لا في اليد، أو هما كالأسباب المُعِدَّة والمُتِمَّة كما في الطِّبِّ، والحقيقة أنهما شريكان متضامنان كما في العلوم الاجتماعية، فكما أنهما ينويان الاشتراك في الغُنْم، يجب أن يكونا شريكَين في الغُرْم.
على أن الأُمَّة الألمانية نالت حتى الآن شيئًا غير قليل من هذا العقاب، إذ قُتِل أبناؤها، ورُمِّلت نساؤها، ويُتِّم أطفالها، وبارَتْ تجارتها، وسُلِخَت منها مستعمراتها، وأضاعت في هذا الزمن القصير ما أحرزته من النجاح الباهر بعد تَعَب أكثر من نصف قرن، نالت جزاءها هذا بالشرائع الطبيعية التي لا تُغْفِل ذنبًا بلا عقاب، لا بالشرائع الوضعية الاجتماعية التي كثيرًا ما تَغْفُل عن ذلك، ولعل هذه الشرائع تعرف اليوم كيف يجب أن تعاقب الأُمَم المسئولة إذا أهملت واجباتها، وطمحت إلى سَلْب حقوق سِواها قوةً واقتدارًا، ولا تكتفي بالعقاب الطبيعي وحده الذي يذهب غالبًا بدون أن يُنتبَه إليه، وبدون أن يكون له الأثر النافع في الاجتماع، بخلاف العقاب الاجتماعي؛ فإن به وحده العِبْرَة غالبًا، والعِبْرَة هنا لازمة لتنبيه الغافلين، وكبح جماح أصحاب المطامع الغير الموزونة.
•••
ولكن المجرم الأكبر الذي هو سبب كل هذه المصائب ماذا يؤثِّر فيه كل ذلك؟ فإنه لا يؤثِّر فيه شيئًا، ولا سيِّما إذا عرفنا أطواره وأمياله وهُيامَه، فهو مفتون بحبِّ الشُّهْرة أكثر من تَمسُّكه بالسلطة، وإن كان في هذه يفوق كل نظير، فهو لو وُضِع على خازوق؛ لمَا شكا بقَدْر ما يُسَرُّ من أن ذلك يَلْفِت النظر إليه، وهو بهذا المركز الذي هو فيه أمامكم اليوم مُفْعَم قلبه حُبُورًا بأنه شَغَل العالم به، وبأن التاريخ سيتكلم عنه طويلًا، حتى لا يدع لأحدٍ من كبار السَّفَّاحين ذِكْرًا بجنب ذِكْره، وقد فاته أن يكون واحدًا من عِظَام الرجال المُصلِحين، فالشُّهْرة هي غايته الوحيدة مهما يكن السبيل إليها، والشُّهْرة الفائقة في الشَّرِّ أسهل جدًّا منها في الخير، والأنكى أنها تستهوي «بقر» الاجتماع كثيرًا؛ فيُعظِّمون صاحبها، ويحترمون فاعل الخير أقلَّ جدًّا مما يُعجَبون ببأس الشِّرِّير؛ لأن أكثر الناس حتى اليوم عبيد يدينون للخوف أكثر ممَّا يَنقادون للمعروف، ولم يَخفَ ذلك على مُجْرمنا، ولأجله أَمْعن في التفظيع، والتدمير للإرهاب.ولكن فاته أن جانبًا عظيمًا من البَشَر مع ذلك مفتونون بالحرية، ولا سيَّما الذين قَصَد إذلالهم، وهم أرقى منه جدًّا في جَوْهَرهم، فوقفوا في وجهه سدًّا لا يُقطَع، وأفسدوا عليه كل حسابه، وأوصلوه إلى الحالة التي هو فيها اليوم؛ مقهورًا في مطامعه، مرذولًا من المجتمعات الراقية، محكومًا عليه بما هو شَرٌّ من الإعدام لقوم يعقلون ويشعرون. ففظائعه الشنيعة التي توسَّل بها للوصول إلى غرضه القبيح كانت شرَّ أعدائه.
وفظائعه تُعدَّدُ ولا تُعَدُّ، وأيُّ شيء أفظع من تحويل العالم كله إلى ميدان حرب، فكيف سِرْتَ اليوم لا تجد سوى جنود تُحشَد، وعُدَد تُعَدُّ، ومهمات تُنقَل، وخيول كسِرْب القَطا تَقْرع بحوافرها الأرض، وتثير شرَّ الحماسة في النفوس بعامل البُغْض، وسوى سيوف تلمع، ومدافع تَصْدَع، ولا تسمع بسوى معارك تتطاحن فيها ملايين الرجال، كأنهم وحوش الأدغال، وفيها تتساقط القتلى بالألوف ومئاتها، حتى غَصَّت بهم المقابر، وأُتخِمَت النسور، وحتى استأنست الوحوش في فَلَواتها من كثرة شِبَعِها، وبينها أنين الجرحى المُهشَّمي الأعضاء المُقطَّعي الآمال؛ يُفتِّت الأكباد لمَن لهم أكباد، ويحرق الفؤاد لمَن له فؤاد، وعليها تتناثر دموع الثَّكالى والأَيامى من آماقٍ مُقرَّحة فوق أشباح تَجَلْبَبت بالسَّواد، كأن العالم كله في مَأْتم، وكأن الناس جميعهم في حِداد، هذا عدا عن الفظائع التي ارتُكبَت في الناس الآمنين من نساء وعجائز وأطفال اعتداءً وصَلْفًا، كأن الحرب والأذى غاية الإنسان من هذا الوجود المنكود، ومَن سبب كل ذلك غير هذا العاتي الشِّرِّير وشهواته القبيحة؟
بل أيُّ شيء أفظع من تحويل العلم عن غاياته الجميلة النبيلة التي يُقصَد منها تخفيف المشاقِّ عن البشر في حياتهم التَّعِبَة القصيرة إلى أقبح أوجه استعماله؟ فصار آلةً للدمار بعد أن كان يُرجَى للعَمار، ومَن الذي حَوَّل العلم إلى هذا الغرض الشنيع غير هذا الظالم الغاشم؟
والغريب أنه وجد بين علمائه الأعلام أُناسًا خَرِبي الذِّمَم، شَنيعي المقاصد، دنَّسوا اسم العلم وسلَّحوه بالغازات الخانقة، والنيران الحارقة يقذفونها على الناس والمدائن؛ ليمْعِن في التقتيل والتدمير، وهو بحُمْقه يطلب النصر من ورائها، وإخضاع الأُمَم له، وما هي من عوامل النصر في شيء، بل هي من عوامل الانتقام الكامن في نفوس اللِّئام، بل أيُّ نصر يُرتجَى من ضرب المدن الغير المُحارَبة، والفتك بِنَاسها الآمنين بطياراته، وتغريق السفن التجارية بغَوَّاصاته؟ وفيها من الناس العُزَّل من السلاح، السَّاعين في مناكبها من رجال ونساء وأطفال، مَن لا يرضى لهم أذًى أيُّ جبار ذي نفس أَبِيَّة، ولكن ماذا يعمل العلم «إذا كان الطِّباع طِباع سوء»، بل ما ذنب الآثار التي وجَّه إليها مَدافِعَه الضخمة ودمَّرها تدميرًا، وهي فخر الاجتماع على مدى العصور؟ وما دمَّرها إلا لأنها آثار سِواه، وهو لا يفتخر إلا بآثار همجيته، والمُضحِك المُبكِي منه اعتذاره لتبرئة نفسه — كأن به بقية حَياء — «إن هذه الآثار كانت ثَكَنات للجنود وقِلاعًا للمدافع.» فهل جُنَّت الأُمَم حتى تُعَرِّض آثارها للتدمير؟ وهي لَعَمْري منه اعتذارات وحُجَج تأنفها صبيان الاجتماع، فكيفما قلَّبتم أعمال هذا الرجل، فإنكم لا تجدون عقابًا له يَفِي بفظائعها، وعندي أن أعظم عقاب له على جنايته هذه الكبرى، لا القتل، ولا النَّشْر، ولا التعذيب بكل أنواع عذابات ديوان التفتيش، بل بمقاومته بما كان يصبو إليه، وهو السِّيادة والشُّهْرة، ولا سيَّما هذه الأخيرة؛ لأنه يصبو إلى أن يَقْرَع فيها كلَّ مَن تَقدَّمه، فيُحذَف اسمُه واسم بَيْته من التاريخ، ولو بشناعاتهم — لاحِظوا عليه امتعاضه عند سماعه ذلك — ثم يُترَك طريدًا شريدًا، فيجهله كل إنسان، أما أُمَّته فعقابها أن يذكر التاريخ لها كل هذه الفظائع بدون أدنى إشارة إلى مَن مَلكَها من هذا البيت، وأن تُجَزَّأ ممالك صغيرةً ليأمن العالم شرَّها، وتنقطع هي نفسها لاستثمار مواهبها النافعة عساها إذا تفرَّغت لها أن تنفع المجتمع نفعًا كبيرًا.
هذا ما يشكو الاجتماع منه، وما يرتَئِيه في هذا المجرم الكبير وأُمَّته، عرضناه على حضراتكم، أيُّها السادة الكرام، ورأيكم المُوفَّق فوق كل رأيٍ.
لا أريد أن أجول مع حضرة المُدَّعي في المخارج والمداخل التي عرَّج عليها، وعرَج فيها؛ لئلا أُطيلَ الكلام على حضراتكم على غير طائل، وكل ما جاء به الخصم ليس إلا خِلابة لِسان؛ لتأييد أمور ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تركب على عقل إنسان، وأنا على تمام اليقين بأنكم تنظرون إليها نظيري، فقد عِشْت الدُّهور، وشَهِدْت آتيلا، وتيمورلنك، وجنكيزخان، حتى عبد الحميد، ولم أسمع أن أحدًا شكا منهم مثل هذه الشكوى، ولا طلب من التاريخ أن يعاملهم هذه المعاملة الشنيعة الفظيعة، ولو فعل لمَا جاز له أن يَخُصَّ سِواهم من الفاتحين بالذِّكرى المَقرونَة بالإعجاب، وكلُّهم متشابهون سفَّاحون طمَّاعون طُلَّاب سِيادة وحبَّابو شُهْرة إلا عبد الحميد، فإن الدافع له لم يكن حُبَّ الشُّهْرة، بل هَوَسًا للذَّوْد عن نفسه، خوفًا عليها، لِمَا كان بها من الهواجس، فأنا — وقد قُسِم لمُوكِّلي ألا يكون ظافرًا إلى النهاية والمغلوب مغلوب في كل شيء — أطلب إليكم أن تعاملوه كما عُومِل سِواه قبلَه بالعزل والإبعاد، حتى التَّكْبيل والتَّنْكيل إذا كنتم معتقدين أنه الجاني المسئول وحده، ولم يكن في السَّوابق أو المُصاحِبات ما يشفع له بتخفيف الجُرْم، كما أنا مُتيقِّن، وإذا كنت لا أبسطها لديكم؛ فلأن زميلي قد أشار إليها ضِمْنًا، فما رأيتكم مُستعِدِّين لسماعها أو قَبولها، عامِلُوه معاملة المغلوب في كل شيء فقط، لا تُلحِقوا به هذه الإهانة التي لم يُعامَل بها أحد من زملائه السَّالفين، مع أنه يعلو عليهم عُلُوًّا كبيرًا، وقد اعتبرهم التاريخ من الرجال العِظام، وخَلَّد ذِكْرَهم إلى الأبد، على أن هذا الحُكْم الغريب المطلوب من حضراتكم أن تنطقوا به ليس له نص في القانون، ولا سابقة في العُرْف، فهل تريدون أن تأتوا فيهما بدعةً اليوم، وتقولوا إنكم حَكَمتم بالعدل وضَمائِركم مطمئنة، فأنا لا أطلب إلا العدل، والعدل أساس المُلْك، وأنا لا أخشى عليه، وأنتم هنا اليوم نُصَراؤه.
(يختلي القضاة للمداولة، ثم يرجعون، وينطق الرئيس بالحكم الآتي):
حيث إن هذه الحرب التي أثارها المُدَّعَى عليه عن سوء نية هي حرب تَهوُّر، ليس فيها شيء من التَّعقُّل؛ لأن ضررها لاحق به كما هو لاحق بسواه وأَشَدُّ.
وحيث إنه كان ينوي بها إغرام الآخرين له؛ ليفتخر بأنه أذلَّهم، ولو أنهم من أهم أركان المجتمع؛ وليخلُوَ الجوُّ له وحده، ولو أدَّى به الأمر إلى تقويض العمران، فهي إذن حرب اعتداء على المجتمع نفسه، لا حرب دفاع عن النفس لمصلحة العمران.
وحيث إنه كان يَنْوِيها منذ زمان طويل، كما تدل استعداداته الهائلة لها من دون أدنى موجِب غير مطامعه الجائرة التي لا تتفق مع مصلحة عامَّة أو خاصَّة، ومن دون مراعاة لزمان أو مكان.
وحيث إن الأعمال الفظيعة وسائر الموبِقات التي ارتكبها أو أَوْعَز بارتكابها في هذه الحرب — والتي لا يجوز أن يُقدِم عليها في هذا العصر، حتى ولا أجهل الناس، وأَعْرَقهم في التوحُّش — تدل دلالةً واضحةً على أن به شذوذًا يحمله على حبِّ الإضرار بالغير.
وحيث إنه ثابت من تقارير الأطباء عنه أن به عدمَ توازُن — إلى الشَّرِّ — في القُوى المُحرِّكة له والمُستولِيَة عليه، هو سبب هذا الشذوذ فيه، وذلك يجعله في القانون غير مسئول.
وحيث إن المسئولية الحقيقية في مثل هذه الحال يجب أن تقع على المجتمع نفسه الذي تسمح نظاماته بأن تتأصَّل فيه مثل هذه البذور الفاسدة، وعلى أُمَّته خاصَّةً التي جارَتْه على أهوائِهِ ونَصَرته فيها، غير ناظرة إلى حقيقتها، ونسبتها هي نفسها إلى المجتمع، ونسبة المجتمع إليها.
فلأجل ذلك كله حَكَمت المحكمة العُلْيا حُكْمًا حضوريًّا نهائيًّا، لا يقبل استئنافًا ولا نقضًا، بأن يُعامَل المجرم معاملة أمثالِه، ويُوضَع في «عُزْلَة» تحت مراقبة أطباء دوليين، وتُحرَم عيلته من جميع امتيازاتها التي تُخَوِّلها حق الحُكْم، وتُنزَع منه ومن أسرته ما لهم من أملاك وأموال، وحِصَص تجارية وصناعية، وتُنفَق أثمانها على منكوبي البلجيك، وتُنقَل الأثريات في قصوره إلى مدينة لوفين بَدَل ما أتلَفَه فيها، وتُلزَم أُمَّته وحدها بالتعويض على الآخرين.
وأمَّا المجتمع؛ فيكفيه ما ألمَّ به من المصائب التي لا تُعوَّض عقابًا له على غفلته.
وعلى الدول تنفيذ هذا الحكم.