عُمرة كاتب
بدأت الكتابة كتفرغ منذ خمسة وثلاثين عامًا، وقبلها كنت ضائعًا في الحركة الوطنية الطلابية والعمالية. ومنذ «العَلْقَة» التي نالتنا على يد فيتز باتريك باشا حكمدار بوليس القاهرة في كوبري عباس وجنود بلوكات النظام وثمة علاقة عضوية شخصية قد ربطتني بالحركة الوطنية المصرية برباط لم تنفصم عُراه، وأعتقد أنها أبدًا لن تنفصم. ما حدث لمصر طوال هذه المدة عانيتُ منه على المستوى الشخصي؛ من اعتقال إلى فصل إلى مرض إلى إهانات، ولا أزال أعاني. والإنسان مِنَّا ليس مصنوعًا من حَجر ولا من صُلب، إنه دم ولحم وعظام فأعصاب … ومنذ ذلك اليوم البعيد في أوائل الخمسينيات ولم تمر عليَّ، وربما على المصريين جميعًا، إلا أيام قليلة جِدًّا من الفرحة الشخصية والجماعية؛ مثل يوم أَلغَى النَّحَّاس باشا معاهدة ٣٦، ويوم أمَّم عبد الناصر القناة، ويوم قرر في خُطبته المشهورة بالأزهر عقب العدوان الثلاثي أن نقاتل ونقاتل ونقاتل. يوم طُرد الملك، يوم قرار العبور وبطولة الجيش المصري في حرب ٧٣. ولا أريد أن أذكر الأسباب التي لا تَخفَى على القارئ، وبعض أيام أخرى في عهد الرئيس مبارك. وفي المقابل كانت حياتنا طوال تلك الأعوام التي قاربت على الأربعين سلسلة متصلة الحلقات من المشاكل والهموم. وعجيب أمر هذا الشعب الذي لستُ سوى فرد منه، كيف تحملنا كل هذا، كيف لم ننكسر، كيف لم نركع، كيف لم نسلِّم بالأوضاع ونحيا كيفَما اتَّفَق؟! افتح قلب أي مصري تجد أن قلقه على بلاده ومصيرها يكاد يوازي قلقه على مصالحه الشخصية، وعند بعض الناس يفوق قلقه على مصالحه الشخصية.
ومنذ النصف الثاني من السبعينيات والهم يتثاقل حتى يبلغ الحلقوم، ومع هذا فنحن أحياء ما زلنا نتحمل ونصبر، وحتى نأمل ونحلم. وتلك هي معجزة الشعب المصري، تلك التي أبقته حيًّا طوال أكثر من ألفي عام من حكم المستبدين والغزاة والمجانين.
كانت هذه الأفكار تدور في رأسي وأنا أرتدي ملابس الإحرام في طريقي للصلاة في الحرم وزيارة قبر الرسول ﷺ وصاحبَيْه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فأرضاهما. وقفت أمام مقام الرسول الكريم ﷺ وجموع المسلمين تتدافع لتلقي على بابه وعلى مقامه نظرة شوق طال، وشفاعة مكتومة في النفس، كل منهم يبوح له ﷺ بمكنون قلبه وبدعاءٍ له ولوالديه ولأولاده وعائلته. ومثلما كانوا يَدْعُون دَعَوْت. ولم يكن الدعاء سهلًا، فقد كان عليَّ أن أفرغ نفسي تمامًا من كل اهتماماتها الشخصية والدنيوية، كان عليَّ أن أطهر قلبي، وأفسح صدري، وأمسح كل ما يزدحم في رأسي من قلق. ولم يكن الأمر سهلًا، فما كان يشغلني عُمْره أحقاب وأحقاب، طبقات فوق طبقات من هموم عامة وخاصة، من خوف غريب من المستقبل، من تشاؤم يكاد يطبق على بصيرتي وبصري. كان عليَّ أن أتطهر وتعود نفسي بريئة كنفوس الأطفال الرضع، جديدة وكأن لم يمسها سوء ولا فعلتْ سوءًا.
وأنا مستغرق في دعائي لنفسي ولأسرتي وحتى لأصدقائي، هبط عليَّ خاطر كأنما هو مُنزَّل من أعلى عِلِّيِّين. وماذا يا يوسف لو استجاب الله لدعائك وحفظ عليك صحتك وعلى أسرتك سعادتها وعلى أصدقائك حياتهم؟! أهذا هو منتهى الوصول؟! ما فائدة أن تحل البركة والخير على تلك المجموعة الصغيرة من الناس، في مجتمع يعاني وبين مصريين يتحملون ما لا طاقة لهم به؟!
ودنوت إلى قبر الرسول ﷺ، ورأيته في ضوء آخر تمامًا، هذا إنسان من بني البشر اصطفاه الله جل جلاله ليكون رسولًا ومبشرًا بالإسلام العظيم، فماذا فعل؟ لم يكتفِ بتبليغ الرسالة إلى أولي القربى منه أو إلى قريش، وإنما جعل همه كله سعادة البشر في الجزيرة وفي الدنيا كلها، وآمن بهذا إيمانًا جعله يتحمل الأذى ويتحمل النفي والهجرة ويحارب ويقاتل المشركين الضالين. رجل واحد بمفرده وبقوة من عند الله، ولكن بإيمان يجلُّ عن الوصف استطاع أن يغير أناسًا يعيشون في عصر الوثنية والبداوة والجاهلية الأولى يعبدون أصنامًا من الحجر، إلى قوم صنعوا أمة من أعظم الأمم، إن لم تكن أعظم أمم الأرض. قوم استطاعوا أن يهزموا أكبر إمبراطوريتين في عصرهما يقابلان القوتين العظميين في عالم اليوم، يحطمون ديوان كسرى، ويقوضون عرش إمبراطور الرومان، وينشرون مبادئ الإسلام السمحة من بواتييه في فرنسا إلى الصين في أقصى الشرق.
وأنا أطوف بالكعبة وأرى الناس سودًا وبيضًا، صينيين وأوروبيين، مشارقة ومغاربة، من نيجيريا إلى إندونيسيا، نلتف جميعًا حول الكعبة ونصلي المغرب، يا له من مشهد غريب فريد في بابه يشرح القلب! آلاف مؤلفة من الناس يحمدون الله ويركعون ويسجدون ويُسَبِّحون ويستغفرون. كان منظرهم يخلع القلب فرحًا، ويجعلك تنتقل من انتماءاتك المحدودة في عائلتك أو في بلدك إلى انتماء أشمل وأكبر، الانتماء الأكبر إلى المحيط الإسلامي الواسع، وتحس بآلامك ومخاوفك تذوب تمامًا في هذا المحيط، وتبدأ نفسك كالماء المعكر بالطين حين يروق ويروق حتى يصبح أصفى من الماء المقطر، من نقاوة وحلاوة ماء زمزم.
صليت ركعتين في الروضة الشريفة، وارتكنت إلى عمود من أعمدة الحرم النبوي الشريف، أرقب الإيمان مجسدًا على الوجوه، يا لحلاوة الإيمان حين يُكسِب الوجهَ البشري جمالًا نابعًا من القلب، وموجَّهًا إلى المولى سبحانه!
وجاءتني مصر وأنا مرتكن أمارس متعة الابتهال بلا صوت، والتأمل بلا انقطاع. جاءتني مصر بشعبها ومشاكلها، بحاضرها ومستقبلها. ورحت أدعو للشعب المصري، بَنِي وطني، أن يزيد الله نِعَمه، إنه القادر القوي المعين. ما فائدة أن أكون قد دعوتُ لعائلتي ولنفسي أن يخلصنا من أزماتنا وقلقنا ونحن نحيا مع شعبٍ واقع في الأزمات والقلق؟ ما فائدة أن تكون سعيدًا صحيحًا في مجتمع يعاني؟
ما فائدة أن يرزقك الله بالملايين في شعب يعيش على حافَة الفاقة؟ إن المسلم الحقيقي لا يسعد إلا في مجتمع مكتمل السعادة ترفرف فيه السكينة على الجميع.
وظللت أدعو وأدعو حتى وجدتُني أبكي بكاءً لم يحدث لي من قبل، فهو ليس بكاء حزن، وليس بكاء إشفاق على النفس والشعب، وليس بكاء إشفاق على النفس الشعب، وليس بكاء مذلة وإحساس بالضيم، ولكنه بكاء المحب لحبيب، البكاء الواصل بين الله سبحانه والإنسان، البكاء المستلهم من حياة الرسول ﷺ، بكاء المتأمل في الآيات البينات التي أوحى الله بها وغمرت الدنيا من أقصاها لأقصاها.
يا رب لا تمنحني الصحة وشعبي مريض.
ولا تمنحني الرزق الوافر وشعبي يشكو الفاقة.
ولا تمنحني سلامة النفس وشعبي يطحنه القلق.
وأنزِلِ اللهمَّ السكينة على قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، يا لها من آية كريمة معجزة المعنى، ظللتُ — دون أن أعي — أرددها، وكأنما بقدرة قادر وبإملاء قادر: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ، أنزِلِ اللهمَّ السكينةَ على قلوبنا، وألهِمنا الصواب، وأخرِجنا بفضل قدرتك ورحمتك من مآزقنا، وهيئ لنا من أمرنا رَشَدًا، إنك أنت السميع المجيب الوهَّاب.