البحث عن التراب الخماسيني
نتذكر — بسرعة — أننا كُنَّا قد توسعنا في الحديث حول لماذا فشل الملوك والرؤساء العرب في عقد مؤتمر قمة «استثنائي» لمناقشة العدوان الوحشي الصارخ الذي تتعرض له أمتنا العربية؛ في الحرب العراقية الإيرانية، وفي لبنان، وفي هذا الأخير الذي تعرضتْ له الجماهيرية الليبية عيانًا جهارًا، وبكل سبق إصرار وترصد. قالها ريغان، سأضرب، وضرب، واعترضتْ على ضربه كلُّ أمم العالم ما عدا بريطانيا وإسرائيل بالطبع، والذي على أثره دعا العقيد القذافي إلى عقد مؤتمر قمة عاجل، وتولى العاهل المغربي مسئولية الدعوة، واجتمع وزراء الخارجية العرب ليتفقوا على جدول أعمال وفعاليات مؤتمر القمة الوشيك الحدوث، ولكن العجيب — ويبدو أن لا شيء هناك أصبح عجيبًا — أن الوزراء، أو بالأحرى رؤساءهم، فشلوا في الاتفاق على جدول الأعمال؛ وبالتالي فشل الاجتماع، والأعجب أن يكون الفشل بسبب موقف ليبيا نفسها، أو العقيد القذافي الذي تمسك برأيه في ضرورة أن ينعقد المؤتمر القمي في طرابلس باعتبار ليبيا هي أحدث الدول المعتدَى عليها، وباعتبار أن العدوان جرى من قبل دولة عظمى ضد دولة تعدادها ٣ مليون كلهم من العرب المسلمين. وكان العدوان الإيراني على العراق واحتلال أراضيه قد قدم العهد به، أي أصبح مزمنًا، لا يشكل ألمًا حادًّا أو حالة عاجلة، أو الحرب اللبنانية راحت عليها، وكلنا، كالعادة كتَّابًا ومحللين وسياسيين رحنا ننهال على أنفسنا تقريعًا، ونتحدث عن الفشل العربي والتشرذم العربي والمأساة العربية، وكأنها مأساة تحدث لقوم آخرين، وليس لنا نحن بالتحديد. وإن هذه الطريقة — طريقة تأنيب النفس ولطم الخدود وشق الجيوب وتمزيق الصدور على طريقة الشيعة — ليست هي الوسيلة لا المُثلى ولا حتى الغبية لمواجهة ما حدث.
فما حدث كان بِناءً على خطة خبيثة مبيتة للعدوان على الأمة العربية كلها وحتى مدخلة في اعتبارها رد الفعل العربي الذي لن يتعدى تقريع الذات، وازدياد سخط العرب على أنفسهم، وهو بالضبط رد الفعل المطلوب؛ لتزداد الخُطى العربية تعثُّرًا وفشلًا؛ فالذي يلوم نفسه بشدة على شيء لا يكرر فعله، والأم إذا ظلت تتهم ابنها بالجبن أو بالغباء أو الخيبة سيستحيل بكثرة التأنيب إلى جبان أو غبي أو خائب ما بعده خائب. وقلنا أيضًا إنَّه ما دام الأمر خطة موضوعة، فلا بُدَّ أن نواجهه بخطة أيضًا، فلا يواجَه الفكر الخبيث إلا بفكر خبيث أو أشد خُبثًا، ولا يواجه التخطيط المعادي إلا بتخطيط يردُّ العدوان.
وهكذا بدأنا في البحث عن أسباب فشلنا وخيبتنا حتى في الاجتماع أو عقد مؤتمر، وذلك بالإجابة على السؤال الأول: هل السبب في اختلافاتنا وتمزقنا وتشرذمنا وعدم قابليتنا للالتقاء أو الالتفاف حول هدف أو وسيلة هو القَبَلية أو العشائرية السائدة الآن ومنذ زمن بعيد في الأمة العربية.
ووجدنا — في محاولتنا للإجابة — أنها تشكل الأساس الحقيقي للخلافات العربية؛ فبعد استعراضنا لمختلف الأنظمة من أقصى اليسار الماركسي الذي يحكم عَدَن إلى مصر الديمقراطية البعد كامبديفيدية، إلى الجزيرة إلى الشمال الإفريقي، النظم لها أسماء مختلفة هذا صحيح، ولكن حقيقة تكوينها علميًّا حقيقة واحدة.
وعلى ذلك الأساس اعتبرنا الخلاف بين الأنظمة العربية أو بين الحكام العرب على وجه الدقة ليس خلافًا حول «مبادئ» أو «برامج» أو تقدمية أو سلفية، وإنما هي في حقيقة أمرها خلافات بين هذه القبيلة وتلك، أو بالأصح خلافات بين رئيس هذه القبيلة ورئيس القبيلة الأخرى؛ إذ هو أبدًا ليس خلافًا حول الصالح العربي العام؛ إذ كلٌّ يزعم أنه إنما باختلافه عن الآخرين ونشوزه عنهم لا ينشد إلا الصالح العربي العام، في حين أن الصالح العربي العام — لو كان هو الهدف حقًّا — لوجب أن يتنازل هذا الأمير أو الحاكم أو الرئيس عن بعض مصالحه أو مصالح قبيلته في سبيل المصلحة القومية العليا، أمَّا التضحية بالمصلحة القومية العربية العليا لسبب ذاتي محض، سواء أكانت الذات قبيلة حاكمة أو فئة متكافلة متكاتفة، فتلك مسألة أخرى.
تلك مسألة تستوجب أن نعرِّيَ المواقف العربية تمامًا، ونعرِّيَ الحكم العربي في كل مكان؛ لنصل إلى هيكله العظمي الحقيقي الحاكم. وحينذاك فقط، وحين تتعرى تلك الأنظمة سنصل إلى الحقيقة؛ وهي أن جميع المزاعم التي يزعمها بعض الأنظمة بدعوى الحرص على القضية العربية، والفلسطينية بشكل خاص، إنما هو كذب ومحض افتراء؛ فالشعوب العربية كلها لا خلاف بينها حول المطالب القومية العليا والمصلحة القومية الواحدة. كل الشعوب العربية متفقة تمامًا ولا خلاف بينها، وقد ضربت وسأضرب المثل على هذا؛ كُنَّا في بلد عربي؛ مجموعة من كتاب وشعراء وفنَّاني الدول العربية قاطبة، وكنتَ تضرب كفًّا على كف وأنت ترى الانسجام الكامل، حتى في الآراء والتوجهات السياسية، بين الفنانين العراقيين والسوريين مثلًا، أو بين الليبيين والتونسيين، وبين هؤلاء جميعًا وبين المصريين والسودانيين والأردنيين والفلسطينيين، الكل عارف تمامًا بأدق دقائق الموقف، وتاريخ كل حاكم يحكمه، وعيوبه قبل مزاياه، ولكنا فقط في المواقف الرسمية وخوفًا من عيون الرقباء وعسس الأنظمة المنبثة في هذا الجمع الفني بالضرورة، كُنَّا فقط «نبوِّز» في أوجه بعضنا البعض، ونضع أقنعة الأنظمة، ونؤيد أو نعارض ما خططه لنا واختطه لنا وأَمَرنا به كلُّ نظام من أنظمتنا.
إذن الخلاف هو بين رؤساء حكوماتنا وقادتها، يدخلوننا فيه رغم أنوفنا، ويجعلوننا نحارب بعضنا بعضًا، بل ويقتل بعضنا بعضًا «بأمر» هذا النظام أو ذاك، وليس بسبب أن السوري يُكِنُّ للعراقي حقدًا؛ أيَّ نوعٍ من أنواع الحقد، وليس بسبب أن اليمني الشمالي يختلف في عواطفه أو انفعالاته عن المواطن أو الكاتب أو الشاعر من اليمن الجنوبي.
إذن هي تراجيديا عربية، كل ما في الأمر أنها لا تدور على مسرح، ولا يسقط فيها الضحايا تمثيلًا أو ادعاءً، وإنما يسقطون صرعى فعلًا، مقتولين فعلًا، قتلهم صاحبٌ عربي مثلهم بأمر نظامه، قتلًا لا يحمل أي إحساس حقيقي بالغل أو الحقد أو الإيمان.
•••
وكما يقولون — غنيٌّ عن البيان — إن هذا الوضع يُثْلِج قلوب عدونا تمامًا. وكم نَزَفْتُ، ولا أقول كتبتُ، وكتب غيري من مقالات ونداءات وصرخات تهيب بحكامنا ومسئولينا، ونقول في أعقاب هزيمة ٦٧، إن الخطة الْجَهنمية الكبرى للعدو هي أن يُحيل الصراع العربي — الإسرائيلي الأميركي — إلى صراع عربي عربي أو فلسطيني فلسطيني، أو عربي فلسطيني، ولكن أحدًا لم يسمع، أو إن كان قد سمع فإن العمى القَبَلي المتحكم في أعصابه أو آذانه وعيونه أعماه عن أن يرى، إلا أن هذا العربي الجار أو زميل الحزب أو الرفيق هو عدوه اللدود الذي لا بُدَّ من قتله أوَّلًا؛ تصفيته «جسديًّا» قبل أن يوجه مسدسه إلى العدو الحقيقي.
وهكذا لم يكن غريبًا أن ينشأ الصراع بين السوريين والمنظمة حول التحرير — تحرير؟ أي تحرير هذا الذي تحاربون أنفسكم فيه حربًا أبشع هوادة من حربكم للعدو؟! أو أن يدخل الصراع دائرة الإسلام ذاته، وأن ينشأ نظام الخوميني ويقوم وعلى رأسه يرفع راية أن الطريق الإسرائيلي لا بُدَّ معه من اجتياح كامل للبصرة وللعراق ولبغداد؛ أي حصد للجبهة العربية الشرقية كلها أو معظمها في سبيل الوصول، فقط الوصول، إلى حدود إسرائيل، ومن يدري ماذا سوف يحدث عند تلك الحدود، لربما — وهذا هو الأرجح — أن يعتبر خوميني أن التحرير قد تم، وأن إسرائيل لم تَعُد مشكلة.
وقد يبدو ما أقول لغوًا، ولكن ماذا أفعل ونحن نحيا فعلًا في عصر اللغو؛ مصر بأكملها لم يكن لها من شاغل طوال فترة طويلة إلا الصراع الرهيب حول — ليت الإسلام أو مصالح المسلمين أو أي شيء يمتُّ إلى العقل بصلة — ولكن حول أن: هل من حق الفتاة المسلمة أن تذهب إلى كلية الطب وتكشف على المرضى وتُمتَحن وهي «منقبة»، أي لا يظهر منها سوى عينيها، ترتدي الأسود في الأسود، وحتى يديها تدسهما في قفاز أسود، أم أن هذا ليس من الإسلام في شيء؟
وهل من حق عميد كلية الطب أن يتأكد من شخصية الطبيبة التي تدخل الامتحان عن طريق إنزال النقاب عن وجهها، والتحقق من شخصيتها المصورة كاشفة الوجه في بطاقة الكلية والامتحان، أم أن هذا عدوان ما بعده عدوان على الدين والدنيا وعلى الإسلام والمسلمين؟ وهكذا تظاهر آلاف الطلبة الذين يَدينون بالولاء للجماعات الإسلامية، وهتفوا بسقوط العميد وإهدار دمه … و… وإسلاماه … الدين في خطر … والدنيا ستقوم لو كشفت الفتاة عن وجهها ليتأكدوا من شخصيتها.
إن التيار الديني في الجامعات ليس وليد اليوم، كُنَّا ونحن طلبة في الجامعة لدينا تنظيمات للإخوان المسلمين، ولكنهم لم يكونوا يتظاهرون لأن طالبة أظهرت بضع شعرات من حجابها، كانوا يتظاهرون ضد الإنجليز والسراي، كانوا يشكلون ويكونون كتائب فدائيين لمحاربة الإنجليز، وفي القنال، وهذا هو الإسلام الحقيقي، وهذا هو الدفاع الحقيقي عن الإسلام، أمَّا أن يكونوا جيشًا رهيبًا من الحناجر التي تزأر مطالبة بأن «تنقب» طالبة الطب نفسها، وتهدر دم العميد إذا حاول أن يكون علميًّا وجامعيًّا وإسلاميًّا حقيقيًّا، فذلك هو نوع الكفاح الديني الذي استوردته مصر (من أين؟ لست أدري!) ذلك النوع القشري الشكلي من الإسلام الذي يترك روح الإسلام ومنهجه؛ إذ الإسلام نزل على النبي ﷺ وعلى المسلمين ليحضهم في ثلاثة أرباعه على مقاتلة الكفار (الاستعماريين، والصهيونيين بلغة العصر الحديث). دخل الإسلام في الخطة الجهنمية الكبرى لتفتيت العرب والمسلمين، سلبوا منه روح القتال والنضال ضد العدو، وتركوا لنا مهمة أن نتعارك وأن نتناقش وأن يطعن بعضنا بعضًا بالاتهام بالكفر أحيانًا، والضرب الجسدي أو القتل أحيانًا أخرى في سبيل قشور لا تقدِّم أو تؤخِّر في حقيقة الرسالة المحمدية الإسلامية التوحيدية الكبرى.
إذن العروبة أصبحت مزادات ومزايدات عربية بين مدعي قيادة العرب والأمناء على القومية العربية، وأدخلت الشعوب العربية رغم أنفها في تلك المزايدات والصراعات «قادة» العرب وأولي الأمر منهم.
والإسلام ذلك الدين الذي جاء ليبشر بإله واحد أحد، وبمسلمين موحِّدين، لا فرق بين مسلم فيهم ومسلم إلا بالتقوى، شرذموه أيضًا، وجعلوه إسلام شيعة وإسلام سُنَّة وإسلام دروز وإسلام علويين وقذافيين وجماعات جهاد وحزب الله، الجميع يقرون أن الإسلام بُنيَ على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله، وإقامة الصلاة، وصوم رمضان، وإيتاء الزكاة، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا. بمعنى أن كل من نطق وآمن وفعل هذا فهو مسلم شاء أي فقيه أم أبى، رضي شيخ الأزهر أم اعترض؛ إذ هذا وحده هو المقياس الوحيد للمسلم، هو في نفس الوقت الشعار الجامع بين كل المسلمين ليجعل منهم شعبًا واحدًا متحدًا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، ولكن، هل يتركون الإسلام ليؤدي رسالته التوحيدية التحررية الكبرى هكذا ويصير قوة تتزلزل لها جبال الكذب والظلم والبهتان؟ مستحيل! فليكن إسلامًا واحدًا وشعارًا واحدًا ولكن فلينقسم مصنفوه ودعاته إلى كل تلك التقسيمات التي ذكرناها، ولا يكفي هذا، بل يجب أن تتنازع تلك التقسيمات وتدعي كل منها أن ما تقوله هو الإسلام الحق ولا إسلام سواه، بل لا يكفي هذا، بل لا بُدَّ أن تتقاتل تلك التقسيمات قتالًا مُرًّا أشد مرارة مما تقاتل بعد العدو (مسلمو إيران التي تستورد السلاح من إسرائيل لتُبيد به مسلمي العراق)، وكتائب أمل (التابعة لدمشق) تشنُّ الهجمات على كتائب «حزب الله» التابع لإيران؛ مولد وهيصة وفوضى أفشاها العدو في قلب إسلامنا الواحد حتى أصبح أن يعادي المسلمُ المسلمَ مثل عداوته للوثني أو الصهيوني مسألة لا غرابة فيها، بل الغريب ألا يفعل!
الوضع القَبَلي إذن لم يَنتهِ بمجيء الإسلام وعلى يديه، ولكنه، إبَّان مقاومتنا للغزوة الصليبية الصهيونية الثانية الكبرى، استطاعوا أن يتسللوا إليه هو الآخر ويجعلوا منه عونًا على القبيلة الجديدة، ويجعلوا من جيشه، المفروض أن يكون واحدًا متحدًا، صفوفًا متفرقة. وإني لأتصور المشهد في الآخرة، وأتصور إيرانيًّا مسلمًا يقف بين يدي المولى ويقول: سقطتُ شهيدًا يا إلهي دفاعًا عن الإسلام. وعراقيًّا يقف بين يدي المولى ويقول: لقد متُّ شهيدًا في سبيل الإسلام. فأي إسلام هذا الذي يَقتل به الشهيد شهيدًا، ويُستشهَد من أجله القاتلُ والمقتولُ معًا؟ أي إسلام؟! إنهم اليهود والأميركيون يعبثون بنا معًا، ويسخرون باستشهادنا معًا، وهم أيضًا قَتَلَتنا نحن الاثنين ولا قاتل سواهم!
•••
إذن، بذرة قَبَلية قديمة، أُعيد النفخ فيها، وتولَّى أبالسة جدد إذكاءها في نفوس حكامنا وأولي الأمر فينا حتى غارت في عروبتنا، وفي إسلامنا، وفي وجودنا كله تفرض نفسها فرضًا، وتجعل تفرقنا أمرًا واقعًا، وتجبرنا على أن تتهم كل قبيلة الأخرى بأنها السبب، ولا سبب غيرها، في هزيمة القبيلة، بل في هزيمتنا كلنا.
حتى أصبح تبادل الاتهامات شيمة من شِيَم وجودنا العربي الحالي. أرني دولة عربية واحدة لا تتهم دولة غيرها بإسداء أحطِّ التهم، ائتني بزعيم عربي واحد لم تكن الخيانة والدكتاتورية أو الرجعية، أو على أقل القليل التهاون واللعب بالقضية، واحدة من كثيرٍ مما أصابه ويصيبه من اتهامات.
بل ائتني بدولة عربية أو بنظام عربي ليس في نظر الجميع متهمًا بتهمة خطيرة ما.
ماذا تفعل تلك الاتهامات؟!
إنها بالضبط كمشاعل الأيدروجين التي يلحمون بها الحديد، كل ما في الأمر أنها تفعل هنا العكس تمامًا، إنها تصهر الروابط الأزلية الحديدية بين الدول والأنظمة وتفككها قطعًا قطعًا ومعسكرات معسكرات، حتى داخل المعسكر الواحد تقطعه إربًا حتى تصبح في النهاية، بدلًا من هيكل دولة عظمى واحد كبير ومرعب ورهيب (كما حدث إبَّان حرب رمضان)، تحيلها إلى مجرد كومة من الحديد الخردة، حتى لا تتمتع بشكل أو كيان واحد، مهما بلغت درجة وحدته، فقد كان شكلًا اسمه الجامعة العربية، حتى تلك الجامعة التي جنحت على الشط التونسي أصبحت «كهفة» تتغذى وتحيا فيها أعشاب البحر وطفيلياته.
•••
والكارثة أننا لا نرى هذا كله!
نعاني منه جميعًا ونشكو ونجأر منه، ولا نراه.
وتلك هي الكارثة.
لقد نجح المخطط الأميركي الإسرائيلي في خلق زوبعة رملية كالطوز أو كرياح الخماسين، أعمت عيوننا عن أن نرى، بالكاد أصبح الوضع لا يسمح لأي مِنَّا أن يرى إلا ما تحت قدميه، وإلا ما يجب عليه أن يؤديه غدًا.
أعمت عيون الأمة،
حتى عيون مثقفيها وشعرائها وكتَّابها؛
أولئك الذين كان مفروضًا أن يَعتلُوا صاريَ المركب، وبمناظيرهم الحدسية والقصرية الثاقبة يرَوْن إلى أين يتجه المركب، وأي الصخور في سبيله لأن يرتطم به، أعماق البحر من اليابسة، طريق الضياع من طريق السلام.
هؤلاء أيضًا أعماهم غبار العاصفة، فلم يعودوا يُبصرون، إلا أن يصرخوا أنهم لا يبصرون، وأن العمى قد أصابهم، وأن الرياح شديدة، وأن الجو عاصف، وأن الدنيا قد أظلمت … لا عمل لهم الآن في قصائدهم وأعمالهم وكتاباتهم إلا الصراخ كالأطفال، ورثاء النفس كالموتى حين يرثون أنفسهم أحياء، وإمَّا الترحم على ما فات، أو التبشير بالظلام والظلام القادم.
ومن أجل هذا،
فإن أي كتابة يتصدى بها الإنسان ليدرس أسباب ما نحن فيه، وأي مؤتمر أو حوار ينعقد لينقِّب في حياتنا ليعثر على أين ثُقبت السفينة وكيف أصبح هو الآخر أمرًا صعبًا، وكيف لمكفوفين أن يروا الباب حتى لو كان مفتوحًا على مصراعيه أمامهم؟
ولست أقول هذا يائسًا، لست أقوله لأجد لنفسي أو لغيري العذر، إنما أقوله لندرك جميعًا أننا أيضًا في سبيل البحث عن النجاة وفي سبيل عبور هذه الحقبة والخروج منها سالمين، في حاجة إلى أناس ينظفون أبصارهم وبصيرتهم جَيِّدًا، ويهزون رءوسهم هزًّا عنيفًا ليُسقطوا عنها الأفكار الصدئة والعفنة، والتي لم تعد تصلح للحقبة.
في حاجة إمَّا أن نعود نرى جَيِّدًا ومن جديد،
وإمَّا أن نيأس حقًّا ونكتب على جدران الزمن وصية للأجيال القادمة، من يعبر مِنَّا، نقول لهم فيها: إلى هنا توقفتْ رؤيتنا، ووصلنا إلى حافَة كوننا العربي المظلمة، وحل علينا الليل، وحللنا نحن على الليل، وأنتم يا جيلنا القادم سيحل عليكم الصباح وستكونون أنتم الصباح، وسترون أكثر وأبعد وأعمق، ومن فشلنا تستفيدون، ومن هزيمتنا تستمدون أسباب الانتصار القادم على أيديكم لا بد.
•••
أم كان — وهو في الحقيقة — نعمة؟!
إذن لماذا تحول — على أيدينا طبعًا — إلى نقمة؟