على هامش الحرائق النفطية
حين فاجأتنا محطات الإذاعة والصحف بأنباء الحريق الذي حدث في محطات البترول في الكويت، وأحسسنا هنا في القاهرة وكأن الحريق قد شب في صدر كل مِنَّا، فالحريق كان من الواضح أنه بفعل فاعل؛ وفاعل ممن تئويهم الكويت وتمنحهم العمل ولقمة العيش والوجود، وليس في القاهرة وحدها، أعتقد أن كل عربي من المحيط إلى الخليج قد شعر بغصة في حلقه، فالمال مال العرب جميعًا، حتى وإن كانوا بعيدين عن مصادره، والكارثة إذا أصابت بلدًا عربيًّا إنما في حقيقة أمرها تُصيب الأمة جمعاء.
إننا أمة مستهدفة محسودة.
في زياراتي الكثيرة حتى لأمريكا، كنت أحس بالأمريكان وهم يتحدثون عن العرب وبترول العرب بنبرة حسد واستكثار لا تُخطئها العين؛ فهم يستكثرون علينا هذه الثروة، ويستكثرون على بلادنا أن يتفجر من صحراواتها إكسير العصر؛ مصدر الطاقة الذي يعتمد عليه في كل أمر من أمور حياتهم.
وإذا كان هذا شعور الغرب، فالكويت أيضًا محسودة مِن قِبَل بعض الأنظمة العربية والإسلامية.
ليس على بترولها فقط، وعلى طريقتها شبه الاشتراكية في توزيع عوائد النفط بحيث نستطيع القول إن الشعب الكويتي كله بطريقة أو بأخرى قد ناله حظ وافر من عائدات البترول.
ولكن الحسد الأكبر سببه أن هذه العوائد البترولية الضخمة لم يصاحبها قيام حكومات دكتاتورية غاشمة تستولي على العائد وتتولى إنفاقه كما يحلو لها، أو أحيانًا كما يحلو لرئيسها، وإنما صاحب ذلك النماء المطَّرِد في الثروة نماءٌ مطَّرِدٌ أيضًا في الديمقراطية، وفي إشراك الشعب في كل أمر من أمور حياته، إلى درجة أن يصل فيها الأمر إلى حد أن يسحب مجلس الأمة الكويتي الثقة من وزير ويُقيله، وهو الأمر الذي لم يحدث في بلد عربي في أثناء كل الحقبة الأخيرة من هذا القرن، يُقيله رئيس الدولة أو يعَيِّنه، يطرده أو يُبقيه، يرفعه إلى أعلى عِلِّيِّين أو يَهْوي به إلى أسفل سافِلِين، هذا كله يصنعه رئيس الدولة، أمَّا أن يتولى نوَّاب الشعب هذا فهو أمر يضع الحكم والنظام الكويتي في درجة رفيعة من الحياة الديمقراطية.
وأعتقد أن هذه الدرجة هي المسئولة الأولى عن ضربة الحريق، وقبلها ضربة محاولة اغتيال سمو الأمير، والقنابل والمفرقعات. إنهم يريدون ليس ضرب الثروة فقط، وإنما يريدون أوَّلًا ضرب النظام الذي يجيد ويحسن استغلال الثروة، ويجيد ويحسن حكم المواطنين ويرعاهم، ويسمح لهم بحريات سياسية واسعة تكاد تصل إلى نفس الحريات التي يتمتع بها المواطن في أرض الدول الأوروبية ذات التقاليد العريقة في تاريخ ديمقراطيتها.
ذلك لأنه من خلال هذه الديمقراطية الحاكمة، استطاعت الكويت أن تتخذ مواقف أصيلة جديرة بشعبها، لا تتخذها عن خوف من اغتيال أو عبث أعوان ومخابرات، وإنما تتخذها لأنها الواجب والأصح وعين الصواب.
والهدف من كل هذا التخريب — كما هو واضح لكل ذي عينين — أن تغير الكويت من سياستها، وطالما نظامها هذا باقٍ، فسياسته لا بُدَّ باقية؛ ولذلك فالهدف في النهاية هو ضرب النظام الكويتي وإرعاب الكويتيين حتى يُؤْثِروا السلامة، ويسيروا — كما نقول في مصر — بجوار الحائط.
وهذا شيء أستطيع أن أؤكده — وأنا بعيد عن مُجريات الحوادث والأمور — أنه بالتأكيد لن يحدث طالما بقي في الكويت رجل أو امرأة؛
فالذي يذوق طعم العزة لا يمكن أن يستسلم للقهر،
والذي يذوق طعم الإرادة الحرة لا يمكن أن يرضى بقيود العبد.
ولن يرضى أي كويتي عن نظامه وعن الطريقة التي اختارها لحياته بديلًا. لقد جعلتني الظروف أتعرف إلى كثيرٍ من إخواني الكويتيين؛ رجال أعمال ومثقفين وفنانين، وأطباء ومهندسين وتجار، وحتى سائقين وعمال.
وكان يعجبني في أيٍّ منهم، مهما كان مركزه ومهما كان وضعه الاجتماعي، ذلك الاعتزاز العظيم بكويتيته، وذلك الانتماء الأكبر لقوميته العربية، ولعالمه الإسلامي الكبير، شعب من خِيرة أبناء هذه الأمة؛ ولهذا فهم مُستهدَفون. وقد حسب هؤلاء الذين يفكرون كالأطفال الأشرار، وأحيانًا كالمتعصبين المجانين أو متخلفي العقول، أن بضع قنابل هنا أو بضع حرائق هناك كفيلة بأن تغير مجرى النهر العظيم الذي يشكل شعب الكويت. وأنا لا أستطيع أن أرثي لهم؛ لأنهم مجانين وأطفال متخلفو العقول، ولكني أستطيع أن أؤكد أن دوام الحال من المُحال، وأن الكويت والأمة كلها لن تبقى مستهدفة وساكنة إلى أبد الآبدين؛ فإن الضربات التي لا تقتل تُقَوِّي وتشدد من عزيمة الأحياء. وهذه الضربات الموجهة إلى الكويت وإلى الفلسطينيين، وإلى كثير من مناطق العالم العربي، لن تجعل أيًّا منهم يركع، إنما هو سيتلقى، وبتلقيه سيقوى، إلى أن يحين الحين وننقض جميعًا على أُسِّ البلاء والشر، وتكون ضربتنا هي القاضية؛ ذلك لأننا شعب كبير لن تفنيه الضربات مهما كانت قوتها، قد توجعه قليلًا ولكنها أبدًا أبدًا لن تفنيه، بل هي التي ستنبهه دائمًا إلى مكامن الخطر، وتشحذ أسلحته للمقاومة، وتهيئه لكي يقف ويتحرك حركة رجل واحد ويضرب، وضربة الشعوب قاصمة لا تُبقي ولا تَذَر، وستكون ضربة شعبنا بإذن الله قاصمة لا تُبقي ولا تَذَر.
فيا إخواننا وأصدقاءنا في الكويت، لا يحزننكم هذا الحريق أو غيره؛ فمعناه الأوحد أن الكويت على حق، وأنها هي — وليس أعداؤها — على صواب. وصمود الشعب الكويتي وحكامه على هذا البلاء العابر، الدليل؛ أقوى دليل على أن هذه الأحداث تقوِّيه ولا تُضعفه، وتجعله أكثر إصرارًا على طريقه وطريقته، ولا تنحرف به أو تجعله يتردد أو يُؤْثِر جانب السلامة والاستسلام.
إننا جميعًا معكم، صحيح لا نملك لكم — الآن على الأقل — إلا قلوبنا نضعها بجوار قلوبكم، ولكن هذا وضع أبدًا لن يدوم، فللظالم جولة، وهذه جولته.
وغدًا ستكون جولتنا.
وهذا ليس كلام إنشاء وأدب، إنه الحقيقة التي يعلمنا التاريخ إياها؛ فدولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة. وهذا أيضًا ليس تلاعبًا بالألفاظ، إنه حكمة الجنس البشري صاغها في قانون، ولن يهرب أعداؤنا أبدًا من قوانين التاريخ.
فقوانين التاريخ لا ترحم.