تيبس المفاصل الفكرية والإرادية
لا أعرف ما هو سر ذلك الدقيق أو الغبار المثبط الذي يتسلل داخل وحول خلايا جسد الإنسان ومخه في بلادنا. قضيت معظم العام الماضي مسافرًا خارج مصر، وكنت أثناء السفر وأنا أنظر من نافذة الطائرة أو العربة أو القطار، وأنا سائر أحث الخطى في قلب شوارع لندن أو لوس أنجلوس أو وارسو أو حتى قرية أوروبية نائية ومتواضعة. كنت وأنا أرى الغابة أو النهر الصغير، وأنا أرى الشاب والفتاة والرجل والطفل والمرأة أو حتى العجوز، سائرين، نشيطين، مسرعين في الشارع، كنت أحس بعقلي ينشط ويعمل هو الآخر بكل ما يملك من أحصنة وكأنه تحول إلى معمل أفكار مزدحم، تتوالد فيه الأفكار بمعدل فكرة في كل دقيقة، وترتطم، وتتناغم، ثُمَّ في أحيان كثيرة أخرج باستنتاج أو بفكرة رائعة هائلة. كنت أحس أن الموحيات والأفكار وكأنها طيور النورس قادمة في أفواج تلو أفواج لبحيرة عقلي المليئة بالسمك والطعام تصفق بأجنحتها فرحًا، وتهفهف، وتصطخب، تزغرد وتلهو، وتتعابث وتتلاقح، تصعد وأصعد معها إلى السماء ثُمَّ تنقضُّ على الهدف في سرعة انقضاض البرق.
أكثر من عشر أفكار قصص تعنُّ لي في اليوم الواحد، مشاريع تغيِّر مجرى الحياة تمامًا، مغامرات فكرية ونفسية تتفجر في أعماقي، إقبال على الحياة منقطع النظير، خطط لآماد بعيدة وقريبة، تجميع لكل ما مر بي من ماضٍ ليصبح حاضرًا وواقعًا أراه، استحضار لكل آفاق المستقبل؛ ليلتقي الماضي والحاضر والآتي عند النقطة التي تركز وتقطر العمر، وتحصل منه على ثمرة، أو تراجع موقعه من الكون والحياة. حركة دائبة في اتجاه التحقيق الفوري لكل ما أراه يصلح من أفكار أو من مشاريع، إقدام لا حد له، اندفاع، أعقل اندفاع مجنون في اتجاه المستقبل وتحقيق الذات، وتطوير النزوة لتصبح اكتشافًا وخطة. باختصار حياة مليئة كاملة، أضرب فيها بأذرعي لتصل إلى أقصى المعمورة، وأحلِّق فيها بأفكاري لتشمل «مجرتنا» كلها، وتغوص أقدامي إلى أعمق أعماق تاريخ العالم، وترتفع لتحلِّق في القرن الخامس والعشرين، وربما الثلاثين.
هكذا أكون وأنا مسافر، وأنا في الخارج، وأنا بعيد، وأعود، وبقوة الاندفاع الذاتي أبقى هكذا للأيام الثلاثة الأولى، أو ربما للأسبوع الأول، مسافرًا لا أزال في الأكوان الخاصة والعامة، خلاقًا، قادرًا على تحقيق كل ما يجول في الخاطر.
ثُمَّ يبدأ الدقيق الناعم، الرمل الخفي الأصفر، التراب الذري المنطفئ، يبدأ يتسرب … في العادة كنت لا أحس ولا أعي بمقدمه، إنْ هو إلا هبوط تدريجي يبدأ يُصيب الهمة، تأتي الفكرة فأؤجلها إلى أن «يروق المزاج» في الليل، وفي الليل لا بُدَّ يأتي ما يؤجل روقان المزاج، يعنُّ لي المشروع فأقول: هذا ليس بمشروع عاجل، أو هذا ممكن تأجيله، وما فائدة أن يبدأ الإنسان شيئًا «مجنونًا» كهذا؟! الحياة سائرة وكل شيء ممكن أن يمضي هكذا سائرًا وحده إلى الأبد، يبدأ الغبار يفعل فعله، ويبدأ الإنسان «يطمئن» إلى الواقع، ثُمَّ «يركن» إليه، ثُمَّ «يتلاءم» معه، ويفقد الطموح إلى تغييره أو الإطاحة به، تبدأ الأفكار تقل ثُمَّ تندر ثُمَّ تتلاشى، وقوة الخلق تتضاءل، والكتابة التي كانت مبهجة ورائعة ومتلألئة كالهدف الساطع الجميل، تصبح عبئًا، ويووه! لسه ح أقعد على المكتب لأربع أو خمس ساعات!
ويئوب الإنسان في النهاية إلى حالة «الموت-الحياة»، تلك التي نحياها جميعًا.
•••
كنت أظن أن هذه حالتي الخاصة، ولكن وجدتها الظاهرة العامة المستشرية، هناك شيء ما حقيقي ومروِّع وخطير، ولكنه غير مرئي أو مسموع وقائم في حياتنا بيننا، ونزفره، ونعدي به بعضنا بعضًا، نرتديه ونركبه ونلبسه ونطعمه، شيء ما لستُ أدري كُنْهَه، ولكني أعرف تمامًا مفعوله، شيء مثبِّط أو كاسر للهمة، ومُخْمِد للطموح، ومُضِيع للهدف، وخانق لكل فكرة ومشروع، ومُشِل لأي إرادة، قائم وماثل في حياتنا. وهو ليس — كما يتصور البعض — خاصًّا بمصر وحدها، ولكنه الجو العام في مشرقنا العربي وغير العربي كله، شيء وكأنه «الأنزيم» المضاد للنشاط، وكأنه الطُّعم الواقي من العمل والتفكير، وكأنه قد أصبح الخاصية القومية التي تميِّز مرحلتنا «المجيدة» الحالية.
ما هو ذلك الشيء؟
أهو فقدان الهمة الفكرية القيادية الموحدة؟
أهو هذه الأعداد الهائلة من البشر التي معها يحب المواطن منها الإنسانية مجردة، ولكنه بالتأكيد يكره «الإنسان»، أو يكره هذه الكتل المتراصة من الإنسان. تخيل ذلك الكائن الراقي النادر، أرقى وأعظم وأجمل ما في الوجود، حين يتحول إلى مجرد رقم عشري تكتم أنفاسَه ملايين من أرقام عشرية أخرى، حبذا لو اختفى معظمها، أو اختُصر أو اندثر ليبقى للتفرد البشري قيمتُه وروعته ومجده.
أهي الشمس الحامية الساطعة التي تجعل الواقع شديد الإضاءة بكل ما فيه من بشاعة وقبح؟ بحيث ينعدم الجمال تمامًا أمام العين، وحين لا يرى الإنسان الوجود جميلًا، أو يراه قبيحًا، يتولى القبح أو انعدام الجمال إخماد حاسة الهمة والنزوة الخالقة لدى الإنسان؟ أهو الكسل الجماعي المسيطر، يُعدي كالأنفلونزا الآسيوية؟ وحين ترى الناس جميعًا كسالى أو متكاسلين، فأي مبادرة منك لا بُدَّ مصيرها الاختناق والإهمال.
والكسل الجماعي هذا في رأيي نقطة هامة؛ فإذا كان بعض الناس يعتنقون التفسير الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي للتاريخ، فأنا شخصيًّا أفسر مرحلتنا التاريخية الحالية بما يمكن أن أسميه «التفسير الكسلي للتاريخ» وللواقع أيضًا. كل شيء ممكن أن نفسره بالكسل، حتى استلقاء متفرجنا في مسرح أو سينما أو أمام التليفزيون «ليتفرج» على عمل فني عبيط يقهقه له قهقهات حنجرية جوفاء، سببه الكسل؛ كسلًا عن أن يقرأ كتابًا أو يشهد عملًا يُضْطر معه أن «يُعْمِل» عقله فيه.
بل حتى تسليم المرأة لنفسها أو تسليم المرأة للرجل؛ أحيانًا كثيرة لا يكون عن تحلل أو انحلال وإنما عن كسل أن يقاوم المرء أو المرأة؛ فيرتكب الزلل كسلًا.
أم يكون السبب أننا مطحونون تقديريًّا، سواء التقدير المادي أو الأدبي، بحيث يتساوى من يعمل بمن لا يعمل، وبحيث إن من يعمل ويعرق فعلًا ينال الفُتات، أم من يرشو أو يرتشي أو يتاجر حرامًا فهو — بكسل — يكسب الملايين؟ فتلك هي أكسل — وليس فقط أحرم — الوسائل للحصول على نفوذ. حتى كبار أغنيائنا لا يشكلون طبقة رأسمالية نشطة تبني صناعة أو تقيم مشاريع ضخمة تحتاج الدراسة والجهد، وإنما هي رأسمالية كسولة هدفها الربح من أكسل طريق؛ أي أحرم طريق.
أم هي المشاكل الصغيرة؛ الصغيرة التي تستحيل كل منها إلى مشكلة كبيرة؛ كبيرة حين لا تستطيع أن تجد لها حلًّا، وتتولى كذرَّات الدقيق أو الرمال الناعمة الترسب في مفاصلك الفكرية والنفسية لتحيلك في النهاية إلى ذلك الكائن الْمُقعَد إراديًّا أو الفاقد للإرادة كلية، الموكل إلى العناية الإلهية أن تحل لك المشاكل، في حين أن الله سبحانه قال: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ والحديث الشريف يقول: «اعقِلْها وتَوَكَّلْ»؛ أي افعل الواجب عليك من عمل أوَّلًا ثُمَّ اترك الباقي للمولى، بل كثيرًا ما نستعمل كلمة «الصبر» لنخفي بها الكسل، فنقول: اصبر على الشيء وكُلُّ شيء سيكون عال العال. آهٍ من ذلك الصبر الذي يحفل به تراثنا الفكري والشعبي. إنه ذلك العدو القاتل للإرادة والعزيمة … الصبر، ذلك الاستسلام المروض البغيض للمشاكل حتى يموت طموحك لحلها، ذلك الاعتماد المتهافت على «الزمن» لكي يحلها أو يحلك أنت وتحلل معه عزيمتك.
أفي تراث أي شعب في الدنيا مَثَل يقول: «الكسل أحلى مذاقًا من العسل» إلا ذلك التراث العظيم؛ تراثنا؟!
أم هذا كله، مرة واحدة، ومعًا، يكون ذلك الدقيق الرملي الناعم الذي يتسلل داخل وخارج وحول خلايا مخك وإرادتك وجسدك، ويُحيلنا إلى تلك «الأجولة» البشرية السمينة، تتحرك في بطء قاتل؛ اللاهدف واللاخطة واللاعجلة لتصنع في النهاية … لا شيء! وحياتك، لا شيء مطلقًا تصنع!