التلوث الذممي
هناك بعض أشياءَ أصبحتْ تَسترعِي انتباهي في الفترة الأخيرة، وقد أجد لها بعض التفسير هنا أو هناك، ولكن تفسيرها كظاهرة لا يزال يَجِلُّ الآنَ عن الوصف.
زمان، حيث بدأتُ أعمل في الحكومة، في المستشفيات الجامعية، وصحة مصر، و«حكيمباشي» المحافظة، وطبيب الترسانة، وما كان يُسَمَّى وقتَها «النظافة والتنظيم»؛ أي كنتُ أعمل داخل تلك الأجهزة الحكومية، بكل ما تراكم فيها من لوائح وقوانين، وفساد في بعض الأحيان، ولكن الشيء المؤكد، والذي أذكره تمامًا، هو أن الموظفين والرؤساء القائمين على هذه المصالح، لم يكونوا مجرد منفذين للوائح والقوانين، كان كل منهم في مكانه يمثل قيمة، أبسطها قيمة العدل مثلًا، فلم تكن تجد إلا في النادر موظفًا يظلم مواطنًا عن عمد أو يؤذيه عن عمد، ولم تكن تجد مصلحة حكومية مثلًا تجور على حق أحد من موظفيها أو على حق من حقوق المواطنين. كانت أجهزة حكم، هذا حقيقي، ولكنها في نفس الوقت أجهزة «عدالة» أيضًا. ولست أدري بالضبط كُنْه ما حدث لنا وبنا، لكني بدأت ألاحظ كثرة القضايا التي يرفعها المواطنين لاسترداد حقوقهم التي جارت عليها بعض الأجهزة في أحيانٍ أو نهبتها. كثرة القضايا التي يرفعها موظفون تخطتهم الترقية أو العلاوة، أو رُقِّيَ فوقَهم من هو دونهم منزلةً وقدرةً وكفاءةً. كان عمل كهذا كفيلًا أن يُقِيم الدنيا ويقعدها؛ لأن أحدًا لم يكن يتصور أن يقوم بالظلم جهاز حكومي، فما دام هو جهازًا حكوميًّا فهو بالضرورة جهاز عادل تمامًا في قراراته، ونادرًا نادرًا ما يظلم.
وليس هذا فقط هو كل ما كنتُ قد بدأت ألاحظه.
بدأت ألاحظ، ومنذ أوائل السبعينيات إلى الآن، أن بعض الموظفين المفروض أن يكونوا حامِينَ للعدل وللقانون، حراس الحق، هم أنفسهم بدءوا يصبحون المخالفين للقانون، المتحايلين عليه، المستغلين وظائفهم في السمسرة أو الإثراء غير المشروع أو الرشوة.
وليسوا موظفين من صغارهم الذين تدفعهم حاجتهم ورِقَّة حالهم إلى ارتكاب مثل هذه الأعمال. وأذكر في هذا المجال أني كنت مفتش أحد مكاتب الصحة الكائنة في حي شعبي كثير السكان، وأن بعض الحانوتية وصبيانهم جاءوني يقولون إن الكاتب الثاني في المكتب يفرض على أهالي المتوفين إتاوة قدرها اثنان من الجنيهات يأخذهما باسمي؛ أي باسم الطبيب. وأحضرت الكاتب الثاني وسألته عن الواقعة، فكان صريحًا جِدًّا ولم ينكر؛ إذ ذكر لي أنه يسكن في أحد أحواش الموتى، وأن لديه سبعة أولاد وبنات، وأن ماهيته لا تتعدى الأحد عشر جنيهًا؛ ولهذا هو مضطر أن يفرض هذه الضريبة على أهل الموتى وعلى شهادات الميلاد … وحين سألتُه: ولماذا يفرضها باسمي أنا وليس باسمه؟ قال: لأنني لو قلت لهم إنها لي فسوف لا يعطونني أكثر من بريزة أو ربع جنيه، أمَّا إذا قلت لهم إنها للطبيب فلن يعطوني أقل من جنيهين اثنين.
ورغم إشفاقي على الشاب وعائلته إلا أني نبهت عليه تنبيهًا قاطعًا بأن لا يأخذ نقودًا لا من أهل مولود ولا من أهل متوفًّى، على الأقل لا يأخذها باسمي أنا، هو حر أن يطلب منهم بقشيشًا، ولكن أن يأخذ باسمي؛ جريمة في حقي، إذا عرفت أنه قام به مرة أخرى، سأبلغ فيه النيابة فورًا.
ووعدني أنه لن يفعل.
ولكن الحانوتية جاءوني بعد هذا، وذكروا لي أنه لا يزال يتقاضى اثنين جنيه عن كل ميت باسمي وإلا أجَّل إصدار تصريح الدفن لليوم التالي. وكانت العادة قد جرت في مكاتب الصحة ألا يكشف الطبيب إلا على المتوفين المشكوك في سبب وفاتهم؛ مثل أن يكون صغيرًا في السن، أو مات فجأة بدون مرض سابق، أمَّا لو قدم أهل المتوفَّى روشتات علاج أو كان المتوفى فوق السبعين مثلًا؛ فالعادة جرت أن يعطيهم الكاتب التصريح بالدفن، ثُمَّ أمضي أنا التصريح في اليوم التالي.
وحين عرفت أن الكاتب الثاني لا يزال يفرض الإتاوة باسمي أحضرتُه إلى المكتب، وقلت له في مواجهته: لقد نبهتُ عليك قبل الآن ألا تتناول إتاوات باسمي، وقد وعدتَني بأن لا تفعل، وما دُمتَ قد عُدتَ إلى تكرارها، فسأبلغ عنك النيابة.
فإذا به يبتسم ابتسامة معوَجَّة ويقول لي: سيبك من حكاية النيابة دي، فأنت لا تستطيع أن تبلغ عني.
وحين سألته مندهشًا: لماذا؟
قال: لأنني جعلتك توقع على تصريح دفن، دسسته بين تصريحات الدفن التي توقعها في اليوم التالي، وهذا التصريح لرجل في كامل صحته وهو حيٌّ يُرزَق، فلن تستطيع أن تبلغ النيابة.
وغضبت تمامًا وقلت له: أتكون مرتشيًا وتهددني أيضًا؟
وأمسكت سماعة التليفون، وأبلغت وكيل نيابة الدرب الأحمر.
المضحك في الموضوع أن السيد وكيل النيابة ترك عملية التزوير (إذ كانت البيانات الأولى مكتوبة بخط الكاتب، وكانت معلومات عن جاره؛ بمعنى أنه كان يعرف أنه حيٌّ يُرزَق) ترك هذا كله، وأخذ يحقق معي في كيف أني لم أكشف على المتوفَّى وصرحت بدفنه باعتباره فوق السبعين، وباعتباره «شيخوخة بدون جنون».
وكان جزائي أكبر من جزاء الكاتب، ومن يومها قررت أن أستقيل من صحة مصر وأبحث لي عن عمل آخر ليس فيه إتاوات أو رشاوى أو شبهات.
•••
أتذكر هذا كله لأوضح أن حكاية تقاضي رشوة أو عمولة كانت في الخمسينيات جريمة كبرى، حتى لو صدرتْ عن موظف صغير، فما بالك وقد أصبحت اليوم ضريبة على صاحب الحاجة، سواء كانت تصريحًا أو ورقًا أو جمارك أو رد نقود أو أي شيء يخطر على البال. على صاحب الحاجة أن يقوم بدفعها عيني عينك وإلا توقف ورَقُه. وأيضًا ليس هذا هو اللافت للنظر؛ فاللافت للنظر حقًّا أن الذين أصبحوا يختلسون أو يرتشون أو يسمسرون أناسٌ في قمة السلم الوظيفي والاجتماعي؛ أناس مبسوطون، ولا يرتشون ليأكلوا أو ليعلموا أولادهم أو يكسوهم، وإنما يرتشون بمئات الآلاف أو الملايين.
ولا يفعل هذا الجهلاء منهم فقط، وإنما يفعلها الكبار، بل وبعض العلماء وأساتذة جامعات، ووكلاء وزارات، ووزراء وموظفون كبار جِدًّا. وهو شيء كان مستحيل الحدوث في الخمسينيات أو الستينيات، وبدأ على استحياء في أوائل السبعينيات، ثُمَّ استفحل حتى وجدنا أستاذًا جامعيًّا وعالمًا وغنيًّا يزرع الخَشْخاش الذي يُستخرَج منه الأفيون والهيروين وسلسلة طويلة أخرى من المخدِّرات، وأنه هو وصاحب الملايين كان يكسب من الزرعة الواحدة ملايين أكثر.
هنا لا بُدَّ نتوقف، ونتوقف طويلًا؛ فالمسألة ليست مسألة نزوة عابرة أو ضعفًا بشريًّا يعتري هذا المواطن أو المسئول أو الثَّرِي.
وأن توجد في مجالات الاقتصاد والصناعة والجمارك والعلوم، معناها أنها على وجه التقريب موجودة في كل مصالح الدولة التي لها احتكاك بالجمهور، وحتى تلك التي ليس لها أي احتكاك.
من أول بيوت الخبرة إلى شراء الطائرات إلى إقامة المشاريع إلى صرف الاعتمادات.
المسألة أصبحت ما يسمونه «ظاهرة».
بمعنى أن الضمير العام قد استنام إليها، ولم يعُد يَرى فيها جريمة كبرى، إنما اخترع لها أسماء غريبة مثل: فَتَّحْ مُخَّك، ما ترش يا أخي، شَخْشَخ جيبك، وهكذا …
وحتى لو وُجِد الأمر على هذا الوضع، لما شَكَّل خطرًا، ما دام الضمير العام للمجتمع ككل لا يزال ينظر إلى تلك الأعمال والجرائم على أنها فضائح إذا وقعتْ من أحد، ومن «وقع» تكثر السكاكين التي تنهال عليه حتى تسيل كل دمائه.
إن ما أعتقد أنه قد حدث، أن ثمة تلوثًا قيميًّا، بالضبط مثل التلوث الجوي والمائي، قد حدث في فترة الانفلات التام السبعينية؛ بحيث إنه، حتى أولئك الناس النظيفون تمامًا، أصحاب الضمائر الحية تمامًا، لم يعودوا ينظرون بالاستنكار المفجِع الواجب إلى حدوث شيء كهذا.
وأصبح النموذج الأمثل للاغتناء هو أن «تضرب» من موقعك الوظيفي، أو غير الوظيفي، «ضربة» تصبح بعدها مليونيرًا! وتكون هي الضربة. والخطوة التالية أن تهرِّب نتائج تلك الضربة إلى الخارج على هيئةِ عُملة صَعْبة، ثُمَّ إذا وَجدْتَ الأمور قد تأزَّمَتْ تهرب أنت نفسك. ولو كان ثمة حكم قد صار عليك في صباح يوم الهروب «فالفلوس» تمشِّي كل حاجة، وتزوِّر لك أي جواز وأي تأشيرة. كل ما في الأمر أن ليس سوى «تفتيح مخك» الفتحة المناسبة. وكما ذكر لي مرة أحد كبار أثرياء مصر، أن لكل إنسان في العالم، مهما بدا مستقيمًا شريفًا، ثمنًا، وتفتيح المخ الرشوة والاختلاس والاتِّجار في المخدِّرات والأعمال غير المشروعة إلى حدٍّ ما.
والطريقة الوحيدة لإزالة هذ التلوث الذِّمَمِيِّ، هو سَلُّ سيف القانون، ينال وبالعقوبات المشددة التي لا رحمة فيها ليس إلا عملية التقدير المناسب لهذا الثمن، بحيث حين يذكر، يشل مراكز التردد أو الخوف في النفس البشرية، ويجعل صاحبها يقدم على العمل الخاطئ وكأنه لا غبار عليه ما دام سيُدِرُّ كل تلك الكمية من النقود.
أجل.
حدث لنا نوع من التلوث الذِّمَمِيِّ.
ولم ينقذنا منه سوى مجيء مبارك إلى الحكم، وعدد من القضايا الهامة التي تم فيها كشف ديناصورات الرشوة والعمولة واختلاسات المال العام.
هذه القضايا قد هبطت حدة حمى الجرائم، ولا هوادة، كل من يقع تحت طائلته، وحتى كل من لا يقع تحت طائلته. وإذا كنت شخصيًّا لا أحبذ أي إجراءات استثنائية يُقضى فيها دون محاكمة؛ فالإجراءات الاستثنائية الوحيدة التي لا تزعجني أبدًا هي تلك التي يقوم بها المدعي الاشتراكي ويُصادر بها الأموال الحرام التي يصعب إثبات مصدرها الملوث.
ولنلتفَّ جميعًا حول القانون والقضاة، بكل حماسنا نؤيده ونحميه؛ فهو يحمينا، وحمايته لنا هي حماية، ليس فقط لأجيالنا الحالية التي تلوثت ذمم كثيرة منها، وإنما — وهذا هو الأهم — لأجيالنا الشابة الصاعدة على سلالمَ ملوَّثة، لا تستنكر أن تلوث أو تتلوث، وبدلًا من أن يكون شعار كل شاب أنا «وقرشيني» ومِن بعدنا الطوفان، يعود الوطن ومصلحته العليا، وتعود الغيرية والوطنية، ويعود الانتماء إلى بلد يعرف الشاب تمامًا أنها لن تسرقه، ولن تفرط في حقه، وسترعاه، وسترعى أولاده من بعده؛ فجزء كبير من عدم الانتماء السائد لدى الشباب سببه أن هؤلاء الشباب يتصورون أن مصر ليست ملكهم، إنما هي ملك من يحكمون أجهزتها ويأخذون أموالها، فما لهم هم بعد هذا ببلد لا يملكونه، ولا يعاقَب فيها القائمون على اختلاسه وبَعْثَرة نقوده.
إننا يجب أن نضع قضية التلوث الذممي الذي حدث لنا في أخطر موقع من اهتماماتنا؛ لأننا إذا نقينا بالعدالة والقانون جَوَّنا الذممي، فسوف تصبح شوارعنا نفسها أكثر نظافة، ومشاريعنا أكثر عائدًا، وإنساننا أكثر قدرة على التضحية من أجل يومنا وغدنا.