باب الخَلْق وباب العدالة
الداخل إلى محكمة باب الخَلْق كالخارج منها، مذهول مذهول مذهول. أعتقد أني أكتب لقرَّاء معظمهم لم يدخل بعدُ — وأرجو ألا يدخل — محكمة؛ فالدخول إلى المحاكم، ظالمًا أو مظلومًا، شاكيًا أو مشكوًّا في حقه، مقبوضًا عليه أو طالبَ قَبضٍ على أحد؛ الدخول في حد ذاته مِحْنة؛ فالمبنى — مبنى المحكمة — كمضمونها، سيرة العدالة المصرية الشديدة الازدحام، القادمة، إذا قدمتْ، ببطء القطار القَشَّاش، الذي يقف على كل محطة لها اسم، وحتى على كل محطة بلا اسم، أو في النوبة القادمة عبر السنين الآتية الطويلة أن يُطلَق عليها اسم. الدخول إلى المحكمة في حد ذاته محنة، تكاد تُذهِب، خاصة حقائقها الأولى، أي عقل!
هكذا دخلت …
مروَّعًا، زائغ العينين، أنظر إلى ذات اليمين فأجد أجساد نساء مكوَّمة في قضايا آداب، وإلى ذات اليسار أجساد رجال موغلة في قيدها مع أجساد رجال، الأصوات عالية بحيث إنك لو أردتَ حتى أن تهمس إلى نفسك أو رجالك، صرختَ، أو لا بُدَّ أن تصرخ. فهنا ليس فقط مكان المحاكمة العلن، إنما هو أيضًا مكان الحقيقة الصارخة العلن، والاتهام الزاعق الوضوح، والدفاع — إن وُجِد — الموغل في الاستغاثة.
إيه يا محكمة باب الخلق!
فعلًا كانت أول مرة أدخلها، أو على الإطلاق أدخل أية محكمة، فحتى حين قُبض عليَّ عام ١٩٥٤م بتهمة محاولة قلب نظام الحكم (ولا محاولة ولا هباب، كل ما في الأمر كانت هي الطريق الشرعي الوحيد للاعتقال).
اعتُقلت من الباب إلى الباب، باب بيتنا في شارع سعد زغلول آنذاك إلى باب معتقل القلعة، دون المرور بأية محاكمة أو محاكم. كل ما في الأمر أني مرة أو مرتين جيء بي والحديد في يدي وحدي مرة، ومرة ثانية في صحبة الكاتب «الشاب» أيامها الأستاذ عبد الله الطوخي. وكان مجرد مرور شكلي لا بُدَّ منه؛ ليفكوا «الكلابش» من كلينا؛ فأذهب أنا إلى نيابة أمن الدولة، ويذهب هو — كالشاطر — لمحكمة الجنايات لكي يندب خمس سنوات أو لا أدري كم، وأتوجه أنا كالجدع محكومًا عليَّ باعتقالٍ لا أدري مَداه.
فعلًا، أول مرة بإرادتي المطلقة وخبرتي أدخل محكمة باب الخلق، زبونًا عاديًّا طالب حق، رافعًا قضية على وزير الثقافة، مطالبًا بنصف مليون جنيه تعويضًا.
وكائنًا ما كنت، ظالمًا أو طالب تعويض، شاكيًا أم مشكوًّا في حقه؛ فالمحكمة هي المحكمة، قديمة قدم الظلم في مصر، مزدحمة تتكوم فيها الأجساد ازدحام الحياة في القاهرة، مكانًا تكرهه وتحس أنه هو الآخر يكرهك، وأهم وأسرع شيء تفكر أن تفعلَه إذا دخلتَه، أن تخرج سالمًا إذا أمكن بأسرع مما دخلْتَ، مُعاهدًا نفسك ألف مرة ومُقْسِمًا أغلظ الأيمان أنك في حياتك لن تعود.
طوال العام الماضي بأكمله، كان أول دخول لي لتلك المحكمة، وكان أول تردد، وكانت جلسات الدائرة تُعقَدُ دائمًا يوم الخميس. ومنذ أن رَفعتُ القضية كان كلَّ خميس، تُعقد فيه الجلسة، يمثل يومًا هامًّا في حياتي، وفي حياة بضعة أشخاص قريبين لي جِدًّا وبضعة أصدقاء؛ ذلك أني كنتُ قد قامرتُ بكل ما أملك، على تلك القضية، فلم تكن مجرد قضية تعويض رفعتُها على وزيرٍ أهانني عَلنًا وفي مقالٍ مكتوب، وإنما كانت تمثل بالنسبة لي، قضيةَ أكون أو لا أكون بالمرَّة؛ أنْ أكتبَ في مصر أو أتركها تمامًا وأمضي إلى بلاد الله لخلق الله. وكنتُ في كل جلسة أحضرها أو لا أحضرها، أتوقع، لا أن يتحدد فيها مستقبل كل ما هو قادم في حياتي، وإنما على الأقل كنت متوقعًا، بعد طول إجراءات، أنه ذات خميس، بعُد أو اقترب، سيتحدد بطريقة ما هذا المصير.
أجلْ، فهي لم تكن قضية خاصة، أهانني بها شخص خاص، وأنها هكذا صممها القدر، وكأنه كان هو واجدها وكاتبها قد أصبحتْ، بالنسبة لي، قضيةَ أنْ أُوجَد أو لا أُوجَد بالمرَّة.
وقد يلومني الآن كثيرون على هذا الشعور، وقد يرَوْن فيه نَزَقًا وطَيْشًا وقلة تَبَصُّر؛ إذ كيف يَرهن إنسان مستقبله القادم كله، على قضية تعويض، قد يُحكَم فيها أو لا يُحكَم، وقد يكسبها أو يخسرها، فهل يُعْقَل أن يُنْهِيَ شخص حياته ودوره ومستقبله الأدبي والوجودي كله ويعلقه، بكسب أو خسران قضية؟! إنها مسألة تبدو، وكأنها الجنون بعينه، ولكنها في رأيي، بل في حقيقة الأمر إذا تبيناه، ليست مجرد قضية تعويض أخرى، أو مظلوم آخر لجأ إلى القضاء لينصفه، إنما هي كانت قد تبلورتْ وأصبحتْ، مثلما يقول هاملت شكسبير، قضيةَ أنْ تكون أو لا تكون. إنها بالضبط، كما نَطَق بها «الزعيم المعلم» فتحي رضوان، وأنا واقف على أطراف أصابعي، في تلك القاعة الصغيرة المزدحمة التي قرر القدَر أن تكون محل ومحط الدائرة ٣٢، واقف أستمع إلى نفسي وإليه، وإلى الآخرين. قضية هي الأولى، ولا بُدَّ أن تكون الأخيرة، من نوعها في هذا المجال. وعلى أساس ما سيدور فيها وعلى نتيجته، وبِناءً عليها أيضًا سيتقرر مستقبلُ أن أكتبَ أو أَمْضِيَ إلى حال سبيلي، أن يكون للكتابة في حياتي وجودٌ ومعنًى أوْ ألَّا تكونَ لحياتي نفسها وذاتها أي وجود وأي معنًى.
كنتُ أجرِّب، هكذا مباشرة ووجهًا لوجهٍ، الظلم صارخًا وواضحًا وبلا أي لبس أو تَخَفٍّ، وفي منتهى وَضَح النَّهار، وإمَّا أن أمضي في مواجهته للنهاية وأروح ضحيته؛ مثلما يُطلَق النار على إنسان وتصيبه الطلقة في مَقْتل، أو تذهب الطلقة هَباءً ويُكتَب لي حُسن البقاء.
دروب ومسالك وحيطان عالية شوهاء قَبَّحها الزمن، وشَوَّهتْ سقفَها العاليَ صرخاتُ المستغيثين ممن لحقهم من الظلم نفسه أحيانًا، وأحيانًا مخافة ظُلم سوف يَلْحق.
العدالة في مصر مكانها عتيق مُشَوَّه، خَرْبَشَتْه أظافر تستغيث من الضَّيْم، أو هي فاعلَتُه في أحيانٍ، حيطان وأسقف وقضبان، وأكوام أُناس مبعثَرين في الأنحاء، بَعثَرَتْهم أكوامٌ فوق أكوام سلطات عادلة أو ظالمة أو جيوش للشر خَفِيَّة، نفس جيوش الشر والفقر التي هَلْهَلتْ أثوابَهم، وسَوَّدت أوجههم، ورَسمتْ على الملامح تجاعيد معاناة عميقة ومزمنة، وبالغة الغلظ والقسوة. كان وزير الثقافة في لحظة تَهَوُّر، قد صفع معنى الكاتب فيَّ وكبرياءه واسمه، وناله بسوء لا يمحوه أبدًا إلا إجراءٌ رادعٌ عادل يُعيد للكاتب كل ما انفرط من عِقْدِ وُجوده وكيانه، ويرفع عن رأسه ووجهه كل ما أصابه من أوحال.
فجأة وأنا وسط وجودي ككاتب، ومزاولة ذلك الوجود الشرعي والقانوني والبشري فجأة اغترف الوزير أقرب كومة طين وأوساخ رآها وقذفني بها، علنًا، وأمام أعين ملايين من الناس قرأتُ، أو سمعت بما كتبه وقرأه الآخرون. في مصر المعاصرة المتحضرة وقف وزير ثقافة يردُّ على كاتبٍ يطالب بأهمية أن يتثقف الناس فيقول عنه: ذلك الكاتب المغرور، ذو القلم المغرور والمسعور، وصاحب العقل البلوري، ابن مصر الذي من المُحال أن يكون قد رَضع لبنها الحلال؛ إذ لا بُدَّ أنه لقيط مصرية رضع لبنًا حرامًا، وسب شعبًا، وأهان قواته المسلحة، وضَرَّج كرامة الناس بالأوحال.
وكل هذا لأنه طالب بضرورة وأهمية أن يتثقف الناس.
حدث هذا من عام مضى، على وجه التحديد في شهر يوليو من عام ١٩٨٤م. وهالني ما حدث، وحيرني ما يجب عليَّ أن أفعله. وتصورت أن دمي قد سُفح من الدولة وأُبيح وأُهدر، وأن لم يعُد أمامي من مُنصِف ومُنقِذ لنفسي، ولكرامتي، ولقدرتي حتى على أن أعود أمسك بالقلم، وأكتب لهؤلاء الناس الذي أُهِنْتُ أمامَهم، إلا أن ألجأ للقضاء المصري، أو بالأصح للسلطة القضائية، بعد أن أَجْهزَتْ — أو حاولَتْ — السلطةُ التنفيذية، بكل أدواتها وجبروتها، أن تمسح وجودي من الوجود.
وصحيح أن أُناسًا كثيرين، مثقفين وعاديين هَبُّوا يرفضون هذا ويَشْجُبونه ويدافعون عني، ويتهمون الوزير الجائر بمختلف الأوصاف والتهم، ولكن الشيء الذي كان مُحالًا أن يقع قد وقع، والضرر كان قد حدث، ولم تكن هناك قوة في الأرض تزيله أو ترفعه إلا أن يعتذر الوزير علنًا، اعتذارًا صريحًا لا لبس فيه، مثلما فعل وزير مجلس الشعب، يرد للمثقفين والكُتَّاب جميعًا اعتبارهم، كما طالب وألح أستاذ الجيل الصحفي الجليل الأستاذ جلال الدين الحمامصي، والكثيرون غيره.
إمَّا هذا وإمَّا أن أضع مصير كرامتي كلها وكرامة الثقافة، وقد أصبحت في الخندق معي، أمام القضاء المصري، يرى ما يراه في أمرها وأمري.
ولم يعتذر الوزير …
وأصر ألا يعتذر عما كان واضحًا لكل ذي عينين، بل حتى لِلَّذي بلا عينين، أنه خطأ فاحش وواضح ولا سبيل أبدًا لإنكاره، ويُعتبر السكوت عنه تسليمًا فعلًا بكل ما جاء في مقالة الوزير من أوصاف.
وكان لا بُدَّ من اللجوء إلى القضاء المدني.
ذلك أن اللجوء إلى القضاء الجنائي، الذي كان الحل الطبيعي الأوحد، كان يحتِّم رفع الحصانة عن الوزير كنائب في البرلمان؛ إذ لا يوجد للأسف في القانون المصري طريقة محددة لمحاكمة ومحاسبة الوزير إذا أخطأ، أو أحيانًا إذا أجرم، لا طريقة إدارية ولا طريقة قضائية، وإنما هي مسألة متروكة لمجلس الشعب، أقصى أقصاها، أن يسحب الثقة من هذا الوزير.
وكيف يرفع حزب الأغلبية، وكيف ترفع أغلبية ذلك الحزب، الثقةَ عن وزيرها، وكل عمل الأغلبية، مهما كثرت فيها النيات الحسنة، أن تدافع عن نفسها بالحق أو بالباطل، وأن تمنع أي أذًى أو تجريح، بل إدانة، لوزير أو نائب من نوابها.
وهكذا وجدتُ نفسي، فجأة دون أن أدري كيف، أقف في طابور المواطنين الطويل الذي يُسَمَّى طابور المظلومين، الطالبين من العدالة والقضاء إنصافهم.
وما أغرب وأعتى الإحساس أنك مظلوم، وأن ظلمك واضح، وأنك لا تملك أن تستخلص حقك بيديك من ظالمك، وإنما على أُناس آخرين! سلطة بأكملها قائمة اسمها السلطة القضائية، مهمتها أن ترفع هذا الظلم وأن تُنصفك.
وأنت تدخل مع هذا الطابور مبنى محكمة باب الخَلْق، وترى جدرانها الداخلية المحطمة المهدَّمة، وترى الأكوام البشرية المجرمة والمجرحة، وترى جيوشًا من خلق الله المساكين واقفين مثلك أيضًا في انتظار العدالة أو حتى يوم العدالة، تحس أنك انتقلتَ فجأة من حيث كنتَ تحيا على سطح الأرض إلى خندق سفلي، تَشْرَئِبُّ معهم جميعًا إلى كوَّة النور الوحيدة، القائمة في سقف هذا المبنى كله، كوَّة الأمل في قاضٍ منصف عادل، يطبق قانون العدل وينصفك.
وبالضبط كان هذا هو شعوري وأنا جالس في القاعة ١٦ من هذا المبنى، ومعي مراسل وكالة الأنباء الفرنسية، وبضعة صحفيين مصريين، وكُتَّاب شبان أصدقاء؛ مثل محمد المخزنجي ومحمود الورداني ويوسف القعيد، ومحامين رجال وشباب أتَوْا نيابةً عن جماعات حقوق الإنسان، والأدباء الشباب، والمحامين الشباب أيضًا، ونحن جميعًا يلمنا شعور مشترك؛ أن يتحقق لنا العدل.
أجل العدل.
ما أعذبَ وأروعَ تلك الكلمة! خاصةً حين لا يكتبها كاتب ثائر أو مصلح اجتماعي يريد تطبيقها، ولكن تحس أنت شخصيًّا بحتميتها وضرورتها، وأن مصيرك معلَّق بها، حياتك نفسها أو موتك، وجودك أو عدمك، مُعلَّق بها.
كانت الجلسة الحاسمة يوم الخميس ٤ إبريل، تلك التي سوف تُحجَز فيها القضية بعد ذلك للحكم وسينتهي يومَها كلُّ شيء.
حرصت على الحضور المبكر، ومع هذا وصلتُ المحكمة في التاسعة والنصف، ولم أجد أن محاميَّ الكبير الأستاذ عبد العزيز محمد قد حضر بعدُ؛ ذلك أنه في المبنى العتيد، حيث الكل، جُناة ومجني عليهم، وأطراف نزاع، لا يوجد سليم الأعصاب والتقدير سوى أهل المهنة أنفسهم، وعلى رأسهم المحامون. مبكرًا تأتي أنت ويأتون هم في الوقت المناسب تمامًا، ملهوف الانتظار تبقى أنت، ثابتو الأعصاب يكونون هم، بالضبط كما في المستشفى حيث الجميع — من مرضى وأهالي مرضى — هَلِعون، والوحيدون المحكومو الأعصاب هم الأطباء والجراحون.
ولكني في حضوري المبكر هذا وجدتُ مفاجأة.
كان قبلي قد حضر ذلك الرجل المهيب الأستاذ فتحي رضوان، في السبعين هو، ولكن نضارة وجهه تفضح شباب إرادة وتورد عظيمة وقوة داخلية قاهرة لا يمنحها المولى إلا لغلاة الصالحين والأولياء.
ما كدتُ أرى وجهه حتى أحسستُ كأني الغريق قد وَجد طَوْق النجاة.
كان متطوعًا، دون أن أتذكر إخباره، وأزوده بمذكرات الأستاذ عبد العزيز محمد. والدكتور جلال رجب قد حضر، وجلس في الاستراحة، تحوطه تلك الهالة التي كانت دائمًا تحيطه في عيني، مذ كنتُ طالبًا، وكنتُ محبًّا شديد الولاء لمصر الفتاة وللحزب الوطني، وكان هو زعيمي الذي يُبهرني في الاجتماعات حضورُه، تُلهبني خُطَبُه وكلماته.
هذه المرة هو محامٍ.
إنه غاية ما أستحق من تكريم.
وحين رأى المستشار محمد جمال مصطفى، رئيس الدائرة، أن عدد الحاضرين كبير، وأن القضية تبدو وكأنها أهم قضايا اليوم أجَّل النظر فيها إلى آخر الجلسة.
وجاءت اللحظة.
نُودِيَ علينا …
وازدحمنا أمام الحاجز الفاصل بيننا وبين المستشار والقضاة وأمين سر الجلسة.
ومن جديد رحتُ أتفحَّص الوجوه التي طالما حاولتُ أن أستجمع فراستي وكل خبرتي لأتبينَ مِن أيِّ مَعدِن صُنع هؤلاء المستشارون والقضاة.
من جديد رحتُ أرقب المستشار محمد جمال مصطفى؛ ذلك الذي ربما لا يعرف أن مصيري ككاتب، أو حتى كمواطن سيُقيم مصر أو يتركها ليذهب إلى بلاد الله لخلق الله، قد أصبح في يده.
الرجل رئيس المحكمة، رأس القعدة، حتى منظاره ثابت فوق أنفه كميزان العدالة لا ينطق بشيء ولا ينم عن هوًى.
عضو اليمين الأستاذ رمضان عوض، شاب رصين الملامح، ترى الآلاف مثله في النوادي والاحتفالات، ولكنه هنا في مجلس القاضي مصري من نوع فريد آخر، حتى شبابه من نوع فريد آخر.
عضو اليسار الأستاذ مدحت قصري، صغير السن، ولكنه لأمرٍ ما كبير الإرادة والعزم. لكأنهم نَفَرٌ آخرُ غير هؤلاء الذين تركب معهم التاكسي، أو يجلسون معك في الحفلات والاحتفالات. نفر آخر غير المصريين المبعثرين المزدحمين في أنحاء الوطن، مهما بلغتْ درجات مناصبهم وتخصصاتهم.
يا سلام! ما أروع الجد المصري حين يتلبس ملامح أولئك الجنود المجهولين الذي يشكلون الأعمدة السليمة التي لا يزال مجتمعنا عليها قائمًا! وبالذات ذلك الجد الذي تراه على وجوه المستشارين والقضاة؛ فهو جد عادل، لا يَنطِق عن الهوى. أقسم أني مِن فَرْط ما رأيتُ على ملامح رئيس المحكمة وعضوَيْها أني قلتُ لنفسي:
لو جاء حكم هؤلاء السادة ضدي، لَمَا انزعجتُ كثيرًا؛ لإيماني أنهم لا يمكن إلا أن يكون حكمهم مبنيًّا على أسس عادلة لا يرقَى إليها الشك.
وقف فتحي رضوان، أَسَد مصر مُذْ دخل الحركة الوطنية لأول مرة، ومحاميها، واستهل مرافعته بقوله:
لقد أُنشِئَت الصحافة المصرية منذ أكثر من مِائة وخمسة عشر عامًا، وأُنشئت الوزارة المصرية منذ خمسة وتسعين عامًا، أي بعد الصحافة بربع قرن. ومنذ أن أُنشئت الصحافة وقامت السلطة التنفيذية لم يحدث مُطلَقًا أنْ قَذَفَ وزير في حق كاتب أو صحفي حتى حين كان بعض الوزراء كُتَّابًا مثل الدكتور محمد حسين هيكل والدكتور طه حسين. هذه أول مرة في تاريخ مصر السياسي والصحفي يحدث هذا! ومن وزير ثقافة لم يعمل بالكتابة وليس له بها علاقة.
ثُمَّ مضى يشرح الأبعاد البشعة التي أوردها الوزير في مقالته، والجميع حتى محامي الوزير الدكتور محمد عبد الله، مصغي السمع، وكأنهم يستمعون إلى ترنيمة عدالة يُغنيها أعذبُ صوت.
ثُمَّ تلاه ذلك الرجل الهادئ الباسم، الممتع تمامًا في جلساته الخاصة وعلاقاته بزملائه المحامين ومعارفه جميعًا، ولكنه هنا أمام المنصة خرج من جو الأدب الدبلوماسي المعهود، وانطلق وكأن لا قوة تستطيع إيقافه.
وأُجلت القضية للحكم في جلسة ٢٠ من الشهر.
وفي آخر النهار تبينتُ أن يوم ٢٠ سيكون إجازة، أو لن يكون باقيًا على آخر جلسة في الموسم القضائي الحالي إلا يوم خميس واحد تالٍ للعيد هو ٢٧ يونيو.
وفي ذلك الخميس ذهبت مع أن المفروض كان ألا أذهب، وجلس معي نفر من الأصدقاء المحامين الذين أعرفهم، ومحامين لا أعرفهم؛ إذ كان شغفهم بما سيتمخض عنه قرار المحكمة قد استبدَّ بهم إلى درجة أنْ بقوا معي إلى السادسة مساءً دون غداء، بينما المحكمة منعقدة تتداول.
وفي السادسة والربع، وبعد سبع ساعات من المداولات، رُفِعَت الجلسة.
وكان الحكم لصالحي.
وليس المهم ما تمخض عنه الحكم من تعويضٍ قدره عشرون ألف جنيه، إنما المهم أنه في حيثيات الحكم قالت المحكمة: إن الضرر الأدبي الذي لحق بي لا يمكن تقديره بمال، وإنما التعويض قُدِّرَ وكأنه تعويض — رغم ضخامته — رمزي مَحْض. ويا لذلك الإحساس الذي شملني وأنا أسمع الحكم يمليه أمين السر على الصحفيين، بالإحساس بالعدل يأتي بعد ظلم فادح! يا للإحساس بردِّ الكرامة والاعتبار على أيدٍ عادلة مطلقة، تَزِن كل شيء بميزان من ذهب! وأنا واقف من بعيد أرقب هيئة المحكمة وهي تهبط السلم التاريخي الذي كثيرًا ما نراه بأفلام السينما، وأرى وجوه هؤلاء المصريين الغلابة حافلة بالرضاء عن نفسها، وكأن أعماقها ممتلئة بشعور من قام بأداء واجبه وإرضاء ضميره إلى حد الثمالة.
وأنا واقف أراقبهم يهبطون في موكبهم المجيد دوَّت في القاعة السفلى زغرودة من امرأة نالت العدلَ هي الأخرى. ووجدتُ نفسي فجأة أكاد أن أجهش بالبكاء، بل فعلًا فَرَّت من عيني دمعة.