في صالون العقاد
طويتُ الصفحة الأخيرة من كتاب «في صالون العقاد» لكاتبنا الفذ أنيس منصور، وأنا أحس أني أطوي صفحة عصر مجيد رائع من تاريخ الحضارة المصرية؛ فالكتاب بحر متلاطم الأمواج، ما إن يندفع فيه زورقُك حتى تفقد القدرة على ضبط اتجاهك، ويُبحر بك بحر أنيس منصور في كل اتجاه.
أقول من «تاريخ الحضارة المصرية»؛ لأنه كان هناك وقت في مصر كانت فيه حركة ثقافية عامرة، محدودة حقيقة، وتحيا في معظمها على أصداء الحادث في أوروبا، ولكنها عامرة بالجدل والصخب والأعمدة أيضًا. وإلى عمود الأستاذ العقاد ذهب أنيس منصور فتًى قادمًا من المنصورة يتمتع بخاصية غريبة؛ هي خاصية «الأول»؛ إذ كان أنيس منصور هو «الأول» على فصله باستمرار، والأوائل — واسمحوا لمجرِّبها بضعَ مرات — حين يتذوقون طعم الأولية يدمنونه؛ فهم لا يتنازلون أبدًا عن مقاعدهم بعد هذا بسهولة، وصعب جِدًّا على طالب في ثانوي أن يختار «الفلسفة» مادة، ليس فقط للدراسة في الجامعة ولكنها مادة عمر وحياة، وأن يفعل طالب ثانوي هذا، ويختار مادة صعبة تمامًا مثل الفلسفة يدُلُّك على مدَى الثقة بالنفس التي يتمتع بها هذا الطالب. وقد «اختار» أنيس منصور مادة الفلسفة، و«اختار» أيضًا مادة العقاد؛ فدخل الجامعة ودخل بيت العقاد. وكتاب «في صالون العقاد» تاريخ لهذه الفترة من تلمذة أنيس منصور على العقاد «وتأستذه» عليه أيضًا، فلقد كان طالبًا مشاغبًا تمامًا، ولكنه ذلك الشغب الجميل حين أجد أنك قرأت كتابًا فأشاغبك بأني قرأت ما هو أحدث منه. هكذا كان يفعل أنيس منصور مع أستاذه، وهكذا كان أستاذه، باعتباره أول عِصامي أو بالأصح الأول العِصامي؛ إذ هو لم يذهب لثانوي أو لجامعة يستمتع فيها بالأولية؛ فآثر أن يخلق لنفسه متعة أكبر؛ وذلك بأن لا يدخل المدارس أبدًا، ولكنه يصبح الأول على كل خريجي المدارس؛ إذن هو أول في صالون أول. وكم أَسِفْتُ أني لم أتتلمذ على كاتب كبير مثل العقاد؛ إذ حين ناداني الأستاذ الكبير طه حسين إلى عموده كان الأمر قد انتهى، وكنت قد تعدَّيْتُ مرحلة التلمذة. أقول كم أسفتُ؛ لأنني أحسستُ وأنا أقرأ الكتاب بعمق الصلة وعمق البصمات التي يتركها المعلم على التلميذ؛ هذا الإصرار الرهيب على الاطلاع، أكان ممكنًا أن يتخذه أنيس منصور دَيْدنًا لو لم يَرَهُ ويشغف به عند أستاذه. إن الأستاذ بمثابة الأب، ولا يستطيع أن يعرف قيمة الأب إلا من تربى يتيمًا؛ ولهذا فأنا أحسد أنيس على أبيه الروحي؛ فقد تعلم منه الكثير. وأكاد أقول إن العقاد أيضًا تعلم من أولاده، وعلى رأسهم أنيس، الكثير، فلولا الإحساس بضرورة الاحتفاظ بصورة الأستاذ أمام تلاميذ أشقياء، لا يتورعون عن مسابقة الأستاذ، بل سَبْقه في أحيانٍ، ما ظل العقاد محتفظًا بقوامه الفكري والفلسفي، بل والنفسي أيضًا.
إنه كتاب جامع رائع، حتى إنني كنت في أحيانٍ كثيرة أتوقف وأسأل نفسي: تُرى كيف كتب أنيس منصور هذا الكتاب؟ وهل كان يحتفظ بمذكرات يومية؟ لا بد، فهذه التفاصيل الدقيقة التي تجعل من الكتاب ليس مجرد تقرير فكري أو دراسي، وإنما حياة بأكملها لا يمكن أن تكون نتيجة الذاكرة وحدها، تلك التي دائمًا ما تسقط عنها التفاصيل وتكتفي بالمجرى الرئيسي للأحداث. وهو كتاب شاقٌّ أيضًا، عاش صاحبه حياة تلمذة وأستذة شاقة ليكتبه، وليس أبدًا كغيره من مؤلَّفات أنيس منصور، يكتفي بما خف حمله، إنه واعر يغوص وينقب ويخرج بلآلئ حقيقية.
هنيئًا للتلميذ بأستاذه، وهنيئًا للأستاذ بتلميذه، وهنيئًا للمكتبة العربية بواحد من أعظم الكتب الأصيلة في حياتنا المعاصرة.