القطاع الخاص الجديد
وجه لي صديقنا الكبير نجيب محفوظ — عبر برنامج إذاعي — سؤالًا: لماذا وأنا الذي عُرف بمهاجمة القطاع الخاص في المسرح رضيتُ أخيرًا أن أكتب له؟!
وفي الحقيقة أن السؤال أثار مواجعي — شكرًا له — ذلك أني أحب المسرح حُبًّا أكثر من حبي للحياة، ولا أبالغ في هذا؛ فلولا هذا الحب ما رضيتُ أحيانًا بالهَوان من أجله. ولقد كانت أسعد فترة في حياتي تلك التي كنت أكتب فيها مسرحيات يعرضها القطاع العام؛ أي الدولة على مسارح الدولة وبفنانين ومخرجين على أعلى درجة من الموهبة والثقافة. ولقد ظل هذا يحدث ما ظلت المركب عائمة حتى إذا ثُقِبَت في أواخر الستينيات وبدأت السبعينيات المهولة، وانحدرت أحوال كل قطاعات الدولة العامة بما فيها القطاع السينمائي والمسرحي، ونشأت على الفور قطاعات خاصة مستعجلة تريد الربح وبأي صورة، كان محتمًا أن نتوقف عن الكتابة؛ فما نكتبه لا يصلح للقطاع الخاص أو الربح السريع. والجمهور الذي كان يؤم القومي والطليعة والعالمي والكوميدي والحديث جمهور هو الآخر أصبح مختلفًا تمامًا، وأصبح كجمهور السينما معظمه من الحرفيين وأصحاب الدخول الطارئة الارتفاع.
إلى أن حدث وبدأ القطاع العام يستيقظ في الثمانينيات، وبدأ يفكر في تقديم بعض المسرحيات التي رفضتْها الرقابة من قبل، وكان أن قدمت الفرقة النموذجية للثقافة الجماهيرية مسرحية «المخططين».
والتجرِبة التي خرجتُ بها من تقديم المسرحية كانت خطيرة؛ فقد ثبت لي أنه بعد انتشار محطات التليفزيون العربي، واعتمادها بصورة تكاد تكون كلية على الممثلين المصريين، لم يعد ممكنًا أن يتمكن القطاع العام من تقديم مسرحيات يُعتدُّ بها؛ ذلك أن أي أجر يدفعه القطاع العام للممثل المسرحي أو الممثلة لا يتعدى واحدًا على عشرة من الأجر الذي يُدفع لهما عن عمل أقل بكثير من احتمال بروفات لا تقل عن شهر وعرض قد يستمر شهرين أو ثلاثة. بمعنى أنه ما دامت لائحة الأجور خاضعة لمقاييس الدولة العامة فلا أمل في تقديم عروض مسرحية مشرفة إلا بتضحية كبيرة جِدًّا من الممثلين، ولا يمكن بناء حركة مسرحية على أساس تضحية صارخة بالنفس من قِبَل الممثل أو المخرج أو حتى الكاتب. لقد دفعت نصف مرتبي الشهري من الأهرام ثمن إصلاح ماسورة في شقتي للسباك الذي أخذها وهو متضرر تمامًا. وعنده حق؛ فغيري يدفع بالضرورة أكثر.
وهكذا تقبلنا جميعًا تضحية فنان كنور الشريف بعمله السينمائي من أجل إشباع هوايته المسرحية. تقبلنا هذا بالترحاب الشديد، ولكن الشيء المؤكد أنه لولا أن لنور الشريف دخلًا كبيرًا آخر من السينما لما استطاع الإقدام على هذه التضحية أبدًا، ثُمَّ إنه ليس كل الممثلين نور الشريف، ولا كلهم نجوم، ولا كلهم أولئك الملائكة الذين لو صبروا على أنفسهم فكيف يصبرون على أفواه أبنائهم المفتوحة.
وهكذا — أيها الصديق الكبير — وجدت نفسي بين أمرين: إمَّا التوقف نهائيًّا عن تقديم مسرحيات إلى أن يُحَل هذا الإشكال الذي لا يبدو أن له حلًّا، وإمَّا «خلق» قطاع خاص آخر.
إذن ليس المهم هو أن يكون المقدِّم هو القطاع الخاص أو العام، المهم هو ما يقدمه هذا أو ذاك؛ فالمسرح باستمرار قطاع ملك الشعب الذي يرتاده.
كان لا بُدَّ من خلق قطاع خاص يدفع أجور القطاع الخاص، ويقدم نوعًا جديدًا من المسرح ليس هو بالتأكيد مسرح القطاع الخاص في السبعينيات، ولكنه أقرب ما يكون إلى ما كان يقدمه القطاع العام في الستينيات وإلى جمهور من نوع آخر أيضًا لا يذهب خطأً إلى المسرح وفي نيته أن يذهب لكباريه، ولا يحتقر نفسه إذا ضحك لما يضحك عليه أو لما يُضحكه.
وهكذا رحبتُ أيضًا أن يأخذ الفنان شاكر عبد اللطيف مسرحية لي ينشئ بها فرقة، ورحبت أيضًا أن أكتب مسرحية يخرجها الأستاذ جلال الشرقاوي؛ فليس هذا هو الحل الوحيد الممكن فقط، ولكنه حل مثالي في رأيي.
أمَّا المشكلة يا عزيزنا الكبير نجيب محفوظ، فهي في القطاع الخاص في السينما، ولنضع تهمة «وكالة البلح» إلى جوار تهمة «العسكري شبراوي»، ونندب معًا حظ السينما التي لم يُتَح لها للآن — إلا فيما ندر — قطاعٌ خاص ملتزم، يستطيع أن يقدم إنتاجًا رائعًا كإنتاجك دون أن يحس الإنسان بالعار بعد رؤيته.