ذلك الرجل المحير للبرية
ذلك المحير للبرية … العقيد معمر القذافي.
ما من جلسة ضمَّتْ مثقفين عربًا أو أجانب، أو حتى جلسات مختلطة … وما من مرة تطرق الموضوع إلى القضية العربية، أو الأوضاع العربية، أو القادة العرب؛ إلا، وبالضرورة، توقف الحديث عند معمر القذافي. وعشرات الجلسات كتلك حضرتُها وشاركتُ فيها، وكان شغفي الأكبر، حين يتوقف الموضوع عند العقيد، أن أعرف على وجه الدقة آراء الناس فيه.
كانت هناك بالطبع مجموعة ضخمة تكتفي بالقول أو الصفات المعتادة التي كان يُطلقها عليه السادات والساداتيون والبورقيبيون وأحزابهم، بالقول إنه رجل مجنون.
ولكن كان هناك ذلك النفر الذي لا يكتفي بهذا النعت الساذج للعقيد، ولكنه يؤكد — وكأنه العالم ببواطن الأمور — أن الرجل ليس مجنونًا كما يقولون، أو مدعي جنون كما يتصور البعض، ولكنه «عميل» أمريكي، زرعته أمريكا في المنطقة زرعًا، ورَعَتْ «ثورته القومية العربية» ليكون عامل فُرقة وتخريب وتحطيم للتجمع العربي، وأنه لولا أن الأمريكان يريدون هذا على وجه التحديد لما آزرُوه وقوَّوْه إلى درجة استطاعوا معه أن يستأصلوا النفوذ أو «الاستعمار» الإنجليزي، الذي كان يشكِّل بالقاعدة التي سماها بعد هذا قاعدة جمال عبد الناصر، نقطةَ ارتكاز متينة لبقية من النفوذ البريطاني المتمثل فيما يُسَمَّى الآن حلف شمال الأطلنطي، مزروعة داخل قلب العالم العربي. ويستشهد القائلون على هذا بالسهولة التي تمت بها الثورة، وتم بها إجلاء الإنجليز والإيطاليين والأمريكان من ليبيا؛ بحيث إن «الثورة» لم تلقَ أي مقاومة تُذكَر، لا من الجيش الملكي السابق ولا من حلفاء الملك الإنجليز وغيرهم. إن المشكلة أن الأمريكان حين بدءوا يدركون أن الملك إدريس السنوسي أصبح حكمه مزعزعًا، وقابلًا للاقتلاع في أية لحظة، وأن الحركة الوطنية الليبية قد زخمت بالاتجاهات الثورية التي كان الاتجاه الناصري فيها هو أقواها جميعًا، ويهدد بقيام ثورة شعبية ناصرية القيادة والاتجاه؛ ثورة ليبية تلقائية غير مضمونة، وبالقطع ستقوم ضد الغرب والنفوذ الأميركي المتصاعد؛ ولهذا فقد أصبح الوضع يحتِّم إجهاض هذه الثورة المقبلة، بانقلاب عسكري يأخذ شكل الثورة، ولكنه في نفس الوقت «مضمون» من ناحية قيادته ومن ناحية اتجاهاته.
والغريب أن مثل تلك التحليلات قد قيلت بنصها وحذافيرها عن «ثورة» حسني الزعيم في سورية حين قامت كانقلاب عسكري في أواخر الأربعينيات. وبنصها وحذافيرها قيلت عن ثورة عبد الناصر عام ٥٢، باعتبار أن الأمريكان كانوا قد بدءوا يُدركون أن القبضة الإنجليزية والرجعية على بلاد الشرق الأوسط قد أخذتْ تتراخى، وأن المد الثوري الشعبي قد أخذ يهوي بشدة على أمثال تلك الأنظمة، مهددًا باكتساحها بواسطة ثورات شعبية حقيقية كما حدث بعد هذا في ثورة الجزائر.
قيل هذا كما قلت، وأُلِّفَت فيه كتب، بل وظهرت وثائق تنشرها الآن وزارة الخارجية الأمريكية عن اتصالات قامت بين كافري السفير الأميركي في القاهرة في ذلك الوقت وبين تنظيم الضباط الأحرار الذي وَجَد فيه الأمريكان ضالَّتَهم المنشودة؛ ليساندوا في انقلاب عسكري يطيح بالملك فاروق، ويضع بعض الإصلاحات الداخلية المحدودة الأثر مثل قانون الإصلاح الزراعي، ويرفع شعارات مثل التي ارتفعت في أول «الثورة» مثل الاتحاد والنظام والعمل، ويحل الأحزاب القائمة، ويُقيم حكمًا عسكريًّا دكتاتوريًّا تكون لافتته «التطهير» ومحاكمات لرجال الأحزاب والسراي … إلى آخره، والغريب أيضًا أن كل هذا قد حدث، وأنه قد ثبت الآن من واقع وثائق وزارة الخارجية الأمريكية التي تُنشَر اليوم أن هناك اتصالات وثيقة كانت قائمة بين «كافري» وبين جمال عبد الناصر عن طريق وبوساطة أحمد حسين باشا سفير مصر في أمريكا، وقيل أيضًا إن حلقة الاتصالات كانت تتم عبر بعض كبار الصحفيين، ومنهم — كما قال مايلز كويلاند في كتابه المشهور «لعبة الأمم» — محمد حسنين هيكل، ولكن ليس عن طريق الإخوة مصطفى وعلي أمين اللذين كانا يُعتبَران من معسكر الملك والإنجليز وغير مؤتمنين على الاشتراك في «الانقلاب الأميركي القادم».
هذا كله سمعناه ككلام مجالس، بل أعترف أننا كُنَّا منتبهين إليه، وقلنا هذه تعود إلى تنظيماتنا الطلابية الشبابية والشعبية في أعقاب ثورة ٤٦ ومجيء الوفد إلى الحكم، وكانت تلك التنظيمات تضم جبهة عريضة من بقايا قيادات لجنة الطلبة والعمال التي قامت في أيام حكم صدقي لمقاومة معاهدة صدقي-بيفن، ومن خلال تحالف كان قائمًا بين الطليعة الوفدية والإخوان المسلمين وشباب الحزب الوطني ومصر الفتاة وبعض التنظيمات اليسارية والتقدمية.
كنتُ في ذلك الوقت سكرتير عام اتحاد طلبة كلية طب قصر العيني، ومندوب الكلية في اتحاد طلبة الجامعة، وكانت كل الاتحادات يقودها الطلبة بوساطة انتخابات طلابية حرة تصبح في نفس الوقت هي القيادة السياسية لجماهير الطلبة والعمال.
في أواسط عام ١٩٥٠م بدأنا نقلق خوفًا على الحكم الوفدي في ذلك الوقت الذي كان قد وصل إلى إلغاء معاهدة ٣٦ بيننا وبين الإنجليز، وقال النَّحَّاس باشا كلمته المشهورة: بِاسْم مصر وقَّعتُها — وكان هو رئيس الوفد المصري (المؤلَّف من تحالف الأحزاب التي وقَّعت المعاهدة) — وباسم مصر أُلغيها. وتطور الحال إلى حد الكفاح المسلح في القنال الذي كُنَّا نقوم به ومعنا مجموعة من ضباط الجيش المصري الشبان الذين كانوا يدربوننا على إطلاق النار وعمليات النسف والحرق، وكان على رأسهم ضابط رائع هو المرحوم كمال رفعت؛ من أبرز أعضاء تنظيم الضباط الأحرار بعد هذا. وكان الخط السياسي للإخوان المسلمين في ذلك الوقت هو التوسع ما أمكن في حركة الكفاح المسلح في قناة السويس، بحيث تتحول إلى حرب شعبية، تحرِّر البلاد وتُقَوِّض الحكم القائم. بينما كان مفهومنا نحن وخطنا السياسي (الطليعة الوفدية والتنظيمات اليسارية والتقدمية) هو حماية حركة الكفاح المسلح في القناة من القاهرة، بحيث لا تطعن هذه الحرب بضربة توجهها السراي أو الإنجليز أو هما معًا، مظهر حركة الكفاح المسلح تلك من القاهرة.
وحين حدث حريق القاهرة في ٢٦ يناير، وأُعلنت الأحكام العرفية في ٢٧ يناير عام ٥١، وأُقيل مصطفى النَّحَّاس باشا، وجيء بوزارة علي ماهر باشا، قلنا: ما نخشى منه قد حدث؛ إنهم يريدون إجهاض الثورة الشعبية التي كانت قد وصلت إلى حد المظاهرات الصاخبة التي تطالب بتوزيع السلاح على الشعب، بل وموافقة الحكومة ممثلة في الوزير إبراهيم فرح وزير الخارجية في الحكومة الوفدية إلى حد الموافقة على هذا المطلب. قلنا: هذا ما تنبأنا به، وكان قرار منع التجول وهبوط قوات الجيش إلى الشارع، ومقتل الضابط عبد القادر طه الذي حُمِل إليَّ وأنا طبيب استقبال في القصر عيني (وكنتُ قد تخرجتُ وعملت طبيب استقبال في ذلك المستشفى الكبير أثناء الأحكام العُرفية وقرار حظر التجول). حُمِل إليَّ مُصابًا بخمس رصاصات، واعترف لي وهو على وشك أن يلفظ أنفاسه أن الملك والحرس الحديدي (الذي كان السادات والدكتور يوسف رشاد قطبين من أقطابه) اعترف لي أنهم هم الذين جَرُّوه إلى كمين أُطلق عليه فيه كل هذا الرصاص. بالأحكام العرفية، وحظر التجول، وبداية الاغتيالات السياسية؛ إذ قبلها كان قد اغتيل الإمام المرحوم الشيخ حسن البنا، بهذا كله اعتقدنا أننا على وشك قيام حركة انقلاب عسكري يُقيم حكمًا عسكريًّا صميمًا ينهي به الحركة الشعبية القائمة، ويمنع من تطويرها إلى ثورة شعبية تقوم بانتخابات حرة، وتعقد جمعية تأسيسية تقيم على أثرها جمهورية شعبية دستورية.
وبالضبط، وعقب «ثورة» الفاتح من سبتمبر عام ١٩٦٩م في ليبيا، بادر كثير من المكافحين والمثقفين إلى تحليل الأمر وكأن الأمريكان أرادوا إجهاض الثورة في ليبيا بالإطاحة بالحكم الملكي، واختيار القذافي بالذات؛ ذلك النقيب في الجيش، الغض العُود والخبرة، قائدًا لتلك الحركة.
وكان الكثيرون كلما جلا الإنجليز عن معسكرٍ ما بسهولة، وكلما سلَّم الإيطاليون ممتلكاتهم وحتى مقابرهم دون مقاومة، وكلما مضى القذافي من انتصار إلى انتصار، كانوا يقولون: ألم نقل لكم؟! إنه العروسة التي أوجدها وحركها الأمريكان ليمثلوا الأمر وكأنه ثورة، وكأنه حقيقة قائدها، بل إنه عقب زيارة المرحوم جمال عبد الناصر لليبيا، والاستقبال الحافل الذي قوبل به، وقَوْلته المشهورة للقذافي أنت تذكِّرني بشبابي، وعقب التقارب الحاد الذي حدث بين القذافي والسادات إلى درجة أن أصبح إعلان الوحدة بين القطرين مسألة ساعات، واختلاف أعضاء اللجنة التنفيذية العليا (علي صبري وضياء الدين داود وسامي شرف ومحمد فوزي والآخرين) مع السادات حول هذه الوحدة، وكنا منذ اللحظة الأولى التي جاء فيها السادات إلى الحكم ننظر إلى أعماله وتصرفاته وأي سياسة يتبناها نظرة شك في سلامتها أوَّلًا، وفي وطنيتها وصدق اتجاهها من ناحية أخرى. قال الناس وقلنا: انظروا، هذا هو السادات الأميركي الاتجاه، يتحد مع القذافي المشكوك في أمره، ضد المعسكر الناصري الحقيقي.
ولكن الخلاف بين السادات والقذافي ما لبث أن انفجر، وجاءت حرب ٧٣ ليشكك القذافي في أمرها ويعتبر أنها كارثة وأن مصر قد هُزمت.
ثُمَّ بدأت حكاية تصفية المعارضة الليبية جسديًّا في الداخل والخارج.
ثُمَّ قاد القذافي مع الأسد والعراق جبهة الصمود والتصدي.
وكل تلك الأعمال كانت تؤكد أن القذافي يقف في المعسكر المعادي للاستعمار بشدة، في حين أن دوره الذي يلعبه على المسرح العربي كان يتسم بمحاولات مستمرة لتمزيق الوحدة العربية باسم الثورية والناصرية والقومية العربية.
وهكذا احترتُ في أمر القذافي مثل ما احتار الكثيرون في أمره. وجاء عام ١٩٨٢م بعد أكثر من عام من اغتيال أنور السادات، وكنت في قبرص في زيارة استجمام، وكنت أيامَها أكتب في مجلة «الموقف العربي» رغم علمي باتجاهاتها الليبية؛ ذلك أني كنت — ولا أزال — أومن أن الثقافة والكتابة العربية لا شأن لها بالعلاقات السياسية بين الدول العربية، وأن الموقف الرسمي من دولة كمصر تجاه إحدى الدول العربية، سواء بالسلب أو بالإيجاب، لا يمكن أن يُلزمني ككاتب بأن أتخذ نفس الموقف؛ فالكاتب هنا، إذا لم يكن فوق تلك الخلافات، فقد يلعب دورًا يخفف من تلك الخلافات، إن لم يكن هو الطريق شبه الأوحد لتصفيتها.
وذات مرة، وأنا أتناقش مع رئيس تحرير مجلة الموقف العربي، سألته لماذا يقف العقيد القذافي هذا الموقف المعادي للنظام المصري عداءً شديدًا، في حين أن النظام الذي أعقب اغتيال السادات لم يرتكب في حق العقيد أو أية دولة عربية أخرى ما يبرر هذه الحملة الشرسة على النظام المصري.
إني أريد أن أعرف الإجابات عن تساؤلاتي تلك.
فقال لي: ولماذا لا تسأل الأخ العقيد نفسه؛ فهو لا شك خير من يجيبك، فهل أنت على استعداد للقائه؟
وانبثق في رأسي خاطر جريء، لماذا لا أقابل العقيد، وأُدير معه حوارًا أنشره في مجلة «المصوَّر» المصرية، أو حتى في جريدة الأهرام إن أمكن. فقلت له: إني على استعداد تام.
قال: وهل سيسمحون لك في القاهرة بالذهاب إلى ليبيا؟
قلت: إن الكاتب ليس له أي ولي أمر، وبالذات تجاه الدول ذات العلاقات السيئة بالنظام المصري، فهنا دور الكاتب مسألة مطلوبة؛ إذ باستطاعته من خلال حوار صحفي ينشره على الناس أن يُقرِّب الفجوة، أو على الأقل يُظهر أوجه الخلاف التي يستند إليها هذا النظام أو ذاك في عداوته للنظام المصري.
قال: وهو كذلك.
وفي اليوم التالي كانت تنتظرني برقية من وزير الإعلام الليبي تدعوني لزيارة ليبيا، وتذكرة سفر من لارناكا إلى طرابلس.
وكنت والطائرة تحلق فوق مطار طرابلس، وأنا أتساءل عن كُنْه ما سوف أشاهده وأعرفه عن هذا البلد العربي الشقيق الذي لم تطأه أقدامي أبدًا، ولا رأيته، سواء في عصر عبد الناصر أو السادات، سواء أيام الملَكية أو الجمهورية. كنت كرائد الفضاء الذي يمتلئ رأسُه بتساؤلات لا حصر لها عن أرض القمر وهو في طريقه للهبوط إليها.
هل أنا في طريقي لمقابلة أمين عام القومية العربية كما تقول عنه إذاعة الوطن العربي التحريضية التي لا تحرِّض إلا ضد مصر فقط، وكأن الأنظمة في جميع البلدان العربية أنظمة مُثْلى ومصر وحدها هي العدو المبين؟
هل أنا في طريقي لمقابلة قائد الثورة القومية وأَنبغ تلميذ في مدرسة عبد الناصر الثورية القومية؟ أم أنا في طريقي لمقابلة «ثعلب الصحراء» الذي دوخ الاستعمار وأمريكا؟ وثعلب الصحراء لقب أطلقته عليه صحيفة بريطانية!
أم أنا في طريقي لمقابلة أكذوبة تضخمت حتى أصبحت كالحقيقة؟
•••
كان العقيد في جولة استغرقتْ أربعة أيام حتى ضقتُ بالانتظار وصممتُ على السفر في اليوم التالي مهما كانت النتائج.
ولكن في نفس هذه الليلة كلمني الأخ محمد الزاوي وزير العدل ورئيس اتحاد الكتاب الليبي السابق ورجل من خيرة رجالات السياسة والثقافة في البلاد العربية، وقال: سنقابل العقيد الليلة في الحادية عشرة مساء.
وحين أقرأ هذه الأيام في الأخبار أن الغارات والقنابل الأمريكية ركزت قصفها على ثكنات العزيزية المقر الرئيسي للعقيد القذافي أعود أتذكر تلك الثكنة حين عبرنا بوابة عسكرية ضخمة تحرسها دبابتان، وسرنا حتى وصلنا مبنًى هو مبنى مجلس قيادة الثورة، وصعدنا سلالم، وهبطنا سلالم قادتنا إلى الحديقة الخلفية للثكنات، حديقة كبيرة جِدًّا، واسعة، مكسوَّة بحشائش خضراء.
والتقينا الدكتور مفتاح، وهو أصلًا زميل طبيب، درس الطب في كلية طب عين شمس كما ذكر لي، حيَّانا وذكر لنا أن العقيد ينتظرنا في «الخيمة».
كُنَّا في شهر يناير «كانون الثاني»، وكان الوقت يقترب من منتصف الليل، وكانت الدنيا بردًا شديدًا لا بُدَّ أن درجة حرارته كانت صفرًا، أو ما دون ذلك. وسِرنا في الظلام الدامس، والصمت التام يلفنا، وأنا لا أتبادل كلمة واحدة مع الأخ الزاوي؛ حتى إننا من فرط السكون كُنَّا نسمع وقع خطواتنا على حشائش الحديقة.
وهناك بعد مسيرة لا تقل عن الكيلومتر، وجدنا خيمة متوسطة الحجم مستطيلة الشكل، يطل منها نور غير ساطع.
ودخلنا الخيمة، وفوجئتُ بالعقيد القذافي يهب واقفًا، وقد كان جالسًا وأمامه مكتب منخفض الارتفاع بالكاد يصل إلى ركبتيه، وكان يرتدي بزة عسكرية ليست مما يرتديه الضباط، ولكنها من نوع خاص، وكأنها فُصِّلت من أجله تفصيلًا، كان طويلًا، أنيقًا، أكثر وسامة من صوره بكثير.
وبدأ اللقاء مصافحة باليد وانتهى بعناق أخوي. وجلست على «كنبة» قريبًا من مكتب العقيد بينما جلس الأخ الزاوي على مقعد، وقريبًا مني كانت «شالية» نار، من نفس النوع الذي نستعمله في ريفنا وصحارينا للتدفئة. وكانت الخيمة تبدو من شدة البرد واسعة جِدًّا، ومتواضعة جِدًّا، وباردة جِدًّا أيضًا. لم تكن نار «الشالية» تخفف من جوها البارد كثيرًا.
وعن قرب أخذت أتأمل ذلك الشاب الذي يقيم الدنيا ويقعدها وهو جالس إلى هذا الكرسيِّ المنخفض، وأمامه جهاز تليفزيون متوسط الحجم، يشاهده، رغم أن برامج التليفزيون الليبي، وقد كان لي أربعة أيام ولا عمل لي إلا مشاهدتها، برامج لا تسر الخاطر أبدًا، الجد فيها جاد أكثر مما يجب، أمَّا الضحك أو الفكاهة فلا وجود لها بالمرة.
وبعد التحية والسلام وجدت أسناني تصطك، ولا أستطيع مواصلة الحديث فسألني العقيد: ما لك؟
قلت: الدنيا برد جِدًّا يا سيادة العقيد.
فأمر في الحال بإحضار «شالية أخرى» توضع بجواري من الناحية الأخرى ورغم مجيء الشالية بسرعة البرق، ورغم أن نارها كانت لا تزال متوهجة حية، إلا أنها لم تستطع أن تبدد جزءًا ولو ضئيلًا من البرد الذي يصل حتى النخاع.
قلت له: لماذا يا سيادة العقيد تختار هذه الخيمة، في هذا البرد، ومع تلك الشوالي التي عَفَّى عليها الزمن، وباستطاعتك إقامة أجهزة تدفئة، تُغنيك وتُغني زوارك عن اصطكاك الأسنان هذا؟
والحقيقة أن إجابته لم تكن فقط إجابة، ولكنها كانت أيضًا أحد المفاتيح التي لا بُدَّ أن يستعين بها المرء على فتح مصاريع هذا الزعيم اللغز الذي أعيت أمريكا وأعيا الغربَ حِيَلُه في فتحه.
قال: أليس لكل رئيس قاعة أو لكل ملك إيوان يقابل فيه ضيوفه، هذا هو إيواني وديواني أحب أن أذكِّر به نفسي وأذكِّر به ضيفي أني بدوي عربي ليبي لا زلت، ولن أتغير، فما أسهل أن أقيم «صالة عرش» فاخرة لو أردت ولكن لو تعودت استعمالها لأفقدتني الإحساس بمواطنتي وقريتي وأهلي وناسي.
قلت: أتقابل كل ضيوفك وزوارك هنا؟
قال: نعم، وقبلك كان يجلس تيودوراكيس «الموسيقي اليوناني المشهور الذي ألف موسيقى زوربا» وقبله أيضًا كان يجلس رجاء جارودي.
ووصلتني الفكرة، هذا رئيس دولة يريد أن يقول، دون أن يقول، إنه مثقف أيضًا، وربما فنان من أعماقه، يحب الكُتَّاب والفنانين، ولكن على طريقته هو، وبشروطه.
قلت: ولكن جارودي وتيودوراكيس، من بلاد أوروبا، الباردة، فليس هذا الطقس غريبًا عليهم وليسوا غريبين عليه، ولكني من مصر حيث الدفء في الشتاء جزء لا يتجزأ من المزاج والوجود المصري.
وضحك العقيد، وضحكنا، واستطرد:
أنا أحب مصر جِدًّا، أحبها أكثر منكم، وجزء كبير من حبي لعبد الناصر أنه مصري، ولو كان مواطنًا من دولة عربية أخرى لما أحببته مثل هذا الحب. إن لك أربعة أيام هنا، وأعتقد أنك قد لمست أن كل ليبي ينظر لبلادكم على أنها بلاده وتوأم قومه، وهم لا يقولونها، ولا أقولها أنا مجاملة، فما مصر سوى امتداد ليبي، وما ليبيا سوى امتداد مصري، وما كلانا سوى جسد واحد قطعه الاستعمار ليأخذ الإنجليز بعضه وتُخضع إيطاليا بعضه الآخر، وحين ثُرنا على الطليان كانت مصر هي مصرنا الأول «وقد حاصرنا جرازياني الحاكم الإيطالي» مصدرنا الأول للسلاح والقُوت، والعلاقات بيننا كانت على مدى التاريخ ممتدة، خاصة مع محافظة الفيوم، ومطروح بالطبع، وكانت القبائل رائحة غادية سيلها لا ينقطع. وفجأة ترك العقيد هذه الدردشة الودود ليُلقي عليَّ سؤالًا كالقنبلة.