العرب على شفا هاوية
أجل، هل وجود دول عربية بترولية غنية ودول غير بترولية فقيرة هو السبب في هذا التشرذم العربي؟
لا أعتقد أبدًا أن البترول مسئول من قريب أو بعيد عما حدث للأمة العربية من خلافات واختلافات؛ فحتى لو كان العرب جميعًا فقراء لاختلفوا أيضًا، وخلافات الفقراء أكثر وعورة من خلافات الأغنياء. أيضًا حتى لو كان العرب كلهم أغنياء لاختلفوا أيضًا؛ ذلك أن الغنى العربي أو الفقر العربي مجرد مظهر، أو بالأصح يتضح من مظهر العربة التي يركبها الغني أو القصر الذي يمتلكه أو ملابس البدوي أو العامل الزراعي. إذن التركيبة الاجتماعية الداخلية هي سبب الاختلاف، وضَعْ أي شيء فوق هذه التركيبة أو انزع عنها حتى كل ملابسها فسيظل الخلاف قائمًا وموجودًا.
ولقد سمينا الخلاف بالتحزب القَبَلي في كافة أرجاء الوطن، والآن جاء الوقت الذي لا بُدَّ أن نقف فيه لنتساءل عن ماهية هذا التحزب الذي يُعتبر سمة أساسية من سمات التركيبة النفسية العربية. إن هناك عوامل جغرافية وبشرية، وبشرية جغرافية وتاريخية، وراء هذه التركيبة التي تحجرت على مر الزمان، وأصبحت كالأسمنت المسلح من الصعب جِدًّا تفتيتها وطحنها وإحالتها إلى عجينة منسجمة واحدة. إن العالم العربي مساحته شاسعة جِدًّا؛ السودان وحده مساحته قدر مساحة أوروبا وأكثر، ليبيا أكبر من فرنسا والجزائر مرتين، المملكة العربية شبه قارة تكاد تقترب من حجم الهند، والعرب موزعون على هذه المساحة الهائلة الشاسعة. وبما أن من العوامل الهامة في إذابة العائلية والقَبَلية الكثافةَ البشرية المعقولة، فإن الكثافة البشرية المخففة جِدًّا حتمًا تؤدي إلى تكتل الجماعات البشرية المتناثرة على هذه المساحة الشاسعة في أوطان «بشرية»؛ أي قبائل، فالقبلية هنا تعادل الوطن تمامًا في أوروبا، أفليست لوكسمبورج أو موناكو أو فنلندا أو ليتوانيا إلا قبيلة سكانية يسميها الأوروبيون «دولة» وسميناها نحن قبيلة بني كذا أو بني كَيْت.
نشأتْ إذن تلك القبائل متناثرة، ولم يكن ارتباطها بالأرض «الوطن الأرض» قويًّا؛ فقد كانت الصحراء كلها مِلك القبيلة، تجوبها من تونس إلى الحجاز إلى نجد أو العكس؛ بحثًا عن الكلأ أو الماء أو كليهما. ولكي تجوب قبيلة أو قبائل في تلك المساحة الشاسعة لا بُدَّ من انتماء قوي جِدًّا يربط بين أبناء القبيلة الواحدة، ولا بُدَّ في نفس الوقت أن تنشأ نزاعات قوية جِدًّا بين تلك القبائل وبعضها البعض حول المراعي القليلة التي تجود بها الصحراء، وحول المياه الأقل، وحول طرق القبائل والتجارة؛ فالمسألة ليست عداوة من أجل العداوة، إنما المسألة مسألة حياة أو موت القبيلة، وفي هذا لتقم الحروب ولتشتعل المعارك، وينشأ الثأر؛ الثأر، وهكذا … وحين بدأت الغزوات تجتاح العالم العربي، كرست تلك الغزوات هذا الوضع، بل وشجعته وأبقت عليه؛ فهو وحده ربما كان الضمان الوحيد للاستعمار التركي مثلًا أو المغولي، أو في العصر الحديث فرنسا وبريطانيا وإيطاليا. إنه وضع مناسب تمامًا للاستعمار بكافة أجنحة وأسمائه؛ بلاد أخذتها فرنسا وبلاد أخذتها إنجلترا، وإيطاليا أخذت ليبيا والصومال. وحتى حين ذهب الاستعمار وأصبحت العلاقات بين الدول العربية والقوتين العظميين اللتين حلتا محل الاستعمار القديم «علاقات خاصة جِدًّا» صنعت مصر عبد الناصر وسوريا واليمن الجنوبية وليبيا، هذه العلاقات مع الاتحاد السوفييتي وبعض البلاد العربية الأخرى مع الولايات المتحدة، وحين ذهب عبد الناصر انضمت مصر إلى المعسكر الأميركي، وجاء السادات ليضعنا أيضًا في حضن إسرائيل ليفصل حتى بيننا وبين الدول العربية الصديقة للولايات المتحدة فقط.
ولكنا لا نزال نتحدث عن البترول.
فهل كان البترول نعمة؟
أم كان نقمة؟
كان نعمة ما في ذلك شك، ونعمة على الجزيرة العربية بشكل خاص؛ فحين كانت تلك الجزيرة لا تملك شيئًا من ثروات الأرض أنزل الله سبحانه عليها الدين الإسلامي الحنيف ليجعل منها خير أمة أُخرجت للناس، وفي العصر الحدث فجَّر لها الثروة من باطن، وكما جاء الإسلام هاديًا لأخلاق الجاهلية وتقاليدها؛ أي جاء في أوانه، جاء البترول في أوانه أيضًا، مع فجر الاستقلال العربي، والتعرف على الذات العربية الكبرى وعلى الأمة كوحدة واحدة متحدة.
وكان حريًّا بالدول العربية البترولية أن تدرك هذا الكنز العربي الذي اكتشف، وتدرك أيضًا أن أوضاعها المنفصلة الممزقة لن تصلح في التعامل مع مستخرِج البترول وشارِيه الأول — المعسكر الغربي — وكان مفروضًا أن يتجمع العرب فيما سُمِّيَ بعد هذا بالأوبك وبالتنسيق مع الأوبك. ولكن هذا التجمع تأخر كثيرًا جِدًّا، حتى إن عائداته هي الأخرى عادت مرة ثانية من حيث جاءت، وأصبحت ودائع في البنوك الأمريكية والأوروبية، وهناك، هناك بعد الرأي، وبعد حرب ٧٣ بدأ العرب يدركون أهمية كنزهم والتحكم في سعره. وقد كنت ذات مرة في الكويت (أظن في عام ١٩٧٧م) وقلت في مؤتمر صحفي إن الغرب لا يدفع للعرب «ثمنًا» لبرميل البترول، فمن غير المعقول أن يكون ثمن برميل البترول دولارين ثُمَّ يُصبح ٣٤ دولارًا، ولكن بالأساس يدفع ثمنًا «لقوة» العرب، ولا بُدَّ أن قوة العرب أثناء حرب رمضان قد تضاعفت سبع عشرة مرة ليدفع الغرب هذا الثمن الجديد.
ولكن أحدًا لم يُصغِ لي في ذلك الحين، بل رَدت عليَّ صحيفةٌ كويتية قائلةً إن هذا الارتفاع من ثمن البترول يرجع إلى «شطارة» الطرَف العربي في مفاوضة الشركات المشترية للبترول، وقوتهم التفاوضية الحاذقة. وطبعًا لأننا لم نَعِ الدرس، وَعاهُ أعداؤنا، وعرفوا أن رقبتهم في يدنا فعزموا على التخلص من تلك القبضة، وطلبوا كميات رهيبة جِدًّا من البترول وبسعر ٣٤ دولارًا وأكثر، وماذا يضيرهم في هذا، إن الدولارات على أية حال ستُستخدم كودائع في بنوكهم، ويصرفون منها على مشاريعهم، وفي نفس الوقت تُتيح لهم رفع أسعار كل منتجات البترول مما يزيد من مكاسبهم. ولا أبالغ إذا قلت إن الدول البترولية قد أُصيبت بما يشبه الحمى في إنتاج وبيع بترولها. ولقد قرأت في ذلك الوقت (حوالي عام ٧٥) مقالًا في صحيفة اقتصادية أوروبية أوردتْ فيه إحصاء لكميات البترول التي يشتريها الغرب من اليابان إلى أوروبا إلى أمريكا، وإحصاء للكميات التي تستهلكها سنويًّا، ووجدت أن الفارق شاسع بين المستورد والمستهلك. هذا الفارق كان يُستعمَل كمخزون بترولي؛ ذلك أن دول الغرب كانت تجهز ما سميته مذبحة صبرا وشاتيلا البترولية للعرب؛ حتى إنهم كانوا يعيدون ملء أآبار البترول التي نضبت في تكساس بالبترول الخام. وكانت النتيجة أن المشترين أصبحوا ليسوا هم الطرف الأقوى فقط، ولكن الطرف المسيطر؛ فقد تكوَّن لديه احتياطي بترولي يكفيه لعدة سنين حتى لا يتكرر ما حدث من العرب في حرب ٧٣، ولأنه صاحب هذا تمامًا ذلك التشرذم القبائلي العربي وضعفت قوة العرب كأمة وكجماعة، فقد أصبح باستطاعة المشترين أن يهبطوا بالسعر إلى عشرة دولارات للبرميل، ومن يدري ماذا سوف يكون عليه السعر غدًا.
معنًى آخر، البترول كان ممكنًا أن يُصبح قوة للعرب منفردين ومجتمعين يتحكمون هم في الكميات المنتجة منه، ويحددون هم سعره، ويستثمرونه في إثراء البلاد العربية غير البترولية بمشاريع تدرُّ عليهم من الأرباح أضعاف أضعاف ما تدرُّه عليهم فوائد الودائع في البنوك الأمريكية والسويسرية. ولكن هكذا شاءت العقلية التي تتحكم في اقتصاديات العرب، أن تعطيَ القط مِفتاح «الكرار» وتخزن فوائض إيراداتها في الخزائن الغربية؛ تلك الفوائض التي تتحكم فيها عوامل سياسية، وباستطاعة أمريكا — كما حدث بالنسبة لإيران — أن توقف صرفها أو التصرف فيها إذا لمحت نظرة عداوة أو بادرة عداوة من الطرف العربي. بمعنًى آخر انقلب الحال، وأصبحت رقبة العرب هي التي في يد أمريكا هذه المرة.
أسلمنا كنزنا للغريب.
وبقينا نجتمع ونجتمع، ويصرح وزراء البترول ويصرحون، والمتحكم الوحيد فينا هو عدونا الذكي الخبيث، ونحن أمامه بلا حول ولا قوة.
•••
لا قوة عسكرية، لأن الجيوش العربية مجتمعة تسليحها أقل من التسليح الإسرائيلي، ولا قوة اقتصادية؛ لأن نقودنا في يد أعدائنا، والدولار يحدد مصير دنانيرنا وجنيهاتنا ودراهمنا، ولا قوة سياسية بالطبع؛ لأن العالم العربي تمزَّق تمامًا إلى دويلات ودول؛ بمعنى أصح وأدق وأكثر علمية: انهزمنا.
•••
والهزيمة ليست عيبًا بالمرة، بالعكس، إن تعريفي الدائم للهزيمة هي أنها نصر مؤجل، والإنسان يتعلم من فشله، أو من هزيمته، أضعاف أضعاف ما يتعلمه من نجاحه.
وما دمنا قد هُزمنا على تلك الصورة وفي كافة الميادين.
- أوَّلًا: لا بُدَّ أن نعترف أننا هُزمنا. «حين هُزم قائد الثورة الوطنية الصينية
ذات مرة ابتسم وقال: هذا مجرد فشلنا الثالث عشر»، فلنبتسم نحن ونقول هذا
مجرد فشلنا الأول، أو الثالث بمعنًى أدق.
فالأول كان في عام ١٩٤٨م.
والثاني كان ٦٧.
وهذه هي الهزيمة الثالثة.
تلك أوَّلًا.
- وثانيًا: المنهزم الشاطر هو الذي يجلس — كما ذكرتُ قبلًا — بهدوء وتأمل عميقين، ويدرس أسباب فشله الأول والثاني والثالث.
- ثالثًا: لقد تركنا مهمة التفكير والتدبير طويلًا — أطول من اللازم — لحكامنا
العرب ومستشاريهم، وفي رأيي أن الفكر العربي الحاكم الحالي قد نضب
مَعِينُه، وأن مستشاريهم قد تجمدوا عند أفكار معينة وآراء معينة لم تعُدْ
تنفع لإصلاح ما أفسده الدهر، وبالأحرى ما أفسدوه هم.
ولهذا لا بُدَّ من فتح السجون الفكرية، والقنوات المسدودة، وإشراك «كل» العقول العربية في البحث عن برنامج للعمل القومي العربي، بل والإسلامي، وبالذات إشراك من عارضوا سياسات الحكام من قبل، ومن هاجروا وتركوا بلادهم تَنعَى مَن بناها. ولن يحدث هذا بالطبع إلا بخلق ظروف ديمقراطية تسمح للرأي الآخر بالوجود، وتسمح حتى بالمعارضة والرفض وتسمح بنقاش ما كان وما سوف يكون.
- رابعًا: تغيير شامل لميثاق الجامعة العربية، ورفع حكاية الإجماع، ويكفي تمامًا الأخذ برأي الأغلبية، ليس هذا فقط، بل لا بُدَّ للجامعة العربية أن تفتح أبوابها للتنظيمات الشعبية النقابية والفكرية وحتى العقائدية ولا تكون مجرد جامعة للحكومات ويردد ممثلوها كالببغاوات آراء حكوماتهم، وأيضًا بحيث تكون لقراراتها قوة تنفيذية … بل … و…
- خامسًا: بداية تكوين جيش عربي موحَّد مختلط ومشترك، وبداية تسليح عربي موحَّد مختلط مشترك أيضًا؛ فبهذا الجيش وحده يصبح للجامعة العربية قوة وقدرة تنفيذية تستطيع بواسطتها أن تفرض قراراتها على دولها أو دويلاتها الناشزة عن الإجماع.
- سادسًا: ضرورة وحتمية البداية فورًا في إنشاء سوق عربية مشتركة ومشاريع عربية
مشتركة، وإصدار الدول قوانين تمنع استثمار رأس المال العربي في الدول
الغنية الأوروبية والأمريكية!
ولستُ هنا أجعل من نفسي مؤتمرًا يخرج بكل التوصيات الممكنة في هذا المجال، إنْ هي إلا بعض نماذج لما يمكن عمله، أمَّا أصحاب الخبرة وأصحاب التجرِبة والمؤهلات فلديهم — فيما أعتقد — الكثير مما يمكن عمله في هذا المجال.
فما دفعني لأن أقول هذا سبب قاهر ومُلِح؛ إننا على شفا هاوية السقوط في الهزيمة الطويلة الأجل، ولا سبيل إلى وجودنا ووجود أولادنا وأحفادنا على هذه الأرض إلا بأن ننقذ أنفسنا.
ونبدأ إنقاذ أنفسنا من اليوم.
اليوم واليوم وليس غدًا.