الهزيمة الثالثة
حسنٌ جِدًّا، فُتورنا سببه موقف احتجاج لا واعٍ على كثير، إن لم يكن كل شيء، مما يجري حولنا. موقف احتجاج يدفعنا للإضراب غير المعلن بالطريقة التقليدية من اجتماعات ولافتات وهُتافات وخُطَب. ولكن كما ابتكر العمال الفرنسيون أثناء احتلال ألمانيا الهتلرية لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، ابتكروا فكرة العمل ببطء؛ إذ لم يكونوا في موقف أو لديهم القدرة على الإضراب العلني أو الامتناع عن العمل؛ إذ كان الجستابو الرهيب وقوات العاصفة ستتولى ضربهم وتحطيمهم وتخريب المجتمع الفرنسي تمامًا. وهكذا ابتكروا فكرة أن يعملوا وفي نفس الوقت، وفي الحقيقة، لا يعملون، فالعمل الذي يمكن الانتهاء منه في ساعة يأخذون يومًا بأكمله لإنهائه.
ولكن هذا كان من عمل وابتكار قيادة الشعب الفرنسي المغلوب على أمره؛ قيادة المقاومة الفرنسية ومفكري وفلاسفة هذه المقاومة، وهي كما نرى قادرة، ليست في غاية الذكاء فقط، بل وفيها تعجيز شبه كامل لعملية إنتاج الذخيرة والمعدات العسكرية التي كانت تطلبها وتحتاجها آلة الحرب الألمانية الهتلرية. ولكن فيها أيضًا — وهذا هو المهم — فكرة ألَّا تطلب من الناس العاديين، عُمَّالًا كانوا أم فلاحين أم حرفيين أم متعلمين، ألَّا تطلب منهم شيئًا يعجِزون عن تنفيذه، أو يؤدي تنفيذهم إياه إلى تعريض هؤلاء الناس للخطر وللتَّهْلُكة.
ولو كانت قياداتنا العربية، خاصة تلك القيادات التي تدعي الثورية القصوى والصمود والتصدي وتنادي بالقضاء قضاءً مُبرَمًا على إسرائيل مهما امتدت واستطالت فترة الحرب والتصدي، ولو كان هؤلاء الناس قد ذاكروا التاريخ، وبالذات تاريخ الشعوب التي قاومت أعداءها ومستعمريها، لأخذوا مما فعلته قيادة حركة المقاومة الفرنسية السرية درسًا.
فالناس العاديون ليسوا بالضرورة والسليقة والوراثة مخلوقات خارقة البطولة، أو هكذا يجب أن تكون، وأيضًا الأبطال لا يُصنَعون بالقسر والأمر والقوة. البطولة عند الإنسان العادي تنشأ بالتدريج الشديد، وبالتصعيد خطوة خطوة، ونتيجة اصطدامات بالعدو يتبدى من خلالها، وبوضوح ظاهر، أن المُلايَنة أو الاستكانة أو غض الطرْف لم تَعُد كلها تُجْدِي. والنتيجة أن الإنسان العادي، وبمنطقه العادي يصل إلى اقتناع جازم أنه إذا استمر على منواله المستسلم فإنه لا محالة هالك.
فإن لم يكن بالضرورة هو شخصيًّا، فأولاده وإخوته وأقرباؤه لا محالة هالكون. هنا يصل المواطن إلى درجة اليأس من الحل الاستسلامي الكامل، ويبدأ يقاوم، فيضرب ويحسبها فيجد أنه إذا استسلم لضربة رد الفعل فإن ضربًا مُبَرِّحًا آخَر ينتظره؛ ولهذا فإن الأسلم له والحل «المعقول» الأصح هو أن يرُدَّ الضربة. فإذا فعل، رد العدو عليه بضربة أقوى. ويحسبها مرةً أخرى ليجد أن لا سبيلَ لأي حل آخر، فشيء من اثنين: إمَّا أن يتراجع تراجعًا كاملًا فيُعامَل معاملة الكلاب النجسة التي لا تليق بأي آدمي، وإمَّا أن يستمر يقول لا، وقد يُعذَّب لقولها ويُنَكَّل به، ولكن هذا لن يشكِّل مشكلة؛ فالعذاب والهوان نتيجة المُلايَنة سيستوي معه العذاب والهوان نتيجة المقاومة، وبالضرورة سيختار المقاومة.
هكذا يصعد الإنسان العادي سُلَّم البطولة، ومن مستوى سطح الأرض والمعيشة خطوة فخطوة يجد نفسه مضطرًّا لأن يصعد كل حين خطوة، وإلا هانت عليه نفسه وقضى على كيانه المعنوي قضاءً يستوي تمامًا مع الموت الجسدي.
أقول: لو كان قادتنا الثوار العظماء المتحمِّسون لمعركةٍ لا ينال فيها أحدهم أذًى، ولا تُخدَش له إصبع، وإنما يموت فيها الناس البسطاء العاديون، ويفرون هم هاربين في آخِر لحظة، أو حتى قبل آخِر لحظة؛ لو كان هؤلاء القواد العظام قد أدركوا حقيقة الطبيعة البشرية، وطبيعة دور القائد أو القيادة من أنها تسبق القاعدة بخطوة واحدة لا تزيد، فلا تطلب من الشعب أبدًا أن يقفز قفزة أكبر بكثير من قدراته العضلية أو الإرادية، وإنما القائد الثوري الحقيقي هو الذي يطلب من قاعدته الشيء أو الخطوة التي يرى، ويرى الناس معه، أنها ممكن أن تتحقق، فإذا تحققتْ فإن الشعب يتعلم أوَّلًا أنه يستطيع الخطو — وذلك في حد ذاته إنجاز عظيم — وثانيًا يثق في أنه قادر على خطوة تالية مقبلة، وثالثًا، وهذا هو الأهم، يثق ثقة عضوية ملموسة في قيادته، ويعرف أنها تدرك إمكاناته، ولا تطالبه بما لا طاقة لها به وإنما في النهاية تعمل لمصلحته وليس لمصلحتها أو لتضخيم ذاتها.
ولو كُنَّا، كقادة عرب، أو مصريين بالذات، قد وعَيْنا هذا الدرس لَأدركنا أن لا القوات المسلحة وحدَها — ولا فرْقَ بين الصاعقة ولا المخابرات — ولا حتى كل احتياطي جيوشنا، كفيل بأن يحسم معركتنا مع الاستعمار ومع إسرائيل؛ فنحن كُنَّا لا نحارب دولة أو جارة، وإنما نحارب أخطبوطًا ضاربًا بآلاف سيقانه ومخالبه في كل أرجاء الأرض، وإنه لا يقدر على هذا الأخطبوط إلا الشعب كله، ليس الشعب المصري وحدَه، ولكن الشعب العربي وشعوب العالم الثالث كلها. ولكنا قد فعلنا كما فعلت المقاومة الفرنسية، وبدأنا نعلِّم شعوبنا خطوات ممكنة محدودة ليقوموا بدور في المعركة؛ دور لا يمكن أن يعطي للعدو فرصةً لتوحيد ضربة ساحقة إلى جماهير بالكاد بدأت تعرف العدو من الصديق. وعن طريق الخطوة الصغيرة إثرَ الخطوة الصغيرة يتصاعد الدور، ويشتد عُود الإنسان الفرد والإنسان الشعب والمجتمع، ويتعلم أنَّ عليه أنْ يقوم بدور ما، وأن القيام به أمر ممكن. وهكذا نصل إلى اللحظة التي يمكن فيها أن نقوم بعمل جماعي كبير مرة واحدة وفي لحظة واحدة؛ إذ حتى لو لم يؤدِّ هذا العمل إلى دحْرٍ كاملٍ للعدو وانتصارٍ كاملٍ لنا، فإنَّ فشلنا فيه لن يشتِّت شملنا، وما دمنا قد ذقنا متعةَ الكفاح معًا، والثقة بأنفسنا معًا، فإن التاريخ سيعيد نفسه ولن نكلَّ حتى ننتصر.
إن نجاح ثورة ١٩ مرجعه إلى أن المطلب الشعبي فيها بدأ بسيطًا جِدًّا، وممكنًا جِدًّا، وقانونيًّا جِدًّا، ولا غبار عليه؛ أن يَجمع الشعبُ توقيعاتٍ يوكِّل فيها قادة ثورة ١٩ بأن يَنُوبوا عن الشعب في مفاوضة الإنجليز.
وكانت النتيجة أن شباب الوفد حين قام بجمع توقيعات وبصمات الملايين على تلك العرائض، قد جنَّد — وهو يدري أو حتى دون أن يدري — كلَّ مَن وقَّع أو بَصَم على العريضة للحركة الوطنية، وجعله يحس أنه «ساهم» وأن له دورًا. وهكذا حين رد الإنجليز بنفي سعد ورفاقه، صعد الشعب في كفاحه خطوة، وأعلن الإضراب؛ وكانت المظاهرات. وحين رد الإنجليز بالقوة الغاشمة، وبالعساكر الأستراليين، وقد ركبوا بغالهم، وانهالوا على الناس ضربًا وتقتيلًا، وبدأت قيادات الوفد تفكر، بل وتكوِّن جيشًا شعبيًّا مُسلَّحًا يقاوِم هذا العدوان المسلَّح.
وحين نمى إلى علم الإنجليز هذا الذي بدأ يحدث، والإنجليز قوم أذكياء لهم باعهم الطويل وتجارِبهم في مقاومة الحركات الوطنية، بدءوا يدركون أنهم سائرون في طريقٍ ماحقِ الخطر، سينتهي حتمًا بمعركة مسلَّحة عليهم أن يخوضوها ضد شعب كامل مسلَّح. وكان أن أفرجوا عن سعد زغلول وقَبِلوا رياسته لوفد المفاوضات.
•••
تلك مقدِّمات قد طالت وأطلتُها عن عمد لأهميتها؛ فمن الواضح أن شعبنا المصري وحكومتنا المصرية يعاني كلاهما أزمةَ حكم؛ فلا الشعب يريد أن يعود إلى الحكم الذي جرى حتى في أمجد أيام ثورة عبد الناصر، ولا هو يريد أبدًا — حتى لو قامت المجازر — أن يعود إلى حكمٍ كحكم السادات، وفي العالم العربي حوله يرى غير هذين النموذجين؛ حكومات قامت على التعصب الديني الأعمى أو الحكم العسكري الديكتاتوري، وكلها نماذج، جرَّبنا بعضها، ونقرأ الكثير عن المآسي التي تنشب من ورائها. ولقد رحَّبَ الشعب بزوال العهد الساداتي، وفتح أبواب آماله مرحِّبًا بمجيء مبارك إلى الحكم على اعتبار أنه لن يكرِّر كثيرًا من أخطاء عبد الناصر في عنفوان حكمه، ولن يفكر أبدًا في أن يحكم على النسق الساداتي. وفعلًا جاء مبارك تزفُّه تلك الآمال ويزفها هو إلى الشعب. ولم تكن مصادفة أبدًا أنْ كان أول عمل سياسي داخلي يقوم به أن يفرج عن آلاف المعتقَلين، بل ويقابلهم في القصر الجمهوري مقابلةَ ترضيةِ خاطرٍ وما يشبه الاعتذار عما فعله سَلفُه. وانتخبنا، في إجماعٍ حقيقي لأول مرة، حسني مبارك رئيسًا، وسَرتْ في الشعب روح أمل جديدة، خاصة وقد بدأ حكم مبارك يُمسك بِتَلابيب لصوص عصر السادات ورموز فساده ويحاكمهم، ويسمح للمعارضة باستعادة أحزابها وجرائدها، وبكَمٍّ أوسعَ من الحرية. وما لبث أن أعقب هذا بالتفاتة ود إلى الدول العربية التي انتهزت فرصة ما فعله السادات وقطعَتْ كلَّ ما بينها وبين — ليست القاهرة الرسمية فقط ولكن — الشعب المصري كله، بنقاباته وتنظيماته وهيئاته.
وبدأ مبارك بمنظمة التحرير، وتلك كانت بدايةً هامة جِدًّا، وفي بضعة شهور كان عرفات في القاهرة، وكانت قيادة المنظمة توافق على دوام الاتصال مع مصر والتعاون معها. ثُمَّ جاء دور الأردن، ودول الخليج، وحدثت محاولات مع ليبيا وسوريا، وبدا كما لو أن الأرض التي فقدتْها مصر في عهد السادات عربيًّا تُسترَد شِبرًا شِبرًا، وبلدًا بلدًا … حتى ليكاد الإنسان وهو يراجع سياسة مبارك العربية لا يجد إلا أقل القليل من المشاكل والأخطاء، وكلها موروثة بكليتها من القيود التي قيَّدها بناء الرئيس السادات بتلك العلاقات الخاصة جِدًّا مع أمريكا، وبالتعاون الإستراتيجي الإسرائيلي الأميركي الذي في ظله لن تستطيع مصر وحدَها أن تُجابِه ذلك التحدي. ولكني شخصيًّا أعتقد أن كل تلك القيود أمور موقوتة تمامًا، وأن باستعادة مصر لقدرتها وقوتها الذاتية، واستعادة الالتفاف العربي حول مصر ومع مصر سوف يتغيَّر الحال حتى بدون قتال.
فالمضحك أن بعض البلاد العربية (الصاعدة والرافضة) تتصور أن كامب ديفيد لا تزال هي السبب في المصائب التي حلت، والتي لا تزال تحل، بالأمة العربية جمعاء. وهو قول يبعث حقًّا على الرثاء؛ فلم يحدث في تاريخ العالم أن تسببت معاهدة — مهما كانت بنود تلك المعاهدة — في تفرقة أمة بأسرها وتمزيقها نتفًا. إن كامب ديفيد كارثة، هذا صحيح؛ كارثة بكل معنى الكلمة، ولكن كامب ديفيد هي الجزء الظاهر الصغير من جبل الثلج المختفي تحت سطح الماء والذي تعانيه أمتنا العربية.
لقد حوَّلت كامب ديفيد انتصار أكتوبر العسكري إلى هزيمة سياسية، حتى لو كانت قد أدت إلى تحرير سيناء، فقد كان ثمن تحرير سيناء هو عزل مصر عربيًّا وإسلاميًّا وأفريقيًّا وآسيويًّا؛ وهو ثمن فادح. ولكن كل بلد عربي قد قام بما يشبه كامب ديفيد، بل وربما أسوأ؛ فغرق الجيش السوري في الوضع اللبناني إلى درجة الشلل التام الذي ألغى فاعلية سوريا، والوقيعة بين العراق وإيران إلى حد إراقة كمٍّ من الدماء لم يُرَق في كل التاريخ الإسلامي بين دولتين إسلاميتين، وتشويه سمعة العرب بإلصاق تهمة الإرهاب بليبيا وضربها على مرأًى ومَسمَع من العالم، دون أن تستطيع دولة عربية أو غير عربية أن تصنع شيئًا إزاء هذا الإرهاب الريغاني الإجرامي، والاشتباك الليبي التشادي، والصومالي الحبشي، والسوداني-السوداني، والشيعي الفلسطيني الماروني الدرزي السني، والمؤامرة على سعر البترول والنزول به من حيث كان ٣٤ دولارًا للبرميل إلى سبعة وعشرة دولارات؛ تلك التي سميتها مذبحة صابرا وشاتيلا البترولية، ضرب المفاعل النووي العراقي، وضرب الكوماندوز المصريين، واختطاف الكرامة المصرية الطائرة، واتهام مسئوليها علنًا، على الملأ، بالكذب، ثُمَّ أخيرًا هذا العمل الإجرامي الكبير بتزويد إيران بأسلحة عبر إسرائيل، وإعطاء العراق معلومات خاطئة عن أهداف إيرانية كاذبة، والوقيعة بين الفصائل المتقاتلة في لبنان، بحيث إذا هدأت الأحوال بين «أمل» و«المنظمة»، فُجِّرت سيارة ملغمة في قرية شيعية؛ ليُظَن أن الفلسطينيين هم الذين فعلوها، أو يحدث العكس ويُفجَّر صاروخ أو لغم في مخيم فلسطيني؛ لتقوم القيامة بين اللبنانيين الشيعيين والفلسطينيين. إن تشويه سمعة العرب ومحاولة دمغ سوريا بأنها دولة إرهابية، وكذلك ليبيا، وفي نفس الوقت التعامل مع ما أسماه كارتر وريغان الدولة الإرهابية الأولى في العالم؛ إيران، ثُمَّ بالغش والخديعة والفجور إرسال أرباح الأسلحة «المباعة» لإيران عبر إسرائيل إلى المناهضين للحكومة الشرعية في نيكاراجوا؛ أي ضرب العالم الثالث بالعالم الثالث. كلها أعمال ليست فقط غير أخلاقية، وغير إنسانية، ولكنها أعمال مافيا مجرِمة محترفة، آلتْ على نفسها أن تسيطر على العالم بالقوة الغاشمة، وأن تنفق مئات المليارات من الدولارات لإشعال حرب ذرية يفنى بها العالم الاشتراكي والعالم الثالث، وإغراق دول الجنوب الفقيرة بمئات المليارات من الدولارات كديون، وفي نفس الوقت خسف الأرض بأسعار منتجاتها التصديرية لتبقى مغروسة في وحل الدَّيْن والفقر والمرض والفاقة إلى آذانها.
كل هذا تفعله دولة أفلتت كالوحش الكاسر من قفص السلوك البشري، وانطلقتْ أُسودها ونمورها وثعابينها وكلابها تنهش وتقتل، وتحرِّض وتقهر، وتستأصل أي قيمة بشرية أو إنسانية وأي شريعة من شرائع الله، وتبشر بكل ما يزخر به قاموس الشيطان من مُوبِقات. لقد أتيح لي أن أشهد بعض أحدث إنتاج هوليود من الأفلام، وفوق أنها كلها دعاية في غاية الذكاء والعبقرية لشعب الله «المختار»؛ المختار ليلعب أسوأ دورٍ لَعِبه شعبٌ في تاريخ البشر، فإنها تقطع الجذور العميقة التي تربط الإنسان الفرد أو الشعب بجنس البشر، وكان هدفها الأسمى أن تحول الكرة الأرضية إلى غابة متوحشة لا يسري فيها أي قانون حتى لو كان قانون الغابة نفسه حيث البقاء للأقوى، إنما البقاء فيها للأحط وللأخس وللشاذ وللأناني، والخيبة فيها والفشل والضياع لكل من يحاول أن يتحلى بصفة واحدة من صفات الإنس أو حتى الوحش.
•••
لا يمكن أن يكون هذا كله قد حدث لأن مصر لا تزال ملتزمة — حكوميًّا فقط — بكامب ديفيد، فإذا كان لكل شيء سيئ جانبه الحسن، فالجانب الحسن في كامب ديفيد أنها أقنعت إسرائيل وأمريكا أن أي معاهدة صلح أو اعتراف تُوَقَّع مع أي حكومة عربية على حِدَة، أو مع عدة حكومات عربية، لا يكون العدل والحق هو أساس توقيعها، فهي لا تساوي المداد الذي كُتِبَت به. وآلاف السياح الإسرائيليين يأتون إلى مصر، وما يرَوْنه في عيون الناس، وما يقرءونه في تعبيرات وجوههم، يؤكد لهم بالدليل القاطع أن صلح حكومة مع حكومة لا قيمة له بالمرة، أمَّا الشعوب فهي لا تقبل إلا الصلح العادل، وطالما أن إسرائيل باغية ومعتدية، وملتهمة لفلسطين كلها، ولاعبة دور الشيطان في المنطقة، فإن أحلامها في الصلح هي أضغاث أحلام، وغربتها في المنطقة ستظل تتعامق مع الزمن؛ إذ الزمن باستمرار العدوان هو مع تعميق العدوان وفي النهاية انفجاره.
كل ما في الأمر أن هناك شيئًا واحدًا لا بُدَّ أن نملك الشجاعة لقوله والاعتراف به؛ إن ما نراه في ساحتنا العربية من تمزق وتشرذم وانعدام إرادة وتفتت كلمة وقرار، إن ما نراه يحدث في منطقتنا منذ عام ١٩٧٩م إلى الآن، إن هو إلا علامات هزيمة غير مُعلَنة. أقولها مرة أخرى: علامات هزيمة غير مُعلَنة.
والهزيمة أبدًا ليست كارثة، وكلمة الزعيم الصيني الكبير صن يات صن لا تزال ترن في أذني حين فشلت ثورته ضد الاحتلال الياباني؛ فقال: ليس هذا سوى فشلنا أو هزيمتنا الثالثة عشرة.
إن أولى بوادر الانتصار هي الكف عن مخادعة النفس، والاعتراف بأنك هُزمت، وأولى بوادر النجاح هي إيقاف التحجج بالأسباب الواهية والاعتراف بأنك رسبتْ؛ فحين يدرك الإنسان أنه فعلًا يُعاني هزيمة، وأنه فعلًا قد فشل في تحقيق الهدف فإن طبيعة الإنسانية سرعان ما تكتسب القدرة على التحدي، وتتشكل لها من داخلها قوة مارد أعظم تبادر إلى الاستعداد للتحدي القادم؛ ومِنْ ثَمَّ إلى النجاح والانتصار. ولولا أننا اعترفنا بأننا هُزمنا في ١٩٦٧م، بل وجاء هذا الاعتراف على لسان قائدنا العظيم نفسه، بل واعتبر أن الهزيمة هي أوَّلًا هزيمته شخصيًّا، وبادر وأعلن أنه مسئول عنها، لولا هذا ما ركبتنا روح التحدي، ولما بدأنا الاستعداد الجدي للمعركة المقبلة، ولما بلغ التحدي، مدى جعل الجيش المصري الباسل ينطلق كالرجل المغلي يحطم خطوط أعدائه ويُلحِق شر الهزيمة بهم.
•••
نعم، إن كل الأعراض على ساحتنا العربية تؤكد لكل ذي عينين، ولكل أعمى أنها علامات هزيمة لا يعانيها عالمنا العربي فقط، ولكن العالم الثالث كله يعانيها.
وإذا كانت تلك الهزيمة قد أخذت شكل الصراع بين الطوائف في بعض بلادنا العربية، وشكل الحروب بين نظم ونظم، وشكل عملاء يحكمون، ووطنيين يُحكَم عليهم؛ شكل سيادة الفرقة والتعصب؛ شكل الهروب من الجهاد في سبيل الله إلى الإغراق في شرح النحو والصرف، وسحب روح التضحية والفداء والإيمان من ديننا الحنيف، وتحويله إلى ما يشبه التعاويذ، ومودات الأزياء والحجاب، وإسقاط هزيمة الرجال على جنس النساء واعتباره أنه الجنس الخاطئ والمذنب والمثير للفتنة على الأرض (أي إحلال نسائنا الفاضلات محل الاستعمار والصهيونية في غرس الفتنة وتضليل الجماعة وإغواء الفرد).
إذا كانت الهزيمة على المستوى العربي العام قد أخذت هذا الشكل، فهي في مصر قد أخذتْ طابعًا — في رأيي — أكثر خطرًا؛ إذ هي قد أوصلت الإحساس بالهزيمة إلى قلب وعقل الفرد المصري نفسه. إن لا مبالاتنا، إن فتورنا، إن يأسنا، إن كرهنا لبعضنا البعض، إن أخطاءنا في حق أنفسنا وفي حق دولتنا التي كثرت؛ نهب الأموال، وشيوع الارتشاء، والتكالب على الطعام والشراب واللذة المريضة العابرة.
بل أن يؤدي الحال إلى أن تصل الهزيمة إلى الحد الذي أصبح أسهل شيء للمواطن المصري أن يقول: ليس هناك من فائدة تُرجى، وسعد زغلول قال ما فيش فايدة، ومصر حالة ميئوس منها. أو أن يصل إلى الحد الذي أصبح منتهى الأمل الهجرة والإقامة في مجتمع يتمتع بالنظام والصحة والعدل والتقدم، إلى أن نيأس تمامًا ونكفر، كل على حدة. إننا ممكن أن نصنع من أنفسنا شيئًا، ومن بلادنا دولة قوية قادرة، ومن ديوننا وفرة نرفع بها عن كاهلنا عبء اليأس والمذلة والخضوع.
ذلك هو الشكل وتلك هي الأشكال التي أخذتها الهزيمة الثالثة في بلادنا الحبيبة مصر.
وفي الهزيمة الأولى عام ١٩٤٨م رفضناها واستنكرناها وقامت ثورة ٢٣ يوليو ترد لنا الاعتبار، وترد لنا الإحساس أن العالم لم ينتِهِ بهزيمة ٤٨، وأن العمل الجاد لا بُدَّ أن يبدأ.
في هزيمة ٦٧ اكتشفنا أننا هُزمنا؛ لأننا قمنا بثورة على الورق؛ فإجراءاتنا فيها كانت قرارات، وقواتنا المسلحة تركناها لمن لم يَرْعَها ومَن لم يكوِّن بها جيشًا حقيقيًّا للخلاص.
وكان أن شددنا الأحزمة على البطون، وبنينا قواعد الصواريخ تحت وابل القنابل الإسرائيلية، حتى إن العمال والعاملات الذين كانوا يعملون في بناء تلك القواعد، وكان معظمهم من أبناء الشرقية، كانوا يعرفون أن ثلثهم على الأقل لن يعود لبيته — إن كان له بيت — في آخر النهار، ومع هذا فقد كانوا يذهبون إلى عملهم وهم يغنُّون أغاني الأفراح، ويزغردون وكأنهم ذاهبون إلى زفة الانتصار.
وهكذا عبرنا القنال في ٧٣ وانتصرنا.
•••
في هزيمتنا الثالثة تلك، نحن لسنا أمام هزيمة عسكرية ملموسة، ولا بضعة قواد من الجيش ممكن عزلهم ومحاكمتهم وإحلال غيرهم أكثر كفاءةً محلَّهم، نحن أمام هزيمة لا نرى لها آثارًا ملموسة واضحة، وكأنما قُصِد أن يكون الأمر كذلك. إنها هزيمة نحس بأعراضها، ولكننا لا نعترف بأننا مرضى وأننا مهزومون وأننا في حاجة إلى هبَّة كبرى، من كل النواحي، توقظ جسدنا الذي خدرته قرصة ذباب «تسي تسي» التي تسبب مرض النوم المستمر العليل.
أعرف أن الكثيرين سيزايدون ويُغالون ويقولون: بل أنت المهزوم، بل أنت المخطئ، بل أنت النائم. وشيء من هذا لا يهمني في قليل أو كثير؛ ليت الأمر كذلك، ليتني النائم المقروص في شعب صاحٍ حي، وليت كلماتي كلها تخاريف حُمَّى؛ فأنا أعلم، وأنتم تعلمون، أننا كلنا نعاني نفس الشعور، وما دام الأمر كذلك، فالمرض عام، وسببه واحد؛ مهزومون يخدعونهم بقولهم إنهم غير مهزومين، بل يريدون إقناعهم بأن المسألة «شوية ديون، وشوية سلبيات، وشوية انحرافات»، وبإجراء هنا وإجراء هناك، بالمحافظة على الديمقراطية، وعلى القائمة النسبية ننقذ أنفسنا منها ونَشفَى.
لا، هذه هزيمة ألبسوها طاقية إخفاء بحيث لا نراها، ولن نراها إلا إذا توقفنا فقط ورمقنا حياتنا، وما نعانيه ونحسه في لحظة صحوة؛ فإني لأكاد أقسم أننا إذا تبينَّا الصورة لومضة فلن ننام بعدها أبدًا، أجسامنا نفسها سترفض النوم وتأباه، قوى الحياة التي نحن بالضرورة مزودون بها ستستيقظ وترفض وتقول لا لن أقبل، ولن نقبل أن نحيا مهزومين.
فحتى الديدان ترفض حياة الهزيمة، وتزحف، ملليمترًا ملليمترًا؛ لتخرج من المأزق، وتنقضَّ على فريستها أو عدوها، وتنتصر.
حتى الديدان إذا أيقنت أنها هُزِمتْ، أو في سبيلها لأن تهزم، ينتفض فيها كل ما تمتلكه من قوى المقاومة، وتستحيل من إرادة الدودة، حيث ركنتْ واستكانتْ، إلى إرادة العملاق المستوحِش في الدفاع عن حياته وعن حقه في حياته، وقدرته على هذا الدفاع.
•••
لقد بدأنا القضية بعرض الفتور، ثُمَّ اكتشفنا أن الفتور راجع لحالة الغضب، وها نحن أخيرًا نضع أيدينا على سبب الغضب. إنهم قد هَرَّبوا الهزيمة إلى كل مِنَّا دون أن يدري؛ ولأنه لا يدري فهو لا يملك أن يصنع لغضبه أو لفتوره شيئًا.
ربما إذا أدرك السبب، وبطل العجب، وأيقن أن الهزيمة وصلت إلى عُقْر داره وتجويف صدره، انقلب غضبه من الآخرين إلى غضب على هزيمته الخفية، وانقلب غضبه على الهزيمة ومنها إلى إرادة عظمى لقهرها، وهزيمة الهزيمة.
ولأننا نعرف حال إنساننا وما آل إليه.
فلا تطلبوا منه، ولا تتوقعوا، أن يهبَّ من نومه المريض أو مرضه النائم فجأة، ويَمْتَشِق حُسامه ويقضي على الهزيمة وهازِمِيه بضربة واحدة.
ليكن مطلبنا منه مثلما فكرتْ ودَبَّرتْ قيادة المقاومة الفرنسية أيام الاحتلال؛ شيئًا بسيطًا جِدًّا في استطاعته، ومن الممكن أن نبدأ به، ونصعد مع البداية خطوات فوقها خطوات إلى أن نصل إلى العمل الجماعي الكامل العملاق.
ليكن شيئًا بسيطًا جِدًّا؛ لا شعار اشترِ البضائع المصرية، ولا تشجعوا منتجاتنا المحلية، ولا حتى شعار أن يشتري الإنسان شيئًا على الإطلاق.
لتكن البداية أن نطلب من المواطنين عكس ما طالبت به المقاومة الفرنسية؛ أن يُسرعوا في إنهاء الأعمال المطلوبة منهم.
فقط يُسرعون في إنهاء الأعمال المطلوبة منهم.
فقط ينجزون في ساعة ما يأخذ ساعتين لإنجازه.
بهذا، ومِن هنا، نصعد السلم، ونتعلم خطوة خطوة أن نصعد، إلى أن نبلغ الدرجة التي ينقلب فيها غضبنا على ما ساد حياتنا من تراخٍ وفتور، إلى غضبنا على الشعور الخفي بالهزيمة الذي استخفى علينا، ومن غضبنا على إدراكنا أننا هزمنا إلى إرادتنا الكبرى أن نهزم هزيمتنا ونقهرها.
دعونا من الحديث عن الجبهة والحوار الناصري الإسلامي، وأخبار الشيخ صلاح أبو إسماعيل مع حزب الأحرار، وعن المقارنة بين عبد الناصر والسادات وبين عصر الملك وعصر الثورة.
دعونا من هذا كله.
ولنبدأ بهذا الجهد الصغير الذي نقدر عليه تمامًا، أن نسرع إذا مشينا، أن نسرع إذا عملنا، أن نسرع في اتخاذ قرارنا، أن نسرع في تصحيح خطئنا … أن نسرع بنفس النسبة التي تسرع بها الدودة إذا أحستْ بالخطر، وأدركتْ أن بطأها هزيمة، وهزيمتها في بطئها.