لماذا أسلم جارودي؟
كان أول تعرفي على «روجيه جارودي» حين قرأت كتابه «واقعية بلا ضفاف»، والحقُّ أن الكتاب أعجبني تمامًا، فقد كنت أيامها لا أزال أخوض مع نقاد الواقعية الاشتراكية معركة ساخنة حول مفهوم الواقعية، ومفهوم المضمون الاشتراكي للعمل الفني. ذلك أن هَمَّ هؤلاء النقاد كان ينحصر في بحثهم حول «موضوع» العمل الفني، بصرف النظر إن كانت تنطبق عليه مقاييس الفن أو لا تنطبق، وحتمية أن يكون هذا المضمون واضح المفهومات الاشتراكية أو الإنسانية، بطريقة تُحيل العمل الفني في النهاية إلى نوع من الدعاية، بل إلى أسخف أنواع الدعاية، الدعاية الحزبية. أعجبني كتابه رغم أنه كان في ذلك الوقت فيلسوف الحزب الشيوعي الفرنسي وكاتبه الفكري. فأن يؤمن الحزب الشيوعي بأن الفن لا تنطبق عليه مقاييس الدعاية ولا الإعلام، وإنما هو عالم كامل موازٍ للحياة يعمل على مراكز في النفس البشرية لا يمكن أن تصل إليها أي مبادئ سياسية أو اجتماعية، وإنما هو ينهل من بحر الإنسانية الأعمق والأكثر فاعلية، ذلك البحر الذي منه يغترف السياسيون والفلاسفة وعلماء النفس والحياة؛ أن يكون هذا رأي الحزب أو مفكر الحزب الشيوعي في الفن، مسألة غريبة وجديدة وتلفت النظر، بل الحق أنها تصفع النظر، وترينا إلى أي حد يقصر نظر النقاد الماركسيين في عالمنا الثالث والرابع.
وكان ثاني لقاء لي بجارودي في جريدة الأهرام في أوائل السبعينيات حين دعاه الأستاذ محمد حسنين هيكل لزيارة مصر كضيف على جريدة الأهرام، وفي قاعة المحاضرات بمبنى الجريدة حضرت له مع نخبة ممتازة من الكُتَّاب والمثقفين المصريين محاضرة كان عنوانها في ذلك الوقت غريبًا على مفكر الحزب الشيوعي، حتى لو كانت الأزمات قد بدأت تترى بينه وبين الحزب، وحتى لو كان الحزب قد بدأ يفكر في فصله باعتباره مراجعًا أو ناكصًا على حدود المادية الجدلية والمادية التاريخية. كان عنوان المحاضرة: الحضارة الإسلامية.
ماذا سوف يقول هذا الفيلسوف الماركسي السابق عن الإسلام وحضارته؟
والحق أن المحاضرة كانت نظرة جديدة تمامًا يُلقيها مثقف غربي محايد عن الإسلام كحضارة، فهو يتحدث عن عمارة المساجد الإسلامية ويربطها بالمبدأ الإسلامي الخالد في الوحدانية، لا إله إلا الله تجمع الخلق أجمعين في «جامع» أو مسجد واحد، القبلة واحدة، السقف عالٍ يجمع الأصوات في وحدة موسيقية متناغمة، وهكذا.
كان يُلقي محاضرته بالفرنسية، والفرنسية هي لغتي الثالثة التي أهملتها كثيرًا، ولكن لروعة إلقائه ونظرته استطعت أن أستوعب المحاضرة كلها وأُلِم تقريبًا بكل ما أراد قوله.
بعد هذه المحاضرة أو ربما قبلها بقليل — لست أذكر على وجه الدقة — قام الحزب الشيوعي بفصل جارودي من مكتبة السياسي ولجنته المركزية وحتى من عضوية الحزب باعتباره مرتدًّا عن الماركسية، وشنُّوا عليه حملة شعواء أيديولوجية وشخصية.
وإن هي إلا بضع سنين مرت وإذا بنا نُفاجَأ بأن جارودي قد اعتنق الإسلام، وسمى نفسه رجاء وتزوج من مسلمة، وزار ليبيا والجزائر والقاهرة والجزيرة العربية.
وسخر البعض من إسلام جارودي، وشهروا به قائلين إنه قبض ثمن إسلامه من العقيد القذافي، وإنه أسلم إسلامًا بتروليًّا، إلى آخر ما قيل عنه.
والحق، لأني لم يُتَحْ لي معرفة وجهة نظره، ظللت حائرًا أمام إسلامه هذا.
وحتى حين استضافه التليفزيون المصري، عهدوا بالحوار معه إلى مذيعة لا مؤهلات لها إلا إتقان اللهجة الفرنسية في النُّطق، وسألتْهُ أسئلة ساذجة جِدًّا عن إسلامه. والحق أني لم أقتنع، ليس لأنه لم يقُل ولكن لأنه لم يُسْأَل. إلى أن اشتريت هذا الكتاب من مكتبة في القاهرة، وكان كشفًا عظيمًا.
الكتاب سماه مترجمه الدكتور ذوقان قرقوط ممثل الجزائر في هيئة الأمم المتحدة، سماه «وعود الإسلام». والحق أنه رغم دقة الترجمة إلا أن الاختلاف اللغوي بين المشرق العربي والمغرب العربي جعلني أرجع إلى النص الفرنسي لأفهم حتى العنوان، رغم أني أقدم خالص شكري وعميق امتناني للدكتور قرقوط، فلولاه ما ظفرت بهذه الثروة الفكرية. ويبدأ جارودي كتابه عن الإسلام بشن هجوم على الحضارة الغربية «المسيحية!» وما آلت إليه، فيقول: إن الغرب حادث عارض، ثقافته ممسوخة، وقد بُترت من أبعادها الجوهرية، فمنذ قرون ادعت هذه الثقافة بأنها تنحدر فقط من إرث مزدوج من الحضارتين اليونانية والرومانية، ومن اليهودية والمسيحية. وهكذا لا يذكر الغرب كجذور لحضارته إلا مرتكزًا على «المعجزة الإغريقية»؛ وبهذا يبتر هذه الحضارة عمدًا عن جذورها الشرقية، عن تراث آسيا الصغرى «تركيا اليوم»، عن الاتصال بالفرس حيث استلهمهم طالس دي ميليت ومن جاء بعده إلى كزينوفون دي كولونون، ومن فيثاغورث إلى هيراقليطس، ومن خلال أعمالهم تهب نسائم زرادشت وفيما وراءها من ثقافة هندية قديمة، ناهيك عن تراث مصر القديمة وآلاف السنين — قبل اليونان — من تاريخها الحضاري الطويل وعلومها ورؤاها التي فتنت فيثاغورس وأفلاطون.
إن الحضارات تتخاطب وتتفاعل، ولا يمكن أن تفصل بعضها عن البعض الآخر؛ فهي في الحقيقة متواليات حضارية، ففي الوقت الذي غربت فيه الثقافة في روما بزغت في الإسكندرية، وفي الإسكندرية التقت جميع تيارات الفكر في الشرق، ووُلِدتْ علوم إقليدس في الرياضيات وعلم بطليموس في الفلك، مثلها مثل الإشراقات الصوفية العظيمة عن فيلون وأفلوطين وأوريجين وكليمانت الإسكندري. ولكن الغرب ترك هذا كله ولم يذكر سوى اليونان القديمة مصدرًا لحضارته، عن جهل هذا أم عن عمد. كذلك ذكر اليهود فقط دون الإسلام، أكذوبة تغذت من نفس الجهل المتعمد، ونفس الإلغاء ذاته، من قلب الهلال الخصيب الذي يمتد من بلاد بين النهرين «العراق» الذي جاء فيه «سيدنا» إبراهيم إلى مصر التي أعاد منها موسى شعبه. كيف يكمن أن تتخيل أن الثقافة اليهودية كاليونانية لا تحمل من الحضارة البابلية والفرعونية في أرفع درجات سُموها ذلك الذي نَسخ منه اليهود حضارتهم، ذلك النسخ الذي تفجرت منه ملحمة جلجامش وتنبئية زرادشت وتوحيدية إخناتون الذي نجد تسبيحه للإله الواحد الشمس «بالنص في مزامير داود اﻟ ١٠٤».
وحتى المسيحية نفسها لم تأتِ من أوروبا، القارَّة الوحيدة التي لم يُولَد فيها نبي ولم ينشأ فيها أي دين عظيم، وإنما من آسيا، والتي تطورت في أنطاكيا (تركيا الآن) في آسيا، وفي الإسكندرية، أي في أفريقيا، أفلا تدين الحضارة المسيحية لهذا كله بدين لا تستطيع أبدًا نكرانه، فالقديس بولس هو الذي أنشأ الكنيسة الكاثوليكية في روما بكل ما حمله معه من الشرق إلى روما، وهل من العظمة في شيء أن يكون المرء ابنًا لأب مجهول.
والمسيحية نفسها، وبالذات في حبوها إلى الشمولية في الكاثوليكية، ألا يجب أن تعترف أن جذور هذه الشمولية الكونية في حقيقتها مستمدة معظمها من الشرق، وأن أثر الشرق عليها لا يقل عن أثر الحضارتين اليونانية والرومانية. إن من أوضح الأمثلة على هذا الراهب الكالابري يواكيم دي فلور الذي تمكن في سورية من معرفة «فلسفة الإشراق» عن السَّهْرَوَرْدي، ومع المعلم إيكهارت الذي تعود أعماله إلى الوحي الإسلامي لدى ابن سينا، ومع القديس فرانسوا الأسوزي الذي استوحى الخليفة عبد الملك بن مروان في دمياط، ومع حنا دي لاكروا الذي تظهر تجربته الصوفية شديدة الشبه أحيانًا بتجارب صوفية المسلمين، ولكن الشمولية المسيحية لم تفعل هذا، وبضيق أفقها الشديد خاضت حربًا من أكثر الحروب العسكرية إراقة للدماء طيلة قرنين من الزمان في الحروب الصليبية التي ذهبت عبثًا في فلسطين، أو طيلة سبعة قرون لإعادة فتح إسبانيا حيث استُقبل العرب في القرن الثاني عشر كمحرِّرين، وحيث جعلوا من قُرطبة أعظم مركز إشعاع للثقافة في أوروبا.
لقد رفض الغرب منذ ثلاثة عشر قرنًا هذا الجذر المهم الثالث لحضارته المعاصرة، الجذر العربي الإسلامي الذي كان يمكنه ولا يزال في وسعه ليس فقط أن يصالحه مع حضارات وحكمة الشعوب الأخرى، ولكن أيضًا يساعد على الوعي بالأبعاد الكونية والإلهية التي بُتر عنها بتطويره من جانب واحد لإرادة القوة فيه ضد الطبيعة وضد البشر الآخرين.
ذلك أن الإسلام — كما يقول جارودي — لم يكمل ويخصب وينتشر فحسب من بحر الصين إلى الأطلنطي ومن سمرقند في الشمال إلى تومبكتو في أفريقيا في أقصى الجنوب، لم يكمل فقط ولم يخصب أقدم الثقافات؛ ثقافة الصين والهند وثقافة الفرس واليونان والإسكندرية وبيزنطة، وإنما نَفَخَ من روحه المتوقدة في إمبراطوريات مفككة وحضارات مشرفة على الموت روحَ حياة جماعية جديدة، وأعاد إلى البشر وإلى مجتمعاتهم أبعادها الإنسانية والإلهية بنوع خاص من التسامي والتوحيد، كما أعاد انطلاقًا من ذلك الإيمان البسيط والقوي لإحياء العلوم والفنون، خلق الحكمة الإشراقية التنبئية وسن القوانين. ليس صدفة أبدًا أن ملامح اليقظة الغربية الأولى كانت في إسبانيا الإسلامية قبل أربعة قرون من يقظته في إيطاليا فيما سُمِّيَ بعد هذا بعصر النهضة. وقد كان ممكنًا أن تكون هذه اليقظة عالمية فيطرح الغرب هذا الجذر المهم الثالث لحضارته جانبًا، ذلك الجذر الذي كان ممكنًا أن يوحد الشرق والغرب، «وبانفصاله وتقوقعه داخل ما يُسَمَّى بالحضارة المسيحية واليهودية-اليونانية والرومانية» حرم نفسه من حضرية الثقافة الأخرى كلها، وعلى رأسها الثقافة الإسلامية. بينما وجهه نحو نموذج انتحاري من النمو والحضارة. أي اسم يُطلَق اليوم على هذا الشكل من هيمنة الغرب العالمية الذي أنفق في عام ١٩٨٠م ٤٥٠ مليار دولار في التسلح وتسبب في موت ٥٠ مليونًا من الكائنات البشرية في العالم الثالث نتيجة لنزف الموارد وتصدير الفائض بالسعر الكاوي، تلك المقايضات الظالمة المتعسفة غير المتساوية. إن الغرب في منظور آلاف السنين كان وسيكون أكبر مجرم في التاريخ، إنه اليوم بسبب سيطرته الاقتصادية والسياسية والعسكرية يعني النظر إلى الأشياء كما لو كانت مستقلة عما هو أصلها التي لا يشاركه فيها أحد، يفرض على العالم بأكمله نموذجه من النمو الذي يقود إلى انتحار سكان كوكبنا جميعًا؛ لأنه يولِّد في آنٍ واحد تفاوتات متزايدة، وينزع من نفوس الفقراء وأكثر الناس حاجة كل تفاؤل بأمل في المستقبل، ويعمل على إنضاج التمرد اليائس، في الوقت الذي يرصد فيه ما يعادل خمسة أطنان من المتفجرات لكل رأس بشري يقطن كوكب الأرض.
إن النظام الثقافي العالمي الجديد هو الانتقال من الهيمنة الغربية إلى التشاور على مستوى الكرة الأرضية لإعادة تحديد مواصفات مشروع إنساني شامل، فإن الحوار بين الحضارات قد أصبح ضرورة ملحة، فلقد بلغ السيل الزُّبَى وتجاوز إلى درجة الفيضان؛ إذ لم تعد معركة عصرنا الحيوية هي المعركة الدائرة بين «الرأسمالية» التي تولِّد النزعات الاستعمارية والحروب والأزمات و«الاشتراكية» ذات النموذج السوفياتي التي أصبحت بتبنيها نفس أهداف النمو التي يباشرها الغرب الرأسمالي، كالرأسمالية، ظالمة لشعبها ذاته، مستغلة، وأحيانًا مستعمِرة، كما في أفغانستان «للعالم الثالث» وشريكه في السباق نفسه إلى الهيمنة وامتلاك أسلحة الرعب. إنما معركة عصرنا المركزية والحيوية هي معركة الصراع الرهيب بين الطريقة الانتحارية للتقدم والنمو على المنوال الغربي، أو على وجه الدقة الطريقة التي تفصل بين الوسائل والغايات، بين العلم والحكمة من استعمال العلم، والهدف من استعمال العلم. هذه الطريقة التي تؤجج في الإنسان فرديته وتبعثره من جماعته وأبعاده الإنسانية الأخرى. إن الإسلام لم يعد ذلك «الكافر» في زمن الصليبيين أو الإرهابي في حرب التحرير الجزائرية أو «المقاومة الفلسطينية»، ولم يعد ذلك الأثر في المتحف الذي يتفحصه المستشرق بين العالم الاختصاصي في الحضارات القديمة انطلاقًا من الحكم المسبق بامتياز الغرب وتميزه. إنما الإسلام هو تلك الرؤية لله، وللعالم وللإنسان، تلك الرؤية التي تستنبط العلوم والفنون، وتستنبط من كل مجتمع مشروع بناء عالم إلهي وإنساني لا انفصال فيه بين البُعدين الأعظمين: الفردية والجماعية، التسامي والأمة. لقد أنقذ الإسلام من قبل إمبراطوريتين عظيمتين متهاويتين، أفلا يستطيع اليوم أن ينقذ عالمنا من تفتته، أفلا يستطيع أن يجيب على الأسئلة التي تُلقيها حضارةٌ غربية تكشفَّتْ خلالَ أربعة قرون عن أنها قادرة على أن تحفر قبرًا للبشرية كلها. إن اختيار النبي ﷺ وانتصاره في شبه الجزيرة العربية، وتقدم خلفائه الخاطف، وسيطرتهم في أقل من ربع قرن على كامل العالم المعروف حينذاك، باستثناء جزء من أوروبا الخاملة ومن حين صاعدة نحو ذروة تقدمها؛ هذا الانتصار والتقدم لا يمكن أن يُفهم بدون الاعتراف بمكانة أولى للرسالة الإسلامية ذاتها ونوعيتها. يمكننا أن نحاول إيجاد تفسيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية لهذا الانتصار، ولكن هذا الانتصار الهائل سيظل مستغلقًا على الأفهام بدون الإسلام، كعقيدة وكجماعة قائمة على هذه العقيدة، والنبي ﷺ لم يدَّعِ أنه يجيء بدين جديد وإنما يواصل ويجدد ويُتِم تلك العقيدة الأصلية التي كان يبشر بها سيدنا إبراهيم، وكان في وقته يمثل تعبيرها الأمثل.
ويستطرد جارودي في تحليله قائلًا: إن المجتمع العربي قبل الإسلام كان قائمًا على نوعين من المجتمعات: مجتمع البادية، ذلك الذي تسكنه قبائل يدين الفرد فيها بالولاء للقبيلة، بينما مجتمع الواحة التي أصبحت مدينة بزراعتها وحرفييها وتجارتها وملكيتها الخاصة ومراثيها الاجتماعية، أخذت تحدث فيه صراعات داخل المدينة نفسها. والبدو من أهل الرعي والإبل كانوا في حاجة إلى فلاحين مزارعين مقيمين، وكان البدوي الراعي يملك بفضل مطاياه السريعة تفوُّقًا عسكريًّا على المزارعين والحرفيين والتجار المرتبطين بالأرض.
وهكذا كان يؤمِّن القوافل التجارية مقابل إتاوة محددة. وكانت المسيحية حين دخلتها السفسطة الإغريقية، واستحالت إلى أحاجٍ وألغاز لا يفهمها الإنسان العادي، لا تستطيع أن تنفذ إلى هذا المجتمع الخليط، وخاصة مثلث مكة والمدينة والطائف، والواقع في ملتقى التيارات التجارية بين أوروبا والهند والصين وبين بلاد ما بين النهرين والحبشة ومصر. كان مثلثًا يموج بأشكال عديدة من الشرك وأنواعها عديدة من العبادات. ومن شبه الجزيرة هذا، في مطلع القرن السابع كان القلق الروحي عظيمًا والجو كان مهيأ متلهفًا لضرورة تحول جذري يحدث حين ظهر الرسول العظيم. إذن كان المحتوى الديني في زخرفته المتعددة مشكَّلًا من وثنيات متعددة الآلهة مفصولة عن معناها الإنساني، ولم تكن الرسالة المحمدية في فحوها المباشر إلا عبادة أن لا إله إلا الله، إلهًا واحدًا سبحانه، وأن ينبذ المعتقدات الباطلة الطفيلية والطقوس التي لا حياة فيها. ولم يكن ذلك استبعادًا لجميع أشكال الشرك بتعدد الآلهة وعبادة الأوثان، وإنما إخضاع أيضًا لكل سلطة وكل ملكية وكل معرفة لمفهوم التبعية. إن الله أكبر من أعظم الملوك، وإليه وحده يُدان بالإجلال المطلق، هذا مبدأ لا يجوز التصرف فيه، ولا بُدَّ أن نصمد في وجه كل طغيان وبمعارضة كل سلطة تزعم لنفسها حقًّا إلهيًّا والمساواة التامة بين الناس بحيث يكون «أكرمكم عند الله أتقاكم» هي القاعدة الوحيدة والواحدة، فالله وحيد، وهو حقيقة واحدة، وهذه هي الشهادة المبدأ والقاعدة لإعلان الإيمان، والمسلمة الثانية فيه وهي أن مُحَمَّدًا رسول الله تشير إلى حركة العودة؛ ذلك أن مُحَمَّدًا هو القوة نفسها لكل حقيقة يُنظَر إليها كوحي وإشارة من الله، فالقرآن هو الله، في بلاغة الناس، متوجهًا إليهم بالكلام الذي يوحيه إلى الرسول من أجل ربطهم بمصيرهم. وهكذا لا توجد ألوهية أخرى غير الله، ولكن ليست هناك حقيقة أخرى أيضًا خارج هذا الإطار سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (سورة فُصِّلت: ٥٣). إن كل شيء في الكون آية، كل شيء هو تجلٍّ من الله. إن كلمة آية أو بمعنًى آخر «أمارة»، فكل شيء حينئذٍ آية من الله تدل على وجود الله، وكل شيء يكون مقدَّسًا بعلاقته بالله، فالفكر يعني النظر إلى الأشياء كما لو كانت مستقلة عما هو أصلها وغايتها ومعناها؛ الله سبحانه.