هل الإسلام ضد القومية؟
أعتذر للقراء أني مضطرٌّ — استكمالًا للموضوع — أن أضمِّن هذا الكتاب، وفي هذا المكان بالذات، ذلك الموضوع؛ موضوع استعمال الإسلام ضد القومية العربية، في حين أن هذا الموضوع كان قد نُشر في كتاب «انطباعات مستفزة» الذي صدر عن هذه السلسلة. والاعتذار هنا بسبب تكرار النشر، ولكن ما يغفر لي أن المقال مهم جِدًّا أن تتضمنه هذه السلسلة من المقالات حتى يتكامل الموضوع.
لي نظرية خاصة أعتقد أن كثيرين غيري يشاركونني إياها؛ نظرية خاصة بتلك الظاهرة التي أصبحت الهم الشاغل لرجال الدين عندنا، وللوعاظ وللعلماء، ومنهم تسربت إلى جماهير الشعب العربي.
ظاهرة الخوف المفاجئ على الإسلام من أهله ومن المسلمين، والدعوة الحارة الزاعقة للعودة إلى الإسلام الصحيح، وإلى ما كان عليه المسلمون حُكَّامًا ورعيةً في الصدر الأول للإسلام. وكأنما ما عندنا مسلمون، وكأننا كفرنا من زمن، وكأنما الحل الوحيد والأوحد لكل مشاكلنا النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي في التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية أو بالأصح لقانون الجنايات الإسلامي وإخفاء المرأة داخل البيوت باعتبارها جهازًا شيطانيًّا لإغواء الرجل وفتنته وإلهائه عن دينه ودنياه.
أقول ظاهرة الخوف المفاجئ؛ لأننا في مصر مثلًا، وأعتقد أن الأمر كان ولا يزال كذلك في كل البلاد العربية والإسلامية، كُنَّا مسلمين ولا نزال مسلمين، ولا يزال الفلاح المصري الأمي يعرف ربه حق المعرفة، ويؤدي الصلاة في مواعيدها، ولا يَفُوته فرض ولا سُنة، ولا يُفطر لأي سبب — حتى لو كان مريضًا — يومًا واحدًا في رمضان، وإذا توفرت له بعض النقود كان يحج أو يعتمر. وكان كثيرون يفضلون الحج بطريق البر وتناسي متاعب السفر؛ ليزداد الثواب. جدي شخصيًّا ذهب إلى الحج من بلدتنا في الشرقية سائرًا على قدميه ليحج. كُنَّا مسلمين بالفطرة والسليقة والطبيعة السمحاء الدمثة، نعيش في بحبوحة من الإحساس القديم بالرغبة في إرضاء المولى وطلب مغفرته — إن اقترفنا خطايا — وتجنُّب عصيانه.
إلى أن بدأت أثناء الاحتلال البريطاني لمصر دعوة الإخوان المسلمين، والتي تولى الشيخ حسن البنا مهمة التبشير بها، وطاف ريف مصر قريةً قريةً في مساجدها، وسمعتُه بنفسي وأنا طفل في مسجد عائلتنا يدعو لإنشاء فرع لجماعة الإخوان المسلمين.
والحقيقة أن دعوته لاقت كثيرًا من النجاح، وبالذات عند الشباب، باعتبارها أنها دعوة إلى مزيد من الاغتراف من بحر الإسلام السمح العريق؛ إمعانًا في التطهر والتبتل والتقرب من الله سبحانه. وهكذا أصبحتُ من رُوَّاد ندوات ومحاضرات الإخوان المسلمين، ليس في قريتنا فقط، وإنما في كل المدن المصرية التي تنقَّلت إليها أثناء دراستي الثانوية، مثلما رحت أيضًا أحضر ندوات مصر الفتاة والحزب الوطني والوفد. كُنَّا جيلًا يبحث ليس فقط عن مزيد من الإسلام والتمسك به، وإنما أيضًا عن طريق للخلاص من الاحتلال الجاثم على صدورنا، والقصر الذي أصبح يحكم حكمًا شبه دكتاتوري، متجاهلًا كل رغبات ومطالب الشعب الأساسية. وكان طبيعيًّا أن يشارك الإخوان المسلمون كتجمع شبابي رجالي ونسائي إسلامي ضخم في الحركة الوطنية. وحين أصبحنا في الجامعة، كُنَّا جميعًا نعمل معًا إخوانًا مسلمين ووفديين ويساريين ووطنيين عاديين، في تنسيق تام وبلا معارك، ولكن ازدهار حركة الإخوان المسلمين والروابط القوية التي كانت قائمة بين أعضائها جعلت لهم من جبهة الكفاح الوطني القَدَح الْمُعَلَّى والأقوى.
وحين قامت ثورة يوليو، وبدأ الشعب يعارض حكم الجيش، عارض الإخوان أيضًا، ولكن خوف جمال عبد الناصر من اشتداد بأسهم، ناهِيكَ عن إدراكه أنهم أصبحوا يُكوِّنون — تحت الأرض — جناحًا عسكريًّا قتاليًّا، دفعه للتصدي لهم وتصفيتهم، على النطاق الذي نعرفه جميعًا، تصفية بوليسية، أسوأ أنواع التصفيات؛ إذ لم يقابلها حوار فكري واسع، ومناقشة يقوم بها العلماء والمثقفون. وهكذا قضى جمال عبد الناصر على الفئة المعتدلة من قادة وقاعدة الإخوان المسلمين، وبقي يضمر العقيدة ذلك النفر العنيد منهم، والذي دفعه في النهاية إلى عملية اعتقالات واسعة أخرى وإعدام ستة من قادة الإخوان.
وأيضًا لم يقضِ هذا على الحركة، وإنما تفرق الإخوان الذين هربوا ملتجئين إلى الدول العربية وإلى غيرها من الدول، منظمين لا يزالون أو أشباه منظمين، ينتظرون الفرصة وقد سقتهم التجرِبة الجديدة فأحالتهم صلبًا، وفي الداخل كانت حركة إسلامية راديكالية جديدة تنشأ، تربَّت على أيدي الجيل الذي استقى التجرِبة من الجيل الأسبق داخل السجون.
وبمجيء السادات إلى الحكم، ووقوفه من الناصريين واليساريين ذلك الموقف؛ تمهيدًا للالتحاق بالركب الأميركي، رأى أن سنده الوحيد لن يكون سوى هؤلاء «المسلمين» من الخارج والداخل. وتولى هو مع عثمان أحد عثمان، مستشاره، أن «اليمين» هو الذي سيقف بالضرورة معهم ضد الإلحاد والشيوعية والناصرية. وفي هذا الجو الخافي فرخت التنظيمات السرية، وازدهرت على أسس جديدة تمامًا؛ فهي لم تعُد جماعة سياسية كما كانت جماعة الإخوان المسلمين، وإنما أصبحت تنظيمًا استشاريًّا راديكاليًّا، وبدأت تظهر أنيابه ومخالبه باغتيال الشيخ الذهبي على تلك الصورة الرهيبة؛ تلك الصورة التي لم تزعج السادات كثيرًا، وظن أنه لا يزال يستطيع أن يلعب لعبة استقطاب المسلمين في جانب والأقباط في جانب آخر؛ ليسهل حكم الاثنين. وواكب هذا تحول أجهزة الإعلام المصرية إلى الدعوة الإسلامية المبهمة؛ المحطة المتصلة لإذاعة القرآن الكريم والأحاديث الدينية، إطلاق باع الدعاة في الإذاعة والتليفزيون ونور على نور؛ لإحلال نوع من الدعاية الإسلامية لصنع غطاء يستطيع السادات أن يصطلح به مع اليهود ويُسلم مصر — ومِنْ ثَمَّ العرب — لأمريكا؛ وبالتالي لإسرائيل.
هذا ما كان من أمر السرد التاريخي للنَّعْرة المفاجئة التي خرجت إلى الناس، وبالذات بعد مظاهرات ٧٧، أو انتفاضة «الحرامية» كما سماها السادات، تُطالب بالحكم الشرعي الإسلامي. وجاءت ثورة الخميني؛ لتثبت للمطالبين أنه بالإمكان فعلًا وعمليًّا قيام حكومة إسلامية يتولاها المشايخ والوعاظ وأمراء الجماعات الإسلامية السرية.
ولكن لأن له جانبًا آخر يتصل بأعدائنا؛ ذلك الجانب الذي أشرنا إليه في الأسبوعيات الماضية؛ ذلك الجانب الذي يتعلق بقضية القومية العربية وفكرة الوحدة العربية والعروبة، ففكرة القومية العربية التي استوحاها جمال عبد الناصر من الأفكار البعثية، والتي تجسدت فيه زعيمًا لها وقائدًا ومبشرًا، هذه الفكرة كانت تُزعج الاستعمار الجديد الذي حل بالمنطقة العربية بعد غروب الاستعمار القديم، أو بالتحديد الاستعمار الأميركي والإسرائيلي. كانت تزعجه إزعاجًا هائلًا وعظيمًا؛ فهي تارة قائمة على الوحدة الكاملة للأرض العربية والمحافظة عليها، في نفس الوقت الذي كان تلهب فيه عواطف الجماهير العربية المتعطشة للتكتل والاندماج. وليس أخطر على المصالح الاستعمارية في المنطقة من شعب عربي مترامي الأطراف، يبحث عن عقيدته ووحدته، ويطالب بأرضه كاملة وباستحقاقاته كاملة، ويملك زمام أمره ونفسه وبتروله وثروته.
ولست أدري أية عبقرية استعمارية اكتشفت أنه لا يكفي محاربة فكرة القومية العربية بحرب الجيوش التقليدية والمواجهات العسكرية، ولكن بعد وفاة الرئيس عبد الناصر، وغياب قائد القومية، بدأت لدى المحافل الاستعمارية تنبت فكرة إحلال «الفكرة الإسلامية»، محل «القومية العربية» خاصة وتجرِبة أمريكا مع بلاد مثل باكستان أثبتت أن التعامل مع الفكرة الإسلامية في إطار باكستاني أو على شكل باكستاني أو سوداني أو غيرهما يسهِّل لها معركتها تمامًا مع العرب والمسلمين؛ فالإسلام الأميركي يصبح الانتماء فيه للعقيدة وليس للأرض والمطالب الدنيوية والعلمية والتكنولوجية؛ إسلام تصبح مشكلة المسلم فيه هي أنه هو المخطئ، وهو المقصر في حق ربه وشريعته، وأن عمله الأوحد والوحيد هو أن «يعود» مسلمًا، نقيًّا، طاهرًا. وبهذا وحده تُحَل كل مشاكله الدنيوية والأخروية بالضرورة. وقد يستنكر الكثيرون هذا النوع من الافتراض أو التحليل، ولكن الوقائع التاريخية الثابتة تؤكد أن الأمريكان لم يقفوا أبدًا ضد قيام حكم إسلامي إيراني، بل إن إسرائيل نفسها وجدت في قيام دولة إسلامية أدعى لحجتها في قيام دولة يهودية؛ وذلك تطبيقًا لخطة بعيدة المدى تؤدي إلى تغيير الخريطة السياسية للعالم العربي والإسلامي والشرق الأوسط، وبدلًا من الحكومات الوطنية أو القومية تقوم دول إسلامية، سنية أو شيعية، أو درزية أو علوية، أو مارونية أو قبطية، على النمط اليهودي الإسرائيلي الذي ستصبح فيه إسرائيل بالتبعية أهمَّ وأذكى وأخطر تلك الدول الطائفية والنِّحَلِيَّة.
من أجل هذا، ودون أن تكون تحت يدي أية مستندات، لو وجدت لهذه المسألة مستندات أصلًا، شجعت أمريكا وبالتالي إسرائيل فكرة هذه الغزوة الإسلامية، أو البعث الإسلامي؛ لتتجنب بها فكرة القومية العربية؛ الخطر الحقيقي عليها.
ولكن الأمور لم تمضِ كما تشتهي أمريكا وإسرائيل؛ فجموع المنضمين إلى الحركات الإسلامية، السرية أو العلنية، هم من الشباب العربي الذي يبحث عن هُوِيَّة، ووجد في الإسلام الجزء الأكبر من هُوِيَّته، وكان مُحتَّمًا أن يستكمل تلك الهوية بالوصول إلى هُوِيَّته القومية والوطنية. هم إذن شبان وطنيون، مثلما كُنَّا في الخمسينيات والستينيات، ودخلوا معسكر الحركات الإسلامية ذلك الدخول البريء الطاهر النقي، الذي يقطر تضحية ورغبة عارمة في الرفعة للأمة الإسلامية ولإعلاء راية الدين الحنيف. وكانت النتيجة المحتَّمة أن أولئك الذين حاولوا اللعب بالنار، ووضع الإسلام ضد القومية، أو على الأقل بديلًا عنها، فوجئوا بما لم يكن في حسبانهم أبدًا؛ فصحيح أن النَّعْرة الإسلامية أدت إلى انقسام المعسكر الإسلامي إلى شيعة وسُنَّة، وإلى حرب بين العراق وإيران؛ حرب خُطِّط لها تمامًا في مكاتبَ مكيفةِ الهواء، وبعيدًا جِدًّا عن طهران وبغداد، وصحيح أن هناك احتكاكًا مجرَّم الشكل والمضمون والمحتوى، هدفه إهدار دم المسلمين الفلسطينيين على أيدي مسلمي الشيعة اللبنانيين، وصحيح أن كل الدلائل تشير إلى أن الخطة في إحلال الإسلام محل القومية قد سارت بنجاح فاق كل تصور، ولكني … أعتقد أنه نجاح مؤقت تمامًا، وأن الدم المسلم الأحمر السائل سوف يُفيق على لونه وغزارته أولئك السائرون في المؤامرة دون أن يدروا — أو لعل بعضهم يدري ويتجاهل — ويدركوا إلى أي كارثة محققة هم سائرون.
لا خلاف ولا تناقض أبدًا بين الإسلام والوطنية والقومية، العكس هو الصحيح؛ فالإسلام مسلمون، والمسلمون أرض وثروة وعِرْض، والأعداء هم الأعداء، سواء كانوا أعداء ونحن قوميون، أو ونحن تنظيمات إسلامية.
كل ما في الأمر أنه على مفكري العالم الإسلامي ودعاة القومية، أن يدركوا وأن يَعُوا أبعاد الخطر والخطة؛ أن ينتبهوا إلى أين هم مُساقون كالشِّيَاه إلى حَتْفها، وهم لا يعلمون أن علينا جميعًا، قيادات إسلامية وقومية، وفكرية وثقافية وكتابية، أن نطلق الصيحات تلو الصيحات محذرين من المؤامرة، وأن ندع الاشتباك فيما بيننا إلى أن تنتهي معركتنا مع عدونا، وأن نصفي انتماءاتنا وخلافاتنا بعد أن نحسم المعركة مع أعدائنا كلنا.
فذلك هو العمل الوحيد العاقل الذي على مفكري وقادة هذه الأمة أن يفعلوه، ولا حجة في التردد أمامه، والتعصب القومي ضد الإسلامي، أو الإسلامي ضد القومي. إن هذا هو بالضبط ما يريده الأداء.
وعلينا، أن نفسد بالوعي والإدراك ما يريدون.