الوشم الأخير١
طريق المعاهدة. الطريق الموصِّل إلى التل الكبير وفايد والإسماعيلية، هو نفس الطريق إلى بلدنا. ولم تكن تلك أول مرة أقطعه فيها. كنت أيام الحرب وما بعدها كلما ذهبت أو عُدت أتأمل ما حولي وأجترُّ الذكريات، من يوم أن وضع الإنجليز أقدامهم في بلادنا ونحن نقول: لا .. قلناها مسلحة، وقلناها مقاطعة وقلناها ثائرة، وأيضًا والعربة تقطع بي الطريق كنت أقول: لا.. هذه الوجوه الحمر والعيون الزُّرق والشعور الصفراء لا تمُتُّ إلى صحرائنا أبدًا. إنها شيء غريب نشاز، إنهم أغراب، إنهم معتدون .. كنت أشاهد العساكر يروحون ويجيئون داخل الأسوار كالمعتقلين، والعرَق يكسوهم، والنظرات المريضة تُطل من عيونهم، وكنت أقول: إنهم يخطرون في أرضنا، هذه صحراؤنا، وهؤلاء الناس الملونون يأتون من بلاد بعيدة يحرسون أرضنا، يحرسونها منا! وكنت أغلِي وأقول: لا.
طريق المعاهدة هو نفس الطريق إلى بلدنا، هو نفس الطريق الذي كنا نقطعه ونحن طلَبة، ونحن في اللجنة الوطنية، ونحن نتستر بالليل والظلام ونأتي من القاهرة، ونُزوِّد الكتائب بأدوات العلاج والإسعاف، هو نفس ذلك الطريق الذي كنت أقطعه يوم الإثنين الماضي، وقد كدت أنسى، ونحن في القاهرة كثيرًا ما ننسى. وتمرُّ علينا أوقات لا نذكر فيها الاحتلال والإنجليز. وكنت لا أنسى، إذ كنت دائمًا مُرغمًا على تذكر كل شيء. ويكفي أن ترى معسكرات الإنجليز في منطقة القنال مرة لكيلا تنساها أبدًا. المنطقة صحراء قفر لا تَنبت فيها حتى الحشائش؛ ومع هذا يدهشك ازدحامها. فليس فيها موضع واحد خالٍ من سلك شائك أو ثُكنة أو مخزن أو صهريج مياه. كلها مبنية بطريقة غريبة لا عهد للمصريين بها، تُحس إذا ما رأيتها أن ساحرًا جبارًا لا بد قد نقلها من مكان لا نعرفه ووضعها فوق أرضنا. منطقة لا تجد المصريين فيها إلا حفاة عراة يطلبون الخبز ولو من يد الإنجليز، ولا تجد الإنجليز إلا سادة، يدبُّون فوق الصحراء، ويدافعون عن الإمبراطورية، وكل هذا يحدث فوق بقعة من أرضنا .. من أرضنا.
كنت ما أكاد أرى المعسكرات ومن فيها، حتى أُحس أننا نلهو ونعبث، وأننا نسينا في القاهرة أُس البلاء، وأن هنا يكمن الداء، وأن هذا الجيش العارم من الميكروبات الكاكية المدمرة هو مشكلتنا وهؤلاء أعداؤنا، وصانعو أزمتنا، وقاتلو شهدائنا، وألا حياة لنا، ولا طعام، ما لم نجتث هذا الداء ونطرد الغاصبين.
كنت أقول لنفسي هذا والحقد يملؤني، وأكاد أنفجر وأنا أراهم داخل المعسكرات مطمئنين، باردي الأعصاب، يتصرفون وكأنهم ليسوا في بلاد أعداء، بل وكأنها أرضهم ونحن غُزاتها.
ومهما كان غيظي وغيظ الآخرين، فقد كنا أفرادًا، وكنا متفرقين، وكنا مشغولين بأزمات داخلية تطحننا، ولعل هذا كان السر في هدوء بال الإنجليز.
ويوم الإثنين الماضي والعربة تمضي بنا على طريق المعاهدة، الطريق الذي أُنشِئ تنفيذًا لمعاهدة ٣٦ ليسهل «جلاء» قوات الاحتلال، فاستعمله الإنجليز أثناء الحرب ليسهل «دخول» قوات جديدة، والعربة تمضي بنا كالريح، فالطريق ممهد وجميل، صُنع خصوصًا لجلاء جيوش، فما بالك بعربة أومنيبوس، وترعة الإسماعيلية تتلوى كخيط طويل من الصبر، كطول بال المصريين، والحدائق على جانبيها، موز ومنجة، وبساتين بركات، وسجن أبي زعبل، ومحطة إذاعة لها عواميد هوائية طويلة طويلة تصل إلى عنان السماء لتذيع: نورا يا نورا يا نورا يا وردة حلوة في بنورة، والإنسان ما إن يتسلمه طريق المعاهدة حتى يحنَّ إلى الصحراء ويحلم بالبحر الأصفر الهائل، وما يكاد يرى الرمال حتى يُفاجَأ بما فوقها من معسكرات فيركبه الغم.
أما المفاجأة هذه المرة فهي أني لمحت، في نفس المكان الذي اعتدت رؤية العساكر الإنجليز فيه، عسكريًّا مصريًّا أسمر، سُمرته جميلة، كالعسل النحل حين يقطف في الشتاء ..
وقلت في نفسي هذا شيء جديد.
وتوالت المعسكرات. وتوالى ظهور العساكر المصريين، يرتدون نفس الرداء الإنجليزي، ولكن وجوههم سمراء، وضحكاتهم أعلى، ولا يلهثون من حرارة الشمس.
الأرض التي نمرُّ عليها مُلغَّمة بالتاريخ، في كل خطوة حادث جلل، على مرمى البصر دارت معركة التل الكبير، من نفس هذا الطريق عبر الجيش المصري سنة ١٨٨٢، هنا خان خنفس بك، في تلك البقعة وقف زعيم الشعب عرابي يتسلم هدايا الأهالي من الرز والطيور والسلاح.
هذه الأرض، لم يكن مُصرَّحًا لنا بالمرور فيها، كانت أقدام الإنجليز فقط هي صاحبة الحق في وطئها، لها أن تمضي عليها وتدوس تاريخنا، وأيامنا، ومفاخر قومنا، هذه الأكوام من الرمال قد تكون أجداث أجدادنا الذين ماتوا وهم يقولون: اللهم انصرنا على القوم الكافرين. وهم يقولون: الخديوي خائن. وهم يقولون نريد الدستور، نريد البرلمان. ماتوا وعرابي يقول: باسم أهالي الديار المصرية جئنا نطلب حقنا وحريتنا. هذه الأرض صارت معسكرات، وامتلأت بزجاجات الويسكي الفارغة، وأقام عليها أعداؤنا دورات مياههم وحظائر كلابهم.
والعربة لا تكفُّ عن المُضي سريعة كأسراب الأحداث، لا تتوقف كالزمن، والعساكر المصريون يظهرون، فجأة، في المعسكرات، ويتولَون هم حراسة أرضنا ورمالنا وتاريخنا.
وتوقفت العربة في الإسماعيلية.
وللتاريخ هو الآخر وقفةٌ في الإسماعيلية.
هذه البلدة النظيفة ذات البيوت المنخفضة. غريبة تلك البلدة، إنها ليست من مصر .. إنها معسكر مدني، أقيم للترفيه عن قوات الاحتلال، وموظفي القناة. فيلَّات رائعات يكسو اللبلاب جدرانها، ويتسلق حتى يغلفها، وشوارع لا تراب فيها .. ولا ذباب، وهدوء مأخوذ من هدوء بحيرة التمساح، وخواجات متمصِّرون، ومصريون كالخواجات، ولغة .. كملابس مجاذيب الحسين، من كل لسان كلمة، ومن كل بلد لُكنة، حاول موظفو القناة الفرنسيون أن يجعلوا منها ضاحية من ضواحي باريس، ثم جاء الإنجليز، وحاولوا جعلها من ضواحي لندن، وكان هناك دائمًا مصريون، ولهذا بقيت مصرية، المصريون فيها أفقر الناس ولكنهم يدركون أنهم أصحابها، والأجانب أغنى الناس، ولكنهم يعلمون تمامًا أن مقامهم مهما طال موقوت.
وفي الإسماعيلية رأينا الأعاجيب.
البلدة كانت تعتمد في حياتها أساسًا على ما تنفقه القوات البريطانية فيها، ومع هذا كان أهلها أعنف من حارب تلك القوات.
والبلدة هزَّ الجلاء اقتصادها، ومع هذا، فأهلها أسعد المصريين بالجلاء، إن الوطنية لا تباع أو تُشترى، إنها ليست شيئًا يُراد، إنها في دم كلٍّ منا وأعصابه، إنها أغلى من كل دمائنا وأعصابنا، إنها أقوى من لقمة العيش. هؤلاء الناس المتناثرون كسالى يغزلون من تثاؤبهم حبال مللٍ طويلة، ويصنعون من البطالة نكتًا وتفانين، هم أنفسهم الذين كان يرتعش من ذكرهم أرسكين.
وعلى ربوة عالية، تتحدى بعلوها الإسماعيلية ومن فيها، رأيت نُصُبًا هائلًا، وسألت عما يعنيه، قالوا إنه نُصُب الشهداء. وقفت أقرأ ما كُتب: هذه القطعة من الأرض قدمها الشعب المصري لهؤلاء الذين ماتوا دفاعًا عن الشرف من قوات المملكة المتحدة.
أما هؤلاء الذين ماتوا «دفاعًا عن الشرف» فهم قتلى معركة التل الكبير وقتلى الحرب العالمية الأولى والثانية.
ولا يذكر الشعب المصري أنه قدَّم يومًا هذه الأرض ليُقام عليها نُصُب كهذا، ولا يعلم الشعب المصري أن من ماتوا كانوا يدافعون حقيقة عن الشرف.
أما الذي يُدهش حقًّا، فهو أنك لا تجد لا في الإسماعيلية، ولا في أي مكان نُصُبًا واحدًا يخلد ذكرى الشهداء الذين سقطوا في معركة التل الكبير ولا في غيرها، الشهداء الذين ماتوا وهم يدافعون عن الشرف والحق، وكأننا نعترف مع الإنجليز أننا حين قاومنا كنا متمردين عُصاة، لا نستحق تكريمًا ولا تخليدًا.
وكل ما يقع عليه بصرك في الإسماعيلية يذكرك بتاريخ ناصع قريب، هذا مبنى القيادة الإنجليزية في الشرق الأوسط، هذه العمارة كان يحتلها البوليس الحربي، هذا هو الميدان الذي صُوبت منه الطلقات إلى جنازة الشهداء.
وهذه الشرفة قتلت منها الممرضة الأمريكية، وتلك المحافظة وهذا هو سورها المشهود خلف هذا السور الأبيض الفقير المنخفض ظَلَّ عساكر بلوكات النظام يحاربون إلى آخر رمق وآخر طلقة في تلك المسافة التي لا تتعدى الخمسين مترًا استشهد أكثر من خمسين عسكريًّا مصريًّا في ريعان الشباب. هنا دارت معركة المحافظة، وعلى هذا التراب الذي لم يتغير لفظ الشهداء آخر الأنفاس، إن التراب لا يزال كما هو، أما السور فقد أُعيد بناؤه لأن الدبابات البريطانية اكتسحت السور القديم حين داهمت مبنى المحافظة لتتم المجزرة، داست فوق جثث العساكر الشهداء، فالتصقت جثث ببعضها، وتفتتت جثث حتى إنهم كانوا يجدون العناء في انتزاع الجثة من الجثة، والشهيد من الشهيد.
وسمعنا في الإسماعيلية بقايا قصص البطولة، القصص التي كانت أخبارًا فمضت تلُفُّ وتدور حتى أصبحت حواديت وملاحم كملحمة أدهم الشرقاوي.
وفي الإسماعيلية أيضًا عرفنا آخر خبر: سيغادر بورسعيد الليلة آخر فوج من العساكر الإنجليز.
قنال السويس!
إن كل شيء هنا ينطق بأمجاد شعبنا وكل شيء يهتف بما لاقاه من ظلم هذه القناة، إن بلدنا وحدها مات منها عشرة وهم يحفرونها، هذه القناة الضخمة العريضة، هذا البحر المُذهَّب الواصل بين بحرين حفره أجدادنا من مائة سنة، حفروه بكريكاتهم وفئوسهم وعظامهم واستطاعوا أن ينتزعوا ملايين الملايين من الأمتار المكعبة في غمضة شهور وكأنهم مردة أو جان. حفروا، وماتوا، واستهلكهم الكدح .. ولم يقبضوا شيئًا. ذهب المال إلى الشركة، وذهب المجد إلى دليسبس، وذهبت الأسهم إلى إنجلترا وفرنسا، وبقيت القناة ممتدة واسعة زرقاء وتذكرنا أننا صانعوها ومُنشِئوها، وأن ماءها من دمنا، ودمنا تمخر عبابه السفن، ويُغَل في العام ملايين الجنيهات.
ووصلنا بورسعيد قبل منتصف الليل.
كانت البلدة نائمة أو تكاد، عمال الميناء فقط ساهرون، لا يزالون يتناولون عشاءهم الرخيص وطابورهم واقف أمام الباب ينتظر الإذن بالدخول، ووجدنا صيادًا شيخًا مسيناه بالخير وسألناه: الإنجليز ح يمشوا منين يا عم؟ …
– أهم طول النهار ماشيين.
– هم مشيوا خلاص وآخر دفعة ح تمشي الليلة. تعرفشي منين؟
– هم خلاص ماشيين؟!
– ماشيين.
– بلا رجعة؟!
– بلا رجعة.
– الليلة؟!
– الليلة.
– في داهية.
– تعرفشي ماشيين منين؟
– يمشوا من أي حتة .. الله يخرب بيتهم.
وتركنا الصياد الشيخ، وسألْنا شيالًا شابًّا وقال: من باب النافي. وذهبنا إلى باب النافي، ودخلنا، وركبنا لنشًا، وبعد قليل ونحن في البحر .. قال البحار: هذا مبنى النافي.
ورأينا شيئين: باخرة سوداء كالحة راسية عند المبنى، وديدبانًا واقفًا. وغادرنا القارب إلى الرصيف، وقال الديدبان: إلى أين؟ .. قالها بإنجليزية ممطوطة وكان شابًّا لا يتجاوز العشرين، ومعه مدفع ستن، وكان هادئًا، وعبيطًا، وضيقًا بنَوبته في الحراسة، وكان أول إنجليزي نراه في منطقة القناة.
وكان في المبنى أربعة عساكر آخرون وضابط .. كانوا هم آخر قوات الاحتلال، والباخرة السوداء واقفة اسمها إيفان جيب، تنتظر أن تحين اللحظة ليصعد العساكر وترحل، آخر رحيل.
كان الليل داكن السحنة، وكانت الأنوار لا تدع سحنته على حال، أنوار موزعة في المينا صفراء وبيضاء وحمراء تزخرف الليل وكأنه سبورة سوداء محلاة بطباشير مُشعٍّ مُلون. وكان البحر هو الآخر يأخذ لونه من لون الليل إذا ما اسودَّ اسودَّ، وإذا ما حفلَ بالأضواء حفلَت صفحته بالأضواء. وكان الديدبان بكل مدفعه صغيرًا جدًّا، وبناء النافي ضخمًا، أنواره مشتعلة كلها، وفيه صمت كصمت القبور.
كان المكان بأجمعه يشبه قلعة مهجورة، وكأننا ضاربُ الطبلة حين هبط القلعة الخاوية في رواية الفرق الأجنبية.
وحادثنا العساكر .. فلاحين إنجليزًا وأبناء فلاحين وعمالًا، كل ما يعرفونه أنهم ذاهبون إلى قبرص، وأنهم راحلون عن بورسعيد، وأن مصر جميلة وأهلها ظراف، وكشف واحد عن ساعديه ليرينا رحلته عبر الدنيا وكان على كل يد من يديه أكثر من وشم. هذا رسمه في هامبورج بألمانيا وآخر في الهند وثالث في سنغافورة والرابع في مصر.
ورأيت في الوشم علامات، وكان العسكري الشاب يعلم بها انحسار الشمس عن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
وكان المساكينُ يعلمون أنهم آخر من سيرحل عن بورسعيد ولكنهم كانوا لا يدركون معنى أنهم آخر الراحلين.
كانوا يداعبون بعضهم بعضًا ويكتبون أسماءهم على حائط الكشك ويستعجلون اللحظة التي ترحل فيها الباخرة إلى قبرص وكانوا يقولون قبرص ومن عيونهم يُطلُّ الأسى، وتُطلُّ أمنية: أن يكون الرحيل إلى إنجلترا، فالغَيبة طالت والحنين إلى الوطن غريزة.
وجاء الضابط عصبيًّا ومنفعلًا، وفي أعماقه ترقد أرستقراطية إنجليزية ابتُلى بها العالم من قديم الزمان. لماذا جئتم وكيف جئتم وماذا تريدون؟ وحين حاولنا إفهامه استنكر أن نقتحم على حامية بورسعيد معسكرها في مبنى النافي.
وأحسست بشيء يغلي في صدري حين نطق كلمة «الحامية».
الحامية!
لقد كنا محتلين إذن! هؤلاء العساكر السذج، وهذا الضابط المتكبر كانوا حامية بورسعيد! بورسعيد، هذه المدينة المصرية التي كنا نردد دائمًا أنها مصرية كانت محتلة، وكان لها حامية!
حين نطق الرجل بالكلمة انبثقت في ذهني معانٍ كثيرة كانت مختفية وكان الاختفاء قد طال عليها. جيش الاحتلال، والحامية، والإنجليز والوطن المستعمَر المحتل، كانت معاني مؤلمة أفظع ما فيها أننا كنا نسيناها. وكان أعداؤنا فقط هم الذين لم ينسَوا. كنت ذاهبًا لمشاهدة رحيل آخر فوج وكأني ذاهب إلى نزهة، وكان الأمر جزءًا من الرحلة، وإذا بضابط متعجرف يُذكرني في آخر لحظة من لحظات الاحتلال، أننا كنا محتلين.
وحانت الساعة.
ومضى العساكر والضباط إلى الباخرة.
الهدوء مخيم، ومبنى النافي كبير صامت مشتعل بالأضواء، والسماء سوداء في لون الماء، والماء في لون السماء، والأنوار وحيدة متباعدة باردة، والبحر يوشوش ويُدوِّي، والباخرة واقفة كالحوت الميت الطافي، والقبعات الحُمر تروح وتجيء فوقها، والعساكر والضباط هادئون، سائرون إلى الباخرة في دقات أحذية رتيبة وظهورهم مُحمَّلة، والبنادق في أيديهم، ولا أحد يشهد، ولا صوت يرتفع، ولا طلقة تُدوِّي، ولا هزة تعتري الكون وتزلزل الأرض والسماء، والاحتلال ينتهي بهذه الخطوات الرتيبة التي تتلصص في سكون الليل، ينتهي ببساطة كما لو كان جيش الاحتلال رحلة مدرسية جاءت في إجازة وقضت في مصر ثمانين عامًا، وها هم أعضاء الرحلة راجعون، والجو هادئ وجميل، والباخرة تنتظر، ولا تبقى سوى مناديل بيضاء تهفهف ليكمُل المشهد، ويُسدَل الستار.
ولكَم أحسست بالمرارة.
ما أردت أبدًا أن يكون هكذا رحيل الأعداء.
كنت أود بعمري أن تودعهم رصاصات، وتهفهف فوقهم قنابل، وينتظرهم خضم البحر، إنهم أعداؤنا، استعمرونا وأذلونا وأذاقونا المر، وقتلونا ونهبونا وسلبونا وها هم يرحلون.
ليت رحيلهم كان بمعركة وانسحابهم تم بهجوم.
أعداؤنا يرحلون، بعد ثمانين عامًا، تُرى كيف صبرنا هذه الثمانين؟
ولماذا تأخر الرحيل؟
أعداؤنا ذاهبون إلى قبرص. تُرى هل تنزلق شمس الإمبراطورية عن قبرص؟ تُرى عن قريب؟ تُرى هل يضيف العسكري الإنجليزي إلى صدره — وقد ازدحم ساعداه — وشمًا آخر يدقه في نيقوسيا، ويكون الوشم الأخير؟
أعداؤنا يرحلون، فلتتبعهم الهزيمة أنَّى يرحلون.