صح ..
كان واضحًا أن الصبيَّ لا يمتُّ إلى جاردن سيتي أبدًا!
فصبيٌّ حافٍ مثله، جلبابه قديم متآكل، ورأسه محلوق بالماكينة، ومضلَّع، وفيه نُتوءات كحبَّة البطاطس، ووجهه رمادي أصفر، وفيه «قوب» … صبي مثل هذا لا يمكِن أن يمتَّ أبدًا إلى جاردن سيتي، حي القصور والفيلَّات والسفارات.
أما كيف وصل إلى شوارع جاردن سيتي، فيبدو أنه أفَاق فوجد نفسه هناك، أو أنه ضلَّ الطريق، والغريب أنه لم يكن حزينًا ولا مُبتئسًا أو خائفًا .. كان في الحقيقة يبدو منتعِشًا طَروبًا.
كانت الدنيا في ساعتها الأولى، والشمس تُلوِّن الأرض وحَسْب ولا تُلهِبها، والبنايات غارقة في صمت أرستقراطي مهيب، وكل ما يُسمع من أصوات إنما كان يأتي من العصافير والبوَّابين الضِّخام السُّود، الطيبين الجالسين على الأرائك يحرُسون القصور، ويرتدون الجلاليب البيضاء الواسعة والعِمامات المضحكة الكبيرة.
كل ما في الجو كان يوحي بالبِشْر ويبعث على النشاط، والولد يَمضي على غير هدًى في الشوارع المشمسة الواسعة، وينظر في شغف إلى البِنايات والأشجار والنُّحاس الكثير اللامع، ويُصفِّر، ويدندن أحيانًا ويتوقف، ثم يستأنف المشي بطريقة المقَص فيمدُّ كلًّا من قدمَيه مكان الأخرى، ويسير أحيانًا بعَرض الشارع، وأحيانًا يرفع قدمه ويُمسكها بيده من الخلف، ويَحجِل على قدم واحدة، ولسانه يَلوك فمه من الداخل، فيصنع ضوضاء مكتومة كنَقيق الضفادع، ويجري إلى الأمام وإلى الخلف، ويحتلُّ وجهه كله تعبيرُ خالي البال المستمتع بكل ما يراه ويفعله، بلا شيء وراءه يُفسد المتعة .. لا عمل، ولا أب، ولا أسطى!
وتعثَّر فجأة في شيء، ووجعته قدمه، وانحنى فوجد أن ما تعثَّر فيه كان قطعة حَجَر بيضاء، فرماها بغيظ على الأرض، ولم يكتفِ بهذا، بل دفعها بقدمه، وطار الحَجَر إلى الأمام مسافة ثم توقَّف، وحين وصل إليه ضربه بقدمه ضربةً قوية أخرى، فطار الحَجَر واعتلى الرصيف، وحين وصل إلى مكان الحجر، انحنى والتقطه وحدَّق فيه مليًّا؛ ليتأكد أنه ليس شيئًا ذا قيمة، واستأنف المشي وهو يقذفه إلى أعلى ويلتقطه. وبعد قليل غيَّر الحركة فأمسك الحَجَر في قبضته ومدَّ سبابته لتُلامس الحائط الذي كان يمشي بجواره، وظل هكذا فترة، ويبدو أن أُصبعه آلمته؛ فقد استبدلها بالحجر وتلفَّت مرة فوجد أن الحجر يصنع باحتكاكه مع الحائط خطًّا أبيض .. وأعجبته اللعبة فاستأنف المشي وهو يمرُّ بالحجر على الحائط، فيرسُم خطًّا أبيض يبدو واضحًا فوق الجدران الأنيقة الملوَّنة، ورسم خطًّا على طول سراية آل سليمان، ثم مدَّه إلى أن وصل عمارة الفكهاني، ثم فيلَّا سمعان، وعبَر الشارع واستأنف حكَّ الحجر بسُور حديقة السفارة الأمريكية.
وكأنما أعجبه سور السفارة حين وجده طويلًا لا ينتهي، فمضى يجري فيجري الخطُّ بجواره، ويتوقَّف فيتوقف، ويُحرك يده إلى أعلى وأسفل، فيتموج الخط ويتعرج، ويسرع ويبطئ، فتتسع التعرجات وتضيق.
وقبل أن ينتهي السور كان قد انتهى شغفه بالخط فتوقف، وحرك يده بسرعة وعصبية فوق الحائط، فرسم الحَجَر خطًّا عصبيًّا متداخلًا فيه نزق وغضب، ورفع يده عن السور ولعق فمه من الداخل، فصدر عنه نقيق الضفادع، وهزَّ رأسه هِزات كمن يُراود نفسه، وهزَّ جسده أيضًا، ثم التصق بالحائط واختار بقعة ليس فيها خدوش، وتخيَّر حافة بعينها من الحجر وأمسكه بحرص في يده، ثم انكبَّ على الحائط وراح يعمل. وحين انتهى كان قد كتب كلمة: «محمد»، وحدَّق فيها، وتراجع إلى الوراء ولعق فمه وتأملها، كانت حروفها عجفاء ركيكة، وعقد يديه خلف رقبته وثنى جسده وركز انتباهه على «ميم» محمد، وكأنما أعجبته رأسها المستلقية إلى الوراء في عظمة؛ فقد عاد إلى الحائط بسرعة واندفاع، وكتب «ميمًا» أخرى، وضم شفتيه ونفخ أشداقه ونظر إليها، ويبدو أنها لم تعجبه فانكبَّ على الحائط من جديد وكتب «ميمًا» ثانية جاءت أسفل الأولى بقليل، وقريبة منها حتى إنها اشتبكت مع ذيلها، وتراجع إلى الوراء ونظر إليها، وكأنما هي أيضًا لم تعجبه، فقد رمى الحَجَر من يده، واستأنف المشي وهو يمطُّ شفتيه ويلوي بوزه.
وفجأة استدار إلى الخلف بسرعة ونظر إلى المِيمَين من بعيد، ثم أقبل عليهما بلهفة، وبحث عن الحَجَر بعينَيه حتى وجده، ومن جديد انكبَّ على السُّور، ورسم خطًّا رأسيًّا بجوار الميمَين، والتصق بالسور أكثر، وظل مدة طويلة يعمل وعَرقه يسيل، ويده الصغيرة العصبية قد تشنَّجت أصابعها كالكماشة على الحَجَر، ولما انتهى كان قد كتب: «أممنا – الشعب – القنال.»
وتراجع إلى الوراء وراح ينظر إلى ما صنعه وهو يلهث منفعلًا. وكأنما لم تعجبه الجملة فقد هزَّ رأسه بشدة، والتصق بالحائط من جديد، وراح يعمل وهو يغمض عينًا ويفتح الأخرى، ولما انتهى كان قد كتب نفس الجملة مرة أخرى ودون أن يتراجع إلى الوراء كثيرًا، حدَّق في الخط برهة قصيرة ويبدو أنه لم يعجبه أيضًا، ووجد اللام طويلة وشرطة النون غير واضحة، والقاف مغلقة، والحروف كلها مائلة كالنخل حين تعبَث به الرياح، يبدو هذا لأنه راح ينفخ في يده الممسكة بالحَجَر، لينفُض عنها ذرات الغبار، ثم تخير حافةً من حواف الحجر لم يستعملها، والتصق بالحائط من جديد، وراح يعمل ويعرق، ويغمض عينًا ويفتح الأخرى.
وحين انتهى فرك يده بشدة، كمن أتعبته الكتابة. وتراجع إلى الوراء ونظر إلى الجملة الأخيرة مليًّا، ثم علَت وجهه ابتسامة رضاء، فعضَّ شفته السفلى وأخرج من فمه نقيقًا، ثم عاد إلى الحائط ورسم علامة «صح» أسفل الجملة الثالثة، وجعل للعلامة ذيلًا مرحًا طويلًا؛ علامة الرضا الكامل.
وظل برهة يُحدِّق في الجملة؛ كأنما لِيتأكد أنها محفورة على حائط السور، بطريقة ليس من السهل محوُها، وأنها ستظل هكذا فترة طويلة، وسيعرف كل مَن يقرؤها — بطريقة ما — أنه كاتبها. ظلَّ برهة يُحدِّق في الجملة، ثم ارتعش نصفه الأعلى كله، وأخرج من حلقه صوتًا كصوت «العِرسة»، ورفع قدمه اليسرى وأمسكها بيده من الخلف، وانطلق يحجِل بقَدم واحدة، ويَمضي في الشارع المشمِس الواسع.