الجُرح
فاجأنا الريس حين طلب منا أن ننتظر. قالها بلهجته البحراوية وكان كلامه من لحظة أن عرفناه قليلًا، وكان من نوع لا يرحب بالجدل ومع أن كل شيء كان على أتمِّ استعداد إلا أننا سكتنا كلنا ونحن متأكدون أن لا بد هناك ضرورة لهذا الانتظار غير أن حلمي لم يسكت. عوج وجهه. وأسبل جَفنيه وقال للريس: إحنا مستعجلين ولزومه إيه الانتظار؟
يبدو أن كلامه تبدد. ولم يصل إلى آذان الرجل. فقد كان مشغولًا بشيء ما يُعدِّل من وضعه في (القِلع)، وأُحرج حلمي حين لم يتلقَ ردًّا على سؤاله فعاد يقول: مستنيين إيه يا ريس؟
ونطق الرجل كلمة، ولم نتبينها. فقد كان يُمسك مسلة بشفتيه بينما يداه مشغولتان، والتفتنا جميعًا نحوه، فرفع المسلة وقال: واحدة ست. ولا بد أن دهشة كبيرة انتابتنا، فقد تململنا. ونطق أكثر من واحد مرددين: إيه؟ ست؟ واحتجَّ حلمي مُخفيًا غِبطته قائلًا: ست إيه، وده وقته؟ إنت مش فاهم ولا إيه يا ريس؟
وأجاب الريس والمِسَلة بين أسنانه هذه المرة. تقلب الزاي جيمًا. وتُعطِب الكلمات: لاجم ناكدها معانا.
وانهالت الأسئلة والاحتجاجات. وانتظر حتى فرغنا وقال: أنا حالف بالطلاق لازم آخدها.
وارتفعت أصوات احتجاجنا أكثر. فأكمل: دي ساقت عليَّ الدنيا. وباتت مع مراتي عشان تضمن تيجي لغاية ما حِلفت لها يمين الطلاق.
وأتبع كلامه بابتسامة يرضينا بها. كانت له سِنَّة من بلاتين براق، وكان وجهه نُحاسيًّا أسمر. ورموشه صفراء طويلة. واللاسة التي تَعمم بها من حرير. وفانلته زرقاء من الصوف تنتهي بياقة مسدودة تحيط برقبته. وأكمام طويلة. وله سروال.
- هه .. أنام أنا بقى.
قال حلمي هذا وتمدد. وأحدث تمدده انكماشات في الأرجل وثنيات هنا وهناك، وأصوات احتجاجات كان مبعثها أننا نعرف أنه لا يريد النوم بقدر ما يريد أن يرينا سخطه على الوقت الضائع.
وركز الريس عليه انتباهه لحظة. ثم ابتسم وقال: اسم الكريم إيه؟
فقال حلمي وهو يزفر: زفت.
وعاد الريس يسأله: ودستورك منين؟
واعتدل حلمي وقال: منين إيه يعني؟ اشمعنى يا ريس؟
فقال الريس وهو يجذب حبلًا: بسأل.
وقال أحدنا: مصيبة تقيلة.
وأجاب آخر: ح تعطلنا .. ويمكن تودينا في داهية.
ولعب ثالث بيده في الماء ونثر قطرات على الباقين وقال: ودي عايزة تروح ليه؟
ونظر صاحب الصوت إلى الريس وأعاد نفس السؤال.
ولم يردَّ الريس. وكنا كلنا نتوقع هذا. كان لا يجيب إلا على ما يحلو له الإجابة عليه. وأحيانًا يكتفي بالتحديق في سائله وهزِّ رأسه.
كان ثمة هدوء على الشاطئ. هدوء متكاتف ثقيل. والهدوء حين يتكاتف ويستتب يصبح شيئًا مروعًا، وكانت الدنيا «ليل»، والبلد ساكنة هامدة بجوارنا. بيوتها أشد سوادًا من الظلام. بيوت قديمة متراصة، حيطانها لا تحتمل البرد، وطوابقها متآكلة متساندة كجماعة من خفر الليل العواجيز.
وتِجاهَنا شارع واسع جدًّا لا يسمح ضِيق البلدة باتساعه، وتلمع فيه برَك ماء، وتتجمع على حوافه أكوام من قشر الأرز الذي تنفثه ماسورة طويلة تمتد عبر الشارع وتنتهي من مضرَب الأرز، أعلى بناء في البلدة، والبناء الوحيد الصاحي؛ إذا كان يعمل رغم إطفاء الأنوار والأوامر. وتتصاعد دقات وابوره لب دب. لب دب .. لب دب. موحشة كئيبة في البلدة المظلمة، كأنها القلب لا يزال يدقُّ في جثة ماتت وشبِعت موتًا.
وكان قاربنا واقفًا على حافة البحيرة وظهر البلد إليه. وكنا إذا التفتنا إلى البحيرة ضاعت أبصارنا بين البحيرة الراكدة المظلمة في السماء، والسماء التي استقرت بنجومها في قاع البحيرة، وكان قلع المركب مطويًّا، نرى بدايته القريبة منا، ولا نرى نهايته المذابة في الظلام. وكنا أربعة، والقارب صغير، وحلمي مضطجع، والريس جالس القرفصاء مستندًا إلى الصاري، والريح نائمة، ودقُّ الوابور يصِلُ إلينا بانتظام يضايقنا انتظامه، وأنفاسنا تتقارب وتتباعد، والأحداث كثيرة، وغريبة، ومتتابعة، وكلها تحدث في يوم واحد، ونتنفس بعمق فتمتلئ أنوفنا برائحة الزفارة. كل ما في البلدة يضجُّ بها. الأرض والبيوت ورغبات الناس والقوارب .. فالبلدة أهلها صيادون، والسمك صناعتهم، وفي كل مكان تجد آثاره، والقارب يهتزُّ اهتزازات خفيفة، يجذبه موج صغير إلى الداخل، ثم يدفعه الموج الكبير ليصفع به الشاطئ، والريس كوعه فوق ركبته، ويد من يديه ممدودة إلى آخرها، واليد الأخرى فوق الدفة ورموشه الطويلة مسبِلة، وفمه نصف مفتوح، ويكاد شخيره يتصاعد.
واهتزَّ القارب، وتحرك واحد، وخرجت في الظلام علبة سجائر، وتناولناها كلنا، وأخذ الريس سيجارة .. وضعها بين أُصبعي يده الممدودة ورفض أن يشعلها.
ومضى الدخان يتصاعد من أنوفنا وأفواهنا في صمت، والبقعة التي نحن فيها أصبحت صفحة سوداء. فيها لُطع بيضاء، تحدد هيكل القارب، وولعة أربعة سجائر تتوهج، وفوانيس النجوم الصغيرة تتأرجح، ونابُ الريس البلاتيني يبرق.
وقال حلمي فجأة: دا مش كلام، ما نرجع أحسن.
قال هذا وهو ينتفض بشدة ويقوم. ومال القارب حتى كاد ينقلب، وارتطمت جبهته ارتطامًا عنيفًا بالصاري حتى إنه صرخ، وما كاد القارب يعتدل حتى كانت يدُه تتحسس جبهته، وحتى كان يقول: أنا اجَّرحت يا جماعة، والله اجَّرحت، ياه، ده فيه دم، إدوني منديل.
وحدثت ضجة، وتناثرت الشتائم من فم حلمي، وكثرت التعليقات، ثم خمد الكلام، وانقطع، ودلفنا إلى سكون لا يعكره إلا صرير الصراصير المتصل الدائم.
ورفع الريس رأسه، وحدق إلى بعيد، وتمايل القارب حين اندفعنا كلنا لنُحدِّق.
كانت ثلاث كتلٍ سوداء تتحرك مسرعة في اتجاهنا. كتلة قصيرة صغيرة في المقدمة، والكتلتان اللتان وراءها تحاولان اللَّحاق بها، وتخوضان برَك الماء دون جدوى.
ولم يكن القارب قد تحرك، أو حتى كان في نِيتنا أن نتحرك، ومع ذلك كانت مَن في المقدمة لا تكفُّ عن الصياح: إوع تمشي .. إوع تمشي يا خويا .. أهه .. أنا جيت.
وفي غمضة عين كانت قد وصلت وألقت بنفسها إلى القارب، ولولا أننا قمنا جميعًا وتلقَّفناها بأيدينا لكانت قد هَوت إلى الماء، ومددنا إليها أيادي كثيرة تساعدها، وأمسكت بأيدينا في قوة وتحفز، وعصبية، وكانت أصابعها حادة صُلبة ذات تجاعيد، والقبضة قبضة أُم.
وأفسحنا لها مكانًا، ولكنها لم تجلس .. ظلت تتلفت في قلق ولهفة، ولا تستكين، وتودُّ أن تقول أي شيء وتسأل عن كل شيء، وحين وصلت الكتلتان قالت بسرعة وحسم: روحوا انتم بقى.
قالتها كمن يودُّ رفع الهِلب الذي يربطه بالشاطئ لينطلق. وتكلمت المرأتان .. في وقت واحد .. وكلام كثير. واحدة طويلة وعجوز. وكلامها أيضًا طويل وعجوز .. والثانية فتاة، لا بد أنها جميلة فصوتها كانت فيه رنَّة مَن اعتادت الثقة في نفسها وجمالها .. وكانتا لا بد «أخت وبنت أخت» وكان رد الخالة واحدًا حاسمًا لا يتغير: روحوا انتم بقى.
ولم ندرِ لإصغائنا للحوار سببًا. وعقولنا بدت لنا كالصفحة البيضاء التي لم يُخطُّ فيها حرف .. وما نسمعه كأنه أول كلام عربي نسمعه.
وأفاق واحد وغمز لجاره: مصيبة وجت لنا على الآخر.
وقال له جاره: ح تخاف دلوقت وتبهدل الدنيا.
وقالت الخالة مرة: روحوا انتم بقى.
وخرجت الجملة دون أن يسبقها أو يعقُبها ردٌّ من الشاطئ.
كنا قد ابتعدنا.
وبدت البحيرة لا نهاية لاتساعها، وأصبحنا بالقارب والريس والصاري نقطة تافهة في الوجود غير المحدود. وتلك هي البحيرة فقط، فما بالك ونحن من لحظة أن غادرنا القاهرة وطريق طويل يسلمنا إلى طريق أطول. والأرض الخضراء على الجانبين، أرض واسعة لا حدَّ لاتساعها، أوسع من أي شيء رأيناه، أوسع من السماء، السماء تضيق بسطح الأرض فتنحني السماء وتصنع خط الأفق، والأرض لا ينهيها خط ولا أفق. فبعد كل أفق تجد آفاقًا أوسع.
والقرى كثيرة لا حصر لها، بين كل قرية وقرية قرية. وفي كل قرية مئات البيوت، وكل بيت يعجُّ بعشرات الناس، وكل هؤلاء مصريون، كلهم مصريون، لا يمكن أن يموتوا كلهم أبدًا. ونترك إقليمًا وندخل إقليمًا والأرض لا تنتهي والناس لا ينتهون. أناس متشابهون، وجوه لها لون أرضنا السمراء، وذقون وشوارب كشوش الأذرة، ونفس السحنات، وكأنهم رجل واحد مصنوع من ملايين الرجال. ويقولون إن سيدنا نوحًا كان طوله ألف ذراع، ترى كم طول هذا العملاق الذي لم نعثر له على بداية، وظلت السيارات والقطارات تقطع بنا الأميال والأميال ولا نعثر على نهاية. حتى حين وصلنا المطرية، وانتهت الأرض وبدأت البحيرة، لم ينته العملاق، بل تحوَّل إلى يد ضخمة. يد ذات عشرات الآلاف من الأصابع، يطلقها في ماء البحيرة فتمتلك البحيرة، وتعتصر من مياهها خير ما فيها، وكما يحدث لليد إذا امتدت إلى الماء وطال امتدادها، فالناس تصفرُّ شعورهم، وتَبهَت بشَراتهم، ويصبح لعيونهم زرقة الماء. ويتغير شكل الجسد ولا ينتهي العملاق.
كنا قد ابتعدنا.
وكل شيء أصبح مستقرًّا ما عدا الريس. كان دائب الحركة، لا يهدأ. المِذراة في يده يغرسها في قاع البحيرة ثم يدفعها بصدره، وأرجله تمرُق من وراء ظهورنا، وتدور حول القارب، وأصابع أقدامه تتشبث بالحافة في حنكة ودراية وكأنها قد تحولت إلى مخالب صقر وحركته تبهرنا، وكأنه يقوم بمعجزة، يميل ليدفع القارب أكثر حتى لنعتبره ساقطًا في الماء، وإذا به يرتدُّ، والمِذراة قد انتزعها وكأن ألف حبل خفيٍّ تصل بينه وبين الصاري، وتحميه من السقوط.
ولم تكن الراكبة الجديدة إنسانة، كانت كتلة قلق حية جعلتنا نُحس أن روحًا جديدة حلت بيننا وفينا. عيناها تنظران إلينا ولا تتفحصاننا، وأيديها على ركبها، وأيديها على يد الحافة، وأيديها تضرع لإله غير منظور، ورأسها يدور، ولا يستقر، وينثني فجأة إلى الشاطئ ثم يرتد ويعود يدور. وما كاد الريس يفرد القلع حتى التفتت إليه وقالت: مش على طول يا خويا.
وقال الرجل بلُكنته البحراوية والمِذراة لا تزال تحت إبطه: إيواه .. ربنا يسهل.
وردت الخالة: إن شاء الله .. إن شاء الله إلهي يخليك.
والتفتت إلى الجالس بجوارها وسألته: وانتوا كمان؟
فأجاب حلمي ويده تتسلل دون وعي وتتحسس مكان الجُرح في جبهته: واحنا كمان ..
وعادت تسأل الريس: ونوصل إمتى ..؟
فقال حلمي: حد عارف.
وأعادت السؤال وابتهلت، فقال الريس: يا أمي ربنا يعدِّلها.
واستمرت: يعني بعد ساعة؟ .. إلهي يخليك لشبابك .. بعد ساعة؟
ولما لم يُجِب الريس، التفتت إلى حلمي وسألته: بعد ساعة يا بني .. إلهي يخليك .. بعد ساعة والا أكتر؟
وهنا زعق الريس وقال: دا شيء بتاع ربنا يا ستي. واللي منه لا بد عنه. هو مافيش صبر؟
والصبر هي الكلمة التي كان يبحث عنها كلٌّ منا ليُسمي الرائحة التي أشاعتها الخالة من لحظة أن جاءت. كانت ترتدي كمعظم الخالات ثوبًا أسود وطرحة سوداء. ولا يظهر من جسدها غير وجهها فقط، وثيابها كانت تبدو وكأنها لم تخلعها منذ أيام كما لو كانت أردية ميدان. وأشاع قدومها تلك الرائحة .. رائحة العواجيز التي لا يعرف أحد إن كان سببها هو رائحة الصناديق التي تحفظ فيها الثياب، أو هي رائحة نسيج الملابس نفسه. المهم أنها تذكرك لا بد بجدتك، وبالماضي، ومع أنها ليست عطرة، إلا أنك لا بد تُحس بالألفة تجاهها، ولا تتأفف.
ولم تكفَّ الخالة عن الكلام منذ أن جاءت، ولم نكن نتكلم والريس هو الآخر ساكت. كانت قد مضت ساعات ونحن نترقب، كل ما يهمنا هو اللحظة التالية وما يحدث فيها. والكلام لا يدور في جو الترقب. ولا يدور ساعة الضيق. وكل شيء قد حدث على حين بغتة، كنا في بيوتنا وأعمالنا وقال كل منا للآخر: تروح؟ وقال كلٌّ منا للآخر: ياللا. وإذا بنا في الطريق وكأن لا ينقصنا سوى الاحتكاك لنشتعل. وأصبح أهم شيء لدينا أن نرى ونسمع ونُجهِّز أنفسنا للمشهد القادم والكلمة التالية .. ووصلنا المطرية في الضحى، وانتظرنا إلى أن يحُلَّ المساء لنعبر البحيرة إلى هناك، وقضينا اليوم بطوله نعيش في بلدة الإنسان والسمك .. والحياة تمضي من حولنا، كما اعتادت أن تمضي طوال آلاف من الأعوام .. الرجال ذوو الشعر الأصفر والبشَرة الفاتحة والأفواه المفتوحة على الدوام كأفواه البلطي، يتزوجون البنات والبنات شقراوات، أجسادهن لها تناسق (المز) ورشاقة الطوبار، وطعمهن أشهى من السمك الطازج إذا شُوي في الفرن وأُضِيفَ إليه الفلفل والملح والتوم وعصير الليمون، ولهذا فكل يوم زواج. والأطفال كل يوم يولدون. والأسماك هي الأخرى تتوالد، وتتكفل البحيرة بصغار الأطفال وصغار السمك. صغار الأطفال طول النهار في الماء يألفون الماء المالح ويألف الماء المالح أجسادهم، ولا أحد ينهرهم، ولا يخاف عليهم أب؛ فالبحيرة للصيادين غول مستأنَس.
ويكبر الطفل فيكبر حب استطلاعه ويترك الشاطئ ويتعلم العوم، وصغار السمك أيضًا تتعلم العوم. ويصبح طول الطفل مترًا وطول السمك قراريط .. ويذوق الطفل طعم السمك، ويذوق السمك طعم الطُّعم، فلا ينسى الطفل حلاوة السمك، ولا ينسى السمك حلاوة الطُّعم. ويُمسك الطفل بصنارة ويخرج سمكة، وتهزه الفرحة فقد هزم العالم المجهول الكائن وراء السطح البراق. ويهزمه مرة ذلك العالَم المجهول. ويعود خاويَ الوِفاض. ويفهم الطفل أن الصنارة نصفها في يده يخضع لإرادته، ونصفها الآخر يعتمد على رغبات مجهولة في العالم المجهول.
ويسمع أباه يقول: الحظ. ويردد الكلمة لا يعرفها. ثم يرددها وهو يعرفها ويؤمن بها. يؤمن بقانون آخر يحكم العالم المجهول. قانون لا يخضع لقانون .. ولا يستسلم الإنسان حتى لو كان خَصمه قانونًا لا يخضع لقانون. ويبدأ الصراع الرهيب بين الصياد الصغير والبحر المجهول. ولا بد من أشياء تؤنس وحشة الإنسان في ذلك الصراع. لا بد من علامات تشاؤم وتفاؤل، لا بد من موال؛ لا بد من حدوتة؛ لا بد من أمل طويل لا ينقطع؛ لا بد من الصبر.
الصبر.
رائحة الصبر كنا نستنشقها ونتمثَّلها، والقارب قد اندفع وابتعد عن الشاطئ وأصبحنا في قلب البحيرة، وشعاعات خفيفة متباعدة تنتشر في الأفق وتبشِّر بطلوع القمر، وهدهدة، أصوات هدهدة هي كل ما يُسمع والقارب يرفعه الموج الصغير ثم يُرقِده بحنان على سطح الماء، والموجات تهتز والنجوم تهتز، والريس عند المؤخرة يهتز، ويد على الدفة ويد ممسكة بحبل القِلع توجهه ليعترض الريح، والريح شفافة خفيفة، والدنيا برد، والبرد يكاد يتحول إلى إبر، إبر طويلة ثاقبة، تخرق أجسادنا حتى تصل إلى النخاع، والخالة جالسة لا منكمشة على نفسها ولا منطوية، وكأنها نعسانة أو ميتة.
وقال لها حلمي: بردانة يا خالة؟
فأجابت: آ .. باقي كتير. ييجي ساعة يا خويا.
ونطق الريس: انوي المشيئة يا شيخة .. قولي إن شاء الله.
فقالت الخالة على الفور: إن شاء الله يا خويا إن شاء الله بإذن الله بعد ساعة؟
وكادت موجة الحديث تنتشر لولا أن الريس أسكتنا. فالهدوء مخيم، والكلام ينقله سطح الماء المستَوِي إلى مسافات بعيدة والبحر له آذان.
ورحنا نهمس. قالت الخالة: إنتم كمان رايحين؟
فقال حلمي: إيوه.
وسألتنا كلنا: ورايحين ليه؟ إنتم من هناك؟
- لا.
- ليكو قرايب أمال؟
- أبدًا.
وقال الريس وهو يبتسم: ما قلت لك دول فداوية يا ست.
وتململنا، وهممنا أن ننطق. ولكن الخالة تمعنت فينا وسألتنا: إنتو صحيح فدائية يا بني؟
فقلنا: أمال ح نكون إيه يا خالة.
وتركت الحديث ووضعت يدها برفق على كتف حلمي وقالت: ما تحطش إيدك ع الجرح يا ضنايا لحسن وحش.
وأنزل حلمي يده بعد تردد واختطف سيجارة من واحد منا وسألها: وانتي رايحة ليه يا ست؟
ولم تُجِب. ولمحنا دموعًا تهطُل على الفور من عينيها دون بكاء واستغربنا، وأعاد حلمي السؤال فقالت: رايحة أشوف ابني.
ولم تنطق «ابني» حروفًا كانت دموعها أكثر من الحروف وهي تنطقها.
- ابنك ما له؟
وأجابت: ابني يا خويا هناك.
- بيعمل إيه؟
- مجروح .. مجروح يا ضنايا وما شفتوش بقالي شهر.
واندفعت تبكي. وشلَّ بكاؤها ألسنتنا. ولكن حلمي ألح: مجروح ازاي؟
ومضت تتكلم وتبكي وتبكي وتتكلم: جتله رصاصتين في رجليه .. إلهي ينتقم منهم البعدا.
- ليه؟
- كان بيحارب في الهوجة ساعة ما نزلوا.
- كان بيحارب؟!
قلناها كلنا مبهورين. وكأننا نردد أمنية غالية، وكأننا نُطلق دعوة. ولم تكن أمنيتنا وحدنا. كل مَن قابلناه كان يرددها. وقليلون هم من أتيحت لهم الفرصة. فالمعركة كانت حادة وباترة، نشبت فجأة، وانتهت فجأة، ولم تستمر سوى أسبوع، وكأنها طعنة خنجر، حتى أصبح في نظرنا البطل هو من كان هناك والمقدس هو من اشترك فيها، أصبح كل مَن اشترك فيها يَحفُّ به في نفوسنا نوع من التقديس وكأنه أسطورة، وكأنه كائن غير موجود، فإذا بالخالة ابنها قد حارب وجُرِح. وقلنا لها: وزعلانة ليه؟ ابنك بطل.
- عايزة أشوفه.
- دي إصابته بسيطة وما لك نازلة بكا عليه يا ستي؟
- بقا لي زمان ما شفتوش .. مشتاقاله وجيت مرة المطرية قبل كده. وركبت القارب ووصلنا هناك .. والإنجليز حاشونا ثلاثة أيام وكان الرصاص زي الناموس فوق رءوسنا. وبعدين رجعونا .. ودي تاني مرة .. ح نوصل امتى يا أخويا .. إلهي يخليك. عايزة أشوفه. مش قربنا؟
وتناهى السؤال إلى وعينا غريبًا مدويًا. وانطلقت عيوننا تستكشف البحيرة. وفقدنا الأبصار في المسطح اللانهائي من الماء. وغابات الحشائش المتناثرة، والسماء ذات الضوء الشاحب، والقمر المكسور الذي بدأ يزحف صوب الأفق. ولا شيء سوى هذا. لا شيء سوى الماء الكثير الآسن. الماء الأسير الباقي بعد الصراع، صراع النيل والبحر الكبير، والنيل الهائل الذي أنشب أظافره في البحر وأسر الكثير من مائه وحاصره. وصنع البحيرة، لا شيء سوى سكون غامض مثير مليء بأسرار وألغاز، سكون الأسى ومعسكرات الاعتقال، وسكون مرعب مخيف، سكون البحيرة التي عبدها القدماء.
ولم نكن بعد قد عرَفنا الكثير عن ابن الخالة. كنا نودُّ أن نعرف كل شيء عنه من لون شعره إلى طريقته في المشي.
قالت: أبدًا يا بني .. لما الضرب حصل قال لي لازم تسافري.
قلت ما أسافرش، قال لازم. قلت له يا بني أنا ماليش إلا أنت، وربنا هو حيلتي من دنيتي. أسيبك ازاي. قال لازم وركبني المركب. ورحت مصر. يقطَعني أنا اللي ما استنيت وياه. يقطَعني اللي سبته.
- وحارب؟!
- وحارب وجاتله رصاصتين في رجله.
- وعرفتو ازاي؟
- هو في المشتشفى وبعت لنا جواب في الصليب الأحمر يا خويا وقال الخدمة زي الزفت ومفيش أكل ولا شرب يا بني يا حبيبي .. مين يجيب له يشرب إذا عطش؟ مين يسقيه؟ مين يسأل عنه؟
واعتدلنا جميعًا.
كان الأمر يتأرجح في نفوسنا بين الشك واليقين، كن نعتقد أنها لا بد أمٌّ قد لسعها الشوق إلى ابنها المحجوز هناك وصممت على رؤيته. وقصص البطولة مُودة «موضة»، كل قاطن هناك لا بد اشترك، وكل قاطن بطل، وكل واحد قتل من الأعداء مئات. وتبادر إلينا أن الخالة هي الأخرى تودُّ تضخيم الأمر واختلاق المستحيل لتصل. ولكنا اعتدلنا. فغير الأمِّ لا يستطيع أن يمثل أبدًا دور الأمِّ. وأمُّ غير المجروح لا تستطيع أن تمثل أبدًا دور أمِّ ابنها مجروح، وكانت في جلستها التي لم تغيرها، والتي يُخيل للإنسان إذا رآها أنها واقفة، وواقفة على أطراف أصابعها وليست جالسة، وعيونها وهي تنظر إلى بعيد ولا تطرف ولا تملُّ الرؤية والنظر وكأنها تتشوَّف إلى حبيب، وكلماتها، والطريقة التي تنطق بها كلماتها، ودموعها التي تغرق الكلمات وتغص الحلق. كانت بلا ذرة شك مجروحة وأم مجروح. اعتدلنا ونحن نحس بقشَعريرة انهيار، وكأننا ونحن ننظر إليها نعبد الخالق أو نصلي للشرف.
وقال حلمي: خالة.
- نعم يا خويا.
- إنتي زعلانة إنه حارب؟
- أنا يا بني زعلانة إنه مجروح ودلوقت لوحده.
وقهقه حلمي كمَن يود أن يغير طعم الحديث، وسألها في سخرية غير لاذعة: طيب .. افرضي يا خالة إنك كنت وياه ساعتها كنت ح تخليه يحارب؟
وانحدرت دموع كثيرة من عينيها، وقالت في لهجة روتينية: أيوه كنت أخليه.
وزَام حلمي غير مصدق، فتابعت إجابتها بإخلاص هذه المرة: كنت أخليه أخليه .. إنما لازم كنت أحارب وياه .. رجلي على رجله.
وقال حلمي مستخفًّا: تشيلي البندقية؟
- أشيلها.
وتدخَّل واحد وقال: طب شيل إنت إيدك من ع الجرح يا حِدق.
وتنبه حلمي إلى أن يده كانت قد عادت إلى مكانها فوق الجرح دون وعي منه، فأنزلها، وتوقف برهة، ثم تابع استخفافه ليداري خجله: وتضربي نار يا خالة؟
- أضرب .. ما اضربشي ليه. أهم بيقولوا إن الستات كانت بتضرب.
وتابع حلمي استخفافه: طيب افرضي إنه اتعور وانتي بتحاربي معاه، تعملي إيه؟
وبكت ولم تُجِب، وأسكتْنا حلمي. ولكنه فعل هذا للحظة ثم عاد يسألها: يا ستي الحكاية بسيطة، وهو في المستشفى. زمانه طاب. وما لك ملهوفة عليه قوي كده ليه، هو انتي لوحدك؟ ما كل واحد اتعور له أم زيك كده، ما كنتِ تستني لما يخرجوا الإنجليز وتروحي في أمان بدال ما تعرضي نفسك للموت كده. إنتِ لازم ترجعي وتستني.
فأجابته بلهجة هادئة ولكنها حاسمة: ما أقدرشي أستنى.
- ليه؟
- عايزة أشوفه. زمانه لوحده. عايزة أشوفه بعد اللي حصل. دا كان في الحرب يا بني. إلهي ما يحرق قلب أمك عليك.
وضحكنا لذكر أمه. ومع هذا لم يملك كلٌّ منا بينه وبين نفسه إلا أن يتذكر أمه، ثم ينفيها على عجل من ذاكرته.
وحلت لحظة صمت.
الريح بدأت تنتعش. ونور السماء قد خفف كثيرًا من ظلام البحيرة، والقلع منفوخ، وفم الريس مفتوح، وعيونه لا تغفو، والجو مملوء بالصرير المتصل الذي لا ينضب ولا ينقطع.
وسألها حلمي بصوت شاعري ممدود يقارب لهجتها: هو كبير يا خالة؟
فقالت دون أن تنظر إليه. وعيناها هائمتان. معلقتان فوق نجمة بعيدة في قاع البحيرة: أهو اسم النبي حارسه ييجي قدك كده.
- ومجوز؟
- خطباله.
وارتفع صوت حلمي في هزار مُفاجئ: وزعلانه قوي كده ليه؟ تلقاه كان طول النهار نازل فيكي شتيمة.
- أبدًا والنبي يا اخويا .. دا لسانه مفيش أنضف منه.
- وكان بيشتغل إيه يا خالة؟
- عندنا دكانتنا يا خويا .. أمال هو قعد ليه .. قال لي ما اسبش الدكانة للإنجليز ينهبوها أبدًا.
- وكان بيحب مصر يا خالة؟
- مصر مين يا خويا؟
- مصر بلدنا.
- هو حد يا ضنايا يكره بلده .. إلهي يخليك.
وصنعت الدموع خطين رفيعين لامعين على وجنتيها واندفع حلمي يقول في حماس مفاجئ: يا ستي ابنك راجل واتعوَّر في معركة رجالة. اتعوَّر وهو بيدافع عن بلدنا وشرفنا، بكرة يكتبوا اسمه في الجرانين وينشروا صوره، فأجابت وهي تهز رأسها: بس عايزة أشوفه. عايزة أشوف إيه اللي جرا له .. إلهي يخليك يا ريس. لسه كتير؟
ولم يُجِب الريس.
وهزَّ حلمي رأسه في يأس، ثم تنبَّه فجأة، وقال بالإنجليزي كأنه عثر على كنز كبير: أتعرفون لماذا هي مُصرة على رؤية ابنها؟
وقال له واحد بالعربي: ليه؟
فقال: إنها تدرك بغريزتها أنه لا بد قد تغير بعد المعركة، تريد أن تتبين ما حدث له من تغيير وكيف أمكن لابنها الذي ربته ورأته طفلًا. كيف أمكنه أن يحمل السلاح ويحارب. وتريد فوق هذا أن تطمئن إلى أنه لا يزال ابنها حتى بعد أن حارب كالرجال وحمل السلاح.
وضرب واحد يد حلمي التي كانت قد تسللت مرة أخرى إلى جبهته وقال بالإنجليزية أيضًا: يا مغفل أهم شيء هو القوة الرهيبة التي تجذب الأم إلى ابنها، القوة التي لا يقف أمامها حائل.
ولم يظفر التعليقان بتعليق. كل ما حدث أن الخالة ظلت تنظر إليهما وهما يتكلمان، ثم التفتت إلينا وسألتنا: أمال انتم رايحين ليه يا اخويا؟
فأجابها حلمي: مش قلنا لك يا ست فدائية. مش مصدقة ولَّا إيه؟
وكدنا نضحك لولا أن سمعنا الريس يقول: اسمعوا. فسكتنا برهة .. وعاد يقول: سامعين!
وأصَخنا أسماعنا، ومن بُعد سحيق تلقفنا صوت هدير غريب على السكون المستتب.
وقال الريس: دا لنش.
فقال حلمي على الفور: لأ .. دي طيارة.
- بقول لك لنش.
- أقطع دراعي إن ما كانت طيارة.
وخُيل إلينا أننا ظللنا ساعة ننتظر النتيجة. وكان الريس يتكلم: الإنجليز عملوا استعدادات جامدة. طيارة أم مروحة رايحة جاية على البحيرة. تشوف القوارب وتعرف إذا كان فيه صيادين ولا لأ. وبعدين قبل الشط بشوية لازم تقف وإلا تضرب بالنار وبعدين قارب ييجي يفتش. إنما دا صوت لنش ما فيش كلام.
وظل الصوت يهدِر من بعيد ويقترب حتى رأينا في الضوء الشاحب نقطة فاتحة تتحرك وكانت تتحرك في نفس اتجاهنا.
وقال الريس بنبرة فيها انتصار قليل: مش قلت لكم. دا لنش. وجاي من ناحية المنزَلة كمان. عارفنشي رايح فين؟
وابتسم حتى توهَّج نابه وأردف: على هناك برضك.
وسأله حلمي بسخرية: إيش عرفك؟
فأجاب: إيش عرفني؟! أنا عارف قوي .. وما تزعلش تلاقي فيه ناس مثلكو برضك.
وتغيرت لهجة حلمي واهتزَّ طربًا وقال: كده .. طيب تيجي ننادي عليهم يا جماعة؟
وانهالت الأصوات تعترض. وقال الريس: خليهم يا محترم في حالهم واحنا في حالنا. خلي كل حي في سكِّته. وكان اللنش أسرع منا، فسبقنا، وأوغل في التقدم حتى تبدد وقال الريس وهو يضرب ركبته المثنِية بيده: يا خويا إيه الحكاية. دا المركب بطلت صيد. أنا واحد م الناس ليلة امبارح، وليلة أول، وكل ليلة عَمال أحول في ناس زيكو كده، صفوف ورا صفوف عمالة تروح على هناك. هو هناك إيه؟ مولد؟
وقاطعته الخالة قائلة لحلمي: يا حبيبي شيل إيدك من على الجرح .. عمال تحسس عليه ليه، شيل إيدك يا خويا.
وجمُدت يد حلمي وكأنما ضُبط متلبسًا .. ثم أنزل يده وهو يداري ابتسامة خجل ويتمتم: لأ .. دانا أصلي بس حاسس إني سخن.
وما لبث أن انثنى إلى جاره قائلًا: والنبي تحط إيدك تشوفني سخن ولَّا لأ .. يا أخي شوف.
ولم يترك الجار إلا بعد أن أطاعه ووضع يده فوق جبهته.
وكنا قد دخلنا منطقة خالية من جزر الحشائش، والريح بدأت تقوى حتى إنَّ الريس ربط حبل القِلع في مؤخرة القارب، وأمسك بالدفة فقط، ولكنه ظل مقطَّب الملامح، عابس القسمات صامتًا لا ينطق وكأن أمرًا كبيرًا يُحيِّره، أو حزنًا مفاجئًا داهمه. وكان جالسًا وظهره إلينا، وظلَّ على هذا الوضع لا يغيره، وكنا قد تعبنا من التفكير والكلام وحتى من مجرد التحديق في السماء والماء، فسكتنا، وماتت الحركة على ظهر القارب تمامًا حتى لم نَعُد ندري أهو واقف أو يتحرك، وهل نحن نائمون أم مستيقظون.
وانثنى الريس ناحيتنا فجأة حتى تهدلت اللاسة التي كان يتعمَّم بها من عنف الحركة، وقال: قولولي يا سيادنا.
وقبل أن نسأل ماذا يريد أو نتحرك قال بنبرات حاسمة وكأنما يتخذ قرارًا خطيرًا: انتو مش فدائية؟
ولا ندري لماذا دقَّت قلوبنا بعنف، وكأنما كنا نسرق وباغتنا الريس. وظلِلنا وقتًا طويلًا صامتين، صمتًا حائرًا مضطربًا، صمت العاجزين وكان حلمي أول من تكلم وقال: أمال احنا إيه؟ بنلعب؟
وحدَّق الريس فينا مرة أخرى وقال: عليَّ الطلاق بالتلاتة إنتم ما انتم فداوية.
وقال حلمي ساخرًا مرتبكًا: أما حكاية .. أمال رايحين نعمل إيه يا بلدينا؟
فأشار الريس بكفه وقال: ما هو ده اللي محيرني. رايحين تعملوا إيه. رايحين ليه. هو أنا عيل .. دانا أفهمها وهي طايرة. والناس بتبان. الواحد ياما شاف فداوية وضباط وجن أحمر. إنما اللي محيرني انتو رايحين ليه؟
واستمر حلمي ساخرًا مرتبكًا: طيب رايحين ليه؟
فأجاب الرجل: إنت بتسألني أنا .. اسألوا نفوسكم!
ولم نكن، حتى تلك اللحظة، قد سألنا أنفسنا أبدًا أو ناقشناها ولم يكن أحد قد سألنا. كل مَن علم أننا ذاهبون كان يتمنى لنا حظًّا سعيدًا ولا يستغرِب. بل إن كل مَن قابلناه أو رأيناه كان يتمنى أن يأتي معنا. وكنا نأخذ الأمنية على أنها شيء طبيعي لا غرابة فيه، كمن يقول: نفسي آكل، أو نفسي أشرب.
طوال صمتنا كانت الخالة ساكتة؛ ولكنها لما رأت الصمت طال قالت: يه .. أمال يا خويا رايحين ليه؟
وتكلمنا كلنا في وقت واحد: إنتي صدقتي الريس؟ إحنا فدائيين صحيح.
- أهو رايحين كده .. نتفرج.
- أصل يا ستي فيه مقاومة شعبية هناك .. و…
- لينا قرايب يا خالة بس من بعيد رايحين نطمن عليهم.
ولم يدخل ما قاله كلٌّ منا في عقله؛ ولا في عقول الآخرين؛ ولا حتى في عقل الخالة.
ومضت تحقق مع حلمي وتسأل وتُدقق عن الأسباب التي تدعونا للذَّهاب وحلمي يحاور ويداور؛ والريس يبتسم ابتسامة من فقَس الفولة ونحن ساكتون.
أحيانًا يفيق الإنسان فيجد نفسه متجهًا إلى مكان معين، هكذا، بلا وعي أو تفكير. وقد جعلنا سؤال الريس نُفيق. وحين أفقنا كان كل شيء أمامنا له سبب. الخالة ذاهبة لترى ابنها. والقارب يتحرك لأن الريح تدفعه. وحلمي جُرحت جبهته لأنه ارتطم بالصاري. أما نحن فلماذا نحن ذاهبون؟
رغمًا عنا رُحنا نسأل أنفسنا لأول مرة.
ولم نجِد جوابًا معقولًا أو مقبولًا. كل ما وجدناه كان إحساسًا كبيرًا لا يترك لنا مجالًا للتفكير أو السؤال. إحساسًا أن شيئًا هائلًا مؤلمًا لا بد قد حدث هناك، وأننا يجب أن نكون بالقرب مما حدث.
ولكن حقيقة، لماذا نحن ذاهبون؟
وما تلك القُوى الخفية التي تدفعنا وتحبب إلينا الذهاب؟!
وانتهى نقاش الخالة مع حلمي حين ارتفع صوتها وكله غضب: بقى تموتوا أرواحكو كدب في نصب. لا انتو فدائية ولا حرس ولا حاجة ورايحين تموتوا أرواحكو. انتو مالكوش أمهات؟ والنبي يا ريس اعمل معروف رجعهم. رجعهم اعمل معروف تكسب ثواب ما تخليهمش يهوبوا على البر. إلهي ما تحرق قلب أم على ولدها يا رب.
قال الريس: ما تتعبيش نفسك يا أمي .. اللي عقله في راسه يعرف خلاصه لازم في نيتهم حاجة. خليهم يا ستي كل حي في سكته.
وكان يقول الجزء الأخير وهو يقف ويتمغط ويتثاءب، ولكنه كفَّ عن تثاؤبه وقال بإرهاب كثير: بصُّوا.
واتجهنا كلنا إلى حيث أشار، وهناك، عند نهاية الأفق، وفي ضوء الفجر المشبع بالبرودة، كانت توجد غمامة كثيفة داكنة فيها أضواء قليلة صفراء معطوبة تكاد تذبل.
وقال الريس: أهه .. خلاص .. وصلنا.
وتركت الخالة ما كانت تهمس به لحلمي وقالت بفرحة منفجرة: والنبي؟! والنبي يا اخويا. إلهي يخليك لشبابك، إلهي يسعدك.
وفي الحال انتفضت على وجناتنا عروق. وفي الحال مضت تدقُّ، شيئًا كدقِّ الحرب، ورحنا ننظر وقد تركزت أرواحنا في أبصارنا وامتلأت صدورنا بدفءٍ مفاجئ. ورغم احتجاجات الريس وصرخاته وتمايُلات القارب وقفنا جميعًا، وتكاتفنا لنتساند ونتأمل الغمامة الرمادية البعيدة ذات الأضواء. كانت رهيبة كئيبة كناموسية غامقة مسدَلة على مجروح. مستحيل أن تكون ناموسية مسدلة على مجروح. لا بد هناك أناس مصريون. لا يمكن أن يكونوا قد ماتوا كلهم أبدًا .. أبدًا.
انفعالات تفور وتنسكب، والرمادية تختفي لتأخذ مكانها سُمرة، أرض سمراء أوسع من السماء. والغمام ينقشع ويبدو وجه الشمس، أجمل شمس، على ضوئها تبدو ملايين السحنات التي رأيناها طوال الطريق وكأنها وجه عملاق كبير مصنوع من ملايين الوجوه، وعلى رأسه مليون طاقية، ومليون عمامة ولاسة وكوفية. والعدو أيضًا هناك، وراء الغمام، عدو بشع كثير ونحن — القادمين — قبضة. لماذا لا يأتي كل الناس؟ لماذا لا يتحرك العملاق كله وينقضُّ حتى يتحرك العملاق؟
وأقوى من أي انفعال وأعظم كان شغفنا الخارق أن تنتهي المسافة، ونصل إلى هناك، ونزيح لُفافات الغمام لنرى ما تخفيه.
وفطِنَّا بعد وقت إلى أن الريس يتكلم ويقول: لغاية هنا وما اقدرشي أتنقل ولا خطوة. الشط مليان مدافع ودواهي. إنتم بقى تتوكلوا على الله من الناحيادي. البحيرة مش غريقة. دي لحد الركبة بس. تخوضوا من هنا على طول حتطلعوا جنب التربة. الصراحة كويسة وبذمتي وديني لو كنت أقدر أوديكو هناك كنت وديتكو إنما العين بصيرة واليد زي ما انتوا عارفين .. اتوكلوا على الله.
ووقفنا برهة. تلك البرهة التي تسبق العمل الخطير. الشاطئ أمامنا هادئ هدوءًا مريبًا كهدوء البركان قبل اندلاعه. والغمام كثيف يحجُب كل شيء .. والخط الممتدُّ لا بد كله فوهات بنادق ومدافع. والسماء كأنها تُدوِّي بأزيز العشرات من قاذفات القنابل. بل سمعنا بآذاننا طلقات الرصاص .. بعيدة ولها أنين.
وقفنا برهة وترددنا. تلك هي اللحظة الحاسمة. اللحظة التي ادخرها كل منَّا ليختبر نفسه وشجاعته. هناك حيث كنا نعيش لم يكن أحد يستطيع أن يميز بين الجبان وبين الشجاع. فكلاهما متاح له أن يعيش. حتى الشخص نفسه لا يستطيع أن يدرك معدنه. في لحظة كتلك يعرف الإنسان نفسه. واللحظة حادة وفاصلة، وقلوبنا تدقُّ. والريس طوى القِلع. وأرجلنا مثبتة على حافة القارب. وعيوننا ترقُب الشاطئ. وأجسادنا متقاربة. ونظرات مختلَسة يصوبها الواحد إلى نفسه والواحد إلى جاره. والبرد قد اشتدَّ فجأة ولم نَعُد ندري أهو صادر من البحيرة، أم من أعماقنا، والسماء تبهَت وتبهَت. وطيور النَّورس تنقضُّ على سطح الماء ثم تعود وترتفع وفي مِنقارها سمكة. وتكاكي وتتقاتل. والصوت الذي تحدثه هو الوحيد الذي يسمع.
وقطعت اللحظة تمتمة الريس: أما ولية غريبة. طب تقول كتَّر خيرك.
ثم ارتفع صوته أكثر: مش من هنا يا ست .. خدي يمينك شوية لحسن الحتة اللي قدامك غريقة.
وأدركنا أن الخالة غادرتنا ومضت دون أن تفتح فمها بكلمة. وكادت تصبح على مرمى البصر، تخوض الماء، وتتمايل، وتتوقف برهات، ولكنها لا تتلفَّت، ولا تكفُّ.
وارتفعت أصواتنا: استني يا خالة. استني شوية.
وفُوجئنا بها تقف وتستدير إلينا وتقول: لأ .. روحوا روحوا انتم بقى .. مع السلامة .. والنبي ينوبك ثواب ما تسيبهم يا ريس .. روحوا انتم بقى.
واستدارت على عجَل. وأسرعت كالملهوفة الخائفة أن يفوتها قطار.
وأخذ سواد ثيابها يختلط بالضباب والشحوب ويقترب من رمادية الشاطئ.
ومرة أخرى دوَّت في آذاننا طلقات الرصاص البعيدة التي تصدر من مكان غامض.
ورغم كل ما كان يدور في رءوسنا من خواطر واحتمالات، فنحن لم ندرِ لماذا أسقطناها كلها فجأة. وركزنا انتباهنا وكأننا أطفال سُذج على يد حلمي التي كانت قد عادت تتحسس مكان الجرح. وخبط الريس بكفِّه على خشبة الصاري وقال: هيه يا سيادنا.
وقال حلمي: أحسن طريقة نستنى لما النهار يطلع.
وسمعنا طرطشة الماء، وأيقنَّا أن واحدًا لا بد قد هبط.
وقال حلمي بعصبية: أهم شيء إن إحنا ما نندفعش. قليل من العقل.
وطرطش الماء مرة أخرى وهبط واحد ثانٍ. وقال حلمي بعصبية: هو أنا بكلم مجانين. ما تفهموا أنا بقول إيه.
وهبط الثالث.
وضرب حلمي الهواء بيده وقال: هي شطارة يعني .. طب هه.
ثم هبط.
وواحدًا وراء الآخر رحنا نخوض في الماء وقد انتظمنا صفًّا متباعد الوحدات، وكأننا أصابع عملاق كبير تتحرك في اتجاه الشاطئ، وقد أصبح كل ما يَهمنا أن ننتزع أرجلنا من الماء والطين وندفعها لتفرق الماء والطين، والبحيرة تشخشخ حولنا، والنورس ينقض ويستغيث، والماء يتغير لونه وترتسم على سطحه الدوائر، والجو يزخر بشعشعة ما قبل الشروق، والنجوم قد اختفت من السماء ومن البحيرة. ولم يَعُد هناك سوى نجمة الفجر، وقوًى قاهرة تدفعنا إلى ستار الغمام المسدَل لنتحسس الجُرح الكبير.