الياقوتة الثالثة
لا فرحةٌ كفرحةِ الشاعر
لا أبَّهةٌ وسطوةٌ … كسطوةِ الشاعر
لا إمارةٌ تشبهُ ما أسسهُ الشاعرُ
لا كواكبٌ ترقى ولا عناصرٌ تفورُ مثلما في قدح
الشاعر
يُلقي دمَهُ في بركةِ الليل فيحيي الليلَ والفجرُ
يناديه، أميرٌ
كسفَ الظلمة بالكلمة والشمسُ على أحلى أوانيه
والبدرُ كما لؤلؤة في تاجه أو خرزةٌ تسطعُ بالنار
وتُحييه
وقد أعطى لسورِ المجدِ ظهرًا واعتلى قلعته ينسجُ
أقوالًا
وأحلامًا وغزلانًا تنادي وارتمى في النورِ
تيَّاهًا عفيفًا
ماسكًا غصنَ براريه، جموحًا يطعن الجنَّ ويُلقي
نبلَهُ في زُمرِ الأطياف.
هذا الهائمُ الصبُّ العليلُ انسردَ الدرُّ له
وانفلق البزرُ نديًّا في يديه ورنا رايتَهُ تطلعُ
من فوق
شواطيه، وها قد خفقَ الليل وأزجلنا المواويلَ التي
ردَّدها،
من قبلنا، حشدٌ من السُّهادِ والعُشاقِ، أطلقْنا
طيور الطرب
التعبى، ولا نجمٌ يناغيكَ ولا خمرٌ يردُّ السهدَ
عن عينيكَ،
لا نورٌ ينجِّيكَ من القحط ولا إيلافُ تُرخي عندها
روحًا
سوى الأرض التي تبلى وأحداق تصيدُ الشارد الصعبَ
وآيات لها وقع القرابين إذا ما أُلقيَت أرضًا
وجُزَّت
وتلوَّت فهْي تلويني.
حزينًا أفل البدرُ
ولفَّ، البيرقَ المكسور فرسانٌ ملوكيونَ بالزهرِ
وأعلاهم
حنينُ الفتحِ للموتِ، يصيدون به كبشًا نشيطًا
ينعتون
الكون بغلًا ويفيقون، يحطُّون على الصخرِ أباريق
جمالٍ
وفناجينَ وتيجانًا ودفلى، قادهم طيفٌ وروَّاهم
ضجيجُ
الدمِ في أوداجهم واستعذبوا خمرًا، يدقُّون
بصنَّاجاتهم
أندرَ ألحانٍ ويمشون لحتفٍ مشرقٍ مشيَ خِفافٍ
يعصرون
التمرَ والأعنابَ تحت البرق، ها هم طلعوا في مطلعِ
الصبحِ وداروا حول نبعٍ تالفٍ وانتشروا فوجًا
فمنهم من
رمى وردًا لقرن الثور فانشقَّت ومادَت تحتنا الدنيا،
ومنهم
من عصى واختار أن يقذف قلبَ النور بالكلمة وارتاح
على بحرٍ من الشذر ورجَّ الماسَ في خوذته واعتصر
الجمرا
وها ناموا جميعًا آخرَ الليل على قمصانهم وافترشوا
العُمرا.
سلامًا أيها الصحب الندامى يا نهارَ الشعرِ يا
نورَ
القناديل، لهم في رَفرفِ الماءِ طيوفٌ هزَّها
الشعرى
بترتيل، يشقونَ دمَ الليل ويمشون على أطرافِ هذي
الأرض أشباحًا ينزُّ الوردُ من مشيتهم توتًا
ويسبيهم
صياحُ الديكِ نشوانًا ويكويهم إذا شمُّوا على
أطرافِ
بغداد رياحَ الخمرِ هبُّوا وتساقوا، حلبوا النورَ
من الكأسِ
وصبُّوه على أفئدةٍ حمراء تنشقُّ عن النبعِ وترتاحُ
على غرَّة
صبحٍ فيصليٍّ أصفرِ الطلعِ، وها بينهمو الشاعرُ
يعلو الفرسَ
النافرة السكْرى ويغويها إلى شاطئه يحدو عليها ثم
يدعوها
لِلَمسِ اليم والغطس إلى لؤلؤة خضراء ما بين عيون
الثورِ
والريح على قرنَيه تعلو، ها هو الآن يحنِّي طيره
بالعصفر المُر
وبالكنعان، يمضي صوب أعماق الطواحينِ ويُلقى ميتًا
في
دربه لكن جنحَين صغيرَين يرفَّان على كتفَيه طولَ
الدهرِ.
هذا الشاعر المقتول أغرانا بهتك الروحِ والعيش على
تكيةِ
أحلام العصور الغابرات، شدَّنا من شعرنا بالأنجم
الأولى
وألقانا بيمِّ الشمسِ وانكبَّ على دورقه يُمسكُ
بالطين
وبالأعواد كي يخلقَ كونًا كاملًا يرفلُ بالنورِ،
هذا
الشاعرُ المقتول ظلَّت في الربى ملقية أضغاثُ
ريحانٍ عليه
ومداراتٌ له تطلعُ والنهرُ له يلطمُ، وهْو اليوم ما
زال كما
مات لُجينًا خالصًا، جوهرةً … نورًا، خلاصاتِ
حشود
منتقاةٍ وصراعاتِ جنونٍ طافحٍ بالبِشرِ قُدَّام
الشياطين
العتاة الزمرِ المارقة الخطو من الجن.
أفقتُ
ليتَ حلمًا مرَّ بي ما مسني بالنورِ، ليت النور
ما مرَّ على
عيني وما سوى ترابي نجمةً والْتفَّ يغويني،
وقمتُ … ها هو
الله يغطي لي حقولي.
ها هو العشبُ وسيقان البراري ترتخي في الأفق
ها خُشعةُ بيتي تستوي أرضًا
ومنها يطلع الكونُ نقيًّا رائقًا لا بُقعُ الشرِّ به
تطفو به
ولا طينُ الحياة.
وأنا أنظرُ للأعلى؛ إلى حيث يكون الله
والله يناغيني ويُلقي ثمرًا نحوي
ونشتاقُ إلى بعضٍ — أنا والله — أوقاتًا يراعيني
وأرتاحُ
على فسحةِ كفَّيه
أوقاتًا يناديني بصوتٍ غامض يعلو:
وحيدًا صرتَ يا طفليَ مذ غادرتَ فردَوسي
وضُيِّعتَ بهذي الأرض محمولًا على بحرِ الخطايا
مثقلًا بالإثم متبوعًا بناقوسي، فعُدْ يا طفليَ
الحالم
من منفاك واملأ وحشتي واصعَدْ بناموسي
فأبكي ريثما يطلعُ فجرٌ، ريثما يملأُ صوتُ الديكِ
أنهارًا
من الظلمة حيث الأفقُ ينشقُّ ليطوي الله عرشًا
تحتهُ ثم
يحيِّيني ويمضي.
هكذا أبقى وحيدًا أسألُ الأنسامَ والأيامَ
والجُفرَ القديمات
عن الله وأبقى هائمًا أحرقُ ليلي بنهاري وأرى في
السحر
أخلاطي وأستحضرُ روحَ الخضرة الأولى ورجْعَ الصوت،
أبقى ساهمًا أرقبُ ظلَّ الله في الريح وفي الرعدِ
وفي
النور الذي ينحلُّ في لجةِ هذا البحر.
قد ألقيتني يا رب في جبٍّ عميقٍ راكعًا مُضنًى
وها علَّمتَني يا ربُّ أن أنزعَ من روحي سكون البال
والأعماق
أن ألجمَ أفعايَ التي تدفعُ بي نحو سفينٍ غارقٍ في
اللذَّة السوداء
ها علمتَني
أن أطبعَ الأيقونةَ الطقسية الأولى بنعشي وأُهيلُ
المسكَ
فوقي وأنادي أربعًا إسطقس، يا سيلَ أباريقي ويا
فيضًا
طفا فوقَ أساطيلِ الندى والطين لمَّا صُعِقَ الأقنومُ
وانشقَّت به بذرةُ حواء وطارت ريحه نسلًا جميلًا
دلقَ
الفايروس في عظم البراري ورمى في بركةِ الحيوان
أسلافًا
نما فيها البراقُ الطيفُ والعجلُ المقدَّس والنياقُ
الصفر
والبعلُ الذي قامَ بتاجِ الزهرة الحمراء.
حين الموجُ غطاني
وشاهدتُ أبابيلَ من الأرواحِ شبَّت واستفاقت مثلما
الطوق وغنَّت لجمال البشر الزاهي على الأرض ولكنَّ
بروقًا أحرقَتهم واستحالوا ندبًا في صخرة ذكرى، كأن
الله يُلقي فيهمو غضبتهُ برقًا ويرميهم ترابًا
زبدًا في الماء
منشورًا وأكوامًا.
كأن البرقَ لا يقبل بالإنسان مزهوًّا
كأن البرقَ يخشى ندَّهُ والطوفان يخشى بشرًا يعلم
أو
يسرق زهر الخلد.