الفصل الأول
(يمثِّل الملعب كهفًا مظلمًا فيه أمتعةٌ مبعثَرة.)
المشهد الأول
(بطرس – مرتينوس يلعبان بالورق)
بطرس
:
أص كبا.
مرتينوس
:
عشرة.
بطرس
:
فرشخ ديناري.
مرتينوس
:
داكه، وخمسين بالبستوني.
بطرس
(يطرح ورقته)
:
صارت.
مرتينوس
(يحسب ورقَه ويقول لبطرس)
:
غلبناك، نعيمًا.
(يُلبِسه القبع.)
بطرس
:
ثقيل أنت ولا تُطاق.
(ويطرح القبع عن رأسه.)
مرتينوس
:
الغلب مُر، ولو بالورق.
(تدقُّ الساعة الثانية عشرة.)
بطرس ومرتينوس
:
هذا نصفُ الليل وزعيمنا رودولف لم يأتِ، ماذا أصابه يا تُرى؟
مرتينوس
:
لا خوف على الليث في نزال الثعالب.
بطرس
:
يقصِّر البعيد النظر عن مُخبَّآت القدَر، فالحذَر الحذَر.
مرتينوس
:
تحجُب جبينَك غيمةٌ سوداء أيها النائب، فما هذا الاضطراب؟
بطرس
:
أخاف مهاجمةً مفاجئة، أما بلغَكَ خبرُ ذلك الأمير الذي غادر بلاط النمسا
وأقام على بضعة أميالٍ من هنا؟ إنه ضيفٌ ثقيل على جبل الألب
ولصوصه.
مرتينوس
:
نعم، وقد حشد ما ينيف على ثلاثة آلاف فارسٍ بطل، وتحصَّن في قصر
«الفورته موله» ولكن يصحُّ بنا وبه قول الشاعر:
وكيف يصل إلينا ونحن أمنع من عُقاب الجو، وقد قامت بيننا وبينه
السراديب، والكهوف، والمنافذ الوعرة، والأنهار الطاغية؟ فلا أظنه يجرؤ
على هذه المغامرة ويتحرَّش بالأفاعي في أوكارها.
أيا دارَها بالخَيفِ إنَّ مزارَها
قريب، ولكن دونَ ذلكَ أهوالُ١
بطرس
:
مَن استخفَّ بالأعداء سقط في شِراك البلاء، فلنُواصل السهر ونُضاعف
الخفر، هل الحُراس في مواقفهم؟
مرتينوس
:
أصبتَ فيما قلت، الحيلة قبل الشجاعة (يصرخ من
الكواليس): الحذَر الحذَر أيها الخفَر (يردِّد الصوت ثلاث مراتٍ كل مرة أضعف مما
تقدَّمها).
بطرس
:
أتوصَّلتَ بدهائك إلى شيءٍ من أسرار قصر الفورته موله؟
مرتينوس
:
شكرًا لهذا الثوب الرهباني الذي أتاح لي زيارة كل غرف ذلك القصر، فرأيتُ
أسواره العابسة بوجه الإعصار تتهدَّد مَن جاوَرَه بالويل والثبور، وقد
أصلح أميره الجديد ما أفسدَته به يد الدهر.
بطرس
:
ومَن هو هذا الأمير؟
مرتينوس
:
أميرٌ متنكر باسم الكونت دي فورته موله، يتحدَّر نسبه من أشرف الأُسر
النمسوية.
بطرس
:
ومن أين عرفتَ ذلك؟
مرتينوس
:
من كاهن الأمير، حسبَني كاهن «تورين»٢ جامع الحسنات والصدقات، فأفرغ في صدري ما وعى قلبه من
الأسرار، وما درى أن الملبوس لا يعمل القسوس.
بطرس
:
دي فورته موله؟! ليس فينا أُسرة بهذا الاسم.
مرتينوس
:
أمثلي مَن تسأل عن الأسر الشريفة، وقد رُبيت في مهد الفاقة في مدينة
«تورين»، وترعرعتُ في حمأة الآثام، وتقلَّبتُ في مناصبَ عديدة؛ فكنتُ مرة
متسولًا وطورًا لصًّا وغالبًا من قطَّاع الطرق، كما تراني بخدمة سعادتكم
الآن، ولم أهتم بمعرفة الشرفاء إلا لابتزاز أموالهم، أما سعادتكم فتُشير
حركاتكم إلى معاشرتكم غير اللصوص المتشردين.
بطرس
:
نعم، عرفتُ عن قرب أشراف «فيِنَّا»؛٣ إذ كنتُ قهرمان الكونت لنسفلد ومؤدِّب أولاده، ثقُل عليَّ
نِير الخدمة فألقيتُه عني تاركًا الكونت بعد اختلاس مبلغٍ طائل من
صناديقه بدَّدتُه كالابن الشاطر٤ في بيوت الإثم والفساد، ولم أشعر إلا ويدي فارغة وجيوبي
خاوِية ووجه الإفلاس يرفُّ عليه، فانتظمتُ في سلك عصابة رودولف هربًا من
وجه العدل وطمعًا بالثروة العاجلة، وها قد ارتقيتُ في مراتب اللصوصية
فصرتُ نائب الزعيم، إن الذهب وافرٌ لديَّ ولكنه مضرَّج بالدم، والتلذُّذ
به في أعماق هذه الكهوف ضربٌ من المُحال.
مرتينوس
:
إذا جفَتنا مواطنُ النعيم فستطمئن لنا غدًا، غدًا متى عُدنا إلى فضاء
الحرية، وأبصرنا سماء الغد، وبفضل هذه الدنانير الصفراء نصبح من ذوي
الأيادي البيضاء، بعد أن كنا نُعرف بالكفِّ السوداء، وأنا الكفيل بأن
ترانا عيونُ البشر مثالَ الفضيلة.
بطرس
:
هيهاتَ ذلك أن يكون؛ فأنا رفيقُ رودولف في الجهاد إلى الأبد.
مرتينوس
:
أتُراه طويل الإقامة في هذه الكهوف؟
بطرس
:
لا أخرج من هذا الوكر إلا إلى ظلمة القبر، أو إلى معانقة حبل
المشنقة.
مرتينوس
:
إن تصوُّر مشنقة إيطاليا وخازوق النمسا يجعلني مع ظلمة هذا الكهف على
أتم الاتفاق، آه يا سيدي على أيام صبوتي! أيام كان جرابي على كتفي أقطع الفيافي٥ متنشقًا نسيم الحرية ممزوجًا بهواء الجبال النقي.
بحقك يا مولاي أما أنت آسف على ملذَّات فيِنَّا؟
أيام فقرٍ قد مضَت وتصرَّمَت
ممزوجةً بحلاوةٍ روحيَّة
فالمالُ معْ تعَب الضمير مشقَّةٌ
والفقرُ محبوبٌ مع الحريَّة
بطرس
:
لا أذكُر من زخارفها وبهجتها غير ولدَي الكونت لنسفلد، ذَينكَ الملكَين
اللذَين تعشَّقتُهما، وكانا موضوع اهتمامي واعتنائي.
يا ليتَ دهري يرثينَّ لحالتي
فلقد بُليتُ بكلِّ أنواعِ الشَّقا
ضربٌ ونهبٌ مهنتي وخديعةٌ
ومآثمٌ وجرائمٌ، فلِمَ البَقا؟
مرتينوس
:
يا ليت النعمة تُحرِّك قلب زعيمنا رودولف فيكره عيشة الكهوف ويخفض من
بغضه لأشراف النمسا، يُحيِّرني بغضُه لهذه الفئة من البشر في حين أن
صوتَه وهيئتَه وأطواره تدُل أنه شريف الأصل.
بطرس
:
إن أصله سرٌّ غير مفهوم، وقد حاولتُ مرارًا إزاحة الستار عن هذا السر
فكانت هيئتُه البربرية تعقد لساني .. أسمع ضجَّة .. هم رفاقنا ..
أهيَّأتَ كل شيء؟
مرتينوس
:
نعم مولاي.
بطرس
:
جهِّز أشهى الطعام وأجودَ المُدام.
مرتينوس
:
فليكن كما أمرت .. الوداع (يخرج).
المشهد الثاني
(رودولف – بطرس – ألفرد – لصوص)
اللصوص
(ينشدون)
:
يا لصوصَ الغاب لا تخشوا الخطَر
وارفعوا بالعِز أعلامَ الظفَر
•••
سيروا للأمام لا تخشوا الحِمام
وارهبوا الأنام في مسا وسحر
•••
اضربوا انهبوا واقتلوا واسلبوا
فاسمُكم مرهب، فرائصَ البشر
•••
سيروا للحتوف لا تخشوا الألوف
واضربوا بالسيوف كل مَن لكُم ظهَر
•••
فلْيَحيَ الزعيم رودولف الكريم
ركننا العظيم، وحمانا المشتهر
رودولف
:
هذه غنيمتنا الباردة يا بطرس (يشير إلى
الولدَين)، فكيف تراهما؟
مثلُكم يُرتجى لبطشٍ وغزوٍ
وبأشباهكم نهدُّ الجبالَا
فاقحموا الليث في العرين وكونوا
للأعادي في غزوكم آجالَا
بطرس
:
من أثمن الغنائم وأجملها، لا يقل ثمنها عن عشرة آلاف فلورين.٦
رودولف
:
إذا تسامحنا مع الشاري، أمَرَّ ذِكْرنا في خاطرك؟
بطرس
:
لقد سئِمَت المائدة انتظار النُّدَماء.
رودولف
:
سنوافيها ونؤنس وحدتها، سيروا أيها الأصحاب لمعاقرة المُدام فنسلُوَ
مشقَّات الغزو ونُشبِع جوعكم من أشهى الطعام، وبعد هنيهةٍ أكون بينكم
أشرب الكأس على ذِكر شجاعتكم وبسالتكم.
اللصوص
(يخرجون منشدين)
:
يا لصوص الغاب ..
فلْيَحيَ الزعيم.
المشهد الثالث
(رودولف – بطرس – فريدريك – ألفرد)
رودولف
:
إليك يا بطرس أعهدُ بهذَين الولدَين، فاحرِص عليهما حرصكَ على حدقة
العين، ورأسُك ثمنُهُما إذا فُقدا.
بطرس
:
أأطرحهما في كهف الأسرى؟
رودولف
:
فليكونا أحرارًا قيد المراقبة الشديدة.
بطرس
:
هذا إنعامٌ ممتاز ما تعودتَ منحه إلا لفئةٍ قليلة من البشر. أهما ابنا
أميرٍ خطير وسيدٍ كبير؟
رودولف
:
لقد كتما عني سرَّ أبيهما، وأخفيا اسمه، ولكنني سأعرفه عما قليل،
فالوداع الآن.
(يخرج.)
بطرس
:
سرٌّ غامض وعاملٌ خفي يُحرِّكان هادئ نفسي، أنا الذي لا أرتجف أمام
السيوف أرتعش أمام صغيرَين أسيرَين، ربَّاه! ما هذا؟!
ألفرد
:
أخي، أين نحن؟
بطرس
:
لا تخافا أيها الصغيران، لقد سمعتُما حديث الزعيم بشأنكما، فلا أحد
يمسُّكما بسوء في هذا المكان.
ألفرد
:
ما هذه الظلمة المُدلهمَّة؟ ماذا أرى؟ .. أين نحن يا أخي؟
بطرس
:
أنتما في كهف لصوصٍ أشقياء، ولكن بعد قليلٍ ترجعان إلى فضاء الحرية
وتُبصِران النور.
فريدريك
:
الحرية؟ هيهات فلا أمل لي بها.
بطرس
:
كن صبورًا ولا تيأس؛ فنحن مع انزوائنا في أعماق الكهوف وتخلُّقنا بأخلاق
الضواري، ورغمًا عن هذه السحنة الوحشية نُحِب صغار الأولاد، ونُشفِق على
صِباهم.
ألفرد
:
ربَّاه! أنحن في حلم؟!
فريدريك
:
إن كنتَ صادقًا بما تقول فبَرهِن لنا عن إشفاقك علينا وتأثُّرك لتعاستنا
بإرجاع الحرية والحياة لنا، أعدنا إلى حضن أمنا.
بطرس
:
هذا رجاءٌ يجرح قلبي.
فريدريك
:
أية ثمرة تجنُونها من أَسْر ولدَين صغيرَين؟ لسنا بأبطالٍ عظماءَ
ليُخلِّد لكم أَسْرنا ذكرًا خطيرًا، فإن كنتما تعشقان الذهب أطلبه لكم من
والدي، الرحمة، الحرية، الحياة!
بطرس
:
تطلبان أمرًا فوق طاقتي؛ فأنا النائب ورودولف الزعيم.
فريدريك
:
إذن أريد مخاطبة الزعيم.
بطرس
:
وماذا تقول له؟
فريدريك
:
نقرِّر المبلغ المطلوب لقاء إخلاء سبيلنا وانعتاقنا من هذا
الأَسْر.
بطرس
:
أنا مستعدٌّ لسماع حديثك بهذا الشأن.
فريدريك
:
قل ما هو المبلغ إذن؟
بطرس
:
الأسعار مختلفة عندنا (كل فول له مكيول)،٧ هل أبوكم غنيٌّ جدًّا؟
فريدريك
:
إن أبي هو أكبر موظَّفي البلاط النمسوي.
بطرس
:
الثمن غالٍ، والربح خطيرٌ إن شاء الله.
فريدريك
:
إن والدي صاحب القصر المجاور والأملاك الواسعة التي تُحيط به.
بطرس
:
لقد سمعتُ به، أأنتما أبناء الكونت دي فورته موله؟
فريدريك
:
لقد لُقِّب هكذا منذ عهدٍ قريب، أما اسمه في النمسا فالكونت
لنسفلد.
بطرس
:
الكونت دي لنسفلد!
فريدريك
:
نعم، أيها النائب.
بطرس
(على حدة)
:
ماذا أسمع؟ الكونت دي لنسفلد سيدي القديم! هذان ولداه! فيا
لتعاستهما!
فريدريك
:
ما هذا الاضطراب؟ أأنت متأثِّر من تعاستنا ومصيرنا؟
بطرس
:
نعم يا عزيزيَّ الصغيرَين.
فريدريك
:
أنت تبكي.
بطرس
:
آه، لا .. هوان .. منذ زمان .. (على
حدة) لا أستطيع أن أكتُم ما بقلبي، فلأَخرجن (يخرج بسرعة).
المشهد الرابع
(ألفرد – فريدريك)
ألفرد
:
ما هذا البرد القارس؟ .. ربَّاه! ما هذا الخوف؟! أين نحن الآن؟
فريدريك
:
مسكين أنت يا ألفرد! ألا تنظر هذه الجدران السوداء؟ ألا ترى ذلك المصباح
يلقي نوره على تلك الجدران؟ ألم تنظر تلك الأوجه التي كانت تحدِّق إلينا
قبل هُنيهة؟ إن خُدَّامنا قد ذُبحوا وأُمنا.
ألفرد
:
لقد تذكَّرتُ ذلك؛ ففي الليل الفائت، في قلب تلك الغابة، أحدقَت
بمركبتنا عصابة من اللصوص مدجَّجة بالسلاح، فألقيتُ نفسي مذعورًا بين
ذراعَي والدتي فانتزعَتني منها يدٌ حديدية، ثم لم أشعر بشيء، ولم تبصر
عيناي النور إلا في هذه الدياميس٨ الباردة.
فريدريك
:
أحبُّ إليَّ أن تظل عيناي مغمضتَين إلى الأبد.
ألفرد
:
يا الله، ماذا يحل بنا؟
فريدريك
:
لا تيأس يا ألفرد، ألا تذكُر قول أُمنا إن الله يحب الأولاد؟
ألفرد
:
أمنا، آه! أين هي الآن؟
فريدريك
:
لقد نجت .. آه! كيف؟ كانت منطرحة أمام قطَّاع الطرق تطلب إنقاذنا
ودموعُها تُعرِب عن حنانها. لقد كادت تموت تحت الضرب لو لم يُسرِع أحد
خُدَّامنا وينقذها من الموت؛ إذ حملها على ظهر جواده، واختفى بها بسرعة
البرق في أحشاء تلك الغابة.
ألفرد
:
تباركتَ يا ربَّاه.
فريدريك
:
مسكينةٌ أُمنا؛ ففي مثل هذه الساعة كانت تنحني منعطفةً علينا، فأين هي
الآن؟
ألفرد
:
ألا يُسرِع والدنا لإنقاذنا؟
فريدريك
:
ذاك أمرٌ لا ريب فيه؛ فهو قد أقام في قصر الفورته موله ليُبيد قطاع
الطرق عن بكرة٩ أبيهم، ويقي البلاد شرهم.
ألفرد
:
ليته يُسرِع إلى نجدتنا فيدركنا في قيد الحياة، فلنُصلِّ.
(نشيدٌ ديني يختاره المخرج.)
ألفرد
:
إنني أشعر بقوة وشجاعة، صدقَت أمُّنا، إن الصلاة قوة الضعيف، والقوة
الغامضة حصننا عند الشدائد.
فريدريك
:
إن الله يرمقنا بعين رحمته، ألم ترَ نائب الزعيم قد رثى لحالنا؟
ألفرد
:
لقد أدهشَني ذلك! فرغمًا عن سحنته الوحشية قد رأيتُ الدموع تترقرق على
وجنتَيه، فما الذي أثَّر به؟!
فريدريك
:
تعاستُنا وضعفُنا.
ألفرد
:
نعم؛ فإني لا أرى فقيرًا يتعثَّر بأذيال الفاقة حتى أرى مَن يشفق عليه
ويرحم ضعفه.
فريدريك
:
وما أدراك يا أخي أن هؤلاء اللصوص غير بغاة وقساة كما يُقال عنهم؟!
فلربما يتأثَّر الزعيم رودولف أيضًا لشقائنا.
ألفرد
:
رودولف! لا تطلب الماء من النار؛ فرودولف الذي أرهب اسمُه أعصابنا هيهات
أن يرحم. هلكنا يا فريدريك.
فريدريك
:
والعناية الإلهية يا أخي؟
ألفرد
:
نعم هي محط رحال الآمال (ويركَع فيركَع
فريدريك) نحن أبناؤك يا ألله فلا تُهمِلنا (يُعيدان النشيد أو نشيدٌ آخر استغاثة
بالله).
المشهد الخامس
(بطرس – فريدريك – ألفرد)
بطرس
:
هما يصلِّيان فلأصلِّ أنا أيضًا، ولكن أواه! لقد عاديتُ المِسبَحة١٠ منذ عهدٍ طويل (يظهر، وبعد الصلاة
يقول إلى الولدين): لقد هيأتُ لكما كل شيء في المكان
المجاور.
فريدريك
:
قل لنا ما اسمك يا مَن تُشفق علينا وتَرثي لحالنا.
بطرس
:
إن اسمي لمخيفٌ هائل، أنا اللص بطرس.
فريدريك
:
لقد كان لنا خادمٌ قديم يُدعى بطرس وكان محبًّا لنا مخلصًا، فهل تكون
مثله يا بطرس؟
بطرس
:
نعم سأكون ذلك الصديق، فقولا لي كيف وصلتُما إلى هنا؟
ألفرد
:
كأنك تجهل ذلك!
بطرس
:
نعم؛ لأنني لم أكن في تلك الغزوة.
فريدريك
:
اسمع إذن، هجر والدنا منذ ثلاثة أشهر بلاط النمسا ليُقيم في جبال الألب
في قصر الفورته موله، فدفعَنا الشوق للاجتماع به، فركبنا عربة يخفرها
اثنا عشر رجلًا، واخترقنا تلك الوِهاد، وقُربَ نصف الليل ضل قائدنا
الطريق فتهنا في الغابة الكثيفة في ظلامٍ دامس، ولمَّا كنا نفكر بالرجوع
على أعقابنا مزَّق سكينةَ الليل صفيرٌ مزعج وأطبق علينا اللصوص، فسمَّرنا
الرعب في مكاننا ووقعنا في أيديهم بعد أن خلَّص أُمَّنا أحدُ رجالنا
الأمناء، ولا ندري ما حل بها.
بطرس
:
يا لتعاستهما!
فريدريك
:
أفلا تستطيع أن تكتب لوالدنا؟
بطرس
:
هذا مستحيل.
فريدريك
:
مستحيل؟
بطرس
:
مسكينٌ أنت يا ولدي لا تعلم ما هو كهف اللصوص، إنه يمثِّل الجحيم على
الأرض، تظنُّون أننا متحدون، ولكن الصداقة لا تمتزج مع الآثام والجرائم،
إنهم يبثُّون العيون والأرصاد بدون انقطاع، يظنُّون أنهم يكتشفون خيانةً
حتى في صدري أنا الذي أراقبك، وربما تكون إحدى العيون تخترق هذه الجدران
لتُراقبنا، فالزعيم وحده له حق الكتابة، وورقةٌ باسمي تُهلِكنا ثلاثتنا
لا محالة.
فريدريك
:
إذن السكوت سلامة، آه يا بطرس! أي عزاءٍ لوالدنا إذا علم أننا أحياء
نفكِّر به ونصلي لأجله، وأن لنا مخلصًا قربنا؟!
بطرس
(على حدة)
:
ويلاه! إنني عاجز عن الكتمان. (بصوتٍ
عالٍ) ثقا أنه يطَّلع اليوم على أخباركما بالتفصيل، ولو
كلَّفني هذا الأمر آخر نقطة من دمي.
فريدريك وألفرد
(يأخذان يدَيه قائلَين)
:
ألف شكر يا بطرس.
بطرس
:
لا تقبِّلا هذه اليد الملوَّثة بأقذار الجرائم، فهي تُدنِّس شفاهكما
النقية.
عجِّلا بدخول هذا الكهف وثِقا بصدقي وإخلاصي.
عجِّلا بدخول هذا الكهف وثِقا بصدقي وإخلاصي.
(يخرجان.)
بطرس
:
لقد برقَع الحياء وجهي ولسعَت أحشائي عقاربُ تبكيت الضمير؛ فهذان هما
الولدان اللذان تركتُهما بعدما سرقتُ من والدهما عشرة آلاف فلورين حاسبًا
أنني أكفُل بذلك المبلغ سعادتي. لقد تبدَّدَت العشرة آلاف فلورين، وهذه
ستة أعوامٍ صرفتُها في لُجج الآثام، الخوف في النهار والسهر في الليل، لا
يطرق آذاني غير أنين الأحزان وعويل الفسق والفجور، مختفيًا كوحشٍ ضارٍ في
حناجر الجبال يعالج غنائمه المضرَّجة بالدماء ليسوقها ويضعها تحت قدمَيه
في هذا القبر المظلم، تبًّا لها من حياةٍ قاسية!
إنني أستطيع اليوم أن أرتقَ ما مزَّقَته وقاحتي في الأمس، إنني أستطيع إنقاذ هذَين الولدَين .. سأخلِّصهما، نعم سأخلِّصهما، فيا مَن نفختَ بي روح هذه المقاصد الشريفة أعطني قوةً لأقوم بها.
إنني أستطيع اليوم أن أرتقَ ما مزَّقَته وقاحتي في الأمس، إنني أستطيع إنقاذ هذَين الولدَين .. سأخلِّصهما، نعم سأخلِّصهما، فيا مَن نفختَ بي روح هذه المقاصد الشريفة أعطني قوةً لأقوم بها.
المشهد السادس
(بطرس – رودولف)
رودولف
:
وماذا صنعتَ يا بطرس؟
بطرس
:
قد دقَّقتُ البحث ففهمتُ أنهما ولدا أميرٍ مجهول.
رودولف
:
أتُصدِّق إذا قلتُ لكَ إنهما ولدا الكونت دي فورته موله؟
بطرس
(على حدة)
:
إنه يعلم كل شيء.
رودولف
:
نعم يا بطرس، إنهما أبناء ذلك الوقِح الذي حملَته جرأته على سكن قصرٍ
هرمٍ مع بعض جنودٍ بؤساء، يقصد بذلك كَسْر شوكة سطوتنا وصولتنا، جاهلًا
أن معقلي هذا يقاوم قوات الإمبراطورية النمسوية، وبقُربي ستون بطلًا
أُقلِق بهم وحدهم بال أوروبا بأَسْرها.
بطرس
:
وهذان الولدان؟
رودولف
:
قد نويتُ على الاحتفاظ بهما.
بطرس
:
وأية فائدةٍ منهما؟
رودولف
:
إنهما لِقُطَّاع الطرق كالفخِّ للصياد، يحفظ فيه الصغار ليصطاد الكبار،
فيا نزيل قصر الفورته موله، لا تعلِّل نفسك بمهاجمة الأسد في عرينه ..
أنا أنتظرك بقدمٍ ثابتة، وولداك في قبضتي أصدقُ برهانٍ على جنونك
وجهلك.
بطرس
:
لقد ضاع كل شيء.
رودولف
:
آه يا بطرس! إنني كورقة في مهب الريح، أخاف على نفسي من هذا الصنف
الثقيل. إن صوتًا داخليًّا يهتف بي دائمًا: الحذَر الحذَر. لقد أرسلوا
أمسِ مَن يسرق أخبارنا. وجه ستارنو يتجسَّس ويسرح حول قصر الفورته موله
علَّه يعود بما يروي الغليل، وليعُد عاجلًا ما استطاع. لقد أنهكَني
التعب، فالوداع يا صاح.
(يخرج.)
بطرس
(مخاطبًا نفسه)
:
يا لها فرصة مناسبة جادت بها العناية! فلنكتب إلى الكونت لنسفلد ولكن …
ماذا أقول له إذا دفعتُه إلى مهاجمة هذا الكهف؟ فتلك خديعة (يفتكر قليلًا) غدًا تحت جنح الظلام أخرج
بالأسيرَين من هذا الباب .. أذهَب بهما إلى أطراف الغاب، وإلى هناك
يُوافيني الكونت فأضَع بين ذراعَيه ولدَيه. إن هذا توجيه إلى السماء،
قَوِّني يا رب السماء (ينادي) ستارنو،
ستارنو.
المشهد السابع
(بطرس – ستارنو)
ستارنو
:
مُرْ أيها النائب.
بطرس
:
كن مستعدًّا للذهاب.
ستارنو
:
للذهاب! أتظن أنني رُكِّبتُ من حديد؟ يجب أن أستريح ولو قليلًا.
بطرس
:
هذه مشيئة الزعيم، فأسرِع وتنكَّر بثوبِكَ الأسود وعُد إليَّ.
ستارنو
:
فلتكن مشيئة الزعيم ونائبه (ينحني
ويخرج).
بطرس
:
فلنكتُب الكتاب الهائل .. ولكن إذا اكتشفوه؟ الله أعلم بالمصير، إلهي!
خذ بيدي (يفتكر) أهناك غير الموت؟
فليكن كفارةً عن جرائمي (يكتب بسرعة وارتجاف
ويختم الكتاب، يدخل ستارنو متنكرًا بثوبٍ أسود).
ستارنو
:
الأخ ستارنو في انتظار إشارتك أيها الأب المحترم.
بطرس
:
إن مهاجمةً عنيدة تتهدَّدنا، فأسرع إلى قصر الفورته موله، خالطِ الناس
واسترِق أخبارهم، وحثَّ هممَهم على مهاجمة الأشقياء ليثقوا بك، ويكشفوا
لك ما خبئوه في زوايا القلوب، ولا تغفُل أن تمنحَهم البركة وتَعِد
بالصلاة لأجلهم.
ستارنو
:
لقد حفظت دوري غيبًا؛ فالأخ ستارنو راهبٌ جليل ترشحُ التقوى من أذياله،
وتفوحُ رائحة قداسته على مسافة عشرين ميلًا، فلا مجهول لديه، ولا سر
مخفيٌّ عليه.
بطرس
:
أدخلتَ القصر؟
ستارنو
:
أكثر من مرة.
بطرس
:
هذا كتابٌ للكونت.
ستارنو
:
يتلقَّاه صباح اليوم.
بطرس
:
لا تنتظر جوابًا، أفهمت؟ سلِّمه لأحد الخدم، أسمعت؟
ستارنو
:
وما هذا التحفُّظ والحذَر؟
بطرس
:
خوفًا من أن تسقط بفخ القدَر.
ستارنو
:
أصبت، فمن طاف حول السراج أحرق جناحَيه.
بطرس
:
أتُحسِن القراءة؟
ستارنو
:
أجهلها كل الجهل، ولم يخطر لي ببال أن أجرِّب، وأنت تعلم أننا جماعة
قلما نُخالِط العلماء.
بطرس
(على حدة)
:
لا خوف إن شاء الله. (إلى ستارنو) الوداع أيها الأخ ستارنو.
ستارنو
:
اذكُرني بصلواتك أيها الأب المحترم.
بطرس
(مخاطبًا نفسه)
:
أأتركه يذهب وحيدًا؟ وإذا أظهر كتابي! ولكن لمن؟ جميع الإخوان نائمون،
وستارنو رجلٌ لا شك في أمانته (يفتكر)
اللص وأمانة؟! لا، ليس بين اللصوص (يهم بالخروج
فيغلق الستار) رجل يُوثق به، فلنُرافِقه إلى
الدياميس.
١
الخَيْف: الناحية، وكل هبوط وارتقاء في سطح
جبل. وهو هنا مكانٌ بعينه كانت تنزل به الحبيبة.
والبيت للشاعر العباسي «أبو العلاء المعري»
(٣٦٣–٤٤٩ﻫ/٩٧٣–١٠٥٧م) من قصيدة قالها وهو في بغداد
مطلعها:
إلا أن البيت في ديوان أبي العلاء (سقط الزند) يَرِد
على هذه الصورة:
مغاني اللِّوى من شخصكِ اليومَ
أطلالُ
وفي النوم مغنًى من خيالكِ مِحلالُ
فيا دارها بالحَزْن إن
مزارَها
قريب، ولكن دون ذلك
أهوالُ
٢
تورين: المرجَّح أنها مدينة تورينو الإيطالية. وهي مركزٌ
صناعي وتجاري، كانت قديمًا عاصمة «بيومنته» Piedmont.
٣
فيِنَّا: عاصمة النمسا، وهي من أكثر العواصم الأوروبية سحرًا
وجمالًا، مشهورة بجامعتها وبكاتدرائيتها، وبمصانعها.
٤
الابن الشاطر: إشارة إلى المثل الإنجيلي الذي ضربه المسيح، عن
رجل كان له ولدان، طمع واحدهما بثروة أبيه فسأله أن يقسم له
نصيبه من الميراث ليستقل به ففعل، وعندما نال الابن نصيبه
بدَّده على ملذَّاته .. فعضَّه الجوع ورأى بعد تردُّد أن يرجع
إلى أبيه تائبًا .. فعاد .. وسامحه أبوه وذبح له العجل
المسمَّن؛ لأنه كان ميتًا فعاش وضالًّا فوجد. راجع (لو،
١٥: ١١–٣٢).
٥
الفيافي: الصحاري، والمفرد فيفاء، وفيفاة: وهي المكان المستوي
من الأرض، أو الصحراء لا ماء فيها.
٦
الفلورين: الوحدة النقدية في فلورنسا-إيطاليا، كانت متداولة
في القرن الثالث عشر. زنته ٣٫٥غ من ذهب صافٍ عيار ٩٥، فهذا ما
جعله مرغوبًا، ومتداولًا في أوروبا كلها.
٧
مثلٌ سائر تُطلِقه العامة في اختلاف طريقة التعامل باختلاف
المُتعامَل معه.
٨
الدياميس: الأمكنة العميقة المظلمة لا ينفذ إليها الضوء.
والمفرد الديماس. ويُسمى القبر ديماسًا لظلمته، وبه سُمي كذلك
سجنٌ للحجاج بن يوسف لظلمته.
٩
البكرة: مؤنث البكر. والبكر: ولد الناقة الفتيُّ وهو من
الجِمال بمنزلة الفتى من الناس، والبكرة بمنزلة الفتاة والبكرة
أيضًا الجماعة، والفتية من الإبل. ويُقال جاءوا على بكرة أبيهم
إذا جاءوا معًا ولم يتخلَّف منهم أحد.
١٠
سُبحة يستعين بها المصلُّون لضبط عدد المرات التي يردِّدون
بها صلواتهم، أو للتثبُّت من عدد الأوراد التي يصلُّونها،
والسجدات التي يؤدُّونها أثناء الصلاة.