أهداف الإنسانية وسُبل تحقيقها
ليس من شك في أننا جميعًا متفقون على الغرض الأسمى من مجهود الإنسان في المدنية الراهنة، وليس من شك في أن هذا الغرض هو عينه الذي سيطر على العقول خلال الثلاثين قرنًا الماضية. وقد عبَّر الرسل والأنبياء والمصلحون جميعًا عن هذا الغرض من عهد أشعيا في الزمان القديم إلى عهد كارل ماركس في العصر الحديث وليس بينهم من خلاف.
إن الإنسان لَيتطلع إلى عصرٍ ذهبي تسود فيه الحرية والسلام والعدل والحب الأخوي، عصرٍ لا تسُلُّ فيه أمةٌ على أمةٍ سيفًا ولا يُقاتل الإنسان فيه أخاه الإنسان، عصرٍ يؤدي فيه تطوُّر كل أمة وتقدمها إلى تطوُّر الأُمم الأخرى جميعًا وتقدُّمها، عصرٍ يعرف الناس فيه جميعًا ربهم حق المعرفة ويَغمُر عقولهم العلم بِباريهم كما تَغمُر المياه البحار.
قلت إننا متفقون جميعًا على الغرض الأسمى من مجهود البشرية. ولكن هل نحن متفقون على السبل والوسائل التي تُؤدِّي إلى تحقيق هذا الغرض؟ لا وربي. هنا تختلف الآراء وتتناقض وتتضارب، وهي آراءٌ فطيرةٌ غير ناضجة. ومن عجبٍ أن كل رأيٍ من هذه الآراء — على تناقُضها وتضاربُها — له أتباعٌ يؤمنون به ويتحمسون له، ويعتنقونه بغير بحث أو تمحيص، ويَتعصَّبون له أشد التعصُّب.
فمن الناس في الوقت الحاضر من يعتقد أن الطريق الذهبي إلى عالَمٍ خيرٍ من عالمنا هذا هو طريق الإصلاح الاقتصادي. ومن الناس من يعتقد أن أيسر السُّبل إلى المدينة الفاضلة والحياة المُثلى هو الانتصار الحربي وسيادة دولةٍ مُعيَّنة على باقي الدول. وآخرون يؤمنون بالثورات الداخلية المُسلَّحة وتسلُّط الطبقة الممتازة من الشعب على غيرها من الطبقات، وفرض إرادتها وآرائها على الناس أَجمعِين. وهؤلاء وأولئك جميعًا تشغل أذهانهم حين يُفكِّرون في الإصلاح الجماعةُ الإنسانية وطُرق تنظيمها تنظيمًا شاملًا واسعًا، ويَنسَون الفرد أو يتناسَونه كأنه حجر في بناءٍ شامخ، إذا استقل فقد قيمته، وإذا انضم إلى غيره كان جديرًا بالتقدير والنظر. ولكن هناك طائفةٌ أخرى من المُصلحِين تنظر إلى الموضوع من زاويةٍ أخرى. هؤلاء يعتقدون أن الإصلاح الاجتماعي لا يتحقق إلا بإصلاح الأفراد الذين منهم يتألف المجتمع، ومن بين هؤلاء الذين ينحُون في التفكير هذا النحو من يُعلِّق آماله على التربية ويضع فيها كل ثقته، ومنهم من يؤمن بالتحليل النفسي كوسيلة لإصلاح الفرد، ومنهم من يعتنق مذهب السلوكيِّين ويرى فيه سبيل الإصلاح. وهناك طائفةٌ من الناس لا ترى خيرًا إلا في العودة إلى الدين وقوة اليقين، ولكن أفراد هذه الطائفة يختلفون فيما بينهم على الدين الذي يجب أن يعتنقه الإنسان.
ومهما يكن من شيء فالكل مُجمِع على أن الإنسان لا بد أن يرقى، ولا بد أن يرتفع إلى المثل الأعلى. ولا بد لنا لزيادة الإيضاح من أن نقول كلمةً في هذا الإنسان المثاليِّ الكامل الذي تتطلع إليه الأنظار ويصبو إليه مُريدو الإصلاح. إن لكل عصرٍ وكل طبقةٍ مَثلَها الأعلى. فالطبقات الحاكمة في بلاد اليونان كانت تُقدِّس الرجل الكريم النبيل عالي النفس، الرجل «العالِم المُهذَّب». وكانوا في الهند قديمًا — كما كان نبلاء العصور الوسطى في أوروبَّا — يُقدِّسون «الفارس». والمثل الأعلى للرجل في القرن السابع عشر هو «الرجل الأمين». أمَّا في القرن الثامن عشر «فالفيلسوف» هو مثل الإنسانية الأعلى. والقرن التاسع عشر يُقدِّس الرجل الرزين «المُوقَّر». وفي مُستهَل القرن العشرين آمن الناس بالرجل «الحُر»، ثم تَطوَّر الرأي العام واتجه إلى عبادة «الزعيم المُؤلَّه» الذي تسير وراءه الجماعة سير الأغنام. أمَّا الطبقات الوضيعة الفقيرة فقد كانت خلال العصور جميعًا تحلُم بالرجل الحُر السعيد صحيح البدن الذي لا يناله من غيره ظلمٌ أو اعتساف.
هذه مُثلٌ مختلفةٌ متعددة، وهي فوق هذا مضطربةٌ تدعو من يتدبرها إلى الحيرة والارتباك، فأيُّها نختار لأنفسنا في هذا العصر الحديث؟ لا أظن أن واحدًا من هذه المُثل يلائم حياتنا الحاضرة؛ لأن كلَّا منها كان ثمرةً لظروفٍ اجتماعية معينةٍ تختلف عن الظروف التي تُحيط بنا اليوم.
بيد أنه ينبغي لنا ألَّا ننسى أن هناك أفرادًا من ذوي العقول الممتازة الجبَّارة استطاعوا في فتراتٍ مختلفة من التاريخ أن يتحرروا من ظروف الزمان والمكان، وألَّا يُقيِّدوا أنفسهم بملابسات عصورهم وبلادهم. وقد رسم كل فردٍ من هؤلاء الأفراد للإنسانية مَثلًا أعلى يختلف عن المُثل السائد في عصره. ومما هو جديرٌ بالاعتبار والنظر أن الآراء التي نادى بها هؤلاء الرجال جِد متشابهة؛ وذلك لأن أهداف الإنسانية هي بعينها في كل زمان ومكان، وقد استطاع هؤلاء المصلحون أن يُدركوها بما لديهم من بصيرةٍ نافذة، وأن يَخُطُّوا لتنفيذها خُططًا متقاربةً متشابهة. وقد أمكن لهؤلاء الأفذاذ أن يتحرروا من تقاليد زمانهم لأنهم بدءوا بأنفسهم فحرَّروا عقولهم من التحيُّز والهوى، واخترقوا ببصائرهم حُجب الحياة المعاصرة، ونفذوا بها إلى الحقائق الأبدية العليا. والواقع أن كلًّا منا لديه بصيص من هذه البصيرة الوقادة، ولكنه لا يستطيع أن يُفيد منها أو يستغلها إلا إذا تَرفَّع عن التحيُّز لرأيٍ بعينه أو عقيدةٍ بذاتها. غير أنه قَلَّ من الناس، بل قلَّ من الفلاسفة الحاذقِين، من نجح في تحرير نفسه كل التحرُّر من سجن عصره وجو بلده الخانق. وربما كان أقرب الناس إلى التحرُّر العقلي جماعة المُتصوفِين ومُؤسِّسو العقائد والأديان؛ أولئك الذين يجمعون بين الفضيلة ونفاذ البصيرة.
وقد أجمع هؤلاء الرجال الأحرار — على كَرِّ الأجيال — على الصفات التي ينبغي أن تتوفر في الفرد كي يُصبح إنسانًا مثاليًّا. إن الرجل الذي يُكبِّل نفسه بتقاليد عصره قد يُعجَب بهذا المَثل حينًا وبذاك حينًا آخر، ولكن أحرار الرجال في كل زمان ومكان لهم رأيٌ واحد يعتنقونه ولسانٌ واحد ينطقون به.
ومن العسير أن نجد كلمةً واحدة تَصِف وصفًا كاملًا هذا الرجل المثالي كما يتصوره الفلاسفة الأحرار والمتصوفة وواضعو العقائد والأديان. وربما كانت خير كلمة تُعبِّر عن مجموع صفات مثل هذا الرجل هي «المُتحرِّر». الرجل المثالي هو الرجل المتحرر، المتحرر من أحاسيسه البدنية ومن شهواته، المتحرر من الولع بالنفوذ وحب الامتلاك، المتحرر من الغضب والبغضاء، المتحرر من العشق والهُيام، المتحرر من حب الثراء وبُعد الصيت والشغف بعلو المركز الاجتماعي، بل المتحرر من قيود العلم والفن وحب الإنسانية. أجل، المتحرر حتى من هذه الصفات التي نحسبها حسنة مرغوبة؛ لأنها جميعًا صفاتٌ لا تُشبِع النفس المتعطشة إلى الخير المحض. ويرى الفلاسفة وواضعو الأديان أن التحرُّر من الذات ومن شئون الدنيا يُؤدِّي إلى الاتصال بحقيقةٍ عُليا أعظم من الذات وأكثر منها أهمية، بل أعظم وأكثر أهمية من خير ما تهبه لنا هذه الدنيا. ولا نُحب أن نُفصِّل القول في هذه الحقيقة العليا في هذا الموضع من الكتاب. إنما نُحب أن نُشير إلى أن فكرة التحرُّر تقتضينا أن نعترف بوجود حقيقةٍ روحانيةٍ عُليا تكمن خلف مظاهر الدنيا جميعًا وتهيمن على كل الوجود.
وقد يظن القارئ أن «المُتحرِّر» يقف من الحياة موقفًا سلبيًّا، لا يتحرك ولا يعمل، ولكن الواقع غير ذلك؛ إذ إن المرء إن أراد أن يتحرر كان من واجبه أن يتحلى بالفضائل جميعًا، بل وأن يمارسها عملًا. عليه أن يتصف بالتسامُح؛ لأن الغضب والحِقد يعُوقان النفس عن أن تتصل بما هو أعلى من النفس وأرقى. وعليه كذلك أن يتصف بالشجاعة؛ لأن الخائف ينصرف إلى التفكير في سلامة البدن. والتحرُّر — فوق ذلك — يُربِّي في المرء قوة الذكاء وعادة الكرم وعدم الاكتراث أو المبالاة. ومن ثَمَّ ترى أن التحرُّر يفرض على من يَتحلَّى به أن يقف من هذه الدنيا موقفًا إيجابيًّا، ينزل إلى ميدان الحياة ولا يُحجِم عن خوض معركتها.
والرجل المُتحرِّر هو الرجل الذي يضع حدًّا للألم — على حد تعبير بوذا — فهو لا يتألم ولا يُوقِع بغيره الألم. ذلك هو الرجل السعيد، وذلك هو الرجل الطيب.
هذه هي المُثل العُليا للفرد والمجتمع، المُثل التي اتخَذَت صيغتها منذ نحو ثلاثة آلاف عام في آسيا، والتي ما زال يتعلق بها الكثيرون حتى وقتنا الحاضر. ولكن أكثر شعوب العالم اليوم — رغم إعجابها بهذه المُثل — أبعدُ ما تكون عن اتباعها أو الاهتداء بنورها.
ويترتب على تبادُل البغضاء بين الناس انحطاطٌ في نظرتهم إلى الحق؛ فالدكتاتوريون السياسيون والاقتصاديون في العصر الحاضر يخترعون الأكاذيب بصورة لم يسبق لها مثيلٌ في التاريخ. وهم يَبثُّون أكثر هذه الأكاذيب في الدعاية المُنظَّمة التي تنفُث الكراهية والغُرور في صدور الناس وتُمهِّد العقول لِقَبول فكرة الحرب والقتال.
ويجب أن نذكر أن تبادُل الحب لا يمكن أن يتمكَّن من القلوب إلا إذا عاد الناس إلى الدين الصحيح والعقيدة في إلهٍ واحد. ولكن العامَّة اليوم تعبد آلهةً متعددة؛ فهي تعبُد الأُمة أو تعبُد طبقةً معينة من الناس أو قد تُقدِّس الفرد.
هذا هو العالم الذي نعيش فيه. إذا حكمنا عليه بمعيار التقدُّم الحق ألفيناه ينحدر في سبيل التأخُّر والانحطاط. إننا لا ننكر أن التقدُّم العلمي والفني يسير بِخطًى حثيثة، ولكن تبادُل الحب بين القلوب لا يسير مع هذا التقدُّم جنبًا إلى جنب؛ ولذا فليس من وراء التقدُّم العلمي والفني فائدة، بل إنه من بواعث التأخُّر والتدهور في كرم النفوس وطيب الأخلاق.
فكيف لنا إذًا أن نتحاشى هذا التأخُّر الخلقي الذي يملك علينا نفوسنا والذي تقع علينا جميعًا تبعته؟ كيف نحوِّل الجماعة الراهنة إلى الجماعة المثالية التي ارتآها لنا الأنبياء والمصلحون؟ كيف يتحول الرجل الطامع إلى الرجل المُتحرِّر الذي يستطيع وحده أن يخلق جماعةً خيرًا من الجماعة التي نعيش فيها؟ هذه هي الأسئلة التي أُحاوِل الإجابة عنها في هذا الكتاب.
وفي خلال الإجابة عنها سأجدني مُضطرًّا إلى علاج موضوعاتٍ كثيرةٍ متنوعة ليس عنها من محيص؛ لأن مناحي النشاط الإنساني مُعقَّدة، والدوافع الإنسانية مختلطةٌ كل الاختلاط. وكثيرٌ من الكُتاب لا يعرفون حق المعرفة هذا التنوُّع والتعقيد في آراء الناس وأغراضهم وأعمالهم. إنهم يُبسِّطون المسألة أكثر مما ينبغي؛ ومن ثَمَّ تراهم يُقدِّمون لها حلًّا غايةً في البساطة والسذاجة. ومن أجل هذا رأيتُ من الضروري أن أبدأ موضوعات الكتاب الأساسية بمناقشة ما نعنيه من كلمة «التفسير». ماذا نعني حينما نقول إننا فسَّرنا موقفًا معقدًا؟ ماذا نعني حينما نَتحدَّث عن حادثٍ مُعيَّن كأنه سبب في حادثٍ آخر؟ إننا إذا لم نعرف الجواب عن هذه الأسئلة كانت نظرتنا إلى طبيعة الاضطراب الاجتماعي وطُرق علاجه قاصرةً ناقصة.
ومن البحث في معنى التفسير يتبين لنا أن المشكلة الإنسانية لا يمكن أن ترجع إلى سببٍ واحد، بل إن لها لأسبابًا متعددة. وينجم عن ذلك أن أمراض المجتمع لا يمكن أن يكون لها علاجٌ واحد شامل. يجب أن نبحث عن علاج الاضطراب الاجتماعي في ميادينَ مُتعددةٍ في وقتٍ واحد. وفي الفصول التالية من الكتاب سأبحث في هذه الميادين، بادئًا بالسياسي منها والاقتصادي ثُمَّ مُعقبًا بالسلوك الشخصي. وسوف أقترح في كل حالةٍ أنواع الإصلاح التي يمكن إدخالها إذا كان لا بد للناس من تحقيق الأغراض السامية التي يعترفون جميعًا أنهم يبتغونها. ويَضطرُّني هذا إلى البحث في علاقة الوسائل بالغايات. وسأُبيِّن في مواضعَ كثيرةٍ من الكتاب أن الأغراض الطيبة لا يمكن تحقيقها إلا بالوسائل الطيبة وحدها، ولا يمكن تحقيقها بالوسائل الخبيثة. إن الغاية لا تُبرِّر الوسيلة؛ وذلك لأن الوسائل التي نستخدمها تُحدِّد طبيعة الغاية التي تنجم عنها.
الفصول التالية من الفصل الثاني إلى الفصل الثاني عشر تُؤلِّف كتابًا في الإصلاح، وهي تتضمن علاجًا سياسيًّا، وآخر اقتصاديًّا، وآخر تعليميًّا، واقتراحًا لتنظيم الصناعات والجماعات، وغير ذلك من ضروب الإصلاح. وهي تتضمن كذلك وصفًا للطرق التي يجب أن نتحاشاها كي نَبلُغ ما نصبو إليه من أهداف.
وكتاب الإصلاح هذا يبلغ غايته في القسم الأخير منه، وهو القسم الذي أناقش فيه العلاقة الكائنة بين نظريات المُصلحِين وأعمالهم من ناحية وطبيعة العالَم من ناحيةٍ أخرى. أيُّ نوع من أنواع العوالم عالمُنا هذا الذي يطمح الناس فيه إلى الخير ولكنهم لا يُحقِّقون إلا الشر في كثيرٍ من الأحيان؟ ما معنى هذا؟ وأين يقع الإنسان من هذا العالم؟ وما العلاقة بين مُثُله العليا ومعاييره ومقاييسه وبين العالم الفسيح الواسع؟ سأبحث في هذه المسائل في الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب. وقد يرى الرجل العملي أن هذه المباحث لا محل لها هنا، ولكنها في الواقع ليست بعيدةً عما نرمي إليه من هذا الكتاب. إننا في ضوء معتقداتنا عن طبيعة الحقيقة نصوغ آراءنا في الصواب والخطأ. وفي ضوء آرائنا في الصواب والخطأ نُوجِّه سلوكنا لا في حياتنا الخاصة فحسب، ولكن كذلك في عالم السياسة والاقتصاد. فلسنا نرى إذًا أن معتقداتنا الميتافيزيقية لا محل لها هنا. بل على العكس من ذلك هذه المُعتقَدات هي العامل البعيد الذي يُحدِّد لنا جميع أعمالنا. ولذا فقد بدا لي من الضروري أن أختم كتابي هذا الذي أقترح فيه علاجًا عمليًّا لأمراض المجتمع ببحثٍ في المبادئ الأساسية والمعتقدات؛ فالفصول الثلاثة الأخيرة، قد تكون أكثر فصول الكتاب خطرًا، بل إنها من ناحيةٍ عمليةٍ بحتةٍ قد تكون أهم ما فيه.