العادات الدينية
الدين وسيلةٌ من وسائل تربية النفس، يعيننا على ترقية الفرد والمجتمع كما يعيننا على الإدراك الصحيح لحقائق الأشياء، وعلى توثيق العلاقة بين أنفسنا وبين الكون الذي نحن أجزاءٌ فيه.
هذا هو الدين. فهل تُؤدِّي العقائد والعادات الدينية السائدة إلى هذا الغرض؟ هل تُؤدِّي إلى تقوية الخُلق وتقوية الإدراك؟ كلَّا، وإن أكثر ما نتعلمه ونعمل بمقتضاه باسم الدين فاسدٌ لا يساعد على نشر الخير والفضيلة، ولا ننكر أن هناك عددًا قليلًا من الناس يستطيعون أن يجعلوا من الدين وسيلة لتحقيق الأغراض النبيلة، وطريقًا للوصول إلى بواطن الأشياء وعدم الاكتفاء بظواهرها؛ وذلك لأن الناس يتفاوتون في القدرة على الفهم؛ ولذا فإن الكتب المُقدَّسة والطقوس والشعائر الدينية لها في أذهان الناس معانٍ مختلفة، يصوغونها وفقًا لإدراكهم وتجاربهم في الحياة، بل إنهم يستمدون من الكتب المقدسة والشعائر الدينية ما يُعزِّز أهواءهم وميولهم ومعتقداتهم الخاصة.
ونحن نتساءل: إلى أي حدٍّ يمكن في العصر الحديث الاستفادة من الشعائر والطقوس الدينية؟ إن الطقوس والشعائر تنشأ من تلقاء نفسها كلما تجَمَّعَت الجماهير للاشتراك في حركةٍ عامة تثير فيهم العواطف. ولن تستطيع أن تحمل شخصًا لا تُهِمه هذه الحركة العامَّة على أن يُؤدِّي طقوسها وشعائرها؛ فالطقوس تُقوِّي العواطف والأهواء، ولكنها لا تخلُقها.
إن شعائر المسيحية التقليدية لم يعُد لها أَثَر في بُلدان الغرب الصناعية في الوقت الحاضر، إنها لم تعُد تربط الدول المسيحية بعضها ببعض. ولا تستطيع أن تُنافس الطقوس الجديدة التي أوجدها الشعور بالقومية؛ فالشعوب الغربية اليوم ألمانية أو إنجليزية أكثر مما هي بروتستنتية، وفرنسية أو فاشستية أكثر مما هي كاثوليكية. وأكثر الناس يمارسون الشعائر الدينية لأنهم يجدون فيها مفرًّا من مجابهة حقائق الحياة، وهم لا يتخذون من شعائر الدين وسيلةً لِبث الخير في العالم، مع أنهم يستطيعون ذلك إن أرادوا.
هذه هي أوجه الضرر في شعائر الدين. فهل العادات الدينية (ولا أقول المعتقدات) ليست لها قيمةٌ اجتماعية؟ إنها تُمدنا ببعض الوسائل التي نستطيع بها أن نُهذِّب النفوس ونُصلِح الأخلاق ونُوسِّع دائرة الإدراك. وبعض هذه الوسائل بدنيٌّ وهي على ضروبٍ مختلفة.
إن أكثر المُتوحِّشِين بل وبعضًا ممن يعتنقون الديانات الراقية يقومون بأداء حركاتٍ متزنة كي يحدثوا بها حالةً عقليةً خاصة. وهذه الحركات قد تتخذ شكل الخطو البسيط إلى الأمام وإلى الخلف كما يفعل بعض القُسَس الكاثوليك، وقد تتخذ شكل الرقص المُعقَّد كما تفعل الشعوب البدائية في جميع أنحاء العالم. والظاهر أن تَكرار الحركات الموزونة يُحدث في النفس ما يُحدثه تَكرار ألفاظٍ خاصة أو عباراتٍ موسيقيةٍ معينة. إنها تُهدِّئ النفس وتبعث العقل على التأمُّل العميق، كما يفعل قُسَس الكاثوليك في عزلتهم، وتدفع المرء إلى الشعور بالاتحاد مع الله ومع غيره من الناس (كما يفعل البدائيون في رقصهم الديني). وقد أخطَأَت المسيحية حينما سَمحَت للناس أن يجعلوا الرقص من شئون الدنيا.
والزهد وسيلةٌ بدنية أخرى لتهذيب النفس؛ فإن الصوم والسهر والمشقة، والألم الذي يوقعه الشخص على نفسه، كلها وسائلُ استخدمها أنصار الديانات المختلفة لتدريب الإرادة وترقية الإدراك، كما اتخذوها وسائلَ للتكفير عن الآثام.
ويتدرب بعض الزُّهاد الهنود تدريبًا منظمًا على أداء حركاتٍ جثمانيةٍ معينة حتى يستطيعوا السيطرة على بعض الوظائف الجسمية التي تحدُث عادةً بطريق لا شعوريٍّ فتقوى بذلك إرادتهم، وتحدث لهم حالاتٌ عقليةٌ غير عادية.
وهناك ما يدل على أن هذه العادات الدينية وأشباهها قد تأتي بخير النتائج؛ فتُمكِّن الشخص من التحرُّر من هذه الدنيا، ومن الاتصال بالله. ولكن من الناس من يقوم بهذه الحركات الدينية لمجرد المنافسة والظفر بإعجاب الآخرِين، وليس لذلك الغرض السامي المقصود منها. كما أن بعضًا ممن يُعذِّبون أنفسهم يُفكِّرون في أنفسهم، ولا يُفكِّرون في الله؛ لأن ذلك يقتضي مرانًا طويلًا ونفسًا قوية؛ ولذا يرى بعض المفكرين ضرورة تحاشي هذه الحركات الدينية؛ لأنها تؤدي في النهاية إلى التفاخُر بها، ولا تُؤدِّي إلى الغرض النبيل المقصود منها.
والوسيلة الثانية من وسائل تهذيب النفس بالنفس التي تُعلِّمنا إياها الديانات المختلفة هي محاولة إيجاد علاقةٍ عاطفيةٍ قوية بين العبد وربه. وهي الطريقة التي يتبعها أكثر المسيحيِّين. غير أن بعضهم يُوجِد هذه العلاقة بينه وبين بطل من الأبطال؛ ومهما يكن البطل عظيمًا فهو لا يخلو من العيوب والنقائص، حتى إن المسيح نفسه يُصوِّره المؤرخون رجلًا لا يأبه بالفلسفة أو الفن أو الموسيقى أو العلم، يتجاهل شئون السياسة والاقتصاد، والعلاقات الجنسية؛ ولذا فإن التشبُّه بالمسيح يُؤدِّي إلى احتقار الابتكار الفني، والتفكير الفلسفي، ومشاكل الاقتصاد والسياسة.
وفي كثيرٍ من الأحيان لا يتوجه الفرد بإخلاصه إلى رجلٍ من الأحياء أو الأموات، ولكن إلى إلهٍ أبدي، بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير. ولكنه يضفي عليه بعض الصفات الآدمية ويَتخيَّله على صورة الإنسان؛ ولذا فالاتصال الروحي هنا له عيوبه؛ لأن العبد يعزو إلى ربه بعض صفات الأفراد. وبعض المسيحيين ينظرون إلى الله كأنه إنسانٌ يُحس بالغَيرة والحقد ولا يستطيع أن يكبح جماح غضبه، وهو في سلوكه أشبه ما يكون بحاكمٍ شرقيٍّ مستبد. وكثيرًا ما يسلك الفرد سلوكًا مُشينًا تشبُّهًا بهذا الإله الذي له بعض صفات الإنسان، وكثيرٌ من الجرائم يُرتكب باسم الدين.
وهكذا ترى أن العقائد الدينية الفاسدة تؤدي إلى أسوأ النتائج. يقول أحد الكتاب: «كل ما نحن عليه نتيجة لما فكَّرنا فيه من قبلُ.» فإن كان تفكيرنا سيئًا كانت أعمالنا سيئةً كذلك. كان الأزاتقة يعتقدون أن الشمس كائنٌ حي، غذاؤه الضحايا البشرية، فإذا لم تُرَق في سبيلها الدماء ماتت، وكان في ذلك الفضاء على كل صورة من صور الحياة فوق الأرض؛ ولذا فإن الأزاتقة قد خصَّصوا شطرًا كبيرًا من نشاطهم لإشعال نار الحرب؛ كي يظفروا بالأسرى يُقدِّمونهم طعامًا للشمس.
وثَمَّةَ مثالٌ آخر: إن العقيدة الهتلرية تُؤكِّد أن الجنس النوردي أرقى من الأجناس الأخرى جميعًا؛ ومن ثَمَّ كان من حقهم أن يُنظِّموا أنفسهم للقتال، وأن يبذلوا قصارى جهدهم للقضاء على قومٍ كاليهود؛ لأنهم أَحَطُّ منهم عنصرًا.
إذا تخيل الناس ربهم في صورة إنسانٍ أَدَّى بهم ذلك إلى الخطأ والإجرام.
ذكرت حتى الآن طريقتَين لتهذيب النفس؛ إحداهما بدنية والأُخرى عاطفية. وهناك طرقٌ أخرى غير هذه، منها التأمُّل. وسنعود إلى الكلام عليه في الفصل المقبل. وتُؤدَّى الطقوس البدنية جماعةً في حالة الرقص، وانفرادًا في حالة التزهُّد. وتُؤدَّى الطقوس العاطفية على صورتَين. أمَّا التأمُّل فيَحسُن أن يكون انفرادًا، ولكنه قد يُؤدَّى جماعة إذا كان العدد محدودًا، والمُجتمِعون مُدرَّبون على التأمُّل، وليس بينهم أطفالٌ أو شبانٌ طائشون.
ويُلاحَظ أن الدكتاتوريِّين دائمًا يُعارضون الدين؛ لأن التديُّن يؤدي إلى الانفصال عن الجو المحيط، وهو ما لا يُحبه الدكتاتوريون الذين يُقدِّسون الأمة. ثُم إنهم لا يحبون أن يَرَوا نفوذ رجال الدين إلى جانب نفوذهم. وهم كذلك لا يُحبون أن تُخلِص الرعية لفكرةٍ غير الفكرة التي يُبشِّرون بها. والدكتاتور — فوق ذلك — لا يُطيق أن يرى أشخاصًا يميلون إلى العزلة؛ لأنه يحب أن يُقوِّي في شعبه روح الجماعة، كي يسهل عليه التأثير فيهم بما يشاء وقتما شاء.
رجال السياسة عامة — والدكتاتوريون خاصةً — يُهاجمون الدين؛ ومن ثَمَّ كان اضطهاد هتلر للمسيحيِّين، بروتستانت وكاثوليك. وقد قامت الروسيا ضد الدين بحملاتٍ شعواء كما أن مصطفى كمال في تركيا، وابن سعود في بلاد العرب، قد شتَّتوا الدراويش، وفضُّوا جماعاتهم. وكذلك موسوليني يستخف بالدين، ويضع قيصر فوق الله، ويُدرِّب الأطفال على الإخلاص للأمة وللحزب الفاشستي وله من دون الله.