الإصلاح الاجتماعي والعنف
إن بارتلمي في هذه العبارة ينصح باستخدام العنف وسيلةً للإصلاح، ولكن العنف في الواقع لا يُولِّد إلا العنف؛ عنف الحاكم يؤدي إلى عنف المحكوم، ويُثير في نفسه الريبة والاستياء والحِقد. إننا إذا تتبَّعنا التاريخ ألفينا نتيجة العنف واحدةً في كل موقفٍ من المواقف — السخط ومُقابَلة الشدة بالشدة.
إن الثورة لا تُعَد ناجحة إلا إذا أدَّت إلى التقدُّم، والتقدُّم في عبارة الدكتور مارَت التي سلف ذكرها هو تبادُل المحبة بين الناس. فهل من الممكن أن نُحقِّق التقدم بهذا المعنى — تبادُل المحبة — بوسائلَ أبعدَ ما تكون بطبيعتها عن تبادُل المحبة؟ إن التجربة والتاريخ كلاهما يُؤكِّد لنا استحالة ذلك، غير أن المرء يميل إلى أن يعتقد بأنه يستطيع بعملٍ حاسمٍ جريء أن يرفع مستوى العالم إلى المدينة الفاضلة كما يتصورها، كما أنه في الوقت نفسه يميل إلى التحيُّز لمن يشاطره الرأي، ومن ثَمَّ تراه يميل إلى استخدام العنف ولا يُطيق اللين والهدوء وهما من ضرورات الحكم الرشيد. إن أكثرنا يعتقد أن الغاية الطيبة تُبرِّر الوسيلة الدنيئة. ومن العبارة الآتية التي نقتبسها من كتاب الأستاذ لاسكي عن الاشتراكية يَتبيَّن لنا مدى الخطأ الذي نقع فيه من جرَّاء ذلك، يقول لاسكي في مَعرِض حديثٍ له عن تاريخ إنجلترا: «لولا دكتاتورية أسرة جيمس الحديدية لانهارت الجمهورية.» كأن العنف الذي لجأت إليه هذه الأسرة هو الذي حفظ للبلاد الحكم الجمهوري. والواقع الذي يُسجِّله التاريخ هو أن هذه الأسرة بعينها هي التي كانت السبب في انهيار الجمهورية من جرَّاء ما لجأَت إليه من قسوة وشدة، بل لقد كانت هذه الأسرة بعينها بسبب عنفها واستبدادها عاملًا من العوامل التي أدت إلى الحروب النابليونية الطاحنة، وإلى التجنيد الإجباري — وهو نوعٌ من أنواع الإذلال والاستعباد — كما أدت إلى نشأة الروح القومية القوية التي تُهدِّد كيان المدنية الحاضرة؛ تلك هي نتائج هذه الدكتاتورية الغاشمة التي يتمَشْدق بها لاسكي، وبرغم هذا كله لا يني أنصار الثورات عن الاعتقاد بأن هذه الوسائل العنيفة وأشباهها تؤدي إلى خير النتائج. إنهم يحسبون أنهم يستطيعون بالثورات أن يرفعوا لواء العدالة الاجتماعية، وأن ينشروا السلام بين الأمم.
إن العنف لا يُؤدِّي إلى التقدُّم الحق إلا إذا أعقبَته الأعمال العادلة الليِّنة التي تنطوي على حب الخير وحسن النية، حينئذٍ تُصلِح هذه الأعمال ما أفسد العنف وتُعوِّض ما فَقدَته الجماعة من جرَّائه، والفضل عندئذٍ لا يرجع إلى العنف ذاته، وإنما يرجع إلى ما يعقُبه عادةً من إصلاح وتعويض، وعلى سبيل المثال نقول: إن غزو الرومان لبلاد الغال والغزو البريطاني للهند كلاهما عملٌ عنيف انتهى بالخير وأدَّى إلى التقدم، وإنما يرجع ذلك التقدُّم إلى الإصلاح الذي قام به رجال الإدارة من الرومانيِّين والبريطانيِّين بعدما ألقى رجال الحرب السلاح، ومع هذا فنحن نؤمن بأن هذا التقدُّم الذي حدث كان من الجائز أن يتم بغير الغزوات التي شنَّها المحاربون، أمَّا إذا لم يَتلُ أعمال العنف الأولى عملٌ إصلاحي — كما حدث في البلاد التي فتحها الأتراك — فإن البلاد تبقى على حالها من الهمجية والتأخُّر.
وكلما طال أمد العنف تَعسَّر على القائمِين به أن يقوموا بالأعمال الإصلاحية التي تستند إلى سياسة اللين؛ ذلك لأن أعمال العنف تُصبِح من تقاليد الحكم، كما تصبح الأعمال العنيفة — في أعين الجمهور — أعمالًا فاضلة تنِم عن الشرف الرفيع، وتدل على البطولة الجبارة، وهذا هو ما حدث أيام التتَر، وهذا هو ما يحدث الآن في الدول الدكتاتورية الحديثة، وأقصد بها ألمانيا وإيطاليا والروسيا، وفي مثل هذه الظروف يضعُف الأمل في تحويل آثار العنف إلى الأعمال الخيرية العادلة التي قد تعقُب الشدة إن قَصُر أجلها.
إذا أردنا إذًا أن نقوم بإصلاحٍ شامل لا يثبت بطلانه عند تطبيقه فلا مندوحة لنا عن اختيار الوسائل التي لا تتسم بالعنف والشدة، أو — على الأقل — تلك الوسائل التي تقوم على الحد الأدنى منهما (ويجدر بنا هنا أن نذكر أن الإصلاح الذي يُنفَّذ تحت حافز الخوف من جارٍ أجنبيٍّ قوي، والذي يرمي إلى استخدام العنف في الحروب الدولية المنتظرة، لا يبوء إلا بالفشل، ومثله كمثل الإصلاح الذي يُنفَّذ بطريق الإرهاب الداخلي، وقد أدخل الدكتاتوريون تعديلًا شاملًا في بناء المجتمعات التي يحكمونها دون أن يَلجئوا إلى وسائل الإرهاب، فقابَلَت شعوبهم هذا التعديل بالرضا لأنها آمنَت — بفعل الدعاية المُنظَّمة — أن هذا التعديل ضروريٌّ لتأمين الدول من العدوان الخارجي. وقد كان بعض هذا التعديل إصلاحًا مستحبًّا، ولكن لما كان هذا الإصلاح موضوعًا بقصد تمكين الدولة من إدارة عجلة الحرب، فقد حفز ذلك الدول الأخرى على الاستزادة من قدرتها الحربية، وبذا أصبح نشوب الحرب من جديدٍ أمرًا محتمل الوقوع. ولمَّا كانت طبيعة الحرب الحديثة تجعل من المستحيل أن يبقى أي أثر من آثار الإصلاح بعد نهاية الحرب، فإن الإصلاح المرغوب، ذلك الإصلاح الذي لا يُلاقي من الشعب معارضة، قد يفشل إذا كان القائمون بالأمر يحملون الجماعة على قبوله بطريق الدعاية التي تثير فيها الخوف من عدوان الآخرين، أو الدعاية التي تُمجِّد العدوان، تقوم به الجماعة لمصلحة نفسها كي تُحقِّق من ورائه خيرًا ترجوه.
ولنعُد الآن إلى موضوعنا الأساسي — وهو ضرورة تجنُّب العنف الداخلي عند القيام بالإصلاح. نعود فنقول إن الإصلاح قد يكون مستحبًّا في حد ذاته، ولكنه لا يلائم الظروف التاريخية القائمة، فيُصبح عديم الجدوى من الناحية العملية. ولا أُحب أن يؤدي هذا إلى الخطأ الشنيع الذي ارتكبه هجل، وسار على نهجه الحكام المُستبدون المُحدَثون، مرتكبِين الجرائم يُبرِّرون بها أعمالهم، ومُقدِّمِين من القول سَخفًا يُعلِّلون به آثامهم — وذلك الخطأ الذي أعني هو الاعتقاد بأن الواقع هو المعقول، وأن الظروف المحيطة هي الظروف المثالية التي ينبغي أن تبقى بغير مساس. ليس الواقع هو المعقول وليس كل ما هو كائن حقًّا وصوابًا. إن الواقع — في أية لحظة من لحظات التاريخ — يحتوي على عناصرَ معقولة وعلى عناصرَ أخرى تخرج عن حد المعقول. والإدراك السليم يقتضينا عند إدخال الإصلاح أن نُبقي على المعقول وأن ننبذ كل ما عداه.
ولمَّا كان نبذُ أي تقليد من تقاليد المجتمع أمرًا عسيرًا على أكثر النفوس، فإنه يجمُل بنا أن نُبقي كذلك على التقاليد التي لا تنفع ولا تضر، أو التي لا يكون من ورائها ضررٌ مُحقَّق؛ وذلك لأن ميل الإنسان إلى المحافظة على القديم حقيقة لا ينبغي إنكارها أو إهمالها. ويَترتَّب على ذلك أن يمتنع المصلح الاجتماعي عن القيام بتعديلٍ لا يراه جد ضروري، أو تعديلٍ يُدرك أنه يدعو إلى النفور الشديد. وواجب المُصلِح — كلما أمكن ذلك — أن يمدَّ في حبل النظم القائمة التي يألفها الناس، وأن يجعلها أساسًا للتطوُّر الذي يرمي إليه حتى يتمكن من بلوغ مأربه. إن المبادئ القائمة التي يُقرُّها العقل السليم ينبغي أن تجد لها محلًّا في الإصلاح المنشود، وواجب المصلح أن ينقلها من النطاق الضيق إلى النطاق الواسع.
بهذه الطريقة وحدها تخِف المُعارَضة التي لا بد تنشأ عند كل إصلاحٍ جديد، كما تَضعُف الحاجة إلى استخدام وسائل العنف والشدة.