الجماعة التي تسير على خطة مرسومة
لم يتعرض قبل الحرب العظمى للكلام على الجماعة التي تسير على خُطةٍ مرسومة غير الفابيِّين (جماعة الاشتراكيِّين). وفي أثناء الحرب رسمت الخُطة لجميع الجماعات المُحارِبة. وإذا نظرنا إلى السرعة التي تم بها رسم الخُطط حكمنا أنها كانت خُططًا محكمةً وُضعَت بقصد تمكين الدولة من مواصلة العداء. وما كادت الحرب تنتهي حتى قامت المعارضة في وجه سياسة الخُطة المرسومة، وكان ذلك طبيعيًّا بعد حربٍ ضروسٍ دامت أربعة أعوام. ثم كانت الأزمة الاقتصادية التي أعقَبَت الحرب الكبرى، فآمن الناس من جديد بضرورة رسم الخطة للدولة. ومنذ عام ١٩٢٩ أخذت فكرة تنظيم الدولة في الرواج والانتشار، فرُسمَت الخُطط في نظام وإحكام وعلى نطاقٍ واسع في الدول الدكتاتورية، ورُسمَت على نطاقٍ ضيق في الدول الديمقراطية، وأخرجت المطابع سيلًا جارفًا من الكتب في التنظيم الاجتماعي. وكان لكل مُفكرٍ مجدد مشروعه في التنظيم. بل لقد أصابت العامَّة أنفسهم عدوى التفكير في هذا الموضوع. وتنظيم الجماعة اليوم من الأمور المُستحدَثة المستحبة؛ وذلك لأن العالم يتردى في حَمْأة من التدهور والضلال. ويبدو لمن يتدبر الظروف الراهنة أنه من المستحيل إنقاذ العالم من الشر الذي يسبح فيه، أو إصلاح ما به من عيوب، دون التفكير في وضع خُطة لتنظيمه. غير أننا نخشى — ونحن نحاول إنقاذ العالم أو جزءًا منه من اضطرابه الحاضر — أن تكون الخُطة المرسومة خطةً جهنمية. إننا إذًا لا ننتشل العالم من وَهْدته، إنما نُودِي به إلى الخراب والدمار؛ فإن من ألوان العلاج ما هو شرٌّ من المرض.
لا بد من وضع الخطة لتنظيم المجتمع، ولكن ماذا عسى أن تكون تلك الخطة؟ إننا لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال، ولا نستطيع أن نحكم على أي مشروع للإصلاح إلا إذا رجعنا إلى مُثُلنا العليا التي نرمي إليها، فإن كان هذا المشروع يحقق لنا أملنا أو بعض أملنا فهو مشروعٌ مستحبٌّ مرغوب، ينبغي لنا عند النظر في أية خطة أن نتساءل: هل تُعين هذه الخطة على نشر العدالة والسلام بين الأمم؟ هل تعمل على التقدُّم العقلي والخُلقي، هل تصوغ لنا جماعة من الرجال والنساء المُتحررِين المسئولِين؟ إن كان الأمر كذلك فهي إذًا خطةٌ طيبة، وإلَّا فهي خطةٌ خبيثة لا نرضاها لأنفسنا ولا نقبلها برنامجًا لحياتنا.
والخُطط الخبيثة في العصر الحاضر ضربان: هناك الخُطط التي يضعها ويقوم بتنفيذها قومٌ يختلفون عنا في نظرهم إلى المَثل الأعلى للإنسان. وهناك الخطط التي يضعها ويقوم بتنفيذها قومٌ يتفقون معنا في النظر إلى المُثل العليا للحياة، ولكنهم يتصورون أن الغايات النبيلة يمكن أن تتحقق بوسائل دنيئة، إنهم يُعبِّدون الطريق إلى جهنم وهم لا يشعرون، والضرر الذي ينجم عن أبناء هذه الطائفة الأخيرة ليس أقل شأنًا من الخطر الذي ينجم عن أبناء الطائفة الأولى، وفي هذا تأييدٌ لبوذا الذي كان يعُد الجهل والغباء من أمهات الكبائر.
ولنضرب للقارئ بعض الأمثلة التي توضح ما نقول: من أبناء الطائفة الأولى الفاشستيون العسكريون الذين يختلفون عنا في مَثَلهم الأعلى للحياة الصحيحة، يقول موسوليني: «إن الفاشستية تعتقد أن الحرب وحدها هي التي ترفع النشاط الإنساني إلى أقصاه، والحرب وحدها هي التي تطبع بطابع الشرف تلك الشعوب التي تجد لديها من الشجاعة ما يدفعها إلى النزول إلى ساحة القتال.» ثم يقول في موضع آخر: «إن الفاشستية والسلام فكرتان متعاديتان.» الرجل الفاشستي إذًا يعتقد أن ضرب المدن المكشوفة بالنار والقنابل، وإهلاكها بالسموم والمفرقعات (أو بعبارةٍ أخرى الحرب الحديثة) عملٌ طيب في صميمه، هو رجلٌ ينبذ تعاليم الرسل المُصلحِين، ويعتقد أن خير الجماعات جماعةٌ قومية تعيش في عداءٍ دائم مع المجتمعات القومية الأخرى، هو رجلٌ لا يتورع عن النهب والفتك، ثم هو يحتقر الرجل المُتحرِّر، ويعجب بالرجل الذي يخضع للحاكم المُستبِد الغاصب، والذي يتصف بالكبرياء والحسد والحِقد وسرعة الغضب، وهي صفاتٌ أجمع الأنبياء والفلاسفة على أنها حقيرةٌ لا يصح أن يتحلى بها الإنسان الراقي. إن الخُطط الفاشستية جميعًا ترمي إلى غاية واحدة: وتلك هي أن تجعل المجتمع القومي قادرًا على أن يُدير عجلة الحرب بنشاط ونجاح؛ فالصناعة والتجارة والمالية تُوجَّه نحو هذا الغرض، الدولة الفاشستية تعمل على أن تستقل عن غيرها من الدول من الناحية الاقتصادية، وتحاول أن تكفي حاجات نفسها دون اللجوء إلى غيرها من الأمم؛ ومن أجل ذلك فهي تشجع الصناعات الوطنية التي قد تكون أقل جودة من الصناعات الأجنبية، كما أنها تحاول أن تستعيض عن الخامات التي تفتقر إليها بخاماتٍ مصطنعةٍ محلية، وهي فوق ذلك تفرض الرسوم والضرائب على البضائع الواردة، وتُشجِّع التصدير، وتُقلِّل من تبادُل السلع، وتعمل على خسارة منافسيها بكل وسيلةٍ مشروعة وغير مشروعة، وتَسِير السياسة الخارجية في تلك الدول على المبادئ المكيافلِّية صراحةً وجهارًا، وتدخُل الدولة الفاشستية في اتفاقاتٍ جِدية مع غيرها من الدول، وهي تعلم أنها سوف تنقضها في اللحظة التي يَتبيَّن لها فيها أن مصلحتها في نقض المعاهدة، ثُمَّ هي تحتمي بالقانون الدولي إن كان ذلك في مصلحتها، وتنبذه إذا كان هذا القانون يقف لها حجَر عثْرة في سياستها الاستعمارية، ويتحكم في الدولة دكتاتور يُربِّي الشعب على الإخلاص لمبادئ الفاشستية، ويتعلم الأطفال الذِّلة والخضوع؛ كي يَنشئوا على الطاعة لأولي الأمر، وعلى القسوة على من هم أدنى منهم مكانةً في المجتمع. يبدأ الطفل بعد أن يترك روضة الأطفال ذلك التدريب العسكري الذي ينتهي بسنوات الخدمة العسكرية الإجبارية، التي تدوم ما دام الفرد قادرًا على القيام بأعباء الجندية. ويتعلم الأطفال في المدارس الأكاذيب المُلفَّقة في دروس التاريخ، فيُمجِّد معلموهم الأسلاف من أبناء أمتهم، ويحُطُّون من قَدْر العظماء في الأمم الأخرى جميعًا. وتقوم على المطبوعات والكتب رقابةٌ صارمة حتى لا يتسرب إلى الراشدِين رأيٌ لا يحب لهم الدكتاتور أن يعرفوه. وكل من يحاول التعبير عن رأيٍ لا يتفق وأغراض الدولة يُضطهد اضطهادًا لا رحمة فيه ولا هوادة. وبالدولة نظامٌ مُحكَم للجاسوسية التي تَتتبَّع الأفراد حتى في حياتهم الخاصة. وتُشجِّع الدولة الغيبة والنميمة، وتكافئ كل من يُبلغ أولي الأمر عن شخصٍ يُعادي النظام القائم. والإرهاب في هذه الدولة مشروع، والقضاء يجري سرًّا في أكثر الأحيان، والمحاكم أبعدُ ما تكون عن العدل، والعقوبات شديدةٌ قاسية، والوحشية ووسائل التعذيب المختلفة من أساليب الحكم في البلاد.
هذه هي خُطة الفاشست، وهي خطة قومٍ لا يعترفون بالمُثل العليا للمدنية المسيحية، أو المدنيات الآسيوية القديمة التي سبقَتها، قوم ساءت نياتهم، وهم لا يحاولون أن يستروا خُبث مقاصدهم. ولننظر الآن في أمثلةٍ من الخُطط التي يرسمها قادةٌ سياسيون أغراضهم نبيلة ووسائلهم وضيعة. إن أول ما نلاحظه على هؤلاء الرجال هو أن إيمانهم بمُثلنا العليا واهٍ ضعيف، وكلهم يعتقد أن الغايات النبيلة يمكن أن تُحقَّق بوسائلَ دنيئة، إنهم يختلفون عن الفاشست كل الاختلاف في أهدافهم وأغراضهم، غير أنهم يسلكون الطرق عينها التي يسلكها الدوتشي والفوهرر، هم من دعاة السلم، ولكنهم يعتقدون أن السلم وسيلتها القتال، وهم قومٌ مُصلِحون، ولكنهم يتصورون أن العدالة الاجتماعية يمكن أن تكون وسيلتها الظلم والاستبداد. إنهم يحبون الحرية، ولكنهم يرون أن تركيز السلطة واستعباد الجماهير يمكن أن يُحقق الحرية للجميع. إن روسيا الثائرة، التي تزعم أنها تعمل على نشر الحرية كاملة بين أفراد الشعب جميعًا، لديها أكبر جيشٍ من جيوش العالم، ولديها بوليسٌ سري يضارع في دقته وصرامته البوليس السري الألماني أو الإيطالي، ولديها رقابةٌ شديدة على الصحافة، ونظامٌ للتعليم ينبني على خضوع الصغير للكبير كالنظام الألماني الهتلري، ولديها نظامٌ شامل للتدريب العسكري يُطبَّق على النساء والأطفال كما يُطبَّق على الرجال، ويحكمها دكتاتورٌ يرتفع إلى مكانة التقديس في شعبٍ ذليل، لا يختلف عما كان عليه رجال روما المُتألِّهون أو رجال برلين المُتغطرِسون، وبها بيروقراطيةٌ لها امتيازاتٌ وحقوق، وهي تَستخدم سُلطة الدولة للاحتفاظ بامتيازاتها ولحماية مصالحها، وبها حزبٌ أوليجاركيٌّ يسود الأمة كلها، ولا يتمتع أعضاؤه أنفسهم بالحرية داخل الحزب (إنَّ معظم الطبقات الحاكمة في أكثر الأمم تمنح الحرية على الأقل لأعضائها وإن حرَمَتها عامة الشعب، ولكن الحزب الروسي الاشتراكي ينكر الحرية على أعضائه كما ينكرها على أفراد الشعب). ولا يسمح في الروسيا بالمعارضة؛ ولذا تكثر المؤامرات الخفية. وقد كانت تلك المؤامرات سببًا في محاكمات الخيانة والتطهير التي انعقدت في الروسيا في عامي ١٩٣٦ و١٩٣٧. ومعالجة البناء الاجتماعي وتنظيم الدولة تسير في الروسيا على غير ما يحب الشعب ويرضى، وتُستخدم في سبيل ذلك كل وسائل القسوة والاستبداد (في عام ١٩٣٣ هلكت في الروسيا جوعًا عدة ملايين من الفلَّاحِين بإرادة أولي الأمر السوفيتيِّين ورغبتهم). إن القسوة تُولِّد الحقد، والحقد لا يُقمع إلا بالقوة الغاشمة، والعنف — كما قلنا من قبل — يولِّد الرغبة في الاستزادة منه. هذا هو التنظيم الروسي، إنه نظامٌ نبيل في مقصده، دنيءٌ في وسائله، وقد أنتجت هذه الوسائل نتائج تختلف كل الاختلاف عن تلك التي كان يصبو إليها زعماء الثورة الروسية الأولون.
إن أكثر المحاولات التي قامت بها السلطات الديمقراطية لتنظيم الدول تنظيمًا شاملًا قد أَمْلَتها رغبةٌ قوية في تعزيز الروح العسكرية، ومن ذلك محاولة توحيد الإمبراطورية البريطانية في وَحدةٍ قائمة بذاتها من الوجهة الاقتصادية؛ فقد كانت خطة أمْلَتها على القائمِين بالأمر اعتباراتٌ عسكرية. وأكثر من هذا تَشبُّعًا بالروح العسكرية النظم التي أُدخلَت على صناعة الأسلحة، لا في بريطانيا العظمى وحدها، ولكن كذلك في فرنسا وفي الدول الديمقراطية الأخرى بقصد زيادة الإنتاج، وهذه المحاولات في التنظيم وأشباهها — مثلها مثل الخطط الفاشستية التي تعمل على تقوية الروح العسكرية — لا بد تنتهي بتعقيد الأمور، وزيادة الموقف سوءًا على سوء. فإن الإمبراطورية البريطانية بتحوُّلها من رقعة حرة التجارة، إلى ضَيعةٍ خاصة تحميها أسوارٌ من الرسوم الجمركية إنما تُعزِّز العداوة الأجنبية للإمبراطورية البريطانية. ولمَّا كان الإنجليز يملكون سيادة البحار غير مُنازَعِين فقد كان بوُسعهم أن يظفروا برضا العالم بأسره لو أنهم تركوا أبواب مستعمراتهم مفتوحةً للتجارة الخارجية. أمَّا اليوم وقد فقدوا هذه السيادة البحرية، فقد أُغلقت أبواب المستعمرات في وجه التجارة الخارجية. أو نستطيع بعبارة أخرى أن نقول إن إنجلترا تدعو العالم لمُعاداتها في اللحظة التي لم تعُد فيها في مركزٍ يُمكِّنها من تحدِّي تلك العداوة، ولا يستطيع المرء أن يتصور حماقةً أشد من هذه، ولكن ما أحرى أولئك الذين يُفكِّرون تفكيرًا عسكريًّا أن يرتكبوا أمثال هذه الحماقات!
أمَّا فيما يختص بالتسليح، فإنه بالنسبة التي يسير عليها اليوم، وبهذا القدر العظيم الذي تُصنع به الأسلحة، لا بد أن يؤدي إلى إحدى نتيجتَين: إما أن تشتعل حربٌ عامةٌ بعد فترةٍ وجيزة من الزمن أو — إذا أُجِّلَت الحرب لبضع سنوات — ينتهي هذا التسابق في التسليح بفتورٍ في هذه الصناعة وتحل بالعالم أزمةٌ اقتصادية لا تقل حدةً عن أزمة سنة ١٩٢٩، والأزمة الاقتصادية تخلق في النفوس القلق. وهذا القلق يدفع الدول الديمقراطية إلى مسارعة الخُطأ نحو الاصطباغ بالصِّبغة الفاشستية، وهذا التحوُّل الفاشستي يجعل الحرب أمرًا لا مفر منه.
ويكفينا ما ذكَرنا عن الخُطط التي تضعها الدول لأغراضٍ عسكريةٍ محضة. غير أن هناك خططًا لم تكن أول الأمر عسكريةً محضة في صِبغتها. تلك خُطط رسمَتها الحكومات كي تعالج بها آثار الأزمات الاقتصادية، ولكن هذه الخطط — لسوء الحظ — في ظل النظام القائم، لا بد أن تُدبَّر وتُنفَّذ في جوٍّ مُشبَّع بالروح العسكرية والقومية. وهذا الجو يعطي كل خطةٍ دوليةٍ صفةً حربيةً عسكرية، مهما حسُنَت نية القائمين بالأمر (ويجدر بنا هنا أن نشير إلى حقيقةٍ عامة لم يفطن إليها علماء الإنسان القُدامى، وتلك الحقيقة هي أن العادات والطقوس والتقاليد تتخذ لها لونًا جديدًا من الجو السائد، فقد يتخذ الشعبان عادةً واحدة، ولكن هذا لا يعني أن هذه العادة تتخذ صورةً واحدة عند هذَين الشعبَين؛ وذلك لأن الجو الاجتماعي السائد بين الشعبَين قلما يكون متفقًا. وإذا طبَّقنا هذه القاعدة العامة على المشكلة التي نحن بصددها، أدركنا أن الخُطة غير العسكرية التي تُنفَّذ في جوٍّ عسكري يُرجَّح أن تتلوَّن بلونٍ يختلف كل الاختلاف عن اللون الذي تصطبغ به في جوٍّ غير عسكري).
ولمَّا كانت كل الشعوب اليوم، حتى الديمقراطية منها، عسكريةً في روحها، تتعصَّب للقومية بل تعبُدها، فإن كل تنظيمٍ اقتصادي تقوم به الحكومة يبدو للمُشاهِد الأجنبي استعماريًّا في صبغته. وهذا مما يُفسِد العلاقات بين الأمم. وقد لجأَت الدول إلى فرض الرسوم الجمركية على السلع الأجنبية وإلى غير ذلك من الحيل للترفيه عن رعاياها. ولكن أمثال هذه التدابير — في الجو الذي يسود العالم — تبدو للدول الأجنبية أعمالًا تنطوي على سوء النية ووضاعة المقصد، فتثأر هذه الدول لنفسها، ويتعسَّر التفاهم بين الأمم، وتُصبح الحرب ضرورةً لا مندوحة عنها.
وإذا أنعَمتَ النظر في هذه المشكلة ألفَيتَ في الأمر تناقضًا شديدًا؛ ذلك أن تنظيم كل دولة على حدة يؤدي إلى الفوضى بين مجموع الدول، وتقوية الروح القومية تضعف الروح الدولية، وتماسُك الأمة يفضي إلى تفكك مجموعة الأمم؛ فقد كان التبادُل الاقتصادي بين الأمم خلال القرن التاسع عشر وفي السنوات الأولى من القرن العشرين سهلًا ميسورًا حينما كان الاقتصاد القومي يسير في جميع الأمم على غير خطةٍ مرسومة، وكان من مصلحة الأفراد الذين يقومون بالتجارة الدولية أن يتبعوا خطةً عادلة ليس فيها إجحاف بأحد؛ كانت الدولة إذًا تسير على غير خطةٍ معينة في الشئون الاقتصادية، فكانت النتيجة تعاونًا اقتصاديًّا عالميًّا.
إننا اليوم على قمة ورطةٍ كبرى؛ فالناس في كل بلد يكابدون حرمانًا شديدًا من جرَّاء عيوب النظام الاقتصادي السائد. ولا بد لنا من معونة هؤلاء الناس، ولكنَّا لا نستطيع أن نعينهم معاونةً فعَّالة إلا إذا تغيَّر وجه النظام الاقتصادي من أساسه. غير أن الخطة الاقتصادية التي تسير عليها الحكومات القومية لمصلحة الشعوب سببٌ من أسباب الاضطراب في بناء الاقتصاد الدولي. إن الحكومات القومية — وهي ترسم خطةً محليةً لمصلحة شعوبها — تُعرقِل سير التجارة الدولية، وتخلق صورًا جديدة من المنافسة الدولية، وأسبابًا جديدة للشقاق بين الأمم. وفي السنوات الأخيرة الماضية كان لا بد لمعظم الأمم أن تختار أحد هذين الشرَّين: إمَّا أن تترك ضحايا سوء النظام الاقتصادي لفعل القَدَر، وفي هذه الحالة يحتمل أن يُصوِّت الضحايا ضد الحكومة فيسقطوها، أو ينفجروا في ثورةٍ عنيفة تقلب نظام الحكم، وإمَّا أن تُعِين الحكومة ضحاياها بأن تفرض خطةً حكوميةً جديدة على النشاط الاقتصادي الداخلي. وفي هذه الحالة تُسيء الحكومة إلى نظام التبادُل الدولي، وتؤدي به إلى الفوضى، وتخلق أسباب اشتعال حربٍ عالميةٍ عامة. وبين هذَين الطريقَين الشائكَين طريقٌ مفتوحٌ واضح تستطيع الأمم المختلفة أن تسير فيه، وذلك أن تلجأ الدول إلى التشاور، وأن توحد نشاطها كي لا تُعرقِل خطةٌ قومية معيَّنة خطةً قومية أخرى، ولكن الدول لا تستطيع أن تسلك هذا الطريق في ظل النظام القائم؛ فالدول الفاشستية لا تزعم أنها تريد السلام والتعاوُن الدولي، بل إن الحكومات الديمقراطية نفسها التي تُنادي بالسلام بأعلى صوتها هي في نفس الوقت قوميةٌ في صِبغتها، حربيةٌ استعمارية في صميمها. إن التفكير السياسي في القرن العشرين بدائيٌّ ساذج إلى حدٍّ غير معقول؛ فالأمة لا تزال تتصور أنها كائنٌ حي له عواطفه ورغباته وإحساساته، وهذا الكائن الحي، أو هذه الشخصية القومية، أكبر من الإنسان العادي في حجمها ونشاطها، ولكنها أحطُّ منه في أخلاقها، الشخصية القومية لا تعرف الصبر أو الاحتمال أو العفو، بل هي لا تعرف الإدراك السليم أو النظر إلى المصلحة الشخصية نظرةً مستنيرة؛ ولذا فهي تُسيء السلوك إلى حدٍّ كبير. والرجال الذين يسلكون في حياتهم الخاصة سلوكًا معقولًا قائمًا على قواعد الأخلاق يتحولون عندما يعملون كمُمثِّلِين للشخصية القومية إلى رجالٍ بدائيِّين، يتصفون بالغباوة والهستيريا، تراهم يغضبون لأتفه الأسباب أشد الغضب؛ ومن أجل ذلك فإننا لا نرتجي خيرًا في الوقت الحاضر من المؤتمرات الدولية العامة، ولا يمكن أن يقوم نظامٌ للتعاون الدولي إلا إذا كانت جميع الدول على أُهْبةٍ لأن تُضحِّي ببعض سيادتها وحقوقها، وهي لن تفعل ذلك ما دامت القومية تُسيطر عليها وتتحكم فيها.
- أولًا: يمكن لبعض الدول التي تتقارب في وجهة النظر أن تُنظِّم مشروعاتٍ للتعاون بين بعضها وبعض، وقد حدث ذلك فعلًا بين الدول التي تتعامل بالإسترليني، وهي تشمل بُلدانًا رأى حكامها من الحكمة أن يُوحِّدوا بين الخُطط القومية المُنفصلة حتى لا تقف إحداها في سبيل الأخرى، وربما رأت بعض الحكومات الأخرى في المستقبل القريب أن من مصلحتها أن تنضم في اتحادٍ كهذا. ولكننا لا نحب أن نكون شديدِي التفاؤل من هذه الناحية. إن الزمن قد يُبيِّن للدول مزايا التعاون الدولي، ولكن الزمن كذلك يُكسب المصالح المُكتسَبة التي أوجَدَتها الخطط القومية المختلفة قوةً ومنَعة. إن الاشتراك في مشروع تعاونٍ دولي قد يكون في مصلحة الأمة عامة، ولكنه قطعًا ليس في مصلحة بعض الطوائف المُعيَّنة داخل تلك الأمة. وإذا كانت هذه الطوائف قويةً من الناحية السياسية فإن فائدة الأمة كثيرًا ما يُضحَّى بها في سبيل فائدة تلك الطوائف.
- ثانيًا: يمكن لكل دولةٍ أن تستقل عن غيرها من الدول من الناحية الاقتصادية؛ بذلك يخِف أثَر الفوضى الاقتصادية الدولية، وتصل أسباب الاحتكاك السياسي إلى الحد الأدنى. ولمَّا كان اتصال الدول بعضها ببعض — في ظل الروح القومية السائدة — غالبًا ما ينتهي بالصراع الدولي، فإن التخفيف من أسباب الاتصال بين الأمم يُؤدِّي — على الأرجح — إلى إبعاد شبَح الحرب.
إن مثل هذا الاقتراح يبدو في أعيُن القائلِين بحرية التجارة خطأً كبيرًا، بل إجرامًا شديدًا. إنهم يرَوْن — وهم على حق — أن حقائق الجغرافيا والجيولوجيا لا مفر منها؛ فالأمم تختلف في إنتاجها بحكم طبيعة أرضها ومناخها، والشعوب تختلف في استعدادها بحكم الإقليم والبيئة؛ ولذا فمن أصالة الرأي أن يَتقسَّم العمل بين الأمم، وأن تستبدل كل دولة بالسلع التي يَسهُل عليها إنتاجها تلك التي تتعسر عليها، وتتيسر في بقعةٍ أخرى من الأرض.
هذا ما يرى أنصار حرية التجارة، وحُجتهم في ظاهرها معقولةٌ مقبولة. ولكنك إن أنعمتَ فيها النظر من ناحيةٍ عملية تَبيَّن لك ما فيها من شطط؛ ذلك أن أكثر الدول اليوم ترمي إلى توسيع نفوذها السياسي، وتخشى الحرب وما يَترتَّب عليها من نتائج؛ لذلك تراها تبذل كل جهدها في إنتاج كل ما تستطيع من سلعٍ داخل بلادها، مهما كلَّفَها ذلك، ومهما كانت العقبات الطبيعية، وذلك رغبةً منها في الاستغناء عن الدول الأخرى إن دعا إلى ذلك داع. وقد ساعد تقدُّم العلوم والفنون هذه الدول كثيرًا على تنفيذ هذه السياسة الاستقلالية واتباعها في كثيرٍ من الأمور. أجل إن فكرة الاستقلال الاقتصادي والاكتفاء بالإنتاج المحلِّي سخيفةٌ جدًّا في نظر أنصار حرية التجارة، ولكنها ممكنة التحقيق إلى حدٍّ كبير نظرًا لتقدُّم فنون الصناعة. إن العلم لا وطن له؛ ولذا فإنه إن تَقدَّم في بلدٍ من البُلدان انتقل إلى البلدان الأخرى وانتفع به قومٌ آخرون. ويترتب على ذلك أنه إذا نجَحَت أمةٌ من الأمم في تنفيذ سياسة الاستقلال الاقتصادي لِتقدُّم العلم فيها كان من اليسير على غيرها من الأمم أن تنقل عنها علمها وفنها لتستقل هي بدورها استقلالًا اقتصاديًّا. هذه حقيقة لا مَفَر منها، ومن الخير ألَّا نتجاهلها وأن نَستغلَّها لمصلحة المجموع.
إن الدول الدكتاتورية في الوقت الحاضر تستغل التقدُّم العلمي في أغراض الحرب وحدها. ولكن ليس هناك ما يدعونا إلى استخدام فكرة الاستقلال الاقتصادي في الاستعداد للحرب دون غيرها؛ فنحن نستطيع أن نستخدمها في نشر لواء السلام؛ وذلك أن قوة الشعور بالقوميَّة تُهدِّدنا بقيام النزاع بين الأمم، فإذا نحن استطعنا أن نُباعِد بين هذه الدول من الوِجهة الاقتصادية أمكننا أن نُبعد شبح الحرب ولو إلى حين. والمُكتشَفات العلمية الحديثة تُعاوِننا على تنفيذ سياسة الاستقلال الاقتصادي؛ ولذلك فمن الخير لنا أن نُشجِّع هذه المكتشفات.
ولننظر على سبيل المثال في مشكلة الغذاء. إن كثيرًا من الحكومات — ومنها إنجلترا وألمانيا وإيطاليا واليابان — تُبرِّر استعدادها للحرب وحبها الاستعمار بنقص الأغذية في بلادها نقصًا يجعل إمداد جميع السكان بالطعام الكافي أمرًا مستحيلًا. ومما يزيد الطين بِلَّةً أن هذا النقص الطبيعي يُعزِّزه نقصٌ وضعي منشؤه سياسةٌ خاطئة في نظام النقد تمنع بعض البلدان من الحصول على مواد الغذاء اللازمة من الخارج، وهذه السياسة الخاطئة في نظام النقد نتيجة للروح العسكري السائد. وتُؤثِر الحكومات في هذه البلدان أن تُنفِق كل مصادر الثروة القومية في شراء الأسلحة بدلًا من أن تنفقها في شراء الغذاء والكساء، تُؤثِر أن تشتري المدافع بدلًا من الزُّبْد؛ ومن ثم ترى أن الدولة لا تستطيع أن تشتري الغذاء لأنها تستعد للحرب، كما أن الدولة لا بد لها أن تُحارِب لأنها لا تستطيع شراء الأغذية؛ فهي حَلقةٌ مُفرَغة.
إن الاختراعات الفنية النافعة لا يمكن أن تُقاوَم. وإذا ثبَتَت فائدة طريقة جرك هذه فلا شك أنها ستعُم جميع البلدان، وربما كان لذلك أثَره في استتباب السلام العالمي. بل إني أرى أنه — سواءٌ نجحت هذه الطريقة أو لم تنجح — في استطاعة الأمم بحسن الرأي والتدبير «أن تعيش في أوطانها.» كما يقول ولككس، بل وتعيش — إذا لم ترتفع نسبة المواليد ارتفاعًا فجائيًّا — في رغَدٍ لم يسبق له مثيل. ويهمنا في هذا الصدد أن يَتنبَّه القارئ إلى أن الحكومات على اختلافها لم تبذل حتى الآن مجهودًا جِديًّا للاستفادة من الطرق الزراعية الحديثة على نطاقٍ واسع، حتى تستطيع أن ترفع مستوى الشعب المادي فتستغني بذلك عن ضرورة الغزو والاستعمار. وفي هذا وحده دليلٌ على أن أسباب الحروب ليست اقتصاديةً فحسب، إنما هي سيكولوجيةٌ كذلك؛ فالأمم تَتأهَّب للحروب لأسبابٍ من بينها أن الحرب تقليدٌ قديم له قوته وسلطانه على النفوس، ومنها أن الحرب مثيرةٌ للشعور باعثةٌ على الاهتمام، كأنها روايةٌ مسرحية تُمثَّل، ومنها تنشئة الشعب على الإعجاب بالروح العسكرية، ومنها كذلك أننا نعيش في مجتمعٍ يَعبُد النجاح مهما تكن وسيلته، مجتمعٍ يقوم على التنافُس أكثر مما يقوم على التعاوُن. ومن هنا ينشأ النفور من اتباع السياسة الإنشائية التي تعمل على إزالة أسباب الحروب الاقتصادية على الأقل. ومن هنا كذلك يَتدفَّق ذلك النشاط الوافر الذي يبذله الحاكم والمحكوم على السواء في الدعاية لسياسة الهدم وإثارة الحروب، مثل سياسة التسليح وسياسة تركيز السلطة التنفيذية وتجنيد الجماهير.
لقد أَوضَحتُ في الفصل الذي كتبته عن «الإصلاح الاجتماعي والعنف» أن أكثر الناس محافظون على القديم، وأَبَنتُ أن كل تعديلٍ في نظام المجتمع — مهما يكن طيبًا — يثير المعارضة، وأن أية خطة تُفرَض على الناس بالعنف والشدة لا تؤدي إلى النتائج المرجوة منها. ويستتبع هذا أولًا أننا يجب ألا نُدخل على المجتمع أي إصلاح إلا إن كان ضروريًّا جدًّا، وثانيًا ألَّا نفرض على الناس إصلاحًا يُثير فيهم المعارضة والمقاومة، مهما يكن هذا الإصلاح ضروريًّا، اللهم إلا إن كان ذلك تدريجًا وبدرجة غير محسوسة. وثالثًا عند الإصلاح ينبغي أن نتخذ الوسائل التي تَعوَّدها الناس وأَلِفوها من قبل.
ولنُطبِّق الآن هذه القواعد العامة على أمثلةٍ مُعيَّنة من التنظيم الاجتماعي، ولنطبقها أولًا على الخطة الكبرى لكل المُصلِحِين المُحدَثِين — وهي تحويل الجماعة الرأسمالية التي تقوم على مبدأ الكسب الشخصي إلى الجماعة الاشتراكية التي تضع المصلحة العامة في المحل الأول.
- القاعدة الأولى: للإصلاح — كما ذكَرنا من قبلُ — أننا يجب ألَّا نُدخل على المجتمع أي تعديلٍ إلا إن كان ضروريًّا جدًّا. فإن أردنا أن نُصلِح جماعةً رأسماليةً متقدمة، فما هو التعديل الذي لا يسعنا إلَّا أن نُدخله؟ الجواب على هذا السؤال يسيرٌ واضح: إن التعديل الضروري الذي لا مناص منه لا بد أن يعالج إدارة الإنتاج الكبير، وإدارة هذا الإنتاج في العصر الحاضر تنحصر في أيدي أفرادٍ غير مَسئولِين، كل همهم أن يُضاعفوا أرباحهم، وكلُّ وحدةٍ إنتاجيةٍ كبيرة مستقلةٌ تمام الاستقلال عن باقي الوَحَدات، وليس بين الوحدات اتحادٌ من أي نوعٍ كان. وهذا التفكُّك القائم بينها هو الذي يُؤدِّي إلى الأزمات الاقتصادية التي تحل بنا بين الحين والحين، وتنشأ عنها صعوباتٌ جمةٌ للطبقات العاملة في الأمم الصناعية. إن الإنتاج الصغير الذي يتولاه أفرادٌ يملكون الآلات التي يستخدمونها بأنفسهم لا يتعرض لمثل هذه الأزمات التي يعانيها الإنتاجُ الكبيرُ الفينة بعد الفينة، وللإنتاج الصغير — فوق ذلك — ميزةٌ أخرى، وتلك هي أن المِلْكية الشخصية لوسائله لا تتبعها عواقبُ سياسيةٌ أو اقتصادية أو سيكولوجية وخيمةٌ كتلك التي تَترتَّب على الإنتاج الكبير — مثل استعباد صاحب العمل لعُماله، وخوف العُمال الدائم من خطر التعطُّل، واعتمادهم المُطلَق على أرباب الأعمال؛ ولذا فإني أرى أن نَصبِغ إدارة وحدات الإنتاج الكبير بالصبغة الاشتراكية، وأن نُبقي على وحدات الإنتاج الصغير دون مساس. بذلك يُمكِننا أن نحتفظ بالفَرديَّة في العمل، وأن يبلُغ الاعتراض على إصلاحنا الذي نريده حَدَّه الأدنى.
- والقاعدة الثانية: التي وضعناها للإصلاح هي ألَّا نُحاوِله البتةَ إذا كان يحتمل أن يُثير المعارضة. ولنفرض على سبيل المثال أن الزراعة الجمعية أكثر إنتاجًا من الزراعة الفردية، وأن الفلاح الذي يعمل في مزرعةٍ جمعية هو من الوِجهة الاجتماعية خيرٌ حالًا من الفلَّاح الذي يملك أرضه ويُدير أمرها بنفسه. إذا سلَّمْنا بهذا كان إلغاء المِلكيات الفردية أمرًا لا بد منه. ولكن هذا الإصلاح — رغم أنه قد يكون مُستحبًّا — لا ينبغي تنفيذه إلا إن كان ذلك تدريجًا وبخطواتٍ بطيئة. إنَّا إذا نفَّذنا هذه السياسة دفعةً واحدة فإنَّا بذلك من غير شك نُثير معارضةً عنيفة تفتضينا استخدام العنف والشدة. إن إلغاء المِلكيات الفردية في الروسيا وإخضاعها للنظام الجمعي اقتضى الحكومة أن تَحكُم على عددٍ كبير من الفلاحِين المالكِين بالسجن والإعدام والحرمان والجوع. ومن المحتمل أن يكون المعارضون المعروفون اليوم (١٩٣٧) هناك باسم تروتسكيت Trotskyite شديدِي الحِقد على الحكومة لهذا ولغير هذا من أعمال الإرهاب. إن إقماع المعارضة يتطلب من الحكومة أن تلجأ إلى وسائل العنف، كما يتطلب منها على حد تعبير الأستاذ لاسكي تعزيزًا ﻟ «الدكتاتورية الحديدية». ووسائل العنف هذه والدكتاتورية الحديدية لا يمكن إلَّا أن تنتهي بالنتائج الطبيعية للوحشية والاستبداد — وتلك هي استعبادُ الناس وبثُّ الروح العسكرية فيهم، وإخضاع الشعب وإذلالُه وتخلِّيه عن الشعور بالتبعات. والزراعة الجمعية أشد خطرًا في البُلدان الغربية المُتقدِّمة في الصناعة منها في الروسيا؛ فإن المُزارعِين والفلَّاحِين في أوروبَّا الغربية وفي أمريكا أقل عددًا من سكان المدن. ولمَّا كانوا قلةً ملحوظة فإن لكل فلاح قيمته. فإذا نحن اكتسبنا عداوة هذه الأقليَّة التي لا غنًى لنا عنها قلَّ إنتاجها الزراعي، وربما كان في ذلك هلاك سكان المدن. يستطيع أولو الأمر في الروسيا أن يقضوا على حياة بضعة ملايين من الفلاحِين دون أن يتأثر بذلك سكان المدن. أمَّا في فرنسا أو ألمانيا أو إنجلترا أو الولايات المتحدة فإن إهلاك العدد اليسير من الفلَّاحِين والمُزارعِين يقضي على عُمَّال المدن جوعًا.
- والقاعدة الثالثة: للإصلاح هي ضرورة إنجازه باستخدام الوسائل التي أَلِفها الناس من قبلُ. وسنذكر هنا أمثلةً قليلةً محسوسة للوسائل التي نستطيع أن نتخذها لتعديل نظام الرأسمالية. تستطيع الحكومة أن تضع حدًّا للأرباح، وقد طَبَّقَت الحكومة البريطانية بالفعل هذا المشروع في شركة الإذاعة البريطانية. ويمكننا أن نُعمِّم مبدأ تحديد الأرباح في جميع ميادين العمل والتجارة. وتستطيع الحكومة كذلك أن تلجأ إلى مبدأ تعاوُن المُستهلكِين وتعاوُن المُنتجِين؛ فهو مألوفٌ للناس وليس بجديدٍ عليهم. وإذا عرَّجْنا على نظام الضرائب رأينا أن الأغنياء في أكثر الدول قد قَبِلوا عن رِضًى أن يدفعوا ضريبة الدخل وضريبة الميراث. فما يمنع الدول الأخرى أن تفرض هذه الضرائب كي تُخفِّف من حِدَّة المُفارقات الاقتصادية بين الأفراد والطبقات؟ وتستطيع الدولة كذلك أن ترفع من أجور العُمال، وأن تَتولَّى هي بنفسها الإشراف على تنظيم مصانع الإنتاج الكبير وأمواله، بدلًا من أن يَتولَّاه الأفراد.
لقد تَحدَّثتُ فيما سلف عن الإصلاح القومي، وإني ما زِلتُ أشعر أن المشكلة بحاجةٍ إلى زيادة الشرح والإيضاح لأننا — من الوجهة العملية — لا نستطيع أن نفصل أي نوعٍ من أنواع الإصلاح عن جَوِّه الإداري والحكومي والتعليمي والنفسي. إن الشجرة تُعرَف بِثمارها، وثمار أي إصلاحٍ مُعيَّن تتوقف كمًّا ونوعًا على جو الإصلاح بقَدْر ما تتوقف على نوع الإصلاح ذاته، كما أن الفاكهة تتوقف عددًا وجودةً على نوع الشجرة التي تُنبِتها كما تتوقف على الجو الذي تَنبُت فيه وتترعرع. إن فائدة الإصلاح لا تَتحقَّق إلا إن كان الجو الاجتماعي من إدارة وحكومة وتعليم وغير ذلك جوًّا صالحًا لا فساد فيه.
خذ مثالًا لذلك المِلكية الاشتراكية لوسائل الإنتاج. هذا الإصلاح في حد ذاته معناه تحرير العمال المُستعبَدِين، ولكن هذا التحرير — في الروسيا المعاصرة — ينمو في جوٍّ فاسدٍ مُكوِّناته استيلاء السُّلطات الحاكمة على المصانع والمزارع الكبيرة، والتربية العسكرية في المدارس، والتجنيد الإجباري في الجيش، واستبداد دكتاتورٍ حاكمٍ تؤيده أوليجاركية من حزبه، وتؤازره البيروقراطية ذات الامتيازات، وهو يسيطر على الصحافة والنشر، ويستخدم قوةً كبيرةً من رجال البوليس السري. إن المِلكية الاشتراكية لوسائل الإنتاج لا شك تُنقِذ العمال من خضوعهم التام لكثيرٍ من صِغار الدكتاتوريِّين — وأعني بهم مُلَّاك الأراضي، وأصحاب الأموال، وأرباب المصانع الكبيرة، ومن إليهم، فليسوا إلا كذلك. ولكن إذا كان جو هذا الإصلاح (الطيب في حد ذاته) فاسدًا، فلن يظفر العمل بتلك الحرية التي نَنشُدها لهم، ولكنهم يعانون نوعًا جديدًا من الاسترقاق السلبي الذي لا يُحمِّلهم تَبِعةً من التبعات. أجل إننا بهذا الإصلاح نُنقِذهم من ظلم كثيرٍ من صِغار الدكتاتوريِّين الذين أشرنا إليهم، ولكننا نضعهم تحت وكلاء دكتاتوريةٍ واحدة مُركَّزةٍ أقوى من الدكتاتورية الأولى أثرًا؛ لأنها تستغل القوى المادية، ويؤيدها نفوذٌ أدبي يكاد يكون مُقدسًا، وذلك هو نفوذ الدولة القومية.
إن جو الإصلاح في الدول الديمقراطية أكثرُ ملاءمةً منه في الدول الدكتاتورية؛ ولذلك فالإصلاح في هذه الدول أنفع وأجدى، ولكن هذا الجو الملائم — في العصر الحاضر — يميل إلى التدهور والفساد، وهو بحاجةٍ شديدة إلى رعاية نفرٍ مُخلصِين حتى لا يتم فساده. وأسباب هذا الاتجاه نحو الانحطاط كثيرة؛ منها أن الشعوب الديمقراطية نفسها مُحِبَّة للاستعمار، وهي شديدة الرغبة في هزيمة الدول الفاشستية بأسلوبها؛ أي بطريق الحرب والقتال. وفي سبيل الاستعداد الفعَّال للحرب الحديثة ترى الحكومة ضرورة تركيز السلطة في يدها، وإلغاء كثيرٍ من نُظم الحكم الذاتي، والتضييق على حرية الرأي، وصَبغ التعليم بالصِّبغة العسكرية. ومن أسباب فساد الجو في الدول الديمقراطية كذلك أن هذه الدول ما تزال تُعاني إلى حدٍّ ما حِدَّة الأزمة الاقتصادية التي حاقت بها عام ١٩٢٩، مما ألجأ الحكومات إلى اتخاذ تدابيرَ اقتصاديةٍ استثنائيةٍ تُحاول بها الترفيه عن شعوبها، وقد أدَّى ذلك إلى تعزيز سلطة الحكومة. فباتت السلطة التنفيذية والبيروقراطية والبوليس في إنجلترا اليوم أقوى نفوذًا منها في أي عهدٍ سَبق. وكلما اشتد نفوذ هذه السلطات قلَّ استعدادها لقبول الحرية الديمقراطية. وثَمَّةَ نقطةٌ أخرى نُحب أن نُنبه إليها الأذهان، وتلك هي أن البدء في التنظيم الاقتصادي يؤدي حتمًا إلى الاستزادة من هذا التنظيم؛ وذلك لأن الأمور مُعقدةٌ إلى حدٍّ يجعل الخطأ ضرورةً لا مندوحة عنها. ولا يستطيع أحدٌ أن يضع خُطةً كاملة من أول الأمر لا عيب فيها ولا نقصان، ثُمَّ تُعالَج هذه العيوب ارتجالًا وتُوضَع لها الخطط الجديدة، وهذه الخُطط الجديدة لا تخلو من أخطاء، فتُوضَع لها خُططٌ أخرى لملافاتها، وهكذا ترى أن التنظيم يستتبع التنظيم، والخطة تتلو الخطة، وكل ذلك يؤدي إلى خنق روح الحرية في البلاد. وإذا ما ارتباط التنظيم بتعزيز السلطة التنفيذية — وهذا هو ما يحدث في كل الدول الديمقراطية — فإن كل خطةٍ تنظيمية جديدةٍ تقتضيها الأخطاء القديمة تسير بالدولة خطوةً إلى الأمام نحو الدكتاتورية. ثُمَّ إن التنظيم القومي الشامل — كما رأينا من قبلُ — يؤدي إلى تفكُّك الروابط الدولية، مما يؤدي إلى التطاحُن بين الأمم. وتستطيع أن تقول بعبارةٍ أخرى إن التنظيم القومي يُقرِّب خطر الحرب منا. ولا يمكن إعلان الحرب، ولا يمكن الاستعداد لها، إلا من حكومةٍ قوية مُركَّزةٍ ومن ثَمَّ ترى أن التنظيم القومي يؤدي — بطريقٍ مباشر وبطريقٍ غير مباشر — إلى فساد الجو الذي يمكن أن يتم فيه الإصلاح المنشود.
وفي الفصول التالية من هذا الكتاب سأحصُر بحثي كله تقريبًا في جو الإصلاح الملائم. ويدعوني إلى ذلك أن كبار المُفكِّرِين قد تحدثوا كثيرًا وكتبوا طويلًا في أنواع الإصلاح المطلوبة، وبخاصة الاقتصادي منها. وكلنا يعرف ما يقترحه هؤلاء المفكرون؛ فهم يرون اشتراكية وسائل الإنتاج، ويرون أن يكون الإنتاج للمنفعة العامة لا للمكسب الشخصي، كما يرون أن تُشرف الدولة على المالية العامة للبلاد وطُرق استغلالها والاستفادة منها، وما إلى ذلك. كلنا يعرف هذه الآراء، ونحن جميعًا مجمعون على ضرورة تنفيذها وتطبيقها على المجتمع، ولكن قلَّ منا من يلتفت إلى الجو الإداري والتعليمي والنفسي الذي ينبغي أن يتم فيه هذا الإصلاح. قلَّ منا من يقف لحظةً ليفكر في الوسائل التي يمكن أن تُتخذ لإخراج الإصلاح من ميدان النظر إلى ميدان العمل، غير أن تجاربنا الشخصية ودراسة التاريخ تُبيِّن لنا أن الوسائل لا تقل أهمية عن الغايات، بل لقد تكون أكثر منها أهمية؛ لأن الوسائل التي نستخدمها تُحدِّد طبيعة النتائج التي نبلغها، في حين أن الغايات مهما تكن طيبةً في حد ذاتها لا يمكنها أن تصمد للوسائل الدنيئة التي قد تُتبَع لتحقيقها. ثُمَّ إن الإصلاح قد يكون مرغوبًا فيه، ولكن البيئة جوُّها فاسد؛ ولذا فالنتائج لا بد أن تكون فاسدة. وهذه الحقائق — على شدة وضوحها وبساطتها — كثيرًا ما تُهمَل ولا يُلتفَت إليها. وتوضيح هذه الحقائق، وبيان طريقة الاستفادة منها هي الغرض الأساسي الذي أرمي إليه في الصفحات المقبلة من هذا الكتاب.
(١) ملحوظة بشأن الخطط التي نرسمها لمستقبل الأمة
إن المجتمعات التي تتقدم فيها فنون الصناعة عُرضة للتطوُّر الاجتماعي المستمر، وهذا التطوُّر الاجتماعي كثيرًا ما تصحبه الاضطرابات والقلاقل، فهل يمكننا أن نتفاداها؟
من عهدٍ قريب ألَّف رئيس الولايات المتحدة جمعيةً للنظر في هذه المشكلة وقد نشرت تقريرها (الذي أشرنا إليه فيما سبق) في صيف عام ١٩٣٧، وهذا التقرير وثيقةٌ قيمة. يقول واضعو التقرير إن تقدُّم الفنون الصناعية لا يمكن أن يؤدي إلى انقلابٍ في نظام الجماعة لا نستطيع التنبُّؤ به قبل حدوثه بسنواتٍ عديدة. إن الاختراع الجديد لا يُطبَّق على نطاقٍ واسع إلا بعد ربع قرنٍ على الأقل من تاريخ ظهوره، وتستطيع الجماعة دائمًا أن تتنبأ بالنتائج الاجتماعية المُحتمَلة لتقدم أي فنٍّ من فنون الصناعة قبل حلولها بوقتٍ غير قصير. فإن حدث في الجماعة تطوُّرٌ غير مُتوقَّع ولا منظور، فإنما يرجع ذلك إلى أن أصحاب النفوذ لم يُكلِّفوا أنفسهم مشقة التفكير في النتائج، أو في السبل التي يجب أن تُتخَذ لتفادي الخطوب. وقد نبَّهَتنا جمعية الرئيس روزفلت إلى التطوُّر الاجتماعي الذي قد يَنجُم عن المُخترَعات الحديثة. واقتَرحَت خُطةً للآلة الإدارية المطلوبة لتخفيف الآثار السيئة لهذا التطوُّر.
ويتناسب الأثر عادةً مع قوة المُؤثِّر. ولكنَّ هناك شيئًا واحدًا، يسيرًا في ظاهره، عظيمًا في آثاره الاجتماعية، وأقصد به صناعة الأسلحة. إن تعديلًا طفيفًا في رسم آلات الاحتراق الداخلي قد يدفع الملايين من الرجال الأبرياء والألوف من النساء والأطفال إلى هُوَّة الهلاك بفعل النار والسموم والانفجار. وهذه المشكلة لا تخص الفنيِّين وحدهم، إنما تخص القائمِين بالحكم جميعًا. وأنا أحيل القارئ فيما يخص علاج هذه المشكلة إلى الفصول التي كَتبتُها عن الحرب وعن العمل الفردي في إصلاح الأمم.
وهناك مشكلةٌ أخرى، وتلك هي ازدياد نسبة المواليد أو انخفاضها، فهي بالغة الأَثَر في نظام الجماعة. ولتوضيح الأمر نضرب هذا المثال: إن نسبة السكان في الأمم الصناعية بغرب أوروبَّا يُنتظر بعد نصف قرنٍ أن تقل عما هي الآن وعنها في دول شرق أوروبَّا؛ فعندما يصبح عدد سكان بريطانيا العظمى ٣٥ مليونًا، منهم الأطفال والمتقاعدون المسنون، يكون عدد سكان الروسيا زُهاء ٣٠٠ مليون، فهل تستطيع أمةٌ قليلة السكان مثل بريطانيا في سنة ١٩٩٠ أن تحتفظ بمركزها كأمةٍ من الأمم العظمى ذات النفوذ الكبير؟ لقد حاولت في الماضي السويد والبرتغال وهولندا أن تقف في صفٍّ واحد مع الدول العظمى، ولكنها فشِلَت فيما حاولَت لأنها أمم قليلة العدد. وهذه مسألة لا بد لبريطانيا أن تحسب حسابها من الآن وإلَّا فقَدَت ما تتمتع به من نفوذ في العالم. وفي هذا العالم العسكري الذي نعيش فيه لا أمل لأمة من الأمم قليلة العدد أن تؤسس لها إمبراطوريةً واسعة. ولقد استطاعت بريطانيا فيما مضى أن تنجح في سياسة الاستعمار حينما كانت كثيرة السكان بالنسبة للدول الأخرى، وساعدها على الاحتفاظ بمركزها انفصالها عن بقية القارة الأوروبيَّة وصعوبة غزوها. ولكن إذا قلَّ سكان بريطانيا أو سهُل غزوها تعَرَّضَت لخطر ضياع مستعمراتها جميعًا.
إن مشكلة السكان هذه كمشكلة الأسلحة، ليست مما يخص الفنيِّين وحدهم، إنما هي جزءٌ من المشكلة العامة، مشكلة السياسة والحزب، ولا يمكن أن تُحل إلا إذا حسُنت النيَّات وطابت النفوس.