اللامركزية والحكم الذاتي
يقترح علينا الفوضويون إلغاء الدولة. والواقع أن الدولة تستحق الإلغاء لأنها أداةٌ تستخدمها الطبقة الحاكمة للاحتفاظ بامتيازاتها، ولأنها وسيلةٌ تُمكِّن المُولَعِين بحب السلطان من إشباع شهواتهم في التسلط والنفوذ، كما تُمكِّنهم من تنفيذ أحلامهم الخيالية بالمجد والعظمة. غير أن الدولة في المجتمعات المُعقَّدة، ومنها المجتمع الذي نعيش فيه، لها وظائفُ أخرى نافعةٌ تُؤدِّيها؛ فمن الواضح — مثلًا — أنه ينبغي أن تكون في المجتمع هيئةٌ مسئولة عن توحيد نشاط الجماعات المختلفة التي يتألف منها المجتمع. ومن الواضح كذلك أنه ينبغي أن تكون هناك هيئةٌ لها سلطة العمل باسم المجتمع بأسره. وإذا كانت لفظة «الدولة» مرتبطةً ارتباطًا كريهًا بفكرة الظلم الداخلي والحرب الخارجية، وبالسيادة الخالية من التبِعات، وبخضوع العامة الذي لا يقل عن سيادة الحاكمِين خلوًّا من التبِعة، إذًا فلنُطلِق على هذه الأداة الاجتماعية اسمًا آخر. وليس هناك في الوقت الحاضر اتفاق على ما عسى أن يكون هذا الاسم؛ ولذا فسوف أحافظ على استعمال هذه الكلمة القديمة المرذولة حتى نتفق على اسمٍ جديد.
مما سلف ذِكره في الفصول السابقة يتضح أن الإصلاح الاقتصادي — مهما يكن طيبًا في حد ذاته — لا يمكن أن يؤدي إلى ترقية الفرد والجماعة إلا إذا تم في جوٍّ صالحٍ وبوسائل صالحة، والجو الصالح للإصلاح فيما يختص بنظام الدولة هو اللامركزية والحكم الذاتي في جميع الشئون، والوسائل الصالحة لتنفيذ الإصلاح هي الوسائل الهيِّنة الليِّنة.
- أولًا: بأي الوسائل يمكن تطبيق مبادئ الحكم الذاتي على الحياة اليومية للرجال وللنساء؟
- ثانيًا: إلى أحد يطَّرد الحكم الذاتي للأجزاء المكوِّنة للمجتمع مع قدرة المجتمع على وجه الإجمال؟
- ثالثًا: إذا كانت هناك حاجة إلى هيئةٍ مركزية لتوحيد نشاط الأجزاء المستقلة، فما الذي يمنع هذه الهيئة المركزية من أن تصبح أوليجاركيةً حاكمة من النوع الذي نألفه ونمقته؟
إن طريقة الحكم الذاتي للناس العاديِّين في أعمالهم العادية أمرٌ لا يمكن مناقشته مناقشةً جِديةً إلا إن كان لدينا فكرةٌ واضحة عما يمكن أن نُسمِّيه التاريخ الطبيعي للجماعات وسيكولوجيتها. إن «الجماعة» تختلف عن «الجمهور» في العدد، كما تختلف عنه في نوع الحياة العقلية التي يحيياها الأفراد. الجمهور عددٌ كبير من الناس، أمَّا الجماعة فقليلة العدد، والجمهور يحيا حياةً عقلية أحط من الحياة العقلية للأفراد. والجمهور لا يستطيع أن يُسيطر على عاطفته كما يستطيع الفرد. أمَّا الحياة العقلية عند الجماعة فليست أحط ذهنيًّا ولا عاطفيُّا من الحياة العقلية للأفراد الذين تتألف منهم الجماعة، بل لقد تكون في بعض الأحيان أعلى من عقلية الأفراد.
وهذه هي الحقائق السيكولوجية الهامَّة عن الجمهور: الجمهور يميل بطبيعته إلى اللهو والعربدة. إن الفرد في الجمهور يتحلل من قيود شخصيته، وهو أشبه ما يكون بالرجل الثمِل. والمعروف أن أكثر الناس يحبون أن يَفِرُّوا من شخصياتهم، وهم يضيقون بأنفسهم ذرعًا فيَلجئون إلى المُخدِّرات أو إلى الاختلاط بالجمهور. ونجاح الدكتاتوريِّين يرجع إلى حدٍّ كبير إلى قدرتهم على استغلال رغبة الناس في الفرار من أنفسهم؛ فهم يُهيِّئون الفُرص لرعاياهم لأن يفلتوا من أنفسهم ولأن يَنحطُّوا في ميولهم وعواطفهم؛ فالاشتراكيون يُخدِّرون الناس بالجمع بينهم في مجتمعاتٍ سياسية. ويلجأ الدكتاتوريون الفاشستيون إلى هذه الطريقة كذلك؛ فالدول الدكتاتورية تتيح للناس أن يَفرُّوا من أنفسهم إلى العالم السفلي — عالم عواطف الجماهير. ومن الثابت أن الإنسان إمَّا أن يفِر من نفسه إلى عالَمٍ عُلويٍّ كعالم الأديان، أو إلى عالَمٍ سُفليٍّ كعالم المُخدِّرات. ويُؤثِر الدكتاتوريون أن يَفِر أتباعهم إلى العالم السفلي؛ لأنهم إذا فروا إلى العلا حرَّروا أنفسهم من عبادة الأمة والحزب والطبقة والزعيم. إن تَخطِّي حدود النفس والفرار من سجن الذات إلى الاتحاد بما هو أعلى من الذات يتم عادةً في العزلة، وهذا هو السبب في أن الحكام المُستبدِّين يحبون أن يجمعوا رعاياهم في تلك الجماهير الكبيرة التي ينحط فيها الفرد إلى الدرك الأسفل.
والآن لنبحث في الجماعة. إن أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد هو هذا السؤال: متى تصبح الجماعة جمهورًا له مميزاته السيكولوجية؟ دلَّتِ التجربة على أن حركات الجماعة ومشاعرها تَتعقَّد إلى حدٍّ كبير إذا زاد عدد أفرادها عن عشرين أو قلَّ عن خمسة. والجماعات التي تتألف لأداء عملٍ يدوي مُعيَّن يصح أن يفوق عددها تلك التي تأتلف لغرضٍ سياسي أو للصلاة الدينية أو للهو والمرح. الجماعة في الأغراض العملية يمكن أن تؤدي عملها بنجاح إذا بلغ عددها العشرين أو الثلاثين. أمَّا في الأغراض الأخرى فمثل هذا العدد الكبير قد يكون عاملًا من عوامل الفشل. ومما هو جديرٌ بالذكر أن رسل المسيح لم يزيدوا عن اثنَي عشر. وقد وُجد أن اللجان التي يزيد عددها على اثنَي عشر عضوًا تتعسر إدارتها لكثرة الأعضاء. وإني أرى أن حفلة العشاء تكون على أتمها إذا كان أفرادها ثمانية. ورجال التربية مُجمِعون على أن العدد الملائم للفصل الدراسي يتراوح بين ثمانية وخمسة عشر، وأصغر الوحدات في الجيوش تتكون من عشرة جنود. وإذًا فكل الدلائل تدل على أن العدد الملائم لتكوين جماعةٍ أغراضها اجتماعية أو دينية أو عقلية هو عشرة أفراد، والعدد الملائم لتكوين جماعة تؤدي عملًا يدويًّا يتراوح بين العشرة والثلاثين. وعلى ضوء هذه الحقائق نرى أن الحكم الذاتي يجب أن يتألف من وحَداتٍ محدودة العدد.
ولكن أكثر المصانع — في ظل النظام السائد — أشبهُ ما تكون بدكتاتورياتٍ صغيرة بعضها يميل إلى الخير وبعضها يميل إلى الشر، وطاعة العمال لرؤساءَ فُرضوا عليهم فرضًا بغير انتخاب محتمةٌ في كلتا الحالتَين. وهؤلاء العمال قد يكونون — من الوجهة النظرية — تابعِين لدولةٍ ديمقراطية، ولكنهم — في الواقع — يُنفقون حياتهم رعايا لحكامٍ مُستبدِّين هم أصحاب المصانع التي يعملون بها. ومشروع دبريل يُدخل الديمقراطية الحقة داخل المصنع، وبغير هذا المشروع أو ما يماثله لا فرق عند العامل بين أن يكون المصنع ملكًا للدولة أو ملكًا لفردٍ أو لجمعيةٍ تعاونية؛ لأن طاعته واجبةٌ في جميع الأحوال، ولكنَّا إذا وضعنا مشروع دبريل موضع التنفيذ ظفِرنا بِرضى العامل عن الإدارة، حتى إن تولاها من لا يُحسِنها؛ وذلك لأن العامل يعلم في قرارة نفسه أنه هو الذي اختار رئيسه، وأنه اشترك في وضع لائحة مصنعه. فهو مطمئن من الناحية النفسية.
ويعتقد لينين أن العامل لا يهتم بالديمقراطية لأنه فقير يملك عليه فقره كل تفكيره. ولكنا ينبغي في الواقع أن نرفع من مستواه المادي حتى يتوفر له الفراغ والمعرفة والعلم فيهتم بالديمقراطية والسياسة. ويجب ألَّا ننسى أن الناس أنماطٌ مختلفة، فلا بد من إيجاد أنظمةٍ مختلفة من الديمقراطية والحكم الذاتي، حتى يجد الرجل ذو الفكر المحدود مجالًا لنوع قدرته السياسية في الجماعات المستقلة استقلالًا ذاتيًّا داخل دوائر الصناعة أو التجارة أو الإدارة المحلية. وهكذا يصبح كل فردٍ عضوًا في جماعةٍ مستقلة ولا يخضع لغيره خضوعًا أعمى.
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى تطوُّرٍ اجتماعيٍّ طرأ علينا في العصر الحديث وكان له أثره في إحساسنا بروح الجماعة. وأسباب هذا التطوُّر كثيرةٌ أهمها ما يأتي:
أن تحديد النسل جعل الأُسرة العادية قليلة العدد، ولأسباب متعددة سنُبيِّنها فيما بعدُ انتهى العهد الذي كان يتزوج فيه الابن ويقطن مع أبيه وجَده. في ذلك العهد كانت الأُسر الكبيرة والجماعات العائلية مجتمعاتٍ يتعلم فيها الأطفال فن التعاوُن وتحمُّل التبِعات، غير أن هذه المدارس الساذجة التي كانت تبُث في الفرد روح الجماعة قد زالت الآن من الوجود.
ثُمَّ إن طرق النقل الحديثة قد أدخَلَت تعديلًا كبيرًا على حياة القرى والمدن الصغيرة. إلى عهدٍ قريب جدًّا كانت القرى تكفي حاجات نفسها بنفسها، فكان لكل مهنة رجلٌ فنيٌّ يمثلها. وكان الإنتاج المحلي إمَّا يُستهلك كله أو يَستبدل به السكان محصولاتٍ أخرى من منتجات القرى المجاورة. وكان الرجل لا يغادر قريته، والأهالي يعتمدون على مواهب أبناء القرية أو المدينة في العلم واللهو وأمور الدين. أمَّا اليوم فقد تغير كل شيء؛ ونظرًا لما طرأ على طرق النقل من وسائل الترقية والتحسُّن اتصلَت القرية ببقية العالم الاقتصادي؛ فهي تستورد حاجاتها كما تستورد الرجال الفنيِّين من بعيد، كما أن عددًا كبيرًا من السكان يخرج من القرية للعمل في المصانع والمكاتب والمدن الكبيرة النائية، وهم يستمتعون بالموسيقى والتمثيل غير مُعتمدِين في ذلك على المواهب المحلية، بل على مَتن الأثير ودَور الصورة المتحركة.
انقضى عهدٌ كان فيه كل أفراد المجتمع يعيشون في بُقعةٍ واحدة. إنك اليوم — بفضل السيارات — قلما تجد القرويين في قراهم. فانحطَّت الجماعة القروية في لهوها وعبادتها وثقافتها؛ لأن الفرد يقضي شطرًا كبيرًا من حياته وفراغه في المدائن الكبرى. وقد عمِلَت السيارة والتلفون على تفكيك روابط الجيرة. كما أن تقدُّم الصناعات قد أضعف كثيرًا من الصلات الشخصية والروحية بين أعضاء المجتمع. وكذلك أدَّى تركيز الأعمال في أيدي الدولة إلى فتور الحب المُتبادَل بين القلوب والتعاوُن المُشترَك بين الأفراد؛ فالمستشفيات التي تتعهدها الدولة وتُمِدُّها بالأطباء والمُمرِّضات خيرٌ من معونة الجار، ولكنها تُضعِف من شعور الجار بالتبِعة نحو جاره؛ ومن ثَمَّ فإن التنظيم الاشتراكي يقضي على التعاطُف بين الناس.
وقد شَهِدَت الأجيال الثلاثة الماضية زيادةً عظيمة في حجم المدن الكبيرة وعددها. والحياة في المدن الكبيرة أشد إثارةً للشعور وأكثر إدرارًا للربح منها في القرن والمدن الصغيرة، وقد شجع ذلك أهل الريف على الهجرة إلى المدينة. وسار في مُقدِّمة المُهاجرِين ركبٌ من المُغامرِين الطموحِين وذوي المواهب الممتازة، فأقفَرَت القرى وعمَرَت المدائن بالمُمتازِين من الرجال.
ومن العسير أن نحث الفلاحين وصغار المزارعِين على الاستفادة من الطرق العلمية الحديثة؛ وذلك لأسباب عدة؛ منها هجرة الأذكياء من القرويِّين إلى المدن. وترتَّب على ذلك كله أن ضعُفَت الحياة الاجتماعية في الريف، ولم تَحلَّ محلها حياةٌ اجتماعيةٌ قوية في المدن؛ وذلك لأن الفوضى كانت تَدِب في المدن وهي آخذةٌ في التضخُّم والاتساع. أجل هناك بين سكان المدن نوعٌ من الصلة، ولكنها صلةٌ سطحيةٌ آلية. الحياة في المدينة مُفكَّكة وكأن كل فردٍ فيها يقول لنفسه: «إن أحدًا من الناس لا يهتم بي، فلماذا أهتم بسواي؟»
وفي ضوء هذه الأسباب الآنفة التي تعمل على انحلال المجتمع وإضعاف روح الجماعة عند الأفراد، أُقدِّم هذا الاقتراح لعلاج الأمور. نستطيع أن نُحوِّل المدارس والكليات إلى جماعاتٍ عضوية، تُعوِّض الفرد في فترةٍ قصيرة من حياته عن ذلك التدهوُر الذي حلَّ بحياة الأسرة والقرية الصغيرة، وذلك بأن يقوم الطلبة بحُكم أنفسهم وبالاشتراك في الألعاب الجمعية والنشاط الثقافي. ولو أن القرية نفسها قامت بمثل ذلك لأصبَحَت الحياة فيها مستساغةً مقبولة، وقلَّت الهجرة منها إلى المدن. ثُمَّ إن عدم تركيز الصناعة، وارتباطها بالزراعة، يمكِّن ساكن القرية من أن يكسب في القرية ما تُدرُّه عليه المدينة. ولكنا نلاحظ أن الصناعة في الوقت الحاضر ما زالت مُركَّزة في وحداتٍ كبيرة برغم تيسير توزيع القوى الكهربائية على البلاد. إن المدن المزدحمة بالسكان كثيرة العدد، مثل لندن وباريس، لها قدرةٌ عجيبةٌ على جذب الصناعات إليها وتركيزها فيها. وربما يرجع ذلك إلى أن كثرة السكان تدعو إلى توسيع السوق، وتوسيعُ السوق يجذب إليها الصناع. كما أن الصناعات الجديدة تنشأ عادةً في ضواحي المدن الكبيرة فتزيد تضخمًا واتساعًا. وإذا تَنبَّهنا إلى سهولة الإغارة الجوية على المدن الكبيرة أدركنا أن عدم تركيز الصناعة فيها ضرورةٌ ماسة لا مندوحة عنها.
إن الحياة في المدينة مُفكَّكة، ولا بد من إيجاد الرابطة بين الأفراد.
ويزعم أنصار الحكومة الروسية الحاضرة أن التحوُّل من الحكم الذاتي إلى الإدارة المركزية يؤدي إلى زيادة الإنتاج. وقد يكون ذلك صحيحًا في بلد كالروسيا، العمال فيه جُهالٌ قليلو الخبرة غير قادرِين على حكم أنفسهم أو على الإنتاج المثمر. ولكن الأمر ليس كذلك في غرب أوروبَّا وفي الولايات المتحدة. وقد برهن دبريل على أن الحكم الذاتي داخل المصنع يؤدي إلى زيادة الإنتاج. وإذًا ففي البلاد التي تحسُن فيها تربية الرجال والنساء وتدريبهم، والتي تعوَّد الناس فيها النُّظم الديمقراطية، لا يؤدي الحكم الذاتي داخل المصنع إلى انهيار النظام أو قلة الإنتاج، اللهم إلَّا إن كان أولو الأمر يريدون تعبئة الأمة كلها، رجالها وصناعاتها، للأغراض الحربية العسكرية. حينئذٍ تفشل اللامركزية؛ لأن تعدُّد الهيئات المستقلة يجعل مهمة الدكتاتور عسيرةً شاقة. ومن هنا كانت الحرب عاملًا قويًّا في تركيز الحكم وإلغاء النظام اللامركزي. وسأعالج في الفصل المقبل هذا الشر الاجتماعي المستطير — وأقصد الحروب. أمَّا ما بقي من هذا الفصل فسأُخصِّصه لمعالجة المسألة الثالثة التي أثارها البحث في اللامركزية والحكم الذاتي، وأعني بها قدرة المجتمع المكوَّن من وحداتٍ «مستقلةٍ متحدة» على الإنتاج، وطبيعة الهيئة التي يوُكَل إليها الجمع بين مجهود هذه الوَحَدات.
بيَّن لنا دبريل أن أكبر الهيئات الصناعية يمكن أن تُنظَّم بحيث تتألف من عددٍ من الجماعات المتحدة والمستقلة في نفس الوقت استقلالًا ذاتيًّا. وقدَّم لنا البرهان على أن مثل هذه الهيئة يزيد إنتاجها على غيرها من الهيئات المرُكَّزة. وقد طُبقَت هذه الديمقراطية الصناعية في بعض المصانع الكبيرة وأتت بأطيب الثمرات، ولكن هذه الديمقراطية الصناعية تتعارض ونظام الرأسمالية والاشتراكية الوطنية؛ لأن الرأسمالية تخلُق عددًا من صغار الدكتاتوريِّين، كلٌّ منهم يسيطر على مملكته الصناعية الصغيرة. كما أن الاشتراكية الوطنية تتطلب لإدارتها دكتاتورًا عظيمًا، يتَركَّز النفوذ في يده، ويملك زمام السلطة كلها على الشعب بأَسْره مستعينًا بعددٍ من العملاء البيروقراطيِّين.
إن الهيئات المتعاونة قائمة بالفعل، وعملها يسير بيُسر تام. فإذا نحن أكثرنا من هذه الهيئات ووسَّعنا من دائرتها فلن يكون ذلك عملًا ثوريًّا، ولن يبعث على المعارضة التي يثيرها مبدأٌ جديد على الناس كل الجِدَّة.
وجليٌّ أن الهيئات الصغيرة المُستقلَّة لا بد لها من سُلطةٍ عليا تُوحِّد جهدها وتُنسِّق عملها، فما الذي يَكفُل لنا أن هذه السلطة العليا لا تتحول إلى دكتاتوريةٍ مستبدة؟ الواقع أن هذا التحوُّل شديد الاحتمال في الدول التي تتأهب للحرب. إن الروح العسكرية تُفسِد أي نوعٍ من أنواع الإصلاح، وفي الأمم التي تستعد للقتال كثيرًا ما يتجه الإصلاح الذي يرمي إلى نشر اللامركزية والروح الديمقراطية توجيهًا حربيًّا، فيتعزز مركز الدكتاتور أو الأوليجاركية الحاكمة.