شرق وغرب
ثمة عدد كبير من المفكرين الغربيين الأكْفَاء الذين اهتموا، كلٌّ من وجهة نظره الخاصة بموضوع «الشرق والغرب»، في حين أن قلةً قليلة وحسب من كُتَّاب الشرق الأقصى هم الذين عبَّروا عن وجهات نظرهم كشرقيين. وقد ساقتني هذه الواقعة لأن أختار هذا الموضوع كنوعٍ من التوطئة لِمَا سيأتي.
إن الشعور الساري عبر المقاطع السبعة عشر، أو بالأحرى الخمسة عشر مع علامة التعجُّب في النهاية، قد لا يكون قابلًا للإيصال إلى من لا يعرف اليابانية، وسأحاول ما بوسعي لكي أشرحه، ومع أن الشاعر نفسه قد لا يوافق على تأويلي إلا أن هذا ليس مهمًّا كثيرًا إذا ما علمنا أن ثمة أحدًا ما على الأقل يفهم القصيدة كما أفهمها.
وقبل كل شيء، فإن باشو كان شاعر طبيعة، شأن معظم شعراء الشرق؛ فهم يحبُّون الطبيعة حبًّا جمًّا بحيث يشعرون أنهم متَّحدون بها، فيحسُّون بكل نبضةٍ تنبض في عروقها. أما الغربيون فمعظمهم ميَّال إلى تغريب نفسه عن الطبيعة، وهم يعتقدون أن لا شيء مشترك بين الإنسان والطبيعة، اللهم إلا في بعض الجوانب المرغوبة، وأن الطبيعة لا توجد إلا لكي ينتفع بها الإنسان، في حين أن الطبيعة قريبة جدًّا من الشرقيين. وهذا الإحساس بالطبيعة هو ما أُثير حين اكتشف باشو نباتًا مختبئًا، ومُهمَلًا، مُزهرًا على السياج الخرب القديم في الدرب الريفي البعيد، ببراءةٍ شديدة، ودون ادِّعاء، أو رغبة بأن يلاحظه أحد. ومع ذلك فإنه حين ينظر المرء إليه، يكون ممتلئًا رقَّة، ومفعمًا بمجدٍ وأُبهة أكثر تألقًا من مجد وأُبهة سليمان، وإن «تواضعه الشديد، وجماله غير المتفاخر، لَيُوقظ لدى المرء ذلك النوع الصادق من الإعجاب. وإنَّ الشاعر ليمكنه أن يقرأ في كل بتلة السرَّ الأعمق للحياة والكينونة. ولعل باشو لم يكن واعيًا لهذا هو نفسه، لكنني واثق أن قلبه في ذلك الحين كان يرتعش بشعورٍ قريب مما قد يدعوه المسيحيون حبًّا إلهيًّا، والذي يبلغ أغوار الحياة الكونية.
هذا هو الشرق، فلنرَ الآن ما يقدمه الغرب في وضعٍ مماثل، وإنني أختار لذلك الشاعر تينيسون (١٨٠٩–١٨٩٢م)، وعلى الرغم من أنه قد لا يكون شاعرًا غربيًّا نموذجيًّا بحيث نختاره لمثل هذه المقارنة مع شاعرٍ من الشرق الأقصى، إلا أن في قصيدته التي سأُوردها شيئًا مرتبطًا صميميًّا بقصيدة باشو، يقول تينيسون:
ثمة نقطتان أود الإشارة إليهما في هذه الأبيات:
-
(١)
النقطة الأولى هي انتزاع تينيسون للزهرة، ربما عن سابق قصد وتصميم، وإمساكه بها في يده، «جذرًا وكلًّا»، والنظر إليها. والأرجح أن الشعور الذي كان لديه هو شعور قريب جدًّا من شعور باشو الذي اكتشف زهرة نازونا على سياجٍ بجانب الطريق. أما الاختلاف بين الشاعرين فيتمثل في أن باشو لا ينتزع الزهرة، بل يكتفي بالنظر إليها، ويستغرق في التفكير، ويشعر بأن ثمة شيئًا يجول في فكره، لكنه لا يعبر عنه، ويترك لعلامة التعجب أن تقول كل ما يرغب بقوله؛ ذلك أنه لا يملك كلمات كي ينطق بها؛ فشعوره فياض، وعميق، ولا رغبة لديه في أن يُمَفهِمَه conceptualize.إن تينيسون فاعل active وتحليلي؛ فهو أولًا يقتلع الزهرة من المكان الذي تنمو فيه، ويفصلها عن الأرض التي تنتمي إليها. وبصورةٍ تختلف تمامًا عن الشاعر الشرقي، لا يدع الزهرة وشأنها؛ فهو لا بدَّ أن يقتلعها من الجدار المتصدِّع، «جذرًا وكلًّا»، الأمر الذي يعني أن النبتة لا بدَّ أن تموت. وهو لا يهتم لمصيرها، أما فضوله فلا بد أن يُشبع؛ فيشرِّح الزهرة، كما يفعل بعض علماء الطب، في حين أن باشو لا يمسُّ النازونا ولو مسًّا، ويكتفي بالنظر إليها و«بإمعان» — وهذا كل ما يفعله، فهو غير فاعل أبدًا، وفي تعارضٍ مع دينامية تينيسون.وثمَّة أمرٌ أود الإشارة إليه بشكلٍ خاص هنا، وقد تسنح لي الفرصة ثانية للإشارة إليه؛ فالشرق صامت، أما الغرب ففصيح، لكن صمت الشرق لا يعني أنه أبكم، أو فاقد للقدرة على الكلام؛ فالصمت في كثيرٍ من الأحيان فصيح كما الكلام. إنَّ الغرب يحبُّ اللفظية verbalism، وليس ذلك وحسب، بل إنه يحوِّل الكلمة إلى جسد، وفي بعض الأحيان يُبرز هذه الجسدية في فنونه، ودينه على نحوٍ واضح جدًّا، وبالأحرى على نحوٍ فاضح وشهواني.
-
(٢)
ما الذي يفعله تينيسون بعد ذلك؟ إنه، وهو ينظر إلى الزهرة التي اقتلعها، والتي بدأت تذوي وتذبل على الأرجح، يطرح في داخله السؤال: «أيمكن أن أفهمك؟» أما باشو فليس فضوليًّا أبدًا ولا يحب التحري، وهو يشعر أن كل السِّر قد تكشَّف في النازونا المتواضعة — السرُّ الذي يسري عميقًا إلى نبع الوجود كله. وهذا شعور يُسكره فيعبِّر عن ذلك بصرخةٍ لم تُنطَق، ولم تُسمع.
وبخلاف ذلك، فإن تينيسون يمضي في تفكيره: «لو (والتشديد من قِبلي) استطعت أن أفهمك، لعرفت ما الله، وما الإنسان». وهذا الاحتكام إلى الفهم هو غربيٌّ على نحو مميَّز؛ فباشو يَقبَل، أما تينيسون فيرفض، وفردية تينيسون تقف بعيدًا عن الزهرة، وعن «الله والإنسان»؛ فهو لا يتماهى لا مع الله، ولا مع الطبيعة، ويظلُّ على الدوام مستقلًّا عنهما. ويمكن أن نصف فهمه كما يصفه الناس هذه الأيام بأنه «موضوعي علمي»، في حين أن باشو «ذاتي» تمامًا (وهذه ليست بالكلمة الملائمة؛ لأن الذات تقف على الدوام مقابل الموضوع، و«الذات» التي أعنيها هنا هي ما أحبُّ أن أسميه «الذاتية المطلقة»). وباشو يقف في صف هذه «الذاتية المطلقة» التي يرى فيها النازونا، والنازونا تراه، دون أن يكون هنا ثمة تقمص، أو تماثل، أو تماهٍ.
يقول باشو: أُمعنُ النظر (في اليابانية «يوكوميريبا»). الأمر الذي يشتمل على أن باشو لم يعد متفرجًا هنا، وأن الزهرة قد أضحت واعية لذاتها، ومعبِّرة عن ذاتها بصمتٍ وفصاحة، وهذا الصمت الفصيح، أو الفصاحة الصامتة من جانب الزهرة يتردد صداه على نحوٍ إنساني في مقاطع باشو السبعة عشر، ويبقى أن عمق الشعور هنا، وإبهام القول، أو «فلسفة الذاتية المطلقة»، تظلُّ غير مفهومة إلا لأولئك الذين خبروا فعليًّا كل ذلك.
لدى تينيسون، وبقدر ما يسعني أن أرى، لا يأتي عمق الشعور في المقام الأول، فتينيسون فكرٌ بأجمعه، ومطابق للذهنية الغربية، وهو من أتباع مذهب اللوغوس، ولا بدَّ أن يقول شيئًا، لا بدَّ أن يجرِّد تجربته الملموسة أو يُمَفهمَها، ولا بدَّ أن يخرج من ميدان الشعور إلى ميدان الفكر، ويُخضع العيش والشعور لسلسلةٍ من التحليلات؛ لكي يُرضي فضول الروح الغربية.
إن لاو-تسي يصوِّر نفسه شبيهًا بمعتوه، ويبدو كما لو أنه لا يعرف شيئًا، ولا يتأثر بشيء، ويبدو على الأخصِّ وكأنه لا نفع له في هذا العالم النفعي، ويكاد أن يكون بلا تعابير، ومع ذلك فإن فيه ما يجعله مختلفًا عن الشخص الجاهل المغفَّل، فهو لا يشبه مثل هذا الشخص إلا خارجيًّا.
أما الغرب، وبخلاف ذلك، فله زوج من الأعين الحادَّة، النفاذة، راسختان في محجريهما، تمسحان العالم الخارجي كما تفعل عينا نسر محلِّق عاليًا في السماء، (والواقع أن النسر هو الرمز القومي لسلطةٍ غريبة معينة)، كما أن أنفه الشامخ، وشفتيه الرقيقتين، ومحيط وجهه عمومًا؛ توحي جميعًا بحالةٍ فكرية رفيعة واستعداد للفعل، ويمكن مقارنة هذا الاستعداد باستعداد الأسد، وبالفعل، فإن الأسد والنسر هما رمزا الغرب.
إن الغرب ذا العقلية العلمية يستخدم ذكاءه لاختراع كل أنواع الأدوات بهدف رفع مستوى المعيشة والتخلُّص مما يعتقد أنه عمل أو كدح غير ضروي، وهكذا يحاول جاهدًا أن «يطور» الموارد التي يطالها، أما الشرق، من جهةٍ أخرى، فلا يهتم لانهماكه في العمل الوضيع واليدوي مهما يكن نوعه، ومن الواضح أنه راضٍ بحالةٍ حضارية «غير متطورة»، وهو لا يحب أن يكون ذا عقلية آلية، وأن يحول نفسه إلى عبد للآلة، وربما يكون هذا الحب للعمل مميزًا للشرق، وثمة قصة رواها تشوانغ-تسي عن أحد المزارعين هي قصة ذات دلالة رفيعة وتنضح بمعانٍ عديدة، على الرغم من افتراض أن الحادث قد وقع في الصين منذ أكثر من ألفي عام.
حفر مزارع بئرًا وارح يستخدم الماء لسقاية مزرعته، وكان يستعمل لسحب الماء من البئر دلوًا عاديًّا، كما يفعل معظم البدائيين، وذات مرة رآه واحد من عابري السبيل، وسأله لماذا لا يستخدم الشادوف لهذا الغرض، فهو وسيلة توفر الجهد وتنجز أكثر من الطريقة البدائية، فقال المزارع: «أعلم أنها موفرة للجهد؛ ولهذا السبب بالذات لا أستخدمها، فما أخشاه هو أن يجعلني استخدام مثل هذه المخترعات ذا عقلية آلية، فالعقلية الآلية تسوق المرء إلى عادة الكسل والتراخي».
وغالبًا ما يتساءل الغربيون لماذا لم يُطور الصينيون مزيدًا من العلوم والمخترعات الميكانيكية، ويقولون: إن ذلك أمرٌ غريب في الوقت الذي اشتهر فيه الصينيون باكتشافاتهم واختراعاتهم كالمغناطيس، والبارود، والعجلة، والورق، وغيرها … غير أن السبب الأساسي لذلك هو أن الصينيين، وغيرهم من الشعوب الآسيوية يحبون الحياة كما تُعاش، ولا يرغبون بتحويلها إلى وسيلةٍ لإنجاز شيء آخر، الأمر الذي يحول مجرى العيش في قناةٍ مغايرة تمامًا، وهم يحبون العمل لذاته، على الرغم من أن العمل يعني إنجاز شيء ما، ولكنهم حين يعملون يتمتعون بالعمل ولا يتعجَّلون إنهاءه، وإذا ما كان صحيحًا أن الوسائل الميكانيكية أكثر كفاءةً وإنجازًا، إلا أن الآلة متجردة عمَّا هو شخصي، وغير مبدعة، ولا معنى لها.
-
(١)
ينطوي الشخص والآلة على تناقض، وهذا التناقض هو السبب في أن الغرب يعاني من توترٍ نفسي شديد يتجلى في مناحٍ كثيرة من حياته الحديثة.
-
(٢)
يتضمن الشخص الفردية، والمسئولية الشخصية، أما الآلة فهي نتاج التفكير، والتجريد، والتعميم، والكليَّة totalization، والعيش الجماعي.
-
(٣)
موضوعيًّا أو فكريًّا، أو إذا ما تكلمنا بطريقةٍ عقلية آلية، فإن المسئولية الشخصية لا معنى لها، فالمسئولية مرتبطة منطقيًّا بالحرية، وفي المنطق ليس ثمة حرية، ذلك أن كل شيء محكوم بقواعد القياس syllogism الصارمة.
-
(٤)
علاوة على ذلك، فإن الإنسان بوصفه نتاجًا بيولوجيًّا محكوم بقوانين بيولوجية، فالوراثة حقيقة واقعة وما من شخصٍ يمكنه أن يبدِّلها، وأنا لم أولد بإرادتي الحرَّة، وأهلي لم ينجبوني بإرادتهم الحرة، والولادة المُخطَّط لها لا معنى لها في الحقيقة.
-
(٥)
الحرية هي فكرة فارغة أخرى، فأنا أعيش بصورةٍ اجتماعية، في جماعةٍ تقيدني في كل تحركاتي، ذهنيًّا وجسديًّا، وحتى حين أكون وحدي لا أكون حرًّا أبدًا، فلدي كل ضروب الدوافع التي ليست تحت سيطرتي على الدوام. وبعض الدوافع تسوقني بعيدًا رغمًا عني، وطالما أننا نعيش في هذا العالم المحدود، فليس بمقدورنا أن نتحدث عن كوننا أحرارًا نفعل ما نرغب به؛ فحتى هذه الرغبة هي شيء غير خاص بنا.
-
(٦)
قد يتحدث الشخص عن الحرية، لكن الآلة تقيِّده من جميع الجهات، والكلام لا يعدو كونه كلامًا، والشخص الغربي مقيد ومكبوح ومكفوف منذ البداية، عفويته ليست عفويته على الإطلاق، وإنما هي عفوية الآلة، والآلة لا إبداع لديها؛ هي لا تعمل إلا بالقدر الذي يجعله الشيء الموضوع فيها ممكنًا، وهي تسلك أبدًا كما «الشخص».
-
(٧)
لا يكون الشخص حرًّا إلا حين لا يكون شخصًا، فهو حر حين ينكر ذاته ويذوب في المجموع، وبصورةٍ أدقَّ، فإنه حرٌّ حين يكون ذاته، ومع ذلك ليس ذاته. وما لم يفهم المرء هذا التناقض الواضح، فإنه لن يكون أهلًا للحديث عن الحرية أو المسئولية أو العفوية، وعلى سبيل المثال، فإن العفوية التي يتحدث عنها الغربيون، وخاصة بعض المحللين-النفسانيين، لا تعدو أن تكون عفوية طفولية أو حيوانية، وليست عفوية الشخص الناضج تمام النضج.
-
(٨)
الآلة، السلوكية behaviorism، المنعكس الشرطي، الشيوعية، التلقيح الاصطناعي، الأتمتة عمومًا، التشريح، القنبلة الهيدروجينية؛ جميعها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا مع بعضها البعض، وتشكل حلقات متينة متلاحمة في سلسلةٍ منطقية.
-
(٩)
يكافح الغرب لتربيع الدائرة، أما الشرق فيحاول أن يكافئ الدائرة بالمربع، وبالنسبة ﻟ «زن» الدائرة هي دائرة، المربع مربع، وفي الوقت ذاته المربع دائرة، والدائرة مربع.
-
(١٠)
الحرية مصطلحٌ ذاتي، ولا يمكن تأويله موضوعيًّا، وحين نحاول، فإننا نقع في تناقضاتٍ لا سبيل إلى الخروج منها؛ ولذلك أقول: إن الحديث عن الحرية في هذا العالم الموضوعي من الحدود المحيطة بنا هو حديث فارغ.
-
(١١)
في الغرب «نعم» هي «نعم» و«لا» هي «لا»، ولا يمكن أبدًا ﻟ «نعم» أن تكون «لا» أو العكس، أما الشرق فيجعل «نعم» تتحول إلى «لا» و«لا» إلى «نعم»، فليس ثمة انقسام حاد وثابت بين «نعم» و«لا»، وإنه لمن طبيعة الحياة أن تكون كذلك. ولا يكون الانقسام راسخًا لا يحول إلا في المنطق وحده، والمنطق صنعه الإنسان كي يساعده في نشاطاته النفعية.
-
(١٢)
عندما يدرك الغرب هذه الواقعة، فإنه يخترع مفاهيم مثل تلك المعروفة في الفيزياء، كالتتام complementarity ومبدأ عدم اليقين the principle of uncertainty كلما عجز عن تفسير ظواهر فيزيائية معينة، ومهما أفلح في خلق مفهوم إثر آخر، فإنه لا يستطيع أن يروغ من وقائع الوجود.
-
(١٣)
لا يهمنا الدين هنا، ولكن قد يكون مهمًّا أن نبيِّن أن المسيحية التي هي دين الغرب؛ تتحدث عن اللوغوس، والكلمة، والجسد، والتجسُّد، وعن الصفة الزمنية أو الدنيوية العاصفة، أما ديانات الشرق فتكافح من أجل اللاتجسُّد، والصمت، والاستغراق، والسلام الأبدي. والتجسُّد بالنسبة ﻟ «زن» هو لا تجسد، والصمت يهدر مثل الرعد، والكلمة هي لا-كلمة، والجسد لا-جسد، والآن — هنا — تساوي الفراغ (سونياتا) واللانهاية.